“سوريا الأخرى”.. التدجين بالنقد المأذون/ محمد حجيري
في كتابها “سوريا الأخرى.. صناعة الفن المعارض”(*)، الصادر قبل الثورة السورية وعسكرتها، تحاول الأكاديمية الأميركية، ميريام كوك، التعريف بـ”سوريا الأخرى”، الثقافة الداخلية، غير المعروفة إلى حدّ كبير للأميركيين والغرب عموماً (وحده أدونيس يخترق الطوق وتمجده بعض العواصم الأوروبية).
وتسلّط كوك الضوء على نهج السلطة السورية البعثية وآلياتها في ضبط المجتمع السوري، ودور “الثقافة والفن في مقاومته” بحسب تعبير المترجم، بعدما أقامت المؤلفة في سوريا بين خريف 1995 وربيع 1996 وتعرفت في تلك الفترة الى الوسط الثقافي والفني. وهي فترة كانت الثقافة السورية في دائرة “القوقعة” (بالإذن من الروائي مصطفى خليفة)، اذ أدى كثير من المثقفين السوريين ممن قابلتهم ميريام كوك، دوراً ظاهراً مثيراً للجدل في تشكيل المنتج الثقافي السوري في منتصف التسعينات، آملين “تجنب الصاق تهمة الخيانة والتواطؤ بهم”، وهم يعملون في نطاق “المفاهيم الرسمية السائدة وضدها في الوقت ذاته، مثل المواطن الصالح، بقيت أصواتهم إلى حد بعيد غير مسموعة”، كما تقول كوك، بل إن بعضهم لم يكن معروفاً إلا على نطاق ضيق داخل سوريا، ويعود ذلك الى السيطرة الشمولية للسلطة على المجال العام، لذلك سمعت ميريام كوك من مثقفين وفنانين وكثر ممن قابلتهم، مرارا وتكراراً، عبارة: “أدبنا سيبقى حبيس الوطن”.
ودأبت السلطة السورية الأسدية على استدعاء الشعراء وأساتذة الجامعة والفنانين وكتاب المسرح على نحو دوري للمساعدة في إنتاج الرأي العام وتغذية عبادة الفرد الحاكم، وانتاج الثقافة التي تناسبها. وتتحدث المؤلفة عن المسرحيات الديموقراطية التي كانت تلجأ اليها السلطة الحاكمة، مثل “النقد الموجه”، خصوصاً في أوقات الأزمات والاختناقات السياسية والاقتصادية. وترى كوك أن الانتقادات التي تطاول السلطة دون “الرئيس” تصنف ضمن ما سمته الباحثة ليزا وادين “الانتقاد المرخص أو المأذون”. فعندما تسمح الدول بنوع من الانتقاد، فإنها تسمح بتحرير الضغط وتخفيفه، وقد نبه المسرحي سعدالله ونوس، في السبعينات، الى التأثير المخدر للتنفيس في الفنون الدرامية، لأنها تدعو المشاهد، الى “ترك أعبائهم على المقاعد قبل مغادرة المسرح”.
ويزخر كتاب “سوريا الأخرى” بمقابلات أجرتها المؤلفة في منتصف التسعينات مع فنانين وأدباء سوريين معارضين، راسمة بذلك المشهد الفني في سوريا الذي كانت تهيمن عليه أسماء بارزة من أمثال محمد الماغوط، ومحمد ملص، ونادية العزي، وكوليت خوري، وإلفة الإدلبي، وغادة السمان، وممدوح عدوان، وسعدالله ونوس، وغيرهم. بعض الاسماء التي تذكرها المؤلفة، لم تكن بعيدة عن النظام، ولم تكن قريبة. وهذه وجوه تسميها المؤلفة “سوريا الفن المعارض، سوريا الأدب المموج بمعاناة سنين في سجون المزة وتدمر وصيدنايا… سوريا المعارضة الناعمة التي ربّت بخطابها بغض الظلم والسلطوية وحكم الفرد الواحد”.
على أن مقدمة كتاب كوك، تبدو أكثر دلالة وعمقاً من مضمونه، فالكاتبة التي زارت سوريا في منتصف التسعينات، رأت ان سجن الحياة اليومية غطى “جزءاً كبيراً من الثقافة التي درستها، حيث حاول مثقفو سوريا مقاومة المناخ الخانق التي ساد في الأعوام الأخيرة من حكم حافظ الأسد الذي امتد لثلاثين عاماً. ووقعوا في مفارقة أن الدولة التي تتحكم فيهم وتسكتهم، كانت في حاجة اليهم”. كان نظام الأسد في لحظات الشدّة، يحاول ارضاء الرأي العام، من خلال الاهتمام بصحة بعض الرموز بدءاً باللبناني عاصي الرحباني مرورا بسعدالله ونوس، وهو أوى لفترة شاعر العراق الجواهري المنفي من صدام، وكان ثمن الإيواء قصيدة “سلاماً أيها الأسد”، أما العلاقة الأسدية بنزار قباني فكانت ملتبسة.
ونظام البعث الذي استولى على السلطة في بداية الستينات، وتكرس مع حافظ الأسد في بداية السبعينات، قاد أنموذج دولة أمنية بحزب واحد على الطريقة السوفياتية، مع وجود “خمسة عشر جهازا استخباراتيا متنافساً يتجسسون حتى ضد بعضهم”، وحيث رسخت المادة الثامنة من الدستور البعث “قائداً للدولة والمجتمع”. استمر الأسد على نهج من سبقه في ممارساته البريتورية في سوريا، فعزز قوانين الرقابة على الصحافة، واحتوت قائمة المحرمات “السياسة، والايديولوجيا، والدين، والمجتمع والاقتصاد، ولا سيما ما يتعلق بسوريا والشرق الأوسط”. ومنعت الرقابة “تداول أي كتاب يحتوي على إشارة على العلويين أو اي اختلاف طائفي، لهذا السبب تم فعليا سحب جميع الدراسات الغربية عن سوريا المعاصرة”. (يمكننا التذكير باغتيال الباحث الفرنسي ميشال سورا الذي رصد مجازر حماة وأصدر كتاب “الدولة المتوحشة”). ولاحظت ليزا وايدن مؤلفة كتاب “السيطرة الغامضة” أن النظام يعتمد على مبدأ “من لم يدرك عظمة القائد، أو من لم يشارك في “عبادة القائد هو مشتبه به”.
وعدا عن الثقافة الموجهة، والاستعانة بـ”المثقفين” كديكور ومزهرية (الشاعر اللبناني الراحل جوزف حرب نموذجا)، كان الأسد ضالعاً بقوة في استعمال الدين من أجل السلطة. تقول ميريام كوك، ففي حين رفض رفيقه صلاح جديد أن يُسمى رئيس دولة “خوفاً من استفزاز الطائفة السنية بحصول العلويين على منصب تقلده السنّة أعواماً طويلة”، لم يتوان الأسد من التسمي بذلك. وظهر بمظهر المسلم السني ليغطي على “هويته” العلوية، وكان يعتمد في استراتيجيته على حجة مبنية على المنطق القياسي. نص دستور 1973 على أن “الاسلام هو دين الدولة” مع ضجيج الانتصارات وشعارات العروبة والتصحيح. ولتحقيق توظيف “الأسلمة المقنعة” في الرئاسة السورية، طلب حافظ الأسد مساعدة الامام موسى الصدر، الذي أصدر في تموز/يوليو عام 1973 فتوى اعتبر العلويين جزءاً أصيلاً من الطائفة الشيعية. بينما يرى بعض السنّة الذين لا يؤمنون بمبدأ الحلول أن تبجيل العلويين لعلي بن أبي طالب، الذي يكاد يصل إلى حد التأليه، أمر يستدعي التفكير، أضافة إلى ارتيابهم من السرية التي يحيط بها العلويون طقوسهم وتعاليمهم.
وركز الأسد على الجانب المعماري ليؤسس سمعته الاسلامية، فبنى مساجد ضخمة في أنحاء البلاد، من بينها المسجد الذي شيده في ذكرى مقتل ابنه في حادث سيارة عام 1994، وقد بنى له ضريحاً يُخيل إلى مشاهده أنه ضريح أحد أولياء المسلمين. وعلى الرغم من أن باسل لم يمت في قضية سامية، فإنه يدعى “شهيداً”، أي شخص أشبه بالقديسين. وتروي المؤلفة أنها حين زارت قبر باسل، في منتصف التسعينات، كان مكسوا بالقماش الأخضر على غراء أضرحة الأولياء المسلمين، محاطا بتذكارات عسكرية. وكان ثمة الى يسار القبر صورة لباسل بملابس الاحرام البيضاء خلال تأدية مناسك الحج في مكة.
كان الضريح جزءاً من مجمع مليء بصور باسل وأبيه. وكان يظهر فيها الشهيد الشاب “بزيه العسكري ممتطياً جواداً يصعد الى السماء، في محاكاة واضحة لرسول المسلمين محمد ومعراجه إلى السماء، بينما يظهر والده في الصورة رافعاً يده في دعاء مع جميع الناس كأنهم مصطفون خلف امامهم. فكانت اللوحة واضحة، لقد أصبح حافظ الأسد أبا لشخص توازي قداسته قداسة نبي”.
وعنما تسلم بشار الأسد السلطة بعد موت والده العام 2000 أمل كثيرون أن تتغير الأمور. وفي الأيام المبكرة لحكم الابن بدا أنه من الممكن بالفعل ان تتحقق هذه الآمال. وسميت هذه الفترة “ربيع دمشق”، لكن الانفتاح لم يدم طويلا. ففي بداية العام 2005 قمعت الدولة اصوات معارضين، واعتقل مناصرو المجتمع المدني، واتهم كل معارض بالخيانة. وحين اشتعل “الربيع العربي”، استخف الأسد بالأمور، واعتبر سوريا عصية على التحركات والتبدلات، ولكن مآل الأمور أن النار وصلت الى سوريا ودمرت معظم مدنها، وهجر الملايين من سكانها، وبقي الأسد رئيسا في “لعبة الأمم”.
(*) صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ترجمة حازم نهار.
هامش
(*) النقطة الأبرز التي يشير اليها المترجم في مقدمته، أن الفن السوري قام بدور مهم قبل الثورة السورية، على الرغم من التضييق الشديد عليه. وبعد انطلاقة الثورة تعاملت السلطة بعنف شديد مع حركة الاحتجاج الشعبية، فبدأت اسئلة محورية بخصوص الفنانين والفن بالبروز، منها هل يمكن أن يكون تأييد الفنان السلطة الاستبدادية ضد الشعب السوري وجهة نظر؟ يضيف حازم نهار لا شك أن عددا كبيرا من الفنانين السوريين اتخذ موقفا مخزيا من الثورة السورية منذ انطلاقتها، واستمروا في تأدية اعمالهم الفنية على خشبات المسارح. كان مدهشا تخليهم عن أبسط الادوار الانسانية، اذ زار مخيم الزعتري للاجئين السوريين في الأردن عدد كبير من الفنانين العرب والعالميين، بينما غاب الفنانون السوريون الموالون للسلطة جميعهم عن زيارة اللاجئين من بلادهم.
المدن