“الحياة ليست للجميع”: مراهق سوري يواجه الضغوط البيروقراطية الألمانية
يوماً بعد يوم في الخريف الماضي، ساعد أحمد الوافدين السوريين الجددَ إلى برلين على طلب اللجوء. وفي صباحٍ باردٍ مُلبَّدٍ بالغيوم، انطلق لمساعدة مصطفى، وهو رجل في منتصف العمر وَصَلَ من اليونان قبل عشرة أيام.
لم يكن بينهما الكثير من القواسم المشتركة سوى أنهما سوريّان يعيشان في ألمانيا. تباهى مصطفى، وهو رجل أعمال مفعم بالثقة، بالعَرَق -مشروب كحولي- الممتاز الذي كان يصنعه كلَّ عام من العنب في قريته، والذي قال إنه اشتهر “بفطنته ونشوته”. وفي الوقت نفسه، قال أحمد (17 سنة) الذي تبدو عليه ملامح الرقة التي يتسم بها شخص يافع، إنه لا يشرب الخمور.
باءت مَساعِيهِما في ذلك اليوم بالفشلِ الذرِيع؛ فبمجرَّد وصولِهما إلى مقدمة صف الانتظار، طلبت منهما الموظفةُ، في مكتب البلدية، المغادرةَ. وأشارت بإصبعها إلى عنوانٍ مكتوبٍ بخط اليد على أوراق مصطفى، وقالت إن عليهما الذهاب إلى مكتب آخر، يقع في “مؤخرة برلين الشرقية”، وفق أحمد.
بعد رحلة طويلة تطلَّبت أن يستقلّا “الترام”، والسير مسافة ميلين على الأقدام، والكثير من الاستفسار عن الاتجاهات، تمكَّن أحمد ومصطفى من الوصول إلى وِجهتِهما التي كانت في الواقع في عنوان مختلف. بحلول ذلك الوقت، كان المكتب أغلق أبوابه؛ وكان على مصطفى العودة مرة أخرى لطلب الإذن بالنوم في مخيَّم موقّت لطالبي اللجوء. أعرب أحمد عن استيائه قائلاً “أنا غاضب جدّاً الآن. عادةً، يمكنهم إرسالنا إلى مكان آخر، إنما من غير المعقول إعطاؤنا عنواناً خاطئاً تماماً”.
خلال رحلة العودة الطويلة إلى المدينة، حاول مصطفى -الذي كان يملكك سابقاً مصانعَ ومَزارعَ وعقاراتٍ في سوريا- إعطاءَ أحمد بعضَ المال. إلا أنه رفض أخذه، وقال: “مهما كنّا أغنياء من قبل، أصبحنا جميعاً الآن لا شيء”.
كان أحمد في موقف فريد من نوعه. فقد وصل وحيداً إلى السواحل الإيطالية وشقَّ طريقَه إلى برلين. ونظراً إلى أنه قاصر وبلا ذويه، تم تسجيله باعتباره لاجئاً، والتحق بصفوف تعلُّم اللغة الألمانية على الفور من دون تأخير. وبعد عام، صار على درايةٍ بالبيروقراطية والدوائر الحكومية الألمانية، فأمضى وقته في مساعدة الوافدين الجدد من بلاده. بيد أنه في عمره هذا، كان لا بدّ أن يكون مُلتحِقاً بالمدرسة الثانوية.
ألحَحتُ عليه ليشرح السببَ وراء عدم التحاقه بالمدرسة الثانوية. فقال إنه أراد أن يصبح مختصاً اجتماعياً. وأبدى بالفعل استعداداً لتعلُّم اللغات، وفي آخر الأمر، سيتعيَّن عليه الحصول على مؤهِّل ليتمكَّن من العمل أو الالتحاق بالجامعة. ولكن لم يُولِ أحدٌ اهتماماً بذلك. فقد عيّنت المحكمة وصيّةً لتكون مسؤولةً عن قضيته، لكنها نادراً ما تواصلَت معه. والداه يعيشان بعيداً منه في مصر. وبدا أن القائمين على سكن القُصَّر -الخاضع للإشراف، والذي عاش فيه- لا يعبأون بهذا الأمر.
قال أحمد إنه سيلتحق العام المقبل، ولم أفهم إلا في وقت لاحق أنه حاول التسجيل وقيل له إنه لا يوجد مكان شاغر – الأمر الذي لا يتعدَّى كونه مجرد عقبة إدارية يُمكن تذليلها، ولكن ذلك لم يحدث. إنما يبدو هناك تفسير آخر لهذا الأمر: لقد كان يَنتظِر أن تعود حياته إلى طبيعتها نوعاً ما.
عالم موقت…
على رغم أن حكومة مدينة برلين منحته مسكناً وبعض المال ليعيش، كان أحمد لا يزال يعيش في عالم موقت. مرّت ثلاث سنوات- وهو وقت طويل في حياة شاب مراهق- مذ فرَّ مع أسرته من دمشق إلى القاهرة. لم تنجح حياتهم هناك أبداً؛ وعلى رغم أن والده كانت لديه معارف في مصر من عمله السابق، لا تزال عائلته تنفق أكثر مما تجني.
وسعياً إلى تحقيق أقصى استفادة ممكنة من هذا الوضع، دفع والِدَا أحمد مبلغاً كبيراً من المال – 2000 جنيه مصري في العام، أي نحو 650 دولاراً- لكي يلتحق أحمد وشقيقته بمدرسة خاصة، بيد أن جودة التعليم كانت سيئة. أخبرتني أمه في ما بعد أنه “اعتاد أن يصحِّح نطقَ معلِّمه للغة الإنكليزية”. اشتكى أحمد طوال الوقت لوالديه بأنهما كانا يدمران حياته، وفي النهاية أصر على القيام بتلك الرحلة المحفوفة بالمخاطر إلى أوروبا.
كان ذلك في صيف عام 2014 عندما عبر أحمد البحر الأبيض المتوسط، قبل وفاة إيلان الكردي – الطفل السوري البالغ من العمر ثلاث سنوات الذي أثارت جثته الهامدة على الشاطئ الغضب والشفقة.
وبينما كان أحمد يمضي مبتعداً، قاوم والده دموعه السائلة على وجهه لكي يتمكن من رؤيته مرة أخيرة من النافذة.
أمضى 11 يوماً في مدينة الإسكندرية حتى دفع المهربون به وبمجموعةٍ أخرى من الأشخاص إلى الشاطئ في قارب مثقوب. قاسوا الأمرَّين لمدة ستة أو سبعة أيام في عرض البحر، من دون أي تجهيزات تقريباً، وتناولوا الخبز المُتعفّن وشربوا المياه الملوثة. كان البحر هائجاً والطقس سيئاً، قال أحمد إنه كاد يموت. في نهاية المطاف، رسوا في إيطاليا، وعندما تمكّن والداه من التواصل معه، لم يقل أيَّ شيء سوى “ما زلنا على قيد الحياة”.
وبينما يصعُب القولُ إنه كان محظوظاً، إلّا أنّ أحمد على الأقل وصَلَ إلى برلين في خريف عام 2014، قبل عام من بلوغ عدد طالبي اللجوء ذروتَه. عندما التقيته في خريف عام 2015، كان حوالى 700 شخص يصلون يوميّاً إلى برلين، ولم تكن المدينة مستعدّة لاستقبال هذا العدد الهائل، على رغم الزيادة المطّردة في عدد الوافدين خلال العام السابق. في غضون أسابيع، أقام المسؤولون في المدينة ملاجئ طارئة في الصالات الرياضية والثكنات العسكرية المهجورة ومباني المكاتب المُهملة، وفي إحدى الحالات أقاموا ملجأً يشبه “الفقّاعة” في وسط ملعب لكرة القدم.
شكَّل مركز التسجيل الرئيسي، “مكتب الشؤون الصحية والاجتماعية”، أو ما يعرف اختصاراً بـ LaGeSo، عائقاً هائلاً في عملية طلب اللجوء؛ فقد كانت الأرض المُوحِلة داخل المجمَّع المبنيِّ من الطوب بمثابة نقطة البداية والملاذ الأخير لطالبي اللجوء، الذين وصلوا قبل ساعات، وأولئك الذين أمضوا شهوراً في البلاد. في خريف عام 2015، اصْطَفَّ مئات الأشخاص أمام جدران المجمع في منتصف الليل، على أمل الحصول على موعد. وكل صباح، كان حراس الأمن يوزّعون أرقاماً مدوّنة على قطع من الورق، بعدد الأشخاص الذين يُمكِن استقبالهم في ذلك اليوم. في معظم الأحوال، كان المكان مزدحماً بالناس، فاضطر جزء منهم إلى العودة لاحقاً، بانتظار المقابلة الموعودة.
لم يذهب أحمد مع طالبي اللجوء إلى هناك من قبل. وعلى عكس مكاتب البلدية الأخرى، تميز مكتب التسجيل الرئيسي بوجود مترجمين، ولم يكن هناك شيء يُمكن فعله سوى الانتظار. لكنه قرر فعل استثناء ذلك اليوم، ورافقني عندما أجريت مقابلات مع سوريين وعراقيين يشعرون بالضيق. لم يرغب بعضهم في الحديث على الإطلاق، لكن آخرين حاولوا تخفيفَ العبء الذي أثقَلَ كواهِلَهم من طريق المشاركة: وتحدثوا عن تأجيل المواعيد أسابيع، والعقبات الناجمة عن قُصورٍ في الفهم حول مكان تسجيل الأطفال في المدرسة، والوثائق المفقودة.
في أحد الأيام، تلقّى أحمد أخباراً غيرَ عادية. رنَّ هاتفه، فقال “عليَّ الردّ على هذا الاتصال”، ثم أجاب “نعم يا أبي”. ثم انطوى على نفسه، وغطَّى عينيه بيده. وقال متعجّباً “غير معقول”. نظر إلي ورأيت الدموع في عينيه. وهمس قائلاً “لقد حصلوا على التأشيرة”.
مكتب رعاية الشباب
تقدّم أحمد ووالداه بطلب لمّ شمل الأسرة إلى السفارة الألمانيّة في القاهرة منذ نحو عام، وتم التصديق عليه في الوقت المناسب. كانت والدة أحمد حاملاً في الشهر الثامن، ولو وُلِد الطفل في مصر فسيكون بحاجة إلى تقديم طلب لجوء جديد.
بعد أسبوع أخبرني والده أنّ “أحمد كسول”، متحدّثاً عن ابنه الذي عبَرَ البحرَ في قارب للمهرّبين. ولم يكن يمزح. كنّا نجلس في مأوى للاجئين ما كان يفترض أن يكونوا فيه. وأضاف والده: “كان ينبغي أن يكون على تواصل مع الوصيّة على حالته، لكن آخر مرّة تواصل فيها معها كانت منذ أربعة أشهر”. كان يجلس عند قدَمَي أمّه بينما كانت تأخذ قسطاً من الراحة في جانب السرير الصغير. وصلوا قبل ثلاثة أيّام إلى مطار شونيفيلد من القاهرة مع ابنتهم اليافعة. واستقبلهم أحمد بمفرده؛ فقد مضى أكثر من عام منذ لقائهم الأخير، ولم يكن لديهم أيّ وجهة ليذهبوا إليها.
عادةً ما يرتب مكتب رعاية الشباب مسبقاً مقابلة عائلات القُصَّر الوافدين بلا ذويهم، ويوفّر لهم مكاناً يقيمون فيه في أيّامهم الأولى في ألمانيا. تقول أولريك شوارتز، المستشارة القانونيّة في “الرابطة الاتحادية المعنية باللاجئين القصر غير المصحوبين”، وهي منظمة ألمانية غير هادفة للربح، إنّ “القانون لا ينص على وجوب فعل ذلك؛ لكنه ما يجب فعله لحماية الأطفال”.
أمضَت أسرته أوّلَ ليلةٍ في برلين داخل حجرة استأجرها عمّ أحمد. كان العمّ أيضاً لاجئاً، وقال إنّه ربّما يفقد محلّ سكنه لو واصلَت الأسرة العيش معه. عاش أحمد في شقّة مع شابّين قاصرين آخرَين، تحت رعاية الدولة؛ وكان من غير القانونيّ أن تنضمّ إليه أسرته. ومع عدم معرفته بما يمكنه القيام به أيضاً، ذهب أحمد ووالده إلى أحد المساجد صباح يوم الجمعة. مع انتهاء الصلاة وبدء تفرّق المصلّين، انخرط والده في البكاء. جثا والده على سجّاد المسجد تحت ثريّاته المعلَّقة، مخبراً أحمد أنّه حتّى عندما غادروا سورية وحتّى مع فقدانهم منزلهم وتجارتهم، لم يشعر بالعجز مثلما شعر به في ذلك الحين.
في خارج المسجد اقترب منهم رجلٌ، عندما رأى محنتَهم وهم في المسجد، وأعطاهم رقمَ أحد العاملين في إدارة مأوى للاجئين. في ذلك المساء، ركبت الأسرة قطارَ المترو إلى آخر الخطّ، واستقلّوا الحافلة باتجاه الملجأ. أخبرهم الإداريّ، عندما رأى أمّ أحمد في آخر أيّام حملِها، أنّ بإمكانهم البقاء حتى نهاية الأسبوع.
كان لقاؤهم مع الوصيّة في اليوم التالي، وغادر أحمد مأوى اللاجئين بصحبتي للعودة إلى شقّته ليَستحِمَّ قبل اللقاء. سلّمت الوصيّةُ أحمد محضرَ المحكمة الذي يُنهي رسميّاً مسؤولية الدولة عنه.
حين اتّصلتُ بأحمد ذلك المساء، لم يُجب، وإنّما ردّ برسالة قصيرة يقول فيها أنّه يبكي، وأنّه سيغادر في ساعات قليلة للانتظار في الطابور عند مكتب الشؤون الصحية والاجتماعية، لأنّه لا يعرف شيئاً آخر يمكنه فعله.
أليكس… المنقذ
ذلك الصباح، احتشَدَ أحمد مع لاجئين آخرين خلف الحواجز المعدنيّة في الظلام. بعد عشر ساعات، قال الحرّاس إنّه لا مزيد من المواعيد في ذلك اليوم. كان أمامه في الطابور رجلٌ ألمانيّ، وهو الألمانيّ الوحيد في ذلك الزحام، وقد انتظر أيضاً طوال اليوم. كان هناك مع شابَّين سوريَّين آخرَين. تذكّر أليكس، وهو ألمانيّ في منتصف العمر يعمل في القطاع التقنيّ، أنّ أحمد اقترب منه وسأله بالإنكليزيّة “هل أنت صحافيّ؟”. كان أحمد بالكاد يستطيع الحديث، وكان يشعر بالبرد الشديد؛ لذا اصطحبه أليكس إلى شقّته ليسمع قصّته.
غير أنّ جهوده مع أحمد أفضَت إلى نطاق مختلف. حصل أليكس على إجازة من عمله لمدة أسبوع، لمساعدته في القيام بعدد لا يُحصَى من المهمات: فتح حساب مصرفيّ، والعثور على غرفة موقتة للإيجار، ومن ثَمَّ تسجيل العنوان. على رغم أنّ الحكومة الألمانيّة أعطت عائلةَ أحمد تأشيرات للدخول، فقد اضطروا إلى التحايل في كلّ خطوة لاحقة في الدوائر الحكومية لتلك المدينة الكبيرة؛ وهو الأمر الذي أقرّ أليكس وأحمد بأنه كان أيسر بفضل وجود أليكس. قال أحمد “لن أكذب عليك: حين يكون هناك شخص ألمانيّ سيصبح الأمر مختلفاً تماماً”.
من الناحية المثاليّة، كان على الوصيّة المسؤولة عن حالة أحمد كونه قاصراً دون برفقة ذويه أن تقوم على الأقلّ بمساعدتهم للحصول على سكن وتسجيلهم في مكتب رعاية العاطلين من العمل، الذي يتولّى شؤون أولئك اللاجئين حتى يستطيعوا الحصول على دخل يكفيهم في أمور معيشتهم. لكن حين استمعت شوارتز -المستشارة القانونيّة- إلى تفاصيل قصّة أحمد، قالت “في كل مجال، يكون العمل التطوّعي في الواقع هو القيام بنوع ما من عمل الدولة”. من وجهة نظرها، تتمثل المشكلة في أنّ المدينة التي لا تضمّ قاعدة ضريبيّة كافية وتتلقّى تمويلاً إضافيّاً من الولايات الألمانيّة الأخرى ظلّت تعاني من نقص في تمويل خدماتها الاجتماعيّة. وفاقَمَ وجود عشرات الآلاف طالبي اللجوء الجدُد، تلك المشكلةً.
أرسل لي أحمد عبر تطبيق واتساب صور له وهو يحمل أخته حديثة الولادة. كانت نقطة مضيئة في وسط الفوضى. تشاركت أسرته المكونة من خمس أفراد العيش في شقة صغيرة من غرفة واحدة، وهو وضع صعب، لكنه أفضل ما استطاعوا العثور عليه. وجدت زوجة أليكس مدرسة دولية مستعدة للسماح لأحمد بالانخراط في الدراسة في منتصف العام، إذا استطاع اجتياز امتحان اللغة الإنكليزية. وعلى رغم تفويته شهوراً من الدراسة، فقد تمكن من إنهاء الفصل الدراسي.
بقي يراسلني ليخبرني عن المدرسة والرفاق الجدد، إلى أن قابلته بعد أشهر في نهاية الصيف. كان أطول قامة وأنحف وزناً. وأصبح نباتياً وملحداً، وقد أغضب كلا الأمرين والداه.
حاولت أن أتابع الفتى، لكن شيئاً من التشاؤم زرع فيه. قال إنه يكافح في المدرسة، ليس فقط لأن عليه تعويض الكثير من الأشياء التي فاتته، بل لأنه لم يكن جيداً في العمل. قال إنه عليه أن ينسى فكرة الالتحاق بالجامعة وبدلاً منها عليه الحصول على تدريب مهني بعد التخرج، وهو مسار محدد في ألمانيا يفضي إلى مهن معينة. ضحك منه موظفو مكتب البطالة حين قال إنه يريد اجتياز امتحان القبول في الجامعة. بدا أن كل شيء وكل الناس يخبرونه بأنه ليس جيداً بما يكفي.
وعلى رغم أن عائلته وصلت قبلها بعام، إلا أن وضعهم ما زال غير مستقر. في وقت مبكر من أيلول/ سبتمبر، طرق مالك العقار بابهم وأخبر أحمد بأن مكتب البطالة لم يدفع إيجارهم منذ ثلاثة أشهر. كان يرغب في طردهم. وأمضى أحمد يومه منتظراً في الصف لاكتشاف الخطأ الإداري الذي أخر دفع الإيجار. حل الخطأ، لكن هذا الأمر كان حلقة في سلسلة من الحالات الطارئة المتعاقبة.
الشقة نفسها كانت مشكلة في حد ذاتها. لم تكن عائلة أحمد قد وجدت بعد مكاناً أفضل للسكن، رغم أنه بحث عن وكالة إسكان جديدة. وكثيراً ما فوت الحصص الدراسة لرؤية أماكن سكن جديدة. وحين يذهب والده لمشاهدة شقة بنفسه، يتصل بأحمد في منتصف الحصة الدراسية حتى يتحدث مع المؤجر. كان الأمر محرجاً. واجهت العائلة صعوبات عدة أثناء بحثها عن مسكن أفضل.
نحن القصص السهلة
قال الدكتور مالك بجبوج مدير عيادة نفسية خيرية في برلين، “نحن البشر نحب القصص السهلة”. عيادته هي الوحيدة التي تقدم استشارات باللغة العربية خصوصاً لطالبي اللجوء في المدينة. قال إن من السهل تخيل الانتكاسة العقلية الناجمة عن أهوال الحرب الأهلية أو مخاطر رحلة الهجرة إلى أوروبا. لكن طالبي اللجوء الذين تعالجهم عيادته يقولون إن القلق الذي يعتريهم ناجم عن حالة عدم اليقين التي يواجهونها في ألمانيا.
يقول بجبوج، “ما يزعجهم حقاً ويوترهم هو الموقف الآن”. ما يزعجهم أشياء صغيرة نسبياً، مثل عدم الحصول على مكان في دورة تعلم اللغة، أو انتظار قرار ما سيؤثر على حالهم، أو بقائهم لشهور في الإسكان الشعبي. في النهاية تراكم هذه الأشياء وفقدان السيطرة على المصير، يؤدي إلى الشعور بالاكتئاب ويزيد من حدة المشكلات النفسية الموجودة بالفعل. عالجت عيادة برلين 2000 مريض العام الماضي، وعبر 40 في المئة منهم عن شعور بالحيرة وقالوا إنهم يشعرون أن لا مستقبل لهم.
كان هذا شعوراً مألوفاً بالنسبة لأحمد، على رغم أني لم أردك لأي مدى. بعد تناول العشاء مع أحمد وعمه في تلك الأمسية الصيفية، تمشينا في حديقة ماور في الظلام. كانت البرودة بدأت تتسلل إلى الجو.
وأثناء ركوبي في مترو الأنفاق مع أحمد دون عمه، سألته أسئلة في محاولة لرسم صورة أشمل. قال “علينا أن نعترف بأن الحياة ليست للجميع”.
قال أحمد ونحن نتناول طبقاً رخيصاً من النودلز الآسيوية بعد بداية الفصل الدراسي، “مر عامان وصار كل شيء أسوأ من ذي قبل. لا أدري من أين يستقي الناس الأمل”.
بحثت عن أطباء نفسيين يقبلون التأمين العام ويقبلون مرضى جدداً، واتصلت بمركز الأزمات لسؤالهم حول أوقات عملهم، وألححت على أحمد للقدوم معي. رفض الأمر. قال، “هذا لطف منك، لكنني لا أؤمن بهذا الهراء”.
في ظهيرة يوم ما، تلقيت رسالة منه. “أهلاً تاليا. لا أستطيع المساعدة في أي شيء يخص والديّ بعد الآن. لا أظن أنني سأراهم مجدداً لوقت طويل. حاولت قتل نفسي مجدداً يوم الخميس”. أجبته، أن الأمر الأهم أنه ما زال حياً.
كان زوج من السلالم الكهربائية النازلة في بهو زجاجي هو أهم السمات لمبنى مكتب البلدية. وكانت المصاعد الموجودة في آخر الرواق عند الزاوية هي الوسيلة الوحيدة للصعود. علق أليكس قائلاً، “ليس جواً مريحاً”. كان متعباً من السهر والعمل طوال الليل خلال الأسبوع الماضي وهو مع أحمد في المشفى.
كانا قد عادا مرة أخرى إلى دهاليز المصالح الحكومية الألمانية. فقد أرسل “مكتب العاطلين من العمل” أحمد إلى “مكتب رعاية الشباب”. هل يستطيع أحمد العيش بمفرده؟ لم يكن واضحاً ما هي الإدارة الحكومية التي بإمكانها اتخاذ قرار فصل ملف أحمد عن ملف عائلته. أعادته خدمات الشباب إلى مكتب العمل، الذي كان مغلقاً عندما وصل إليه أحمد وأليكس
أخبر أليكس أحمد أن عليه التروي والسير خطوة خطوة، وأنه لا يستطيع استعجال الأمور. قال أحمد، “سأعثر على شقة بحلول يوم الاثنين”. تساءل أليكس متشككاً، “بحلول يوم الاثنين”؟ وأضاف، “هذا هذيان”. كان أحمد يقيم في غرفة إضافية فارغة بالشقة التي يسكنها أليكس مع زوجته وابنه المراهق. الغرفة لها باب يمكن أن يغلقه أحمد، وفيها بيانو وساكسفونين، بدأ أحمد يحاول العزف عليهما. لكنه قال إنه شعر بالفعل أنه طلب أكثر مما ينبغي من أليكس.
عندما خرج أحمد من المستشفى للمرة الأولى، أصر على دفع إيجار لأليكس، وتظاهر أليكس أنه سيأخذ ذلك الإيجار. لكن بدلاً من أخذه، كان يضع الخمسين يورو في صندوق على رف الموقد ويذكر أحمد بها من وقت لآخر.
سألت أليكس سابقاً حول ما جذبه إلى أحمد من البداية. قال أليكس، “من الوهلة الأولى، تستطيع رؤية أنه عالق بين عالمين”. ولا يخرج تقريباً مع غيره من الناطقين بالعربية نهائياً، مؤثراً الانخراط مع الفتية من مدرسته الدولية أو الأصدقاء الذين تعرف إليهم عندما كان يتعلم الألمانية.
بعد أسبوعين، وثلاثة مواعيد ومحادثة مع الطبيب النفسي في ما بعد، حصل أحمد على تصريح يسمح له بالعيش بمفرده. لكنها أيضاً أثيرت أسئلة حول مدى قدرته على الاعتناء بنفسه.
قال أحمد، “لقد حدث الكثير”، شارحاً أنه في الوقت الحالي انقطعت علاقته مع والديه. “فعلت الكثير لأجلهم، ولم يشكروني أبداً”. الحقيقة الصعبة هي أنه بمغادرته الشقة التي تعيش فيها عائلته، كان يهدد بضياع مسكنهم وطردهم. إذ يدفع “مكتب العاطلين من العمل” الإيجار لمالك العقار بحسب عدد الأفراد، وقد يُخفض غيابه قيمة الإيجار بنسبة 20 في المئة. لكنه قال، “أنا أيضاً إنسان، ولدي حياة كذلك”. وافق أحمد على الذهاب إلى الطبيب النفسي مع أليكس على مضض.
قال أحمد، “اسمع يا رجل، أعلم أنك تكره قولي ذلك، لكن.. شكراً لك”. “على الرحب والسعة”، رد أليكس.
هذا التحقيق مترجم عن Codastody.com ولقراءة الموضوع الأصلي زوروا الرابط التالي
درج