الناس

لا جنسية مع تعدّد الزيجات/ سوسن جميل حسن

أشعلت مطالبة وزير الداخلية الألماني، هورست زيهوفر، بإدخال تعديلات على قانون منح الجنسية بشكلٍ يكون معه تعدد الزوجات سببًا كافيًا لحظر الجنسية الألمانية عن طالبها، مواقع التواصل الاجتماعي. من الطبيعي أن يكون المعترضون أو المستهجنون أو الرافضون هذا الطرح ينتمون إلى المهاجرين، أو اللاجئين المسلمين، فالزواج في البلدان المسلمة، والتي تعتبر في دستورها أن الشريعة الإسلامية هي مصدر التشريع، خصوصاً لجهة قوانين الأحوال الشخصية التي يشكل الزواج والطلاق محورها، يخضع لأحكام الشريعة، وليس للقوانين المدنية. ومن الطبيعي أن يشكل السوريون الجزء الأكبر من المعترضين على القانون الذي يسعى الوزير الألماني إلى استصداره، باعتبار أن السوريين شكلوا الجزء الأكبر من اللاجئين في ألمانيا، بسبب الحرب المشتعلة في بلادهم منذ ثماني سنوات.

الزواج بحد ذاته مؤسسة تقوم على الشراكة بين شخصين لإنشاء أسرة، وهو في ألمانيا حالةٌ مدنيةٌ تخضع لقوانين ناظمة، مثلما للأسرة أسسها التي كفلها الدستور أيضًا. وباعتبار أن ألمانيا بلدٌ يفصل الدين عن الدولة، على الرغم من أن الثقافة العامة في البلاد مسيحية، إنما تتجلى بالأعياد والاحتفالات وممارسة الدين باعتباره حالة روحية، لكن دستورها لا يحتوي أي مادة أو عبارة تحدّد الهوية الدينية للدولة، فهي تتخذ موقفًا محايدًا من كل الأديان، ولا تنحاز إلى دين معين. أما المراسم أو الطقوس أو العادات المتعلقة بالأحوال الشخصية التي تجري في المساجد والكنائس، أو أي دور عبادة، كالزواج أو الطلاق أو العماد أو شهادات الوفاة، فلا تُلزم الدولة ولا تعترف بها.

وبما أن الحياة في ألمانيا مبنية على المشاركة بين الزوجين، وخصوصاً لدى المتزوجين من ألمانيات الأصل، فإن القانون يكون دائما هو الحكم في كل الأحوال، وحكمه يراعي الإنصاف. تقع على الزوجين مسؤولية مشتركة في رعاية الأسرة والنهوض بها. وتحمل المرأة المسؤولية الاقتصادية بالقدر نفسه الذي يحمله الرجل كذلك مسؤولية كل الأمور التي تساعد في توفير حياة أسرية جيدة.

مسألة الذنب، أو الخطأ المؤدي إلى فساد الزواج وفشله، لا تُبحث، وليس لها قيمة أمام القاضي، كذلك لا يتدخل القضاء في الخلافات الزوجية الناجمة عن تعدّد الزيجات، لأنها في الأساس

حالة غير موجودة في كل أشكال الأسر المعروفة، والمسموح بها، فالزواج لا يمكن أن يكون إلا بين فردين فقط. وأمام القضاء، يقف الطرفان على قدم المساواة في المحكمة، وعندما يقرّ القاضي الطلاق، فهو يضمن حق الطرف الأفقر في مقدار النفقة، كذلك صدر، منذ أكثر من عامين، قانون يعتبر كلمة “لا” من الشريك الزوجي يعني “لا” بمنتهى الوضوح بالنسبة للعلاقة الحميمة بين الشريكين، وإلا يعتبر الفعل جريمة اغتصابٍ يحاسب عليها الحق العام، فيما لو أسقط المعتدى عليه ادعاءه. كل ما سبق يعني أن الزواج، بحسب القوانين الألمانية، والأوروبية بشكل عام، حالة مدنية خاضعة للقوانين المدنية، ففي الأصل ليس الدين هو المرجع، وليست النصوص الدينية هي التي تضبط سلوك البشر وحياتهم ضمن المجتمع، وإنما إرادة الشعب الذي يمثله البرلمان المنتخب، والذي تقع عليه مسؤولية إقرار القوانين والتشريعات التي تضبط الحياة والعلاقات في مجتمعٍ يعيش ضمن دولة. وهذا يقودنا إلى مفهوم الدولة والمواطنة والعلاقة بينهما، هذه الحالة التي لم يرقَ أفراد شعبنا، والشعوب المماثلة له، إليها، وهذا سبب أساسي في المشكلات والرضوض الاجتماعية والنفسية التي تحدث بين اللاجئين أو المهاجرين والبيئة الجديدة التي يدخلونها. إنها في الواقع دليل على أزمة هويةٍ قادرةٍ على العيش في العصر الحالي، فالمواطنة بمفهومها الموجز هي أن يكون الفرد جزءًا من كيان سياسي اجتماعي، وأن يتمتع بعضوية بلدٍ ما، يقابله أن تترتب على الشخص واجباتٌ مثلما له حقوق يكفلها له الدستور. ولكن المواطنة تتطلب الوعي بها، فأن يعي الفرد معنى المواطنة يشكل النقطة الأساسية في وعي الذات ووعي الآخر، شريكه في البلاد، ومبدأ المساواة في الحقوق والواجبات، من دون تمييز على أي أساس، دينيًا كان أو عرقيًا أو جنسيًا أو غيره، وسيادة القانون الضامن لها، والمرأة بالتالي يجب أن تتمتع بكل الحقوق، على قدم المساواة مع الرجل.

ليس من حق طالبي جنسية بلدٍ يقيمون فيه أن يفرضوا نمطاً حياتياً يتعارض مع قوانين تلك البلاد، بل المطلوب منه السعي إلى الاندماج في المجتمع الجديد، ولا يكون الاندماج بدون الالتزام بقانون تلك الدولة، وألمانيا قد مرّت بتجارب تاريخية عديدة ومريرة، نهضت منها، وأسست لدولةٍ ومجتمعٍ يقومان على مبدأ سيادة القانون ودستور وُضع ليضمن الحقوق بلا تمييز، ويستهل مواده بمبدأ الكرامة التي هي أغلى ما يميز الكائن الإنساني، وصونها أمرٌ مقدسٌ، لأن انتهاك أي حق من الحقوق هو انتهاك لها. ولكن ما يحصل أن معظم هؤلاء اللاجئين مهجّرون من بلدانهم، وخصوصاً سورية، هربًا من حربٍ غاشمةٍ أتت على البلاد والعباد، وهم في الواقع ضحايا استبداد تاريخي متعدّد ومتكافل ومتضامن، سياسي وديني

واجتماعي واقتصادي وغيره، نجمت عنه شروخٌ وتصدعاتٌ في العلاقة بين المواطن والدولة، عدا الجهل أو التضليل الفكري والمعرفي بشأن موضوع المواطنة، فالدولة الاستبدادية لا تتيح الفرصة الكاملة لنمو المواطنة؛ لأنها تحرم قطاعاً كاملاً من البشر من حقهم في المشاركة، ولا تكتمل المواطنة من دون تحقّق النموذج المناسب من الدولة الحديثة القائمة على المواطنة التي تقدّم الظروف المطلوبة لقيام مجتمعٍ متماسكٍ قادرٍ على النهوض. وعند جهل أفراد أي شعبٍ بالمواطنة، كما هو عليه الواقع في سورية، يتراجع في مجال إدراك الحقوق والواجبات، فالواجبات أيضًا تخضع لإدارة الفساد، فتفقد قيمتها وفحواها، وهذا ينعكس سلبًا على نمو الدولة.

من هذا المنطلق، يمكن القول إن عدم القدرة على الاندماج وقبول قوانين الدولة المضيفة سببه أمران مهمان: أزمة مواطنة وأزمة هوية. فبسبب عقود الاستبداد والاستنقاع الفكري وإقصاء الشعب عن الشأن العام وعدم إدراكه دوره، وحبسه في الأنساق الفكرية التي تخدم الحكم الشمولي مع الظلم الواقع عليه، يتمّ اللجوء نحو السند الديني في الحياة، فيتعاظم الجانب الديني للهوية الثقافية على حساب بقية الجوانب، وتصير النصوص والفتاوى التي يروّجها رجال الدين، بعدما أتيحت لهم كل الأسباب، ليسيطروا على المجال العام، بدعمٍ من الأنظمة الاستبدادية، هي المحرّك الأساس لأفعال الناس والضابط الأقوى لسلوكهم والمرجع الوحيد لأفكارهم. لذلك كانت النتيجة أن اللاجئين، في قسم كبير منهم، يعيشون في ما يشبه الكانتونات، مشكلين مجتمعات موازية ضمن المجتمع المضيف، رافضين الاندماج بالشكل الذي يسهل عليهم الحياة، متمسّكين بالقيم والثقافة التي نشأوا تحت خيمتها، خيمة الاستبداد المتنوع الذي فرّغ المفاهيم من مضمونها، وقضى على العلاقة بين الدولة والفرد، فأصبح الفرد غير مدركٍ معنى القوانين أو الدستور. وبالتالي، من الطبيعي أن يلاقي خطاب وزير الداخلية الألماني هذه الموجة من الرفض والاحتجاج.

العربي الجديد

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى