هل ستبدأ عملية إعمار سوريا في ظل الأسد؟/ فراس حاج يحي
إعادة الإعمار، المصطلح الأكثر انتشاراً وشيوعاً حالياً بين المعنيين بملف سوريا، من سياسيين ورجال أعمال وإعلاميين وباحثين. وهذا أمر مبرر الحديث عنه والعمل لأجله في بلد مدمر اقتصادياً وسياسياً وعمرانياً واجتماعياً، لتقاسم كعكة إعادة اعماره. وسنحاول في هذا المقال الإضاءة على هذه العملية ضمن أطرها وفق القانونين الدولي والسوري، وتطبيقها على أرض الواقع.
تعود جذور الجهود الدولية الأولى لإعادة الإعمار إلى ما نفذته عصبة الأمم في النمسا بعد الحرب العالمية الأولى، تلتها إعادة إعمار أوروبا بعد نهاية الحرب العلمية الثانية. وشكلت حينها خطة مارشال الأميركية الجزء الرئيسي فيها، بل كانت هذه الخطة هي الأضخم والأنجح في تاريخ إعادة الإعمار بعد انتهاء الصراعات، ما جعلها نموذجاً ومرجعاً في هذا المجال.
ويعرف البنك الدولي عملية إعادة الإعمار في مرحلة ما بعد النزاعات على أنها “تقديم الدعم لعملية التحول من الصراع إلى السلام من خلال إعادة بناء البلد اجتماعياً واقتصادياً”. وتقر الأمم المتحدة بكون إعادة الإعمار هي المرحلة الأشمل في استراتيجيتها لتسوية الصراعات، عند فشل الديبلوماسية الرقابية في تحقيق السلام وحل النزاع، إذ وضعت إطاراً عاماً، وجملة من المراحل التي تنطلق من التفاوض ومراقبة وقف إطلاق النار المتفق عليه، إلى تحديد الهياكل المعززة لثقافة السلم. وهي تتراوح ما بين تسريح الجنود وإعادة دمجهم وإعادة اللاجئين، وإزالة الألغام وتقديم الإغاثة والمساعدة الإنسانية وتأهيل الاقتصاد، وإصلاح الطرق والبنى التحتية والتي تعد أهم مظاهر استعادة الحياة على المدى الطويل”.
الواقع الحالي لعملية إعادة الإعمار في سوريا
أولاً: الخسائر: لا يمكن الحديث عن إعادة إعمار قبل تقييم للواقع والخسائر التي تعرضت لها الدولة السورية خلال السنوات السابقة وقد شملها التقرير الصادر بتاريخ في تموز/ يوليو عام 2017 عن البنك الدولي حمل عنوان: “خسائر الحرب الاقتصادية والاجتماعية للصراع في سورية:
الخسائر البشرية: عدد القتلى من 400 إلى 475 ألف شخص حتى مطلع عام 2016 ويقدر عدد اللاجئين خارج سوريا بأكثر من 6 ملايين، وعدد النازحين داخلياً بقرابة 5 ملايين و700 ألف نازح.
الخسائر الاقتصادية: بلغ إجمالي خسائر الاقتصاد السوري نحو 226 مليار دولار ونحو 27 في المئة من مجموع الوحدات السكنية قد دمرت أو تضررت جزئياً، وأن 67 في المئة من قدرة سوريا الصناعية دمرت بشكل كامل، عدا القطاع الزراعي وخسائره التي بلغت 25 مليار دولار والقطاع السياحي وقيمة خسائره نحو 14 مليار دولار. ونسبة البطالة بين الشباب تصل إلى 78 في المئة، وارتفع الدين العام إلى 150 في المئة، ومثلها خسائر كبيرة بقطاعات الكهرباء والطاقة والنقل.
خسائر القطاع الصحي: بلغت خسائر هذا القطاع نحو 12 مليار دولار، واستنزفت أكثر من 70 في المئة من أطباء البلد الذين تعرضوا للتهجير أو القتل والاعتقال. كما بلغ عدد المستشفيات التي دمرت في القصف، نحو 38 مستشفى، إضافة إلى 450 مركزاً طبياً وصحياً معطلاً بالكامل. وتضرر نحو نصف مجموع المنشآت الطبية جزئياً، فيما دُمِر نحو 16 في المئة منها، وعام 2018 سجل أكثر من 13.1 مليون شخص، بمن فيهم 5.3 ملايين طفل، بحاجة إلى مساعدة إنسانية مستعجلة منقذة للأرواح..
الخسائر في قطاع التعليم: بحسب اليونسيف هناك أكثر من مليوني طفل في سن الدراسة غير ملتحقين بالمدارس، كما أن واحدة من كل ثلاث مدارس لا يمكن استخدامها، إما لأنها متضررة أو مدمرة أو لأنها أصبحت مأوى للعائلات المشردة أو تستخدم لغايات عسكرية.
احتياجات إعادة الاعمار: تتراوح حاجة سوريا من 100 مليار إلى 300 مليار دولار، لإعادة اعمارها.
عدد القتلى من 400 إلى 475 ألف شخص حتى مطلع عام 2016 ويقدر عدد اللاجئين خارج سوريا بأكثر من 6 ملايين، وعدد النازحين داخلياً بقرابة 5 ملايين و700 ألف نازح.
ثانياً: تعامل نظام الأسد مع عملية إعادة الاعمار
لم تحدد حكومة الأسد أطراً أو آلية قانونية لعملية إعادة الاعمار الشاملة وهل ستكون وداخلية تعتمد على الموارد المادية والبشرية المتاحة داخلياً فقط مثل الاتحاد السوفياتي بعد الحرب العالمية الاولى، أم ستكون خارجية مثل ألمانيا واليابان بعد الحرب العالمية الثانية.
ويلاحظ عجز حكومة الأسد وقصورها الواضح قانونياً، تنظيمياً، تخطيطياً، وعجزها عن تأمين موارد مالية للقيام بأي مشروع وطني حقيقي شامل لإعادة الإعمار، يوازي الكارثة السورية. يضاف إلى ذلك استحواذ حليفي الأسد (روسيا– إيران) على السلطة الفعلية في البلاد، وحصولهما على عقود استثمار طويلة الأمد بأهم المرافق الحيوية من موانئ، ومكامن ثروات باطنية من نفط، وغاز، وفوسفات، وشركات استثمار عقاري وغيرها. وكذلك تهافتهما إلى إعادة الاعمار، ما يعني رهن موارد سوريا الطبيعية لهما، وما له من سيئات نذكر منها الاستدانة العالية وإهدار الموارد، وهذا ما يحدث فعلياً عبر منح امتيازات لرجال أعمال وشركات من الدول التي وقفت مع نظام الأسد، وفق تصرّيح سابق لرئيس وزراء سوريا عماد خميس لوفد عماني زار سورية عام 2017.
القوانين التي صدرت في سوريا والمتعلقة بإعادة الإعمار هي:
القانون رقم 10 الصادر عام 2018، والذي يجيز لمدن وبلدات سورية، تخصيص مناطق تقع ضمن حدودها الإدارية للتنمية أو إعادة الإعمار، وإنشاء شركات تطوير عقاري تُشرف على تصميم مثل هذه المشاريع وتنفيذها.
القانون رقم 3 الصادر عام 2018، ويعنى بمسألة إزالة الأنقاض والمباني المتضررة في أصقاع سورية
المرسوم التشريعي رقم 66 الصادر عام 2012 “لتطوير مناطق المخالفات والسكن العشوائي” في أنحاء سوريا.
المرسوم التشريعي رقم 40 الصادر عام 2012 الخاص بإزالة مخالفات البناء.
المرسوم التشريعي رقم 23 الصادر عام 2015 الخاص بتنفيذ التخطيط وعمران المدن.
المرسوم التشريعي رقم 12 الصادر عام 2016 الخاص بإعداد نسخة رقمية لوقوعات الحقوق العينية.
قانون رقم 33 الصادر عام 2017 الخاص بتنظيم آلية العمل على تكوين الوثائق العقارية المتضررة كلياً أو جزئياً.
المرسوم التشريعي رقم 19 الصادر عام 2015 الخاص بإجازة إحداث شركات سورية قابضة مساهمة مغفلة خاصة بناءً على دراسات اجتماعية واقتصادية وتنظيمية، وذلك بهدف إدارة واستثمار أملاك الوحدات الإدارية أو جزء منها.
القانون رقم 42 لعام 2018 الخاص بتعديل مهلة التقدم بتصاريح الملكيّة وبادعاء الحقوق العينية، وجعلها سنة ميلادية كاملة بدءاً من تاريخ الإعلان عن المنطقة التنظيمية.
بعد صدور هذه القوانين، أتت قرارات وزارية حكومية حول ضم مناطق تنظيمية جديدة تخضع لهذه القوانين بما يشكل محاولة تطهير سياسي واجتماعي-اقتصادي، وبخاصة أن المناطق التي يطاولها القانون وما يتبعه من قرارات تنظيمية يستهدف المدن والمناطق التي كانت في صدارة الاحتجاجات على النظام عام 2011. وهذه القوانين وما تنفذه حكومة الأسد من خلالها من ممارسات تضعف الأمل بتحقيق مصالحة وطنية مستقبلية في سورية، وتعبِّد الطريق أمام اقتلاع سكاني واسع النطاق وعملية تغيير ديمغرافي منظمة، وهذه بمجموعها تشكل خرقاً لقواعد القانون الدولي الإنساني من حيث ضمان سلامة عودة اللاجئين والمهجرين، بسبب النزاع ممتلكات اللاجئين والمهجرين.
ومع السياسة الحالية المتبعة من حكومة الأسد وتمسكها بالحل العسكري من دون الولوج بالعملية السياسية ضمن الإطار الذي حددته قرارات الأمم المتحدة، وبخاصة قرار مجلس الامن 2254 لعام 2015، والذي حدد آلية محددة لعملية الانتقال أو الحل السياسي، نجد أن الولايات المتحدة الأميركية، والاتحاد الأوربي ودولاً عربية عدة ترفض الدخول بأي عملية لإعادة الاعمار قبل تحقيق تقدم ملموس في العملية السياسية وفق القرارات الأممية. وقد عزز هذا العزوف العقوبات الأميركية والأوروبية على رجال أعمال، وشركات تدعم نظام الأسد، ما أدى إلى تخوف شركات عالمية وإقليمية من الدخول العملية تجنباً لهذه العقوبات. فالشركات لا ترغب في تحمل مسؤولية المشاركة في صفقات إعادة اعمار مع مرتكبي جرائم حرب، وجرائم ضد الإنسانية، الذين قد يستخدمون هذه الأموال للاستمرار في ارتكاباتهم.
أي آمال من إعادة الإعمار؟
لا يمكننا الولوج بعملية إعادة اعمار فعلية في سوريا من دون الدخول في مرحلة انتقالية حقيقية، وصولاً إلى عملية إعادة البناء، التي تلزمها إعادة صوغ عقد اجتماعي جديد بين الدولة ومواطنيها يتجلى بمسائل ثلاث أساسية:
الأولى، احترام حقوق الإنسان ومنح حقوق وفرص متساوية للمواطنين، بغض النظر عن انتماءاتهم الاثنية، العرقية، الاجتماعية، أو الدينية، ما يستوجب اصدار قوانين وتشريعات جديدة تجرم أشكال التمييز، وعدم الإفلات من العقاب عن جرائم الحرب وجرائم ضد الإنسانية المرتكبة في سوريا، وصولاً إلى المصالحة الشاملة والتعافي الاجتماعي.
الثانية: ضمان الأمن الشخصي لجميع المواطنين عبر مؤسسات شرطية وقضائية محايدة، ومؤهلة تحظى بثقة قطاعات المجتمع.
الثالثة: تحقيق الأمن الاقتصادي للمواطنين.
تنفيذ إعادة البناء
يمكن اللجوء لوسائل إعادة الإعمار الأكثر نجاحاً وتعتمد عملية الانتعاش الاقتصادي على نجاح المرحلة الانتقالية، وعلى إعادة بناء الاقتصاد المحلي واستعادة الموارد الخارجية. وذلك عبر تهيئة الظروف اللازمة لاستمرار التبادل التجاري والادخار، ودعم الاستثمارات المحلية؛ وتعزيز استقرار الاقتصاد الكلي، وإصلاح المؤسسات المالية، والمساعدة المقدمة إلى المواطنين المتضررين من الحرب. وذلك من خلال برامج إعادة اللاجئين والنازحين والمشردين واسكانهم، وتسريح المقاتلين السابقين وإعادة دمجهم، واستعادة فرص العمل ودعم الفئات الضعيفة مثل الأسر التي ترأسها النساء. ومن بين الأنشطة الأخرى التي تشكل جزءاً من مهمات إعادة البناء الأساسية، هي دعم برامج مكافحة مخلفات الحرب كالألغام والذخائر والأسلحة المختلفة، كجزء من استراتيجيات التنمية الشاملة لدعم العودة إلى الحياة الطبيعية للسكان الذين يعيشون في مناطق ملوثة بالألغام ومخلفات الأسلحة العنقودية والأسلحة الكيماوية. وتشتمل إعادة بناء الحكومات على مهمات مثل إنشاء سلطة قضائية مستقلة، واحترام وتطبيق حقوق الملكية، وبناء المؤسسات وقانون العقود.
ما هي الأهداف؟
الأهداف الرئيسية لإعادة الإعمار تتمثل في العودة إلى الحياة الطبيعية، وخلق بيئة جديدة، تضمن الحد الأدنى للمستوى المعيشي، والخدمات من العمل والدراسة، إضافة إلى إنشاء والحفاظ على الأمن، وخلق الظروف المواتية اللازمة لسير المجتمع في زمن السلم. وكل هذا من المهمات الرئيسية لإعادة الإعمار التي تهدف لتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية.
من يتحمل المسؤولية؟
ونقصد بذلك المسؤولية المشتركة بين الدول الخارجة من الصراع ومجتمع المانحين، وبالتالي لن تأتي إلا بتحمل كل طرف مسؤولياته مع ضرورة تلاقي الأهداف والاولويات للطرفين، مع مراعاة جوانب معينة. أولها أن تكون القيادة سورية بما يعني أن المشاركة في تحديد خطط أولويات أنشطة إعادة الاعمار والتنمية مع مسؤولية بالتنفيذ، والمتابعة وتعبئة الموارد وتقسيم الأدوار، لتتجه هذه الأنشطة نحو تطوير القيادة على المستويات المحلية والوطنية. وثانيها تعزيز ملكية الشعب السوري لبرامج إعادة البناء على المستوى المحلي والوطني، فهذه الملكية الحقيقية تعتبر الضمانة الأساسية للحيلولة دون الانتكاسة إلى مرحلة الصراع من جديد، عبر توافق هذه البرامج مع الاحتياجات والتطلعات المحلية. هذا إضافة إلى أن التعاون والتلاحم بين الفاعلين المنخرطين في هذه العملية، يبدآن بفهم واتفاق مشترك على الخطة والاهداف وتوزيع الأدوار والمسؤوليات، بما يحقق الكفاءة والفعالية للأنشطة المنفذة وتشجيع الشفافية والمساءلة المتبادلة. وهذا المبدأ صعب التحقق عملياً من دون الشروع بحل سياسي شامل في سوريا، وعليه نعتقد بوجوب التركيز على المناطق التي ما تزال خارج سيطرة النظام المباشرة.
مؤسسات الدولة ودورها
ان لم تتم إعادة الاعمار ضمن خطة وطنية شاملة تضمن إعادة الاعمار بشكل عادل، على مستوى الدولة، فإن ذلك يهدد بعودة اشتعال الصراع من جديد، لعدم وجود ضمانات متبادلة بين الدولة من جهة ومواطنيها عبر من يمثلهم من مجالس محلية من جهة ثانية. وهذا ما لا يمكن تحقيقه في سوريا حالياً، إن لم تحصل عملية انتقال سياسي حقيقي. وفي الحالة السورية، فإن نهج من أعلى إلى أسفل في إعادة الإعمار، سيكون بمثابة عبث واهدار للمنح والقروض. في الواقع، فساد النظام وعدم كفاءته هو أمر محسوم، ونعتقد أن اتباع هذا النهج يكافئ أولئك الذين ساعدوا على تدمير البلاد وتهجير سكانها. وهنا نعتقد أن الحل باستقلالية الجهات الفاعلة المحلية وصدقيتها، وعكسها احتياجات الداخل السوري. لذلك لا بد من البدء من الأسفل إلى الأعلى عبر الشراكة مع المجالس المحلية، ومجالس المحافظات والمنظمات غير الحكومية والحكومات الأجنبية التي لها نفوذ حقيقي على هذه الأطراف. فهم الشركاء الرئيسيون لتحقيق الاستقرار المشروع والناجح وإعادة الإعمار، وصولاً في المستقبل إلى رحيل قواتهم عن سوريا، مع التركيز على برامج بناء القدرات من أجل الاستدامة، والوصول إلى سلام مستدام عبر بناء القدرات المحلية والوطنية، والاستفادة من الخبرات على المستويات الاقليمية لتعويض نقص القدرات المحلية.
ماذا عن أولويات عملية إعادة الإعمار؟
يمكن ذكرها بالتسلسل وفق ما يلي: الأمن، إعادة توطين السكان النازحين،- الانتقال السياسي والحوكمة، حقوق الانسان والعدالة والمصالحة، التنمية الاجتماعية والاقتصادية وتقوية المجالس المحلية، ومجالس المحافظات المنتخبة ومنظمات المجتمع المدني، المساعدات الطارئة والإنسانية، عودة اللاجئين والمهجرين، النوع الاجتماعي والمرأة.
في المحصلة، إن نجاح بناء الدولة السورية بعد الصراع أو فشله، يعتمد إلى حد كبير، على طبيعة اتفاقية السلام التي يقوم بناء عليها بناء النظام الجديد.
درج