الناس

«العيلة»: ملجأ للاختلاف في اسطنبول/ سمر عبد الله


عليّة واسعة، جدران بيضاء وأثاث أبيض أيضاً. من السقف يتدلى مصباح كبير، ويتأرجح، أشبه بما نراه في مشاهد التحقيق، أصوات متفرّقة تعلو وتنخفض وتبتعد لطيور النورس المتواجدة على مقربة من المكان. تصعد درجاً لتدخل إلى هذا البهو الكبير، تدخله… فتشعر بالوحشة، والبرد، وبشيء من الارتباك، كأنك الوحيد والغريب في كلّ هذا البياض الفاقع.

ولكن سرعان ما تتلاشى هذه الوحشة، ويتحول هذا الفضاء البارد إلى ركنٍ أليف، يجمع أصدقاء، وأحباباً، ومعارف وآخرين كثراً فيه.

مع ضجيج تغيير أماكن الكراسي والطاولات، تعلو الأصوات في مصافحات اللقاء، ضحكات، نكات، وكثير من البهجة، خلال دقائق قليلة يتحوّل هذا الفضاء بكلّ من وما فيه إلى مهرجان، يتحوّل الأبيض إلى ألوان.

بتواتر أسبوعيّ، يلتقي أفرادٌ من مجتمع الميم العربيّ وأصدقائهم في هذا المكان من مدينة اسطنبول، يتناقشون في عدة قضايا تهمّهم، يمرحون، يبكون، يسرقون ساعات من الزمن ليكونوا على طبيعتهم في القول والشكل والتصرّفات والفرح. يتعرّفون على القادمين الجدد ويساعدونهم في تأمين سكن وعمل حسب القدرات المتوفرة، ويطلقون على هذا التجمّع وصف «العيلة».

قد تكون الساعات القليلة التي تجمع «العيلة» بمثابة وقت للاسترخاء والإحساس  بقليل من الأمان ، وبكثير من الانتماء لجماعة يتشابه أفرادها في الاختلاف عن الغالب السائد، يتشابهون في الوجع والحرمان، وقمع مجتمع يرفض الاعتراف بهم وبما هم عليه. أعتقد أن بعضهم يعتبر هذه العليّة بمثابة وطن، وطن مؤقت وبديل عن تلك الأوطان التي جاؤوا منها وتعرضوا فيها لسائر أنواع الاضطهاد والتمييز.

وقد كان الاضطهاد والتمييز ضد المثليات والمثليين موجوداً في سائر أنحاء العالم، منذ القدم،  تراوحت أشكاله بين القمع والرفض الاجتماعي والعزل، وبين التجريم القانوني الذي يصل حدّ الحكم بالإعدام في بعض الدول. وفي بدايات القرن العشرين بدأت تنشأ في أوروبا والولايات المتحدة جمعيات وأشكال من العمل الجماعي المنظم، التي حاول من خلالها المثليون/ات والمتحولون/ات ومناصروهم دعم بعضهم بعضاً ومقاومة ذلك التمييز والاضطهاد. لكن الحراك المنظم والعلني لم يبدأ فعلاً إلا بعد الحرب العالمية الثانية، بالتزامن مع الحراك الواسع في الغرب من أجل مزيد من الحريات والحقوق بشكل عام، ومن أجل مقاومة التمييز ضد النساء والملونين بشكل خاص. ونتيجة لهذا النضال، بدأ التمييز الاجتماعي والكراهية ضد مجتمع الميم يتراجعان تدريجياً في كثير من الدول حول العالم، ثم تجلى هذا من خلال إلغاء تجريم المثلية في قوانين دول كثيرة. وفي سنة 1990 رفعت منظمة الصحة العالمية المثلية الجنسية من قائمة الأمراض العقلية. بالمقابل، بدأ الحديث عالمياً عن ضرورة اعتبار رُهاب المثلية هو ما يستحق العلاج، وليس العكس. ثم كانت هولندا أول بلد يعترف بحقّ المثليين والمثليات في الزواج والتبنّي عام 2001، وتبعتها بلدان أخرى.

أما في البلدان العربية، فلا يزال التمييز الاجتماعي والقانوني سائداً ضد مجتمع الميم، ولا تزال الهوموفوبيا أو رهاب المثلية الجنسية ظاهرة نراها ونسمع عنها كثيراً، تساهم المعتقدات الدينية المتشددة في انتشارها، إلى جانب البيئة الثقافية المتشبّعة بالذكورية، التي تعتبر الذكر أعلى وأهمّ مكانة من المرأة، وكلما ازداد الذكر «فحولةً» كلما ازداد رجولة، وبالتالي صار له قيمة اجتماعية أعلى، وهذا ما يجعل من اعتراف الذكر بمثليته أصعب وأقسى عليه، وقد سمعت مراراً أثناء تواجدي مع «العيلة» أحدهم يقول: «بس عرفوا أهلي بمثليتي، كان همّهم الأكبر يعرفوا إذا كنت ‘فاعل’، أم ‘مفعول به’.. فالمصيبة تهون عليهم إذا علموا أنني المتحكّم في العلاقة».

في أغلب الأحاديث التي سمعتها أثناء تواجدي مع «العيلة»، كانت الكلمات المستخدمة ممزوجة بتاريخ طويل من القمع الذي تعرضوا له. وهذا ما يظهر واضحاً في طريقة كلامهم المرتبكة، عندما لا يجدون في ذاكرتهم مخزوناً كافياً من الكلمات والمفاهيم للتعبير عن تجارب عاشوها وأحاسيس شعروا بها.

سأروي لكم قصتيّ عزيزة وتيم، وقد وافقا على نشر أقوالهما وآرائهما التي طرحت ضمن أحاديث ونقاشات دارت في أيام متفرّقة من عامي 2018 و2019، داخل ذلك المكان الذي يجمع «العيلة».

*****

«هاد الولد غبي، لا تبعته عالدكان… بعات الأصغر، فهلوي، وكدع». بهذه الكلمات التي يتذكرها من كلام أبيه، بدأ تيم حديثه عن طفولته التي قضاها في حيّ الأشرفيه في حلب. تيم من مواليد عام 1996، وهو الولد الثالث ترتيباً في عائلة تضمّ أربع بنات وثلاثة صبيان. لم يحظ تيم بعلاقة جيدة مع أبيه، الذي رأى فيه الولد المنعزل، الكسول، الخجول الذي لا يتدبر أمره لا في المدرسة ولا أثناء اللعب في الشارع مع الأولاد. ولد متكاسل ومتخفِّ، يفضّل قضاء كلّ وقته في المنزل مع أخواته البنات، ولا يمكن الاعتماد عليه.

وبالفعل كان تيم ولداً يحبّ الانعزال في المنزل وقضاء وقته مع أخواته البنات، يلعب معهنّ ويشاركهنّ ترتيب المنزل والطبخ، يحبّ الرقص، والتزيّن، ويهتمّ بكلّ الألعاب والإكسسوارات والأحاديث التي تدور بين بنات العائلة وجاراتهنّ. كان تيم مدلل شلة البنات تلك، يحبّ عوالم البنات الصغار، ويكره العنف والصراخ والطابة وكلّ ألعاب الأولاد الذين في عمره.

في سنواته العشرة الأولى، لم تكن العائلة ولا أولاد الحارة عوامل تشجيع له للخروج من عزلته، بل كانوا سبباً فيها. كلمات الإهانة والتنمّر والسخرية الدائمة من تصرفاته وأقواله الخجولة جعلت مكانه المفضّل غرفة خالية، في بيت لا يدخله زوّار، ولا يطرق بابه أحد. كان يشعر بالخوف عندما يسمع طرقاً على باب المنزل، فها هم الزوار الحشريون قد أتوا، وبالتأكيد سيبدأ والده أو عمّه أو حتى أخوه الأصغر بالتنمر عليه، وتبدأ مسرحية السخرية من شكل وتصرفات وصوت وحركات وكسل تيم. فهو ولد ناعم، قصير القامة قليلاً، غالباً ما يتكلّم ببطء، فهو حذرٌ من كلّ كلمة يقولها عله يلفظها بشكل خاطئ أو في غير مكانها، وهو هادئ الطباع وميّال لمراقبة كلّ ما هو حوله ، لا يبادر ، ولا يجروء على قول كلمة لا، مرتبك من جسده الذي لا يساعده على أن يكون شقياً وخشناً كباقي أولاد سنّه، أو كأخيه الأصغر الذي يجلس في أحضان أبيه أو بقربه أغلب الأوقات، منتظراً أن يلبّي أيّ نداءٍ أو طلب قد يُطلب منه.

«صرت شوف حالي متل ما هنن بيقولوا عني … غبي وحمار».

تغيّبَ تيم عن المدرسة منذ عام 2012 وكان حينها في الصفّ العاشر، بسبب المعارك والقصف الذي طال حيّهم. قاومت العائلة فكرة النزوح من حلب لمدة عام كامل، ولكن الحرب تشتدّ ولا عمل في المدينة، سافر الأخ الأكبر خارج البلاد للعمل وقررت العائلة النزوح إلى إحدى قرى عفرين. تنقّلت العائلة بين عدّة منازل للأقرباء ثمّ استقرت في منزل عمّة تيمّ، الأرملة ، وهي أم لأربعة أولاد.

ها هو القدر يدور، ولا بدّ من لقاء تيم بأحد أبناء عمّته، بل وأن يسكن في منزله أيضاً، ومن هذه القصة تبدأ حكايات كثيرة، كلها تنتهي بقول تيم: «أنا بحسّ أني صرت مثلي، ما بحس أني ولدت هيك».

كان تيم في العاشرة من العمر عندما جاء ابن عمّته ذو السبعة عشرة ربيعاً ليقيم عندهم في حلب، طلباً للعمل ولاكتساب مهنة ما. في أحد الأيام وكان قد مضى عدّة أشهر على وجوده مقيماً في منزل العائلة، تصادف وجود تيم في المنزل وحيداً عندما أتى ابن عمّته من العمل باكراً. بعد وقت قليل من قدومه اقترب ابن العمة من تيم  قائلاً: «شو رأيك نعمل شغلة حلوة وبعدا بعطيك مصاري تروح تشتري بوظة». و بشيء من الارتباك أضاف تيم: بدأ يتلمّس جسدي في أماكن عدّة، ويقول مصطلحات لا أعرفها، كنتُ خائفاً ومرتبكاً، بدأت أشعر بتسارع نبضات قلبي واحمرار وجهي وبرودة يديّ، لم أكن أدري ماذا يجب أن أفعل، هل أبعده عنّي أم أستسلم لهذا الشعور الغريب الذي بدأت أشعر به! أشعر بالخجل وبالقوّة في الوقت نفسه، وكأن بركاناً بدأ يغلي في داخل جسدي. كنت أتنفّس بصعوبة، ولكني سرعان ما شعرت بشيْء جميل.

ومضات من الذاكرة بدأت تلمع أمام عينيّ، وفي أجزاء من الثانية عدت إلى عمر أصغر وتحديداً  إلى  الصفّ الثالث، في المقعد الخلفّي الموجود في أقصى الزاوية اليسرى من الصف كنت أجلس ومعي زميل الدراسة. في إحدى الحصص اقترب مني زميلي ووضع يده على فخذي، ثم بدأ يتلمّس أعضائي، ويضع يدي على أعضائه، كان شعوراً جميلاً لا أستطيع أن أصفه، هو يشبه بداية اكتشاف الجسد دون أي شعور جنسي، كنا نكررها كلما سنحت لنا الفرصة بذلك… لم أقل لأختي ما جرى لي في المدرسة، لأنني كنت سعيداً بما حصل، وفي داخلي حدسٌ أخبرني ألا أقول هذا السرّ لأحد، فلربما منعتني أختي من فعل ذلك أو وشت بي للمعلّمة او امتنع صديقي عن فعل ذلك معي.

مع ابن عمتي تولّدَ شعور آخر، لن أقول عنه لذّة، ولكنه أقرب لأن يكون بداية اكتشاف المشاعر المرافقة للجنس، وكأن ومضات من الكهرباء تسري في عروقي لأول مرّة.

لم أكن أعي ما نفعل، ولم أكن أعرف إن كان الجميع يفعلون ذلك أم لا، ولم يقل لي ابن عمّتي أن أجعل ما جرى سراً بيننا، لكنني أيقنتُ أن ما نفعله يجب أن يبقى سرّأ مخبّئاً، لا أفضحه لأحد.

تكررت فعلتنا، كنت أنتظر قدومه دوماً وأفرح عندما نتواجد سوياً في المنزل بمفردنا، أو عندما يتصادف نومه قربي في تلك الغرفة التي كانت تجمع كلّ أفراد المنزل معاً. كنت وابن عمّتي نتسابق لاختيار المكان الأكثر عزلة  في الغرفة والأكثر بعداً عن أنظار الآخرين، حينها نتلمس بعضنا بعضاً بحركات بطيئة ولمدة قليلة، لكنها كانت كافية لنشعر بالمتعة. وكان دائماً يعطيني نقوداً أشتري بها ما أريده من حلويات دون علم أهلي بذلك.

لا أذكر تماماً كيف ابتعدنا، وكيف انتهى ما بيننا، وكأنه شيء من المنام يومض في ذاكرتي، ومشاهد متفرقة أراها وأتذكر بعض مشاعرها آنذاك. منذ ذلك الوقت عرفت أن هنالك لذّة ما أشعر بها عند تحسّس جسد رجل آخر، أو حتى عندما أراه في مخيلتي. لم أكن أفكّر أبداً بجسد المرأة ولم أكن ألجأ إلى هذا أبداً عند ممارستي العادة السرية، فجسد الرجل هو ما يثير شهوتي، وللرجل أنجذب.

ابن عمّتي اليوم، رجل متزوج ولديه أطفال، ولا أعتقد أنه مثليّ الجنس.

لا أدري حقاً إن كان كلّ من تعرّض لشيء من التحرش في صغره يتحول إلى مثلي أم لا، ولا أدري إن كان جسدي وهيئتي «النعّومة» هو السبب في انجذابه لي، أم أنني كنت ولداً صغيراً متوفراً، ليتعرّف على شهواته الجنسية ويمارس بعضها، من خلالي! فما حدث بيننا كان تلامساً وتحسّسا للأماكن الحسّاسة ولم يكن جنساً كاملاً، لم أشعر أنه اغتصبني ولم يجبرني على شيء، لكنني أعرف أن ما حدث بيني وبين ابن عمتي، وما سبقه عندما كنت في الصفّ الثالث، كان له تأثيرٌ عميقٌ في نفسي، وكان محفزاً لي لأعرف المزيد عن حالة عشتها ولا أعرف اسمها، فيها متعة وخوف وتسارع جميل في نبضات القلب، وكثير من الذنب!

أذكر موقفاً آخر تعرّضت له، فعند خروجي من المدرسة ذات يوم، رأيت إعلاناً عن فيلم يعرض في سينما لم أعد أذكر اسمها ولكنها متواجدة في حيّ العزيزية، وعلى الرغم من ارتباكي بسبب وجودي في هذا المكان الجديد، أشاهد فلماً إباحياً وأشعر بالعار بسبب ذلك، إلا أن رغبتي في دخول ذلك المكان، ومشاهدة فيلم في السينما لأول مرة، ومعرفة كيف يحدث الجنس بين الرجل والمرأة، كان أقوى من خجلي. دخلت السينما ولم أكن أعرف ما قد أراه داخلها، في بادئ الأمر كنت مندهشاً من ذلك المدرج المليء بمقاعد حمراء اللون وهذا الظلام الذي يعطي المكان جوّ مهيباً. كنت أعتقد أنني أول الواصلين، فلم يكن داخل القاعة الكبيرة سواي، و-على ما أعتقد- أربعة آخرون. بدأ العرض وبدأت الحماسة، التي سرعان ما تحوّلت إلى ارتباك وخوف من رجل جاء وجلس في المقعد المجاور لي وبدا يتلمّسني. ابتعدت، وجلست في أبعد مكان عنه، بعد ثوانٍ وعلى مقربة مني رأيت رجلاً آخر يمارس العادة السرية أمامي، لم أبقَ هناك أكثر من خمس دقائق، خرجت مشوشاً، مقطوع الأنفاس ومشمئزاً من الجنس ومن نفسي. يومها لم أشاهد فلماً إباحياً عبر الشاشة، لكنّي رأيت أفعالاً إباحية أمامي مباشرة.

منذ ذلك الوقت قرّرت أن أنكر ما أنا عليه، وأن أحاول جاهداً تبديل هيئتي الناعمة إلى هيئة أكثر خشونة، وجدية، وصرامة في الصوت والحركات، حتى أنني بدأت أدّعي أنني أحبّ فتاة، وكنت قد سمّيت فتاتي «أمل» وجعلتها من حارة أخرى بعيدة عن حارتي، ألتقي بها يومياً بعد خروجي من المدرسة. وكنت أسترسل في حبك قصصنا معاً وسردها على رفاقي في الصفّ.

كل ذلك، كلّ ما مررت به في أيام طفولتي ومراهقتي جعل منّي إنساناً مختلفاً، إنساناً ضعيفاً وكارهاً لجسده الذي ينجذب إليه الرجال.

أيامٌ صعبة قضاها تيم في ريف عفرين، فذكريات الحرب وأصوات القصف ثمّ النزوح إلى قرية صغيرة، ومشاركة أسرة فقيرة في تفاصيل الحياة الصعبة، ضيق الأفق وعدم توفّر فرص للعمل، كلها كانت كابوساً يعيشه مع أسرته، ولم يكن لقاؤه الأول بابن عمته بعد ذلك الغياب إلّا فصلاً آخر من ذلك الكابوس، يقول تيم: شعرت بتوتّر وبرودة تسري في كلّ جسدي عندما علمت بقدومه إلى منزل والدته، فهو يقيم في منزل آخر مع زوجته وطفليه. ألقى السلام وصافح الجميع، وأنا معهم، كانت نظراته لي حيادية وباردة وكأنّ شيئاً لم يكن، كأنني أحد أبناء خاله وفقط، دون أيّ تمييز أو تفضيل أو أي شي، كان يتحدث إلى الجميع بودّ، وكان ينظر إليّ مبتسماً كما ينظر إلى أخي الأصغر أو أختي. النظرات الصفراء الباردة، الحيادية، أدخلتني في متاهات من الأفكار والمشاعر. لا أعلم إن كان يدّعي، أم أنه حقاً لا يذكر شيئاً من الماضي، لا أعرف كيف رأى نظراتي إليه، لكنّ شعوري نحوه حينها كان مزيجاً من العتب والكراهية… وما كان منّي إلا الصمت.

حاول تيم أن يسافر مراراً، لكن أباه وأمه كانا يرفضان ذلك قائلين: «ما فيك تتحمل السفر، بحياتك ما كنت قبضاي، الغربة صعبة مانك قدها». لكن إصرار تيمّ وحاجة العائلة لمعيل ماديّ جعل من قرار السفر إلى تركيا أمراً واقعاً.

منذ شتاء 2013 يعيش تيم في مدينة صغيرة قريبة من اسطنبول، ويعمل فيها أيضاً.

لم يكن مدركاً أثناء تواجده في سوريا أنه مثلي الجنس، كان يشعر باختلافه عن بقية الأولاد، وانجذابه للشباب، ولم يخبر أحداً بذلك، فهذا سرّه الأعظم وألمه المخبّأ.

في تركيا عاش تيم ظروف عمل صعبة، كان يعمل لمدّة 12 ساعة يومياً، دون أيام راحة، وبمرتّب بسيط جداً لا يكاد يكفي قوته، ولقد تنقّل بين عدّة مصانع وورشات للخياطة حتى حالفه الحظ وبدأ يعمل في ورشة خياطة بدوام 9 ساعات وعطلة يوم في الأسبوع، وبمرتّب يكفيه ويسمح له بمساعدة أهله مادياً بعض الشيء.

يقول تيم مكرراً: أنا غي، لكنني أشعر أنني لم أولد هكذا، بل إن ظروفي ومحيطي، وعدم اهتمام والدي بي عندما كنت صغيراً، وتفضيله إخوتي وأخواتي عليّ هو ووالدتي، ظروف كثيرة كانت سبباً لاختياري العزلة كي أحمي نفسي من شعور الذنب المرافق للتحرش الذي تعرّضت له، فكنت أعتقد خاطئاً وظالماً نفسي أنني السبب في ذلك التحرّش، والمسبب به. كنت ضمن دائرة مفرغة، وكل الخطوط والأصابع فيها تتجه نحوي، لأنني صامت يتهموني بالبلادة، لأنني خائف أنعزل، لأنني منعزل تنمّروا عليّ، ولأنني مُهان أصمت وأتألم… وهكذا!  لجوئي أغلب أوقات طفولتي لأخواتي البنات وصديقاتهنّ، والتماهي بهنّ وتقليدهنّ في اللعب واختيارات الملابس، حتى أنني كنت أتفوّق على جميعهنّ في الرقص الشرقي، كان ملجأ لي. البنات لا يقسينَ عليّ كما الأولاد. 

مؤلمةٌ جداً تلك المرحلة من اكتشاف الذات، التي لا أدوات فيها إلا نظرة المجتمع العدائي تجاهك، وما تفرزها من أفكار وتفسيرات لما يجد تيم وأقرانه أنفسهم عليه. أفكار وتفسيرات تصب دوماً في تذنيبهم، وفي لومهم على ما هم عليه، أو -في أحسن الأحوال- إرجاعه لتأثيرات خارجية صادمة «حوّلتهم» لشيء منافٍ للطبيعة، بدل تقبّل اختلافهم على أنه أمر طبيعي، وليس «شذوذاً» ناتجاً عن «شرّ ما».

سألتُ تيم إن كان يعتقد حقاً أن المثلية الجنسية يتم اكتسابها نتيجة ظروف معينة؟ لم يكن متأكداً من جوابه، وبعد زمن طويل من التفكير ومحاولة بدء الكلام وإعادة صياغة الأفكار، قال إن هذه تجربته وإن هذا ما يعتقده حالياً، فهو في مسيرة اكتشاف مثليته وتقبّلها ولم يصل إلى النهاية بعد، لكنّه يرى أن بعض أصدقائه ولدوا مثليي ومثليات الجنس، وبعضهم صاروا كذلك.

ليس التحرّر من سجن الذنب والتشبّع بالأفكار النافية لطبيعية اختلافك بالأمر الهيّن، خاصةً في ظروفٍ قصوى كالتي مرّ بها تيم، ويمرّ بها الآن.

وابلٌ من الاستفسارات والأسئلة انهال على تيم قبل أن ينهي كلامه..

*****

تدخّلت عزيزة قائلة: «نحنا لو بإيدنا ما اخترنا هالطريق، هو انفرض علينا  فرض، نحنا ولدنا هيك»

عزيزة اليوم بعمر الرابعة والعشرين، من مواليد دير الزور وقد عاشت هنالك  حتى قررت الهروب، وخرجت منها إلى تركيا خريف 2016.

عزيزة هو اسم الشاب الذي أروي لكم قصته الآن، لكنّه يفضّل أن أستخدم عند مخاطبته صيغة المؤنث، وأن أوجه له كلّ اسئلتي وكأنني أتكلّم مع أنثى. لا تعرّف عزيزة عن نفسها كمتحولة، أو ترانس، بل تذهب إلى بساطة ووضوح مباشرين: «أنا أنثى، ولي أعضاء ذكرية».

تلوم عزيزة المجتمع وأهلها الذين لم يكونوا عوناً لها، بل كانوا على الدوام سبباً لمآسيها. تدمع عيناها إذ  تقول: «حاولت عارض أهلي قدر استطاعتي، بس كان قرار الزواج محسوم بالنسبة إلهن، أبي وأخوتي قرروا إنو الزواج هو الحلّ الوحيد لصير متل العالم والناس، وأعقل.. بديرتنا الشب والصبية مقموعين ومخنوقين بالعادات والدين والمجتمع».

أثناء حديث عزيزة تناهى إلى مسمعنا صوت الأذان، فما كان منها إلا أن توقفت عن الكلام وتمتمت بالشهادة، ثم أردفت قائلة: لقد خلقنا الله، فهل يخلق الله شواذاً؟ أم أننا ولدنا في مجتمع شاذ؟

تقول: عشتُ في عائلة كلها ذكور، تبتسم وتضيف: ما عداي! لم أستطع، وقد حاولت مراراً أن أخفي مشيتي أو طريقتي الأنثوية عند إجراء أي حديث، وقد تعرضت للنقد والضرب كثيراً منذ طفولتي لكن «أنا هيك». خرجتُ من المدرسة مبكراً، فلم أكن أحب الذهاب إلى ذلك المكان الموحش الذي يتبارى فيه الطلاب والأساتذة على إهانتي والسخرية مني، ومن أنوثتي الواضحة. ولم يكن الشارع مكاناً أرحم، فقد اعتدتُ أن أسمعهم يقولون عني «طانط» ولم أكن أردّ عليهم فلا حيلة لي ولا قوّة. أتألم وأمضي.

حاولتُ أن أعدّل من مشيتي ومن صوتي وحركاتي، وأتخلّى حتى عن ملابسي التي أفضلها مشدودة وملاصقة للجسد، وأن أكون كغيري من شباب العائلة، لكني لم أنجح، واستسلمتُ في نهاية الأمر، فأنا مختلفة، وأشعر أن بداخلي أنثى. أحب الألوان الفاقعة والملابس الضيقة، وسراويل الجينز المحرّمة من الدواعش، لقد أمسكوا بي ثلاث مرات بسبب ما ارتديه وقاموا بجلدي، ثم كانوا يتركونني بعد انتهاء عدد الجلدات، وبعد تدخّل من أبي، الذي كان يتابع عملهم ويقوم بجلدي وإهانتي وضربي عندما نعود إلى المنزل.

رأى أبي أن الزواج هو الحلّ. كنتُ حزيناً على نفسي وعلى الصبيّة الصغيرة التي اختاروها لتكون زوجتي، امتنعت ورفضت وهربت إلى منزل أختي، لكنّ أبي أجبرني وأخذني هو وإخوتي الأكبر سناً إلى منزل أهل العروس، وتمت الخطوبة. وبعد أسبوع كان يوم الزواج، انتظرت معجزة من كثرة الصلوات والأدعية التي طلبت فيها أن أختفي أو أن موت قبل اليوم المنتظر، لكن على ما يبدو كان هذا الاختبار مقدراً عليّ، ويجب أن أخوضه.

في الليلة الأولى كنتُ مرتبكاً جداً وقررت أنني لن ألمسها، كنت أعرف أنني سأعاقب من قبل العائلة والمجتمع على ذلك، لكنني لم أستطع حتى أن أتخيل نفسي معها في الفراش، نمت أو ادّعيت النوم وتركت للقدر أن يرسم ما سيحلّ بي غداً. على عادة مجتمعنا، جاءت نسوة من العائلة في ظهيرة اليوم التالي وجلسنَ مع عروستي، كنت أعرف أن كارثة ستحلّ بي عندما ستخبرهم أنني لم أقترب منها، لا أدري لماذا، ولكن عروستي قالت لهم: كلّ شيء على أجمل حال! بعد ثلاثة أيام من زواجنا، بينما كنت ذاهباً لملاقاة «ارتباطي»، أمسك بي رجالٌ من داعش بتهمة «اللواط» بسبب مشيتي، لكنهم لم يستطيعوا أن يثبتوا شيئاً عليّ، بالإضافة لأنني قد تزوجت قبل ثلاثة أيام من ابنة أحد الرجال المعروفين في المنطقة، وكان سبباً في إخلاء سبيلي بعد شهر من الاحتجاز.

تعرّضت لكثير من الضرب والجلد والإهانات، دعيت لله كثيراً أن يريحني من هذا العذاب والظلم، أنا لم أظلم أحداً وقد حاولت أن أتغير لكنني فشلت، الله خلقني على ما أنا عليه، فلماذا كلّ هذه المأساة؟

أنا أنثى، في داخلي أنثى، ولا أرغب بالنساء. أشعر أنني أخطئ وأرتكب معصية عندما أنام مع زوجتي، فهي محرّمة عليّ، لا أحبها ولا أرغب بها. لكنني سأحاول، علّ مأساتي تنتهي!

في يوم خروجي من السجن، نمتُ مع زوجتي، كنت حزيناً، وتعيساً، قرفت من نفسي ومنها، ومن حياتي! حزنت عليها وعليّ.

بعد فترة وجيزة اكتشفتْ أنها حامل!! كان الخبر صاعقاً، ومن أعظم المآسي التي عشتها، ولكن حمداً لله لم يستمر الحمل إلا أسابيع قليلة، حقاً أنا سعيدة لأن الحمل لم يدم، فلا ذنب لزوجتي، ولا للمولود القادم، ولا ذنبي أنني أفضّل معاشرة الرجال على النساء، كل شيء كان كالكابوس.

تتكلم عزيزة عن نفسها بصيغة مؤنثة، ومذكرة، وأحياناً تستخدم الصيغتين تباعاً في جملة واحدة. هنالك فوضى كبيرة نسمعها عندما نصغي إلى كلماتها، فوضى قد تشبه ما يدور في داخل عزيزة من صراعات وتناقضات، فهي أنثى بجسد ذكر، تعرّف عن نفسها بأنها «غي»، وترفض أن تصنّف نفسها متحولة الجنس أو ترانس، فبرأيها أن ما يميزها عن  الترانس أنها لا ترغب في تغيير مظهرها، لا في الشارع ولا حتى في الأماكن الخاصة، هي تنجذب للرجال مفتولي العضلات وأصحاب الصوت الأجشّ وترى نفسها «الجانب الألطف في العلاقة»،  تصلّي وتصوم، وتطلب دوماً رضى الله عنها وعن ما هي عليه، تقول: «الله بيحبني، وعباده بيكرهوني».

تضيف عزيزة: شجعني «ارتباطي» على أن أرحل من تلك البلاد كي أعيش، فأنا فيها أموت، ويتكرّر موتي كل يوم. شجّعني على الرحيل وبقي هو، فله زوجة وأولاد وعائلة هو معيلها، إذن سننهي علاقتنا، ونبتعد، كي أعيش أنا. وهذا ما حصل فعلاً، ساعدني مادياً، وعبر مهرّبٍ خرجتُ إلى تركيا، عند وصولي تكلمت مع أهلي وقلت لهم أنني رحلت، ولن أعود.

طلّقتُ زوجتي التي عادت إلى منزل أهلها بعد رحيلي، وبدأت هنا أتمسك بخيطان الأمل علّي أعيش وأفهم ذاتي وميولي الجنسية، وما أنا عليه.

لم أعلن عن مثليتي، أبتعد عن كل التجمعات التي قد يتواجد فيها أحد من أبناء منطقتي أو عشيرتي. على الرغم من رحيلي وابتعادي إلا أنني مسجون بعادات وتقاليد مجتمعي. لن أعلن مثليتي اليوم، فالعشيرة والمجتمع لن يرحما بل «رح يدمروا أهلي وأولادهم وأحفادهم، وأجيال كثيرة بسببي، متل ما دمروني أنا».

أما عن مصطلح «ارتباطي»، فهو كلمة شائعة بين أفراد مجتمع الميم السوريّ، تُقال بأريحية، فعند ارتباط اثنين بعلاقة حبّ، أو غيرها، يقول أحدهما عن الآخر، ارتباطي.

*****

يوافق تيم ويقول: تهمّني مشاعر عائلتي جداً، أعرف أنني وهُم نعيش في مجتمع قاسٍ لا يرحم. صحيح أن أهلي لم يهتموا بي كما يجب عندما كنت صغيراً، إلا أنني لا أستطيع أن أُقدم على أي فعل قد يؤذيهم. طالما أنني هنا، لن أعلن مثليتي!

والـ «هنا» هي تركيا، فأغلب معارف أهله وأصدقائهم وأقربائهم انتقلوا للعيش في تركيا، وكأن مجتمعاً كاملاً انتقل مع عاداته وعقده ومخاوفه، فلا تحرر إلا بالبعد أكثر، هذا ما يعتقده تيم.

عشت سنوات عمري كلها وأنا أكره ذاتي، وقد فكّرت بالانتحار عدّة مرات، إلى أن بدأت عبر النت ومواقع التعارف ألتقى بمن هم مثلي، وصرت أقرأ مطوّلاً عن كيف يكون الإنسان مثلياً وما معنى هذا المصطلح، أين يتواجد المثليون وكيف يلتقون. وهكذا بدأت مسيرتي في فهم ما أنا عليه. لقد ساهمت لقاءاتي مع أصدقائي هنا داخل هذا المكان في معرفتي أنني لست وحيداً، وأننا نشّكل مجتمعاً كبيراً، ونحن مختلفون ومتنوعون من حيث البيئة والثقافة والدين وحتى الميول الجنسية،  لكنني بعد حين بدأت أشعر بالحزن، لم أعد وحيداً كما كنت في صغري بل بتّ مجروحاً ومهشمّاً ورافضاً لذاتي ولمثليتي… «وكل ماعرفت أكتر، إنوجعت أكتر».

لا بدّ من التغيير، سأتحول إلى شخص «طبيعي»، مثل باقي أغلب الناس وسأتناول الأدوية وأفعل كلّ ما قد يحوّلني من مثليّ إلى «طبيعي». هكذا كنتُ أفكّر، وبدأت أبحث بكلّ الوسائل عن طبيب يساعدني، وبالفعل ذهبت إلى طبيب نفسيّ، مفاجأتي كانت أنه لم يساعدني على التغيّر، بل على التأقلم مع ما أنا عليه.

لم يكن الأمر سهلاً ولا سريعاً، وقد مررت بعدّة مراحل من الرفض والقبول والكره والحبّ لنفسي، لا أرى أنني الآن أعيش التوازن الذي أحلم به، لكنني أعتقد أنني على طريق فهم ذاتي وتقبّل نفسي كما هي، ومسامحة أهلي على جهلهم.

ويضيف: تجمعني علاقة جيدة بأختي الكبرى، منذ مدة طويلة أشعر أنها تعلم أنني مثليّ الجنس، تحاول استدراجي لأن أبوح لها بسرّي، ودائماً ما تبادر بفتح سير عن المثليين والمختلفين والآخرين، وتعلن عن احترامها لحقّ أي إنسان بعيش ما يرغب طالما أنه لم يؤذ أحداً. وبالفعل، وبعد تشجيع الطبيب لي، قلت لها، ودهشت من لطفها ومحبتها وتفهّمها، أذكر أننا قضينا الليل كلّه نبكي معاً، وأعتقد أنني بكيت على كل  جروحي عندها. اتفقنا معاً ألا نخبر العائلة بذلك، فهم لن يتفهّموا ما أنا عليه، ولن يغيّروا من اختلافي شيئاً.

أحاول قدر استطاعتي منع أهلي من بدء حديث الزواج، فقد بدأو بتلك الأحاديث التي تنتهي كلها بأنني بعمر الزواج، ولا بدّ لي من تكوين عائلة.

بالطبع لن أفعل، وبالتأكيد سأحاول أن أحيا ما أحب مع من أحب، لكن في الخفاء.

كنت أودّ أن أمشي في الشارع ممسكاً يدّ من أحبّ، وأعلن حبّي له أمام الملأ.

وإثر ابتسامة صغيرة، يضيف تيم: «بغار من كل الكوبلات اللي بيمشوا بالشارع ماسكين إيدين بعض…»

*****

تدمع عزيزة إذ تقول: أشتاق لإمي كثيراً، أتكلّم معها ومع نساء إخوتي، أما رجال العائلة فلا، لا أشتاق لهم، ولا أحبّ أبي.

شاردة الذهن، دامعة ومبتسمة كانت عزيزة، وقالت: «مرة إجا أبي عالبيت، شافني عم ساعد إمّي بعجن الكبّة، جنّ جنانه، وقلّي مو ناقص غير تلبس جلابية وحجاب وتصير مرا». أهانني وأهانها، وخرج من المنزل.

بكيت مع أمي وشعرت بالاختناق. كنت أرغب بمواجهته، ولومه، هو وإخوتي، فهم لا يهتمون بتعبّ أمي بإعداد الطعام ولا يفكرون بمساعدتها، ولا يعنيهم أيّ تفصيل من الصعوبات التي تواجهها يومياً معهم وبسببهم، وزاد على هذا كلّه وصفه لي أنني امرأة، وكأن في هذا تحقيراً لي.

أبي تزوّج ثلاث مرّات، كانت أمّي أولهنّ، وطلّق الزوجة الثانية مؤخراً، وهو الآن يتنقّل بين بيتين ويُهين إمرأتين، على الأقل، كما أعتقد.

تضيف عزيزة: لا أشتاق لدير الزور، ولا اشتاق لأهلي، فهنا «عيلتي، وهون لقيت أهلي وناسي».

أعمل الآن في ورشة جلديات، وأسكن مع مجموعة من الأصدقاء، أنا اليوم مستقلّة مادياً، أتطلّع للمستقبل وأريد أن أنسى ما قد مضى.

أشعر بالغيرة من النساء اللواتي ولدنَ بجسد أنثوي، ويعشنَ حياتهنّ بكلّ بساطة، يحببن، يتزوجن، ينجبن أطفالأ وأتساءل دائماً عن سرّ ولادتنا نحن بهذا الإختلاف، أفتش دوماً عن الحكمة وراء كلّ صعوبات حياتنا ومآسينا نحن الذين ولدنا ذكوراً ولكن في داخلنا أنثى. نحن جماعة مرفوضة ومقموعة ومهانة.

يتفق تيم وعزيزة على أنهما بحاجة للمساعدة من أجل الخروج من هذا الوضع، لكنهما لا يعرفان بالضبط شكل هذه المساعدة، ولا الجهة التي ينبغي أن تقدمها. يقول تيم: هنالك منظمات تساعد المثليين وتحاول تقديم الدعم والحماية لهم، ولكن هل يكفي ما تقوم به؟! هل حملات التوعية ضد الإيدز، والأمراض السارية، تكفّي؟ أشعر أحياناً أنني أنتمي لمجموعة تسبب انتشار الإيدز في العالم، فما أكثرها حملات التوعية ضد مرض الإيدز في الجمعيات والمنظمات التي تضع ضمن أهدافها مساعدة المثليين! لم يُقدّم لنا سوى هذه الحملات وتسهيلات السفر لبعضنا، أو توفير مكان يجمعنا؟ نحتاج مساعدة نفسية وطبية لفهم أنفسنا، نحتاج دعماً لنرمم جروحات كان المجتمع والأهل، وأحياناً نحن أنفسنا، سبباً فيها.

*****

ينحدر الأصدقاء الذين ألتقي بهم في «العليّة» من شرائح وطبقات اجتماعية متنوعة من حيث المستوى الاقتصادي والتعليمي، خرجوا من بلادهم بسبب الفقر، والقهر الاجتماعي، والحروب، والاضطهاد السياسيّ، يكافحون يومياً من أجل حياة أفضل، ولبعضهم قصصٌ أسطورية في الشجاعة والإصرار على تغيير نظرة محيطهم لما هم عليه من اختلاف وتميّز، وصولاً لقبولهم كما هم.

وفيما يخوضون معركتهم من أجل أن يصبحوا مقبولين من قبل الآخرين، يخوضون معركة مماثلة داخل أنفسهم من أجل أن يقبلوا ذواتهم ويفهموا ما هي عليه، أغلبهم قد تشبّع بخطاب الكراهية الموجّه ضدّهم وضد مجتمع الميم، هنالك ألم وقهر كبير في قصصهم وسردياتهم، وهنالك إنكار عميق في دواخل بعضهم لمثليّتهم، وتساؤل دائم عن السبب الكامن وراءها! لقد التقيت في «العلية» بمن قال لي، «نحن شواذ»، وبمن تساءل علناً «ما بتخافي تكوني معنا؟»، وقد دارت نقاشات كثيرة تعالى الصراخ فيها من كلّ الأطراف، حول حرية أحدهم في خروجه إلى الشارع بزيّ أنثوي، وإن كان هو وأمثاله السبب في تشويه صورة المثليين أمام الآخرين. ألمٌ حقيقيٌ يخرج مع كلّ نقاش أو قصّة، ووجهات نظر مختلفة تفتح آفاق حوار جديد في كلّ مرة. كم هي كبيرة كمية القهر التي تشرّبها هؤلاء الناس  ليعتبروا أنفسهم مصدر خوف  للآخرين، ويعتبروا جماعتهم غريبة، وشاذة؟

سافر عدد كبير من «عيلة استنبول» إلى دول أوروبية، وبعضهم الآخر تمكن من السفر إلى كندا، آملين في بداية جديدة، آمنة، ومكان لا يُجرّمون فيه، ولا يعتبرهم أغلب سكّانه شواذاً، فيتمكنون فيه من تأسيس حياة لطالما حلموا بها. يرون في السفر جنّة الخلاص، فوجود أغلبهم في تركيا  مؤقت، ومن لم يحن موعد سفره بعد، تقع على عاتقه مسؤولية الحفاظ على «العيلة» واجتماعاتها المتكررة إلى أن يسافر ويستلم غيره المسؤولية، فالـ«عيلة» في حالة تحرّك مستمرّ، تودّع وتستقبل وجهاً مختلفا كل أسبوع.

لي في «العيلة» أصدقاء كثر، أحبّ ملقاهم، تجمعنا أيام وقصص وضحكات من أعماق القلب، سافر أغلبهم وبقي بقربي بعضهم، ما يجمعني بهم عاطفة وصداقة، وشيء آخر لا يقلّ أهمية… الرغبة المشتركة في مزيد من الحرية. لقد تعلمت معهم أن القضايا لا تتجزأ، وأن السعي للحرية والانعتاق من القيود هو في النهاية قضية واحدة مهما تعدّدت وجوهها…

لعلّ الطريق طويل، ومتعرّج، لكن هنالك دائماً قوس قزح، ونجوماً تدل على الطريق…

هذا النص هو مشاركة سمر عبد الله الثانية في زمالة الجمهورية للكتّاب الشباب.

موقع الجمهورية

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى