– ” وين بدك ياها تكون… من ورا وللا من قدام؟ “
_ ” برأيك انت وين أفضل؟ ”
– ” خلص..اتركني اشتغلها بمعرفتي..هي مو اول خلية نايمة بعملها بحياتي”
_ ” يحرق حريشك..شو خطر ببالك هالمصطلح!؟ “
أوصدَ فادي بسؤالهِ بَاباً أمامَ كلماتٍ إضافية تعليقاً على التشبيه، بينما شرَّعَ آخرَ لقهقهاتٍ التهمتْ بعضاً من كآبة الغرفة. كان واضحاً أنّ السؤال ليس استفهاميّاً بقدرِ ما هو تعجُّبيّ.
واصَلْتُ خياطة ذلك الجيب السرّي، فيما فادي يَفركُ يديه مُنتظِراً أن أنتهي، كي يرتدي ثيابه ويَمضي. بدا حينها كمَنْ يحاول القبض على الوقت لإبطائه من دون جدوى، فالساعة قاربتْ الرابعة والنصف فجراً، ومِنَ المُفترَض أن يغادِرَ خلال نحو عشرين دقيقة للقاء رفاقه وبدءِ مسيرهم نحو أوروبا برّاً عبر طريق البوسنة.
سادَ صمتٌ مؤقّت ثمّ عادَ فادي ليسألني:
_ ” كيف تعلمت تعمل هالخلايا… ههه.. قصدي هالجيب المخفية بالتياب الداخلية؟”
استويتُ قليلاً في مقعدي وحاولتُ أن أعطي صوتي بحّةً خفيفة توحي بالنضج وبأثر تجارب الحياة، ثم أجبته:
– ” تعلمتها بالجيش”
شكّلَ هذا الموقف مناسَبة خاصّة بالنسبة إلي، فمَنْ نجا من التحوّل إلى جثة أو وحش عقب الخدمة في جيش الأسد، فإنه يَنغمسُ لسَنواتٍ مُحاولاً نزْعَ الأشواك العالقة في ذهنه، لكنّه وللمفارقة لا يُفوّتُ الفرصة ليواسي نفسه وليُثبتَ لمَن حَوله أنّه خرَجَ بشيءٍ مفيدٍ من تلك المرحلة رغم كونها صفحة سوداء في حياته.
في هذه الصفحة قد يبحث صاحب التجربة العسكريّة مُطوّلاً، وفي النهاية تَقعُ إصبعهُ على مهارة “كيف تتحايل على القلق فتتجاهله، وتجعله يُغمِضُ عينيه عنك”. وكمثالٍ تطبيقيّ يُمكن أن تُلقي فكاهةٍ أمامَ صديقٍ يَستعدُّ لرحلة خطِرة تَحومُ فوقها أطيافُ موتٍ تراجيديًّ رخيص!
أما “الخبرات العمليّة” الأخرى، كإدمان أكل البطاطا المسلوقة ومخاطبة الناس بكلمات نابية وترديد الشعارات الوطنية الفارغة، فمكانُها في مُتحف “تنذكر ما تنعاد” لأنّ صلاحيّتها تنتهي مع التسريح (إن حصل)، لتبقى الخبرة الأهمّ تُرافق الناجي كالوصيّة الأبويّة وتهمس في أذُنِه “التصقْ بأشيائك الثمينة واجعلها جزءاً منك”، بما يُترجَمُ بابتكار أساليب لحفظِ المال من دون الحاجة لوسائل حماية، فالتحصين الأقوى هو الإخفاء حيث لا تمتدُّ الأيدي.
لن يأبهَ أحدٌ لتكتيكٍ من هذا النوع في ظروف الحياة العاديّة، لكن وبعودة الإنسان إلى مخاوفه البدائيّة وشعوره بأنه محاطٌ بـ”ديناصورات”، فإنّ الثانوي يَغدو أساسيّاً والهامشيّ مصيريّاً. واللاجىء في مَراحل العبور والانتقال يَعِي هذه الحقيقة ويَعيشُها مع تحوّل كل ما يصادفه إلى عدوٍّ مُحتَمل، أكانَ هذا لاجئاً آخر أو مهرّب بشر أو عناصر شرطة حدوديّة أو سكّاناً محليّين.
“في مُهرّب حط المسدس براس لاجىء وشلحو مصرياتو…. الجندرما التركية ما بيتركوك إذا ما عطيتهن لي فيه النصيب….. الشرطة اليونانية مسكو نفرات (مهاجرين) عالحدود واخدو كلشي معهم حتى تيابهم … بكرواتيا بياخدو موبايلك.. وانت احتياطاً لا تشيل مصاري معك غير مصروفك”.
يَصطدمُ المهاجر غير الشرعي بتلالٍ من الأخبار والأقاويل والشائعات خلال رحلته، فيجدُ نفسه أمام خياراتٍ محدودة للحفاظ على “تحويشة العُمر”، فإما أن يضَعَ مَالهُ بعهدة طرف ثالث (رغم المحاذير العديدة لهذه الخطوة)، وإما أن يَحمِلهُ معه وهنا المخاطرة الأكبر.
سيتراجعُ الخوف من السّطو لو أنّ المُهاجِر كان نفراً بحريّاً أو جوّياً وحسبْ، يَركَبُ البَلمات أو الطائرات. لكن وبانضمامه إلى المُشاة ورُكّاب السيّارات عابري القِفار ومتسلّقي الجبال سيكونُ عليه رفعُ الجهوزية إلى أقصاها.
– ” في ناس بتقلك شو كان بدك بهالبهدلة”
قُلتُها بصوتٍ خفيضٍ دون أن أرفع رأسي قاصداً أن أُبدّدَ صمت الدقائق المتبقّية. كلماتٌ كهذه كانت لِتوحي بصحوةٍ متأخّرة، أما والأمر يَمَسُّني أنا وفادي ومثلنا الكثير من السوريين ممّن استطاعوا الخروج من البلاد، فإنّ “البهدلة” والويلات تصبح خَياراً لا يُثنِيهِ الحديث عن نهاية الحرب وعودة “الأمن”، ولا تستبدلهُ حياةٌ مستقرّة محكومة بـ”أمان الدجاج” وبمنطق المواطن الصالح في “سوريا الأسد والمخلوف والمملوك و…”
ثمَنُ قطعةِ أرضٍ وسِوَارٍ ذهبي (تم بيعهما والتحويل إلى اليورو) يَستعدُّ ليرقُدَ هنا. باتَ الجيبُ جاهزاً بعدما تأكّدتُ من تثبيته بغرزات متكرّرة في نهايته. ما مِن خريطة تَدلُّ على الكنز المدفون، لذا فلن يُكتَشَفَ إنْ لمْ يَبُح فادي بالسرّ، أو في حال تمّتْ تَعريَتهُ من ملابسه نهائياً.
– “تفضّل يا ابو الفوود.. بعتقد هيك ما في داعي تخاف ع مصرياتك.. حتى لو انمسكت وكسّروك من القتل… وحتّى لو اضطرّيت تمشي بتياب طرزان من هون لهولندا… انت ع كل حال حاول تمرق من الغابات وما تشوف الناس.. بالآخر اذا صادفت دببة ما رح يسرقوك.. واذا مو جوعانين ما رح يؤذوك”.
المدن
