خيوط العُنف اللامرئية.. مُقاربة سلافوي جيجك/ مجد أبو عامر
تبحثُ غالبية العلوم الاجتماعية والإنسانية مسألة العُنف، سواء فكرته وتعريفه وأشكاله، ووقوفه بين الطبيعة والثقافة، وسوسيولوجيته في سؤال السببية والكيفية، والعلاقات المُختلفة للعنف، مع السلطة، الصراع الطبقي، المقدس، اللغة والرمز، الجندر، الحرب، المسألة الأخلاقية، الإرهاب والتأويل الديني، العولمة، وغيرها. ويتبيّن ذلك في العديد من الأدبيات، أبرزها التعريف الفيبري (نسبةً لماكس فيبر) للدولة. وتختلف منظورات فهم العُنف، الّذي قد يُصوّر إيجابيًا، كما مجّده سارتر في تقديمه لكتاب “معذبو الأرض” لفرانز فانون.
يُعرّف العُنف، أنّه عمليّة قتل حتّى لو لم تُحقق هدفها، كما لا تنحصر في الإزالة المادّية للشخص/المجموعة المُستهدفة، وهو لا يُختزل في الصّراع، بل في كل ما يؤدي إلى نفي الآخر، وله شكل مفتوح/واضح، وآخر خفي/ميكروفيزيائي، أو الّذي يصفه بيير بورديو بأنّه عُنف رمزي، الّذي يكون “لطيف وعذب، وغير مرئي بالنسبة لضحاياه أنفسهم، أي الّذي يُمارس عبر طرائق رمزية خالصة؛ عبر التواصل، وتلقين المعرفة، وعلى وجه الخصوص عبر عملية التعرف والاعتراف، أو على الحدود القصوى للمشاعر والحميميات”.
أمّا في كتابه “العُنف: تأمّلات في وجوهه الستّة” (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات)، فيحاول الفيلسوف السلوفيني سلافوي جيجك، فهم العنف من خلال فتح عتبات أخرى، بالنّظر والتركيز على العنف الموضوعي/النظامي، المُترسّخ في النظام الاجتماعي-الاقتصادي، الذي يربط بينه والعُنف الشّخصي/الذاتي، المُتمثّل في الإجرام والإرهاب، الّذي عادةً ما يتمُّ الانتباه له، والتغاضي عن الأوّل غير المرئي، المُتضمن للعنف الرّمزي، الُمُتجسّد في اللغة والأشكال. وهو لا يدعو إلى مواجهة العنف الموضوعي-المنهجي في العالم، بل التّحلي بشجاعة عدم الفعل: “في بعض الأحيان، يكون عدم فعل أي شيء، هو الشيء الأكثر عنفًا”. وفي دعوته لتحليل العُنف، يُحيّد جيجك العاطفة، حيث يرى أنّ التعاطف الإنساني في الأحداث الطارئة مُفبرك، وفي ذلك يكون التضامن مع موت فرد إعلاميًا، يساوي موت أضعاف في أماكن أخرى أقل أهمّية أو اعتادت الموت، أو كما يقول ستالين: “موت انسان واحد مأساة كبرى، وموت الملايين مجرد إحصائيات”، ويُمكن التدليل هنا على ذلك، بالمقارنة بين حوادث أخيرة، مجزرة نيوزلندا (2019)، اغتيال خاشقجي (2018)، عشرات الآلاف من القتلى في الحرب الأهلية السورية (2011-). لذا فالعمل يكون هنا، بالابتعاد عن صور العُنف، لبحث الأسباب الكامنة وراءه.
الوجه الأوّل: عُنف الشيوعيين الليبراليين المنهجي
يدرس جيجك هُنا العنف الذاتي والموضوعي، بدءًا بالعُنف المنهجي في نظام معيّن، المُمارس من خلال علاقات الهيمنة وصيغ الإكراه. وينتقد في ذلك الموقف الليبرالي، الّذي يصب اهتمامه على العنف الذاتي: المادي المباشر كالإرهاب، والعُنف العقائدي-الأيديولوجي كالعُنصرية، ويستبعد المُقاربات الأخرى. فالشيوعيون الليبراليون -بحسب تعبير جيجك- يرون أنّه لكي تساعد النّاس، عليك أن تأخذَ أولًا، أي أنّهم براغامتيّون، يختارون نماذج مُعيّنة للمشكلات الواجب حلّها، حيثُ يقفُ الاستغلال الاقتصادي، خلف القناع الإنساني، لاكتساب معنى للحياة وإرجاء الأزمة الاقتصادية بإقامة توازن من خلال إعادة توزيع الثروة، ومثال ذلك، تبرعات جورج سوروس وبيل غيتس. وبذلك لا يختلف الشيوعي الليبرالي عن الأصولي الأعمى، كونه يُحارب العنف الذاتي، ويُبقي على أدوات العُنف الهيكلي-البنيوي، الّتي تُنتجه، مثل تفشّي سوء الأوضاع الاقتصادية بسبب المُضاربات المالية. وبذلك يكون سبب الخطأ في النظام، ومصدر العُنف المنهجي، هم الشيوعيون الليبراليون.
الوجه الثّاني: عُنف اللغة
يبحث هذا الفصل الخوف، بوصفه سياسة عند تفعيله استثاريًا، ويتبيّن ذلك في الزينوفوبيا وتيارات مُعادة الهجرة، ووقوفه كحاجز أمام التّسامح الليبرالي في احترام الغيرية والانفتاح على الآخر، بسبب بارانويا التّعرض للمضايقة، أو الاقتراب المُبالغ فيه. أمّا في مقولة الجيرة والجار، فينطلق جيجك من عبارة ويندي براون “العدو شخص لم يسبق أن سمعتَ قصّته”، ويتساءل إن كان بإمكاننا التغافل عن النّزعة الأخلاقية العفوية، عند معرفة العوالم الرومانسية غير العُنفيّة للجاني -أو العكس- أم أنّ الأمر يتطلّب التزييف وإخفاء الواقع: “أنا أعرف، غير أنني لا أريد أن أعرف بأنني أعرف، فلا أعرف إذًا”. وتأتي مسألة الجار في الجدل اليهودي-المسيحي؛ إقصاء أم احتضان كوني، من خلال قراءة فرويد ولاكان لإشكالية الوصية اليهودية-المسيحية “أحبّوا جيرانكم!”. ولأنّ الجار مُتطفّل، واقترابه الزائد يؤدي إلى ردّة فعل عنيفة للتخلُّص منه، فيصبح التعامل مع جرعات الاغتراب كضرورة للتعايش السّلمي. وفي عُنف اللغة/العُنف اللفظي -الّذي يعتبره جيجك ملاذ لكل عُنف بشري- فإنّ طريقة عمل اللغة بوصفها منظومة رموز ومواقف وحمولة ثقافية، فهي ما تُمكّن التواصل والتصالح، أو تؤدّي عند تلوّثها أو بروز هيمنتها، إلى العنف، كوصف الزنوج بالتّخلف جرّاء العُنف المفروض عليهم.
الوجه الثّالث: عُنف اللامساواة
تنطلق مسألة غرائبية التواصل من إشكال العُنف كضرورة للتعبير والحصول على الاعتراف، مثل نموذج اضطرابات فرنسا (2005)، وتماثله مع العُنف الذاتي كالتفجيرات الانتحارية، في عملية الإنتاج المُستمرة للقوى المُحاربة، ومن ثمّ التّصدي لها، لكن مع الاختلاف في وجود سبب، فالهجمات الإرهابية ترتكزُ على خطاب أيديولوجي-ديني. وفي سؤال السخط الإرهابي (العُنف المُدمّر للذات)، فهل تُقرأ الهجمات الإرهابية على أنّها شرٌ، كونها تُمثّل نزعةً أنانية تحتقر الخير العام، أم خيرٌ بوصفها استعداد التّضحية من أجل قضية سامية؟ فيجيب جيجك بما يُمكننا تسميتهُ التّضحية السّلبية، أي الاستعداد “للتعامي عن رخاء المرء الخاص، إذا كنت قادرًا، عبر تضحيتي، على حرمان الآخر من المتعة والسعادة”.
أمّا في بحثِ الفاعل المُفترض أن ينهب ويغتصب، فإنّ الحوادث الطبيعية أو غيرها، يُمكن أن تكشف عن هشاشة النّظام الاجتماعي، الّذي حين تغيب أدوات النظام العام/القانون، ينتُج أشكال مُختلفة من العُنف؛ شغب ونهب، والّتي يتمُّ نَسبها عادةً إلى الطبقة الأدنى في السّلم الاقتصادي -وغالبًا ما يتمُّ ذلك على أساس إثني/عرقي- بوصفهم انكشفوا وهذه حقيقتهم، حتّى لو كان ما سرقوه خبزًا لم يتواجد بائعه. وهنا يُبحَث ما هو أبعد من العنصرية العتيقة، الّتي يُمكن مشاهدتها في الأسوار الّتي يتمُ تشييدها باستمرار حول الاتّحاد الأوروبي، والولايات المُتّحدة والمكسيك، الّتي تُمثّلها تيارات اليمين الشّعبوي. وبالتالي حتّى تَرسخ ثقافة التّعددية، يجب هدم الجدار الاقتصادي-الاجتماعي، أي إزالة الشّرخ الطّبقي، لا هدم جدار وزارة الهجرة.
الوجه الرّابع: العُنف الديني-الإلحادي
مُرتكزًا على فكرة كانط “تناقضات العقل المحض”، يستعرض جيجك تناقضًا مُماثلًا للعقل المُتسامح، ويُدلل عليه من خلال التناولات/التوظيفات المُختلفة للهولوكوست، أو رؤية الليبرالي الغربي لردّة فعل المسلمين، التي كانت على صورة الموقف الغربي له، أكثر مما هي على الرسوم الكاريكاتورية المُسيئة للنبي مُحمد (خريف 2005)، فالجدليّة هُنا، أو تناقض ذاتي، فهل هذه الرسومات تندرج بوجود حرّية تعبير ووجود مجتمع مدني مُستقل عن إرادة الحكومة، أم تعكس عدم احترام الشعوب الأخرى ودياناتها؟ وفي ذلك أيضًا، هل يُمكن الفصل في إشكال العُنف التأسيسي اللاشرعي لإسرائيل، بين تحقيق المشروع الثوري للدولة الصهيونية، وظلها المستعمر الاستيطاني؟ وبالتالي فزيادة الحساسية تجاه العُنف، هو كونُ النظام العالمي يكتسب الشّرعية من تمسّكه بالأخلاق العالمية.
وفي سَبرهِ للدين المجهول للإلحاد، يتساءل جيجك عن العُنف ذي الخلفية الدينية، هل نُلقي اللوم على العُنف ذاته، أم المُحرّض عليه؟ ويرى في ذلك، أنّ نزعة المُسالمة إلحادية، في حين شرعنة المذابح الجماعية تأتي من مُنطلقات دينية، بسبب حقبة ما بعد الأيديولوجيا. على عكس الطَرح الدوستويفسكي في التحذير من العدمية الأخلاقية المُلحدة، الّذي يُمكن نمذجته في الشيوعيون الستالينيون. وللتخّلص من هذه المُعضلة، فالتعامل يجب أن يكون وفق معادلة الخير من أجل الخير، وكذلك تفكيك العُنف دون توجيه الإدانة إلى مُعتقدٍ ما.
الوجه الخامس: عُنف الكونية
يطرح جيجك تساؤلًا هُنا، إن كانت المُشكلة تكمن أساسًا في التّعصب وعدم التسامح، أم في انعدام المساواة والظلم، والّذي يجري تطبيعه بإلباسه ثوبًا ثقافيًا، لُتصبح خلافات حضارية، كطرح هنتغتون “صدام الحضارات”، ونقيضه الفوكويامي، الّذي يجعل الفرد كونيًا، والثقافة جماعية خاصة إقصائية بالنسبة للثقافات الأخرى، وفي ذلك ما تفعله الكونية الليبرالية، بمنح الامتياز الثقافي للثقافة الرأسمالية الغربية، دون غيرها، الأمر الّذي يؤدي إلى إنتاج العُنف، بسبب الاضطراب العنيف للتوازن الطبيعي. وللخروج من هذا المأزق، يُمكن الاسترشاد بطرح الفيلسوف الفرنسي آلان باديو، بـ”خروج الكونية الشاملة من رحم عالم الحياة الخاص”. ويبرُز هنا الصّراع بين الثقافة الخاصة والكونية، فاحتجاجات النساء على إجبارهن للخضوع للختان، يكون على الثقافة المحلّية، من منطلف كوني شامل، وعندما تتضامن الحركات النضالية، لا يعني ذلك تكاتف الثقافات، إنما الفئات المُضطهدة تحت شعار النضال المشترك. ويُمكن الخروج بالاختزال من قول جيجك: “من السهل جعل مفهوم التسامح إشكاليًا، وجعل العنف الذي يديمه واضحًا ملموسًا. فهو، ليس كونيًا شاملًا بالفعل، وليس فظًا عديم الثقافة”، وأيضًا أنّ الصدام ليس بين حضارات، بل بين “بربريات كامنة في الأعماق”.
الوجه السادس: العنف السماوي
يتناول جيجك العُنف السّماوي/الإلهي بوصفه غطاء/معنى عميق، لما يقعُ من عنف وكوارث تاريخية، بالادّعاء الّذي يضمره الكثيرون بأنّ حماية الرّب هي من تمنع العُنف، والغضب الإلهي، هو ما يُسبّب أي كارثة، أي يُترجم بأنّه المرآة للشعار اللاتيني القديم “صوت الشّعب هو صوت الرّب” فيكون بذلك عُنفًا لا قُربانيًا ولا تكفيريًا، فضحايا العُنف السّماوي ليسوا أضاحي/قرابين للرب، بل مذنبون. والعُنف السماوي هنا، لا يُقصد به ذاك العُنف الإرهابي المُرتكب من قبل الأصوليون الدينيون، الّذي يعتقدون أنّهم أدوات المشيئة الإلهية. ويتمايز العُنف الأسطوري، عن السَّماوي، أنّه ينتمي إلى نظام الوجود (Being)، على خلاف الآخر المُنتمي لنظام الحادث (Event)، فالعُنف الأسطوري “وسيلة لاستحداث سيادة القانون (النظام الاجتماعي الحقوقي)، في حين لا يتولى عُنف السّماء خدمة أي وسيلة، بما في ذلك حتّى مُعاقبة الجُناة وصولًا إلى استعادة ميزان العدل”.
ومن هذه الوجوه السّتة، يستنتج جيجك أنّ العملية الأيديولوجية في إدانة العُنف ومعاقبة مُرتكبيه بوصفه شر، يحجب الأشكال الأساسية للعنف الاجتماعي، وكذلك فإنّ المُرتكب الحقيقي للعنف، لا يُقدم على فعل عُنفي يُزعزع العُنف الركيزي للحياة الاجتماعية، فتنتُج العلاقة بين العُنف الذاتي ونظيره النظامي/المنهجي، أنّ العُنف ليس فعلًا استقلاليًا، بل “موزّع بين الأفعال وسياقاتها، بين النشاط وعدم النشاط، وبين الحركة والجمود”، ويختم كتابه بالفكرة الافتتاحية: “إن عدم القيام بأي تحرّك يكون أحيانًا، أقوى التحركات الّتي يُمكن القيام بها”.
وقد تعرضت أطروحة جيجك للكثير من النقد الموضوعي والمنهجي، منها نقد هاري ليندن، الّذي اعتبر جيجك داعيًا للعُنف الثوري، كعلاج بالصدمة لعطل الهياكل الاجتماعية، وبالتالي إنتاجه للمزيد من العُنف بدلًا من استئصاله، ويشابهه إلى حدٍ ما، نقد جو فوليبريغت، رغم أنّه حسب قراءتنا لجيجك لا نراه يفعل ذلك، فهو لم يسعَ إلى أي تغيير، وكان واضحًا منذ البداية أنّه يبحث ويصف سبب الأزمة، ويدعونا إلى اللافعل. وعلى الرّغم من هذه القراءات النقدية، الّتي قد تكشف عن خلل أو قصور ما، إلا أنّ أطروحة “العنف: تأملات في وجوهه الستة”، نجحت في سبرِ مكنونات العُنف النظامي، المُنتج للعنف الذاتي، والّذي يُمكن اعتباره بحثًا في الجذور، الكاشفة للخل في بنيوية النظام الاجتماعي-الاقتصادي.
الترا صوت