سوريا المحطمة.. هل يمكن للاقتصاد السوري أن يتعافى قريبا؟
يرى مراقبون أن النظام السوري سيقدم عاجلا أم آجلا على استعادة إدلب، التي تُمثّل آخر بؤر الصراع الخارجة عن سيطرة القوات الكردية المدعومة من الولايات المتحدة أو نظام الأسد أو المعارضة المدعومة من تركيا. ولن يزيد إعلان ترامب سحب القوات الأميركية من البلاد إلا تشرذما، فالقوات الكردية المدعومة من واشنطن تسيطر على شمال شرق البلاد شمال نهر الفرات، بينما تسيطر المعارضة المدعومة من تركيا على المناطق الحدودية الشمالية، ويسيطر نظام الأسد على بقية البلاد. وهو الوضع الذي لا يبدو موشكا على التغير في أي وقت قريب، ما قد يعني بدء انطلاق عجلة إعادة الإعمار وبناء الاقتصاد المحلي، مع ما لذلك من تداعيات على اقتصادات الدول المجاورة.
الاقتصاد السوري قبل الصراع
شهد الاقتصاد السوري استقرارا نسبيا قبل الحرب، إذ بلغ معدل النمو السنوي للناتج المحلي الإجمالي نحو 5%. ووصل إجمالي الناتج المحلي للفرد إلى 2,835 دولارا، ما يماثل نظيره في مصر والمغرب، ولكنه يقل عن معظم بقية دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وكانت الزراعة، ولا تزال، تحتل مكانة مركزية، فقد مثلت 19% من إجمالي الناتج المحلي، وأسهمت في تشغيل 26% من مجموع السكان العاملين في عام 2011. في حين سيطرت الدولة إلى حد كبير على صناعة النفط، التي مثلت ركيزة أساسية لتمويل الحكومة والعمالة.
لم يسلم قطاع الطاقة من تداعيات الحرب، إذ انخفض الإنتاج فيه انخفاضا حادا، ليتراجع إنتاج النفط الخام من 386 ألف برميل في اليوم عام 2010 إلى 9 آلاف برميل فقط في اليوم عام 2014. كما شهد قطاع الصناعات التحويلية والتعدين والمرافق العاملة الذي شكَّل 27.9% من إجمالي الناتج المحلي في عام 2010 على الأرجح تراجعا حادا، نظرا إلى الدمار الذي حل بالبنية التحتية لوسائل النقل، وتعطل شبكات الإمداد التي كانت توفر الوقود ومدخلات المواد الخام. كما يُقال إن كثيرا من الشركات العاملة في هذا المجال نقلت نشاطها إلى بلدان مجاورة، منها تركيا على وجه التحديد؛ حيث استأثر السوريون بنسبة 26% من المشاريع التجارية الجديدة المُسجلة عام 2014.
بالإضافة إلى ذلك شهد قطاع التعدين تراجعا مماثلا، فقد بلغت صادراته 4.7 مليار دولار في 2011 ووصلت إلى لا شيء تقريبا في 2015. كما شكّل قطاع الخدمات أيضا، والسياحة في مقدمته، جزءا رئيسيا من الاقتصاد وهو القطاع الذي سيستغرق فترة طويلة ليتعافى مرة أخرى.
العقبات الداخلية التي تحول دون إنعاش الاقتصاد
سيقف القدر الهائل من الدمار الذي لحق بالأصول المادية للبلاد عقبة رئيسية أمام إعادة الإعمار. فحتى عام 2017، تعرضت 7% من الثروة العقارية للدمار، وتضررت 20% منها جزئيا، وفرّ 5.6 مليون شخص من سوريا، كما شُرّد 6 ملايين في داخلها. أما في قطاع الزراعة، فقد قدرت الأمم المتحدة قيمة الضرر الذي لحق بالبنية التحتية بمبلغ 3.2 مليار دولار. وتشمل تلك الخسائر أنظمة الري ومرافق المعالجة والتخزين والآلات الزراعية.
كما أشارت دراسة أجرتها الأمم المتحدة إلى أن 25% من العائلات لا تستطيع الوصول إلى البذور، و50% منها لا يُمكنها الحصول على الأسمدة، إضافة إلى انخفاض ملكية المواشي بنسبة 50% تقريبا. كما تضررت خطوط الغاز وشبكات نقل الكهرباء والطرق ضررا بالغا. في الوقت الحالي، يتعذر حصر التكلفة الحقيقية للأضرار لأن الوصول إلى سوريا لا يزال صعبا. إلا أنه بوجه عام، تشير التقديرات إلى أن الصراع تسبب بخسائر تراكمية في إجمالي الناتج المحلي وصلت إلى 226 مليار دولار حتى عام 2017.
العقبات الخارجية التي تحول دون إنعاش الاقتصاد
فرضت الولايات المتحدة سلسلة من العقوبات المشددة على سوريا عبر عدد من الأوامر التنفيذية منذ بداية الصراع في 2011. واستهدفت تلك العقوبات مصادر إيرادات بالغة الأهمية ومؤدين متنفذين لنظام الأسد. تحظر تلك العقوبات بوجه خاص استيراد منتجات المواد البترولية من سوريا، واستثمار المواطنين الأميركيين في سوريا، وكذلك بيع الخدمات إلى سوريا من جانب الأميركيين، بالإضافة إلى تجميد أصول المسؤولين الحكوميين رفيعي المستوى.
كما تراجعت التجارة مع الدول المجاورة كذلك. سيعتمد إنعاش الاقتصاد بدوره إلى حد كبير على إعادة إرساء شبكات الإمداد المُدمَّرة؛ وهو ما سيكون صعبا نظرا لارتفاع تكلفة الشحن والتأمين بسبب الخوف من عمليات قطع الطرق، التي هي عرض من أعراض الصراع. تعاني البلاد كذلك من شح رؤوس الأموال في القطاع الخاص، وإعراض الدول الأخرى، باستثناء إيران وروسيا، عن التعامل مع سوريا في الوقت الراهن.
فرص اقتصادية لسوريا
ستكون عملية إعادة إعمار البلاد عسيرة جدا وباهظة التكلفة للأسباب التي ذكرناها في الأعلى. وستكون إيران وروسيا هما أكبر المستفيدين من إعادة إعمار المناطق الواقعة تحت سيطرة الأسد، وذلك لدورهما المهم في دعم النظام خلال الحرب الأهلية. فقد انتزعت المؤسسات الإيرانية عقود حيازة وتشغيل من الرئيس الأسد عن طريق الاتفاقيات، مثل مذكرة تفاهم وُقِّعت مع مؤسسة إيرانية لإدارة شركة لخطوط الهاتف المحمول، والمشاركة في منجم فوسفات مدر للربح. ووقّع وزير الطاقة الروسي بالفعل على اتفاقية تعاون مع نظيره السوري. ويُعتقد أن روسيا هي المستثمر الرئيسي في منجم خنيفيس للفوسفات الواقع في مدينة تدمر.
يأتي ذلك بالإضافة إلى المنتدى التجاري السوري-الروسي، الذي عُقد في وقت سابق من هذا العام وشمل مسؤولين حكوميين طالبوا روسيا بالاستثمار في عدد من المشاريع، تراوحت ما بين بناء السكك الحديدية ومحطات توليد الكهرباء وحتى مصانع الأسمنت الصناعية. سيعمل حلفاء الأسد على تلك المشاريع إلى جانب شخصيات من نظامه. وسيكون استثمار روسيا بالغ الأهمية في إنجاح مساعي الحكومة لجني الأرباح وتوفير السيولة المالية، ما سيكون له أثر إيجابي محدود على الاقتصاد السوري وسيوفر بعض الوظائف للمواطنين، إلا أن النظام والشركات الأجنبية سيجنيان الفوائدَ الأكبر.
الاستثمار الأجنبي في سوريا
تتطلع سوريا كذلك إلى جذب الاستثمارات الصينية لمشروعات البنية التحتية الهائلة، وهو ما ترغب الصين فيه أيضا على الأرجح، فقد تعهّدت الصين في منتدى التعاون الصيني العربي الذي عُقد في بداية عام 2018 بدفع مبلغ 23 مليار دولار في صورة قروض ومساعدات إلى الشرق الأوسط، منها 90 مليون دولار على شكل مساعدات إنسانية إلى اليمن ولبنان وسوريا والأردن. وبما أن الصين لا تأخذ سجلات حقوق الإنسان بعين الاعتبار في القرارات المتعلقة بالاستثمار، وهي حقيقة لن تتغير على الأرجح، سيكون جذب الاستثمارات الصينية أسهل على سوريا، إذا أقنعت الصين بالجدوى الاقتصادية لهذه المشاريع. لكن سيكون على حكومة الأسد من جهتها أن توازن بين حاجتها الملحة إلى رأس المال الخارجي لتمويل تلك المشروعات، وبين ميل الصين لاستغلال الديون وسيلة لحيازة أصول إستراتيجية في البلدان الفقيرة.
أما في المناطق التي يسيطر عليها الأكراد، فهناك فرصة سانحة لدخول الفاعلين والمستثمرين الخارجيين. ففي عام 2017، انتزعت القوات المدعومة من الولايات المتحدة حقل العمر النفطي من قبضة داعش، وهي إحدى مناطق مقاطعة دير الزور الغنية بالنفط والواقعة تحت سيطرتهم حاليا. ومن ثم، فقد تُتاح الفرصة أمام الشركات الأجنبية للمساعدة في استخراج النفط وتطوير معامل التكرير وإعادة بناء خطوط الأنابيب، والبنية التحتية المُدمرة لوسائل النقل.
يمكن للشركات الأجنبية بدورها أن تلعب دورا رئيسا أيضا في قطاع الزراعة. فقد تعرضت مدن الحسكة والرقة ودير الزور لخسائر فادحة في المحاصيل السنوية مثل القمح والقطن والشعير والبهارات إلى جانب محاصيل أخرى. ويحتاج سكان تلك المناطق إلى مساعدة الجهات الأجنبية المهتمة بتطوير البنية التحتية الزراعية، أملا في إنعاش تجارة الأسمدة ومبيدات الآفات وغيرها، وزيادة إنتاج المحاصيل. كما يحتاجون أيضا إلى مساهمة الشركات في بناء أنظمة أكثر كفاءة للري، وإعانتهم على اتباع طرق أكثر كفاءة في الزراعة والتخزين الزراعي. وستكون هناك أيضا حاجة ماسة إلى الهيئات أو المؤسسات المستعدة لتمويل تلك المشاريع.
ختاما
على الرغم مما سبق، لا تخلو الفرص الاقتصادية في قطاعات الطاقة والزراعة من المخاطر. على سبيل المثال، أثار تردد إدارة ترامب في قرار سحب القوات من المنطقة حالة من الغموض دفعت بالشركات الأجنبية إلى تأجيل الاستثمارات المتوسطة وطويلة المدى في المنطقة، حتى تتوصل القوات الكردية ونظام الأسد إلى نوع من الاتفاق بشأن إدارة البلاد. وهو ما قد يتمخض عن اتفاق على حكم ذاتي شبيه بكردستان في العراق. لا تُقدم الدولة سوى فرص محدودة للتعاون، وتبقى سوريا مكانا غير آمن لمزاولة الأعمال التجارية.
———————————————————————
ترجمة: فريق الترجمة
الموضوع مترجم عن Global Risk Insights ولا يعبر بالضرورة عن موقع ميدان.