الشبيح أبو غدير و”الدولة”: العشيقة الخائنة!/ وجيه حداد
لم ينفعل “أبو غدير” هذه المرة وهو يشاهد أخبار معارك حماة، ولم يتحدث أمام زوجته وأولاده كجنرال يقود المعارك. لم يخطب قائلاً: “أحرقوا الأرض من تحتهم. لا تتركوا حجراً قائماً. لا تزجوا بشبابنا في المعركة قبل اكتمال التمهيد. اضربوا الخطوط الخلفية لقطع الإمدادات عنهم. انتبهوا للمحور الشرقي، إنه الخاصرة”. هذه المرة، اكتفى بعناوين الأخبار، وأغلق التلفاز ورمى جهاز التحكم. لمس يده الصناعية بيده السليمة، واكتفى بالتحديق في الفراغ.
ضمور حماسة “أبو غدير” لا تعود إلى تغيير مواقفه الراسخة الموالية للنظام، أو الى تعديل طرأ على نظرته “للإرهابيين والتكفيريين”. فقد حاربهم بنفسه، منذ اندلاع الاحتجاجات، وخاض ضدهم مئات المواجهات، ولكنه منذ خسر يده وجزءاً من رئته في القتال قبل عامين ونصف عام، بدأت حياته تتغير بشكل لم يتخيله أبداً.
“أبو غدير” لم يخسر يده فقط، ولكنه خسر كل الصورة التي كونها عن نفسه في السنوات الماضية. خسر حضوره وهيبته المرتبطة بصورة المقاتل الشرس، الذي لا تفارقه البدلة العسكرية ولا البارودة، التي كان يشعر أنها جزء من جسده، أو استطالة أبدية ليده، لا يمكنه مفارقتها حتى في النوم. خسر نظرات الإعجاب أو الرعب التي طالما تركها في عيون الآخرين، وكانت تفتح له الأبواب المغلقة. عمره وشكله كانا يوحيان بأنه صاحب رتبة عالية، دفعت البعض أثناء الحديث معه ممن لا يعرفونه شخصياً بمناداته: “سيدي”، لتملأه مشاعر الفخر والاعتزاز ويشعر بسطوته.
واظب “أبو غدير” شهوراً بعد إصابته على لبس البدلة العسكرية، وحرص على الظهور فيها بشكل دائم، في المشفى وفي الشارع. كانت البدلة العسكرية بكمها الطويل المسدل على يد فارغة من المرفق، جواباً على الطريقة التي خسر فيها يده. فهو محارب فقد يده أثناء المعارك، لا مجرد رجل عاجز مقطوع اليد، يستدعي الشفقة لو ظهر بزيّه المدني.
لم يكن “أبو غدير” عسكرياً قبل الحرب، ولم يعشق الحياة العسكرية، كما ردد في السابق، مؤكدا أن العسكرية نوع من العبودية والذل، وأنه كان محظوظا لعدم قبولهم له في الكلية الحربية بعد نيله شهادة الثانوية، فاكتفى بوظيفة في “الشركة الخماسية” بعد أدائه الخدمة الإلزامية التي رأى فيها الأهوال. لكنه مع ذلك، تحول بسرعة فائقة منذ بداية الاحتجاجات إلى مزيج من رجل أمن ومحلل سياسي. إذ استدعت منه الصفة الأولى حمل عصاه لقمع التظاهرات المتنقلة في الأحياء الدمشقية، ومنها حي القابون الذي يقطن فيه منذ عشرات السنين وله أصدقاء وزملاء مدرسة وجيران يعرفهم جميعا ويعرفونه.
وانقلبت تلك العصا مع الأيام إلى مسدس حربي، ثم رشاش آلي، ما أهلّه لاحقاً ليكون قائد مجموعة في مليشيا “الدفاع الوطني”. كثيراً ما أشار أبو غدير إلى أن دوره المفصلي، كان يستحق منصباً أعلى، لولا وجود بعض المحسوبيات التي فرضت أشخاصاً آخرين. لكنه كان يعزي نفسه بالقول، إن أحدا ما لم يكن يستطيع تجاوزه في أمور قطاعه، والجميع يحسبون له حسابا في الأمور المهمة.
صفة المحلل السياسي تجلت بإيمانه الدائم بالنصر على “أدوات المؤامرة الخارجية” من “الإرهابيين والتكفيريين” المحليين والحارجيين. ولم يتزعزع إيمانه حتى في أحلك الظروف التي شهدتها “الدولة”. لا بل على العكس، أحس “أبو غدير: أن الأهمية الكبرى له ولأمثاله كانت في لحظات ضعف “الدولة”، حين استطاعوا سد فراغ انحسارها وضعفها، ليتحولوا بأشخاصهم إلى “جوهر الدولة”، وأدواتها المحلية. لقد أخذوا كل أدوار السلطة، فكانوا الجيش والقانون والتشريع والمالية والجباية. كانوا عنصر التوازن الحقيقي في البيئات التي يسيطرون عليها، كما كانوا عنصر التوازن العسكري على خطوط التماس.
بعد إصابته، وخروجه من المعادلة، انتابت “أبو غدير” مشاعر متناقضة. فهو يظن أحياناً أنه محظوظ لمجرد بقائه على قيد الحياة على عكس جميع عناصر مجموعته الذين لم يبق منهم سوى “أبو حيدرة” الذي تمت مكافأته بالحبس، مؤخراً، على خلفية تحقيقات عن حالات خطف وبيع سلاح. كان يمكن أن ينال “أبو غدير” أحد المصيرين؛ الموت أو السجن، لولا إصابته، ومعرفته بأحد ضباط الأمن الذي ساعده على إزالة إسمه من التحقيقات، لقاء دفعه ملايين الليرات، آخر ما تبقى له من “تحويشة” الحرب والتعفيش.
في المقابل، يشعر “أبو غدير” أنه عديم الحظ. فما إن بدأت موازين القوى تميل لصالح معسكره، وتتسع مناطق السيطرة بما تحوي من غنائم كثيرة، حتى أصيب، ولم ينل منها شيئاً. فيما كسب آخرون، لم يقدموا ربع مجهوده، أموالاً طائلة ستجعلهم بعيدين كل البعد عن حالة العوز والفاقة التي بات يعيش فيها. حالة يشعر معها “أبو غدير” بتعرضه للخيانة والخذلان، ممن حماهم.
خسارته الاقتصادية هي الأقسى. ففي كل مرة تلقى فيها معونة بعد إصابته أو قبض فيها راتباً شهرياً كان يشعر بالذل والمهانة. صحيح انه اشترى بعد الحرب بيتاً في ضاحية الأسد وسيارة لم يكن يحلم بها في السابق مطلقاً، واعتبر ذلك نوعاً من التعويض عن بيته الذي فقده في حي القابون، إلا أنه طيلة فترة الحرب التي خاضها كان يعيش حياة الملوك، فلم يسبق أن دخل إلى البيت خالي الوفاض. كانت الأموال تتدفق عليه بشكل مستمر، وبدت ملامح البحبوحة على كامل أفراد الأسرة، وتغيرت عاداتها الإنفاقية بشكل واضح في طعامها وثيابها، وارتيادها للمطاعم والفنادق التي لم تدخلها من قبل. بدا حينها إنفاق العائلة للمال، كما لو أنه تعويض عن حرمان سابق، أو انتقام من فقر مزمن، في الوقت الذي انحطت فيه أحوال معظم المحيطين به، ومنهم شقيقته التي خسرت زوجها الضابط وابنها، في المعارك. كان “أبو غدير” يقول لنفسه بعد أن يرسل لاخته بعض المال: “على أحد ما في العائلة أن يكون قادراً على سند الآخرين”. لكنه، لم يتوقع أن يصبح واحداً منهم.
لطالما وعد “أبو غدير” زوجته، طيلة الحرب، بأنه سيؤمن لها وللأولاد وضعاً مادياً مقبولاً، حتى لو مات. وفي كل مرة كان يرمي رزم المال أمامها، كان يطلب منها أن تدخر جزءاً منه، ولكنه في المقابل كان يطلب منها ألا تحرم نفسها وأولادها من أي شيء. بعد الإصابة وخسارته لمدخرات التعفيش إلى حدود العدم، وفقدانه ثمن سيارته كرشوة لضابط الأمن، بدأ يتحدث بالتفاصيل الصغيرة، ويحاسب الأسرة على مصروفها الذي أخذ يتآكل كثيراً خلال السنتين الماضيتين، ما دفعه إلى الطلب من زوجته لبيع ذهبها الذي اشترته في الفترة الماضية.
لم يتوقع “أبو غدير” أن تصل به الأحوال إلى هذا الحد المزري، في كل جوانب حياته. حين شكى للطبيب حالة الوهن والتعب وانعدام الرؤية وتشوشها، وحاجته الشديدة للتبول مرات كثيرة، لم يكن لدى الطبيب من شك أنها أعراض السكري. حذره الطبيب من فقدان البصر، ونصحه بالاهتمام بصحته أكثر، والابتعاد عن المؤثرات الانفعالية.
ضحك “أبو غدير” بمرارة وهو ينظر إلى الطبيب، كيف يبتعد عن المؤثرات الانفعالية؟ هو من حمى “الدولة”، ومن أوقفها على قدميها، وحرسها من أعدائها. لقد دفع يده وصحته ثمنا لبقائها، وما هي المكافأة التي تلقاها؟ فشل في تأمين وظيفة لابنته، كما عجز عن تأجيل ابنه المطلوب للعسكرية. كل شيء في الحياة يطحنه ويُظهر عجزه. ويعلن أن تحليله السياسي بحتمية الانتصار كان قاصراً ومشوباً بتشوش الرؤية كما يحدث معه الآن. لم يكن يتوقع أن تتصرف “الدولة” كالعشيقة الخائنة. أحبها وقدم لها كل شيء ولكنها مالت إلى سواه، ولم تكن كل وعودها السابقة أكثر من سراب.
المدن