ذلك الأثر الأبيض في السماء/ إيناس عزي
السابعة إلا ربعاً مساءً، البيت غارق في ظلمة شبه كاملة، البطارية التي اشتريناها مؤخراً بالكاد تستطيع العمل ساعتين متواصلتين، تبدأ بعدها الأضواء بالخفوت وتتلاشى تدريجياً…
ساعتان أو ثلاث من العتمة تتكرر ثلاث مرات يومياً في سوريا. يختلف التوقيت والمدة، بحسب الحارات، ووفق برنامج محدد ينفذه موظف في شركة الكهرباء. وفي كل الأحوال، لا بد أن نمضي بضع ساعات من حياتنا يومياً في عتمة وعزلة، نتوقف فيها عن كوننا جزءاً من عالم حي متحرك ومضيء…
بدأ انقطاع الكهرباء مع بداية الأحداث، ثم تحولت إلى حرب حقيقية يمكن مراقبتها من الفضاء، تتقلص وتتمدد، تختفي مدن بأكملها ثم تعاود الظهور وقد اختفت أجزاء منها، وقل سكانها. لسنوات، وتدمير الإرهابيين لأنابيب الغاز ومحطات التوليد وأبراج نقل الطاقة الكهربائية هو السبب في انقطاع التيار الكهربائي. لكن الآن، وبعد إعلان النظام انتصاره، لا تزال الكهرباء تنقطع ولساعات محددة وطويلة قد تمتد لأيام كاملة أحياناً، مقابل استسلام شعب مُنهك.
سنوات مضت على هذه الحال، نعيش في العتمة والضوء، ويكبر أطفالي بين الإثنين. سنوات مضت على ضوء الشموع، نحكي القصص، نخلق حيوانات على الجدران، نكتب رسائل لبعضنا، نخترع ألعاباً، نبحث عن واكينو الدب الرمادي في السماء -إذا كانت صافية- وعن الأخوة الضائعين اللذين تحولوا نجوماً لأنهم يئسوا من الحياة على الأرض… حتى يأتي موعد النوم، وأقرأ لهم حكاية من حكايات الهنود الحمر التي لا يملون من سماعها أبداً.
“حقاً لقد ذهب الدب الرمادي إلى مرابع الصيد الأبدية، ولم يخلّف وراءه سوى الثلج الذي نفضه عن فروه. وهذا الثلج الأبيض موجود في السماء حتى يومنا هذا”…
في منتصف الليل أو عند الفجر، كنا نصحو أحياناً على صوت الغسالة التي لم تُنهِ وجبة الغسيل منذ أيام، أو على صوت التلفاز وكأننا في فيلم رعب، تصحو المدينة النائمة فجأة… نطفىء الأضواء والأجهزة، ونكمل نومنا إذا استطعنا.
شتاء 2012: “ما إن ولدت سنو وايت حتى بدأت السماء تُثلج…”. تبتسم ابنتي الوسطى، فهي تعرف أنها سنو وايت في هذه الحكاية، لكن ما لا تعرفه أن غرفة الولادة كانت باردة ومعتمة وأني كنت أرتجف وأنا أنتظر الطبيب ومولد الكهرباء المعطل…
بعد ثلاث سنوات ولدت ابنتي الصغرى في المستشفى نفسها، لكنها كانت دافئة ومجهزة هذه المرة، رغم الجو الممطر والعاصف. لكن، بعد وصولنا إلى البيت بساعات، انقطعت الكهرباء ثلاثة أيام متتالية.
ومع ذلك، لا أروي لأطفالي سوى الجزء المضيء من الحكاية: كنا نراقب النجوم المتلألئة المعلقة في السقف، أسمع كلماتهم وجُملهم الصغيرة وحكاياتهم الساحرة، ثم ننام متلاصقين طوال الليل…
ابني الذي سيكمل التاسعة من عمره بعد أشهر، يمضي معظم وقته في تصنيع الأضواء، خزانته مليئة بالبطاريات والمصابيح اليدوية، أجزاء من “ليدات” ودارات والكثير من الشموع، ولا ينام من دون أن يضع “البيل” الصغير الأزرق تحت مخدته.
قبل سنتين عندما اختُطف جارنا مقابل فدية، بدأت بعشرة ملايين ليرة وانتهت بمليون واحد. ذهب زوجي مع والد جارنا العجوز، لتقديم بلاغ للشرطة باختطافه، كانت المدينة معتمة تماماً، وتم تسجيل البلاغ على ضوء قداحة أحد العناصر في غرفة معتمة يجلس فيها ثلاثة أشخاص (هذا ما رآه في ضوء السجائر المشتعلة) يضحكون ويتبادلون النكات البذيئة، ويعدونهم خيراً…
عتمة لا متناهية تمتد سنوات طويلة للوراء وتمنعنا من الرؤية، عتمة لم تعد تثير الاستغراب ولا الدهشة، بل صارت جزءاً من الحياة السورية. تآلف معها البشر رغم كل الوحشة واللاجدوى، ورغم أن المدينة تتحول مدينة أشباح، أحياء وشوارع كاملة معتمة، وأحياناً المدينة بأكملها وكأنها غير موجودة في الخريطة.
حين قلبت صديقتي الفنجان منذ أيام، وهي المنهكة من انتظار عريس مناسب، ناولته لأمها وهي تقول ساخرة: شوفيلنا ايمتا رح تدور الكهربا!
العتمة باتت تسكن بين ضلوعنا، في صورنا وذكرياتنا، في تفكيرنا، تمنعنا من رؤية العالم وتخلق فجوة في إدراكنا ومعرفتنا، نتلمس طريقنا للمستقبل ونحن غارقون فيها.
الروضات، المدارس، المحلات التجارية، عيادات الأطباء، المكاتب الهندسية، أينما ذهبنا برد وعتمة وقلق وانتظار…
نغادر منزل والديّ اللذين قاربا السبعين، كل أسبوع، على ضوء الموبايل أو المصباح اليدوي. الدرج معتم تماماً، والشقق معظمها مهجور، أو ما زال يسكنها كبار السن منتظرين عودة الضوء وأبنائهم يوماً ما.
وحتى ولو كانت كل الأجهزة تعمل، وجميع المصابيح مضاءة، لم نعد نرى سوى عتمة صارت حالة وجدانية لنا جميعاً، نحن السوريين، في بيوتنا وخيمنا وسجوننا، في نزوحنا وهجرتنا ولجوئنا وفي بقائنا.
صغاري الذين كانوا يستمتعون بتلك الساعات السحرية التي نمضيها معاً، أصبحوا الآن يكملون وظائفهم متذمرين قلقين، لم تعد العتمة شيئاً ممتعاً ولا هدير المولدات، لا ضوء الليدات ولا الشموع، ولم يعد يعنيهم البحث عن واكينو ولا أثره في السماء. صاروا ينتظرون الكهرباء لمتابعة الكرتون أو لشحن الآيباد الذي نفذت بطاريته، أو ينامون في العتمة وقد فقدوا الأمل.
لا أرى ضوءاً في نهاية هذا الليل المعتم والطويل، ولا أعرف إن كنت سأراه يوماً. كل ما أتمناه أن يرى أطفالي ذلك الأثر الأبيض، ولو حتى في سماء بعيدة.
المدن