راهنية تشارلز ميلز وترنح اليسار العالمي/ أحمد جابر
كتب ستانلي أورنوفيتز عن تشارلز ميلز واليسار الجديد*، فأضيف الكتاب مساهمة فكرية ضرورية ومهمة في اللحظة العالمية الراهنة، حيث اهتزاز الفرضيات السابقة، وتآكل اليقينيات القديمة، وسقوط البديهيات الاشتراكية والشيوعية، وانكشاف زيف التبشير اليميني، وخداع السياسات التي تسوقها النفعية الفاقعة، بعد انحدار العلوم الإنسانية، بدءاً من الفترة التي أعقبت الحرب الفيتنامية، التي خرجت الولايات المتحدة الأميركية منها مهزومة على كل الصعد، الأخلاقية والعسكرية والسياسية.
تشارلز ميلز موضوع الكتاب، هو واحد من المفكرين الأميركيين الذين انشغلوا بالاجتماع الأميركي عموماً، واشتغلوا على بنية السلطة وآليات الاحتفاظ بها، وأنتجوا في مجال علم اجتماع المعرفة وفي ميدان التحليل النفسي، وسعوا إلى قراءة مسألة الهيمنة وتشكلها في المجتمع الأميركي، ودققوا في مفهوم النخبة ومضمونها، وفي موقعها ضمن المؤسسات التي تشكل مجتمعة عماد “الدولة” وبيئة إنتاج القرار والسيطرة فيها. يمكن القول إجمالاً، أن السيرة الذاتية لتشارلز ميلز تكونت بالتفاعل والتواصل والترابط مع هذا السياق الفكري السياسي، وبالتأثير فيه والتأثر به، وهذا ما يتوافق مع رؤية صاحب السيرة الذي يعتقد بأن السيرة الذاتية هي بحد ذاتها ظاهرة اجتماعية، وأنه لا بديل من قراءتها ضمن سياق عصرها الاجتماعي.
لكن تشارلز ميلز، ابن عصره الأميركي المعيّن والمُعايَن، تميّز عن أقرانه بمشاكسته الفكرية، وبدأبه العلمي، وبانحيازه إلى التجديد في فكر قوى التغيير، وفي توجهه “يساراً” حتى بعد أن مال عن جادة اليسار زملاؤه الذين تجمَّعوا في إطار “مثقفي نيويورك”، ثم عادوا وانفضوا ليتصالحوا مع الثقافة الأميركية ومؤسساتها، وليبالغ بعضهم في الانحياز يميناً بعد أن خاب أمله من التجربة البلشفية الروسية، وبعد أن بدا له لاحقاً، أن “أميركا” هي أفضل العوالم الممكنة.
على خط الثبات في موقع الانحياز الاجتماعي، كتب تشارلز ميلز ناقداً وشارحاً ومعارضاً، وعلى خط التجديد في مواجهة الأفكار السائدة سياسياً واجتماعياً وثقافياً ومعرفياً، لم يتأخر تشارلز ميلز عن تقديم ما رآه جديداً من وجهة نظره، وما أراد له أن يكون متجاوزاً على ما كان متداولاً من نظرات ماركسية أو نفسية أو اجتماعية. هكذا كان موقفه من بعض ما طرحته الماركسية المعاصرة، منقولة أو معدلة عن نظرة ماركس الأصلية، وهكذا كان الأمر مع ستراوس وكارل مانهايم وإريك فروم وجورج لوكاش وسواهم من المفكرين الرواد في علم الاجتماع الأميركي.
في كتابه: ذوو الياقات البيضاء، رفض تشارلز ميلز مفهوم الطبقة الحاكمة كما حدَّده ماركس، واعتبر أنها ليست طبقة بمعنى العلاقة المشتركة التي تختص بالملكية والسيطرة على الملكية المنتجة، وخالف كذلك، أي تشارلز، تصوّر “فيبر” عن مجموعات تتشارك المصلحة في فرص الوصول إلى التوظيف في السوق والحصول على السلع، واعتبر أن نخبة السلطة عبارة عن تحالف للأفراد، وهؤلاء يؤلفون الطبقات العليا لكل من الأنظمة المؤسساتية المهمة، أما قوتهم فتختلف حسب الظروف التاريخية.
في موازاة النخبة، التي تشكل متغيراً مستقلاً حسب تعريف ميلز، تقع قيادة الحركة العمالية التي هي متغير تابع. لقد نعى ميلز الحركة العمالية والطبقة الوسطى في كتابه رجال السلطة الجدد، وتوقع تقهقر الزخم العمالي بدءاً من عام 1973، وقال بانجذاب القيادة العمالية نحو الحكم، هو الذي كان قد فقد الأمل بقوة النقابات، وربط، مثل إريك فروم وفيلهلم رايش في كتابات التحليل النفسي، التكتل الثقافي بالانسجام السياسي المتصاعد الذي هو على علاقة بظهور الفاشية ومنظمات الاستبداد في معظم المجتمعات الصناعية المتقدمة.
ومثلما كان تشارلز ميلز إشكالياً معانداً في الفكر، كان في الوقت ذاته إشكالياً معانداً في السياسة، مما جلب له خصومات كثيرة، ومما جعله غير “شعبي” في بعض اللحظات. لقد دافع ميلز مثلاً عن الثورة الكوبية في سنواتها الأولى، فكتب: “اسمع أيها الأميركي”، وكتب عن أسباب الحرب العالمية الثالثة، فساوى بين نخب الشرق ونخب الغرب في عدم المسؤولية، خاصة في فترة ثنائية القطبية بين الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفياتي، ووجه انتقاداً إلى السياسة الحربية التي باتت جزءاً رئيسياً من قوام الاقتصاد الأميركي، فأعطى بذلك للحروب مهمة ضخ الموارد في قنوات إعادة إنتاج “الرفاه الأميركي” وديمومته. لعلنا نقرأ في سيطرة قطاع الإنتاج الصناعي العسكري على سائر الفروع الاقتصادية الأميركية الأخرى، أسباباً فعلية للحروب التي شنّت بذرائع وهمية على العراق مثلاً، والتي تجد نسخاً لها في إدارة الحروب الأهلية المتنقلة في أكثر من بلد عربي. هذا بكلام آخر، تعرية مبكرة من قبل تشارلز ميلز لزيف الإدعاءات الديمقراطية الأميركية التي تغلّف تدخلاتها بأغلفة الإنسانية والدمقرطة والاستقرار العالمي والتصدي “للإرهاب” الذي بات مؤخراً شماعة لكل التدخلات الأميركية في شؤون الدول الأخرى، وفي التلاعب باستقرار مجتمعاتها.
في رسالته إلى اليسار الجديد، وبعد فك رهانه على الطبقة الوسطى والحركة العمالية، وبعد خيبة أمله من النخبة التي رآها عاجزة عن إنتاج عملية تغيير يخالف السائد، بعد كل ذلك دعا ميلز إلى أسلوب جديد يهتم بالمهمات القريبة من قبيل: معارضة التدخل الأميركي في شؤون المجتمعات الثورية، ووضع إطار للتغيير الديمقراطي الراديكالي في الداخل. لقد كان لافتاً ما قدمه ميلز حول الراديكالية الداخلية عندما دعا زملاءه إلى عدم الانصراف كلياً إلى معاينة الراديكالية الخارجية، وإلى ضرورة الانتباه إلى أنه لا بديل من أن تكون الراديكالية متجذرة في المجتمع الأميركي وفي ثقافته، هذا يعني بكلام إضافي، إقامة المعادلة اللازمة بين الداخل والخارج، بحيث لا يذهب الأمر بالشيوعيين الأميركيين إلى اقتصار نشاطهم على تأييد الطرح السوفياتي بدايةً ثم على حل الحزب الشيوعي والذهاب إلى “صفقة جديدة” مع الرأسمالية الأميركية، والجهر بعدم مخاصمتها لاحقاً.
الآن، يبدو تشارلز ميلز راهناً جداً، فما كان يساراً عالمياً ترنح وما زال، وما كان يساراً عربياً ضاع وتاه، وما كان يساراً لبنانياً تقادم وبات يغرف سردياته “الفكرية” الموروثة من عقود خالية… وعليه، ما الجديد؟ لقد كتب تشارلز ميلز جديداً ما زال يدور حول مواضيع متجددة بطبيعتها، فماذا عن قراءة السيرة اليسارية الجديدة؟
(*)صدر الكتاب عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بترجمة فادي ملحم
المدن