الهويّات القاتلة والانتماء الإنساني/ محمد جمال طحان
يرى أمين معلوف في كتابه ” الهويّات القاتلة” أن الهوية لا تُعطى للفرد مرة واحدة وإلى الأبد، بل تتشكل من عدة انتماءات تتبدل ويختلف تراتب عناصرها طوال حياته. وهي قابلة للتغير والتَّبدّل بحسب تأثير المحيط. وأكثر ما يعرّض الهوية للخطر هو الإهانة أو السخرية أو التهميش أو القمع.
ويشرح كيف من الممكن أن تتحول الهوية إلى “أداة حرب” فيشكل الناس مواجهة للطرف الآخر لتأكيد هويتهم، وهذا ما يمكن أن ندعوه “الهويات القاتلة”. فالمفهوم الذي يفضحه، والذي يختزل الهوية إلى انتماء واحد، يضع الرجال في موقف متحيز ومذهبي ومتعصب ومتسلط، وأحياناً انتحاري، ويحوّلهم، في أغلب الأحيان، إلى قتلة أو إلى أنصار للقتلة. إن رؤيتهم للعالم مواربة ومشوهة، فالذين ينتمون إلى جماعتنا ذاتها هم أهلنا الذين نتضامن مع مصيرهم، ولكننا لا نسمح لأنفسنا في الوقت ذاته بأن نكون طغاة تجاههم، وإذا بدوا لنا فاترين نتنكر لهم ونرهبهم ونعاقبهم بوصفهم خونة ومارقين.
أما بالنسبة للآخرين، الموجودين على الضفة الأخرى، فلا نسعى أبدا لأن نضع أنفسنا مكانهم، نمتنع عن التساؤل عما إذا كانوا غير مخطئين تماماً حول هذه المسألة أو تلك، ولا نسمح لأنفسنا أن تهدأ بشكاواهم وآلامهم والمظالم التي كانوا ضحيتها. ما يهم هو وجهة نظر جماعتنا فقط، التي غالبا ما تكون وجهة نظر أكثر الناس تشدداً في الجماعة وأكثرهم ديماغوجية وسخطاً.
ويرى “معلوف” أن الدراسات والآراء التي تتحدث عن مدى تأثير الأديان والعقائد على الأفراد والشعوب، ما هي إلا دراسات تقود إلى نظرة أحادية للواقع، مما يؤدي إلى تشويهه وإلى ضبابية النتائج التي قد تنتج عن تلك الدراسات. ويبحث “معلوف” مدى تأثير الشعوب والتاريخ على الأديان والعقائد، إذ يرى أن جميع الأديان والعقائد قادرة على استيعاب متطلبات عصرها والتّطور، ويُورِد العديد من الأمثلة التاريخية على هذا التأثير، إذ يرى أن كل عقيدة أو ديانة في كل عصر تحمل بصمات عصرها وزمانها ومكانها.
وعندما تحمل الحداثة علامة “الآخر” لا يكون مفاجئاً أن نرى بعض الأشخاص يرفعون شعارات السلفية من أجل تأكيد اختلافهم، وهذا ما نشاهده اليوم عند بعض المسلمين من الرجال والنساء، لكن هذه الظاهرة ليست وقفاً على ثقافة أو ديانة.
يقول: “إن النظر إلى الإسلام السياسي المعادي للحداثة والغرب بوصفه تعبيراً عفوياً وطبيعياً عن الشعوب العربية هو اختصار متسرع على الأقل.”
ويتساءل معلوف عن الأسباب التي أدت بالمجتمعات، على اختلاف أصولها في شتى أنحاء العالم، إلى تنامي الانتماء الديني لديهم وتأكيده بطرق مختلفة في هذه المرحلة، في حين تراجع هذا الانتماء فيما سبق. ويُرجع معلوف ذلك إلى أسباب عدة، منها: تراجع العالم الشيوعي ثم انهياره، الأزمة التي تصيب الأنموذج العربي، والمآزق التي تواجه مجتمعات العالم الثالث. كما يُؤكِّد على تنامي مختلف مجالات الاتصالات و” ما اتفق على تسميته بالعولمة”، إذ إن المعارف تتقدم بصورة سريعة جداً، ويواكب هذا التقدم انتشار لهذه المعارف مما يجعل المجتمعات الإنسانية أقل تمايزاً، مما يدفع بالبعض أن يدافع عن عناصر هويته الأهم برأيه مثل اللغة والدين، كردّ فعل، ليؤكّد على اختلافه عن الآخرين، ويدافع عن هذا الاختلاف. ومن هنا يعلِّل معلوف تسمية “زمن القبائل الكوكبية”، إذ يرى أن تجمعات المؤمنين في مضمون هويتها أشبه (بالقبائل)، وفي سرعة انتشار أفكارها (بالكوكبية).
يقول معلوف في كتابه: ” لا أحلم بعالم لا مكان للدين فيه، وإنما بعالم تنفصل فيه الحاجة إلى الروحانية عن الحاجة إلى الانتماء. بعالم لا يستشعر فيه الإنسان، مع بقائه متعلقاً بمعتقداته وعبادته وقيمه الأخلاقية المستلهمة من كتاب مقدس، بالحاجة إلى الانضمام إلى إخوته في الدين. بعالم لا يستخدم فيه الدين وشيجة بين إثنيات متحاربة. وإذا كنا نريد حقا تجنب أن يستمر هذا الخليط بتغذية التعصب، والرعب، والحروب الإثنية، يجب التمكن من إشباع الهوية بطريقة أخرى”.
ويرى أن ترويض رغبة الهوية يجب أن لا يعالج بالاضطهاد والتواطؤ، والممارسات التمييزية تُعَد خطيرة وإن كانت تمارس لصالح جماعة عانت من الاضطهاد بسبب هويتها، لما في ذلك من استبدال ظلم بظلم آخر، ولما للأمر من تأثيرات سلبية تحفيزية للكراهية والتطرف، ورأى أن كل مواطن يجب أن يُعامل بوصفه مواطناً كامل الحقوق مهما كانت انتماءاته مختلفة عن سواه.
يطرح “أمين معلوف” مشكلة الهوية انطلاقاً من التجربة الفردية فهو لبناني عاش في فرنسا، وهذا يجعله ينكر الانتماء المكتسب بالولادة وغير القابل للتبديل. كثير من الناس، في العالم المعاصر، صارت هوياتهم مركبة.
إن معظم الناس اليوم في دول عديدة مضطرين إلى الاختيار بين التأقلم أو العودة إلى ” العشيرة ” بحكم الرواسب الفكرية، والدفاع عن مُخْتَزِلِي الهوية ببعد واحد مؤثّر.
اللغة أهم مكونات الهوية دخلت في صراع ( وأحيانا في تحالف ) مع الدين كمكون هوياتي أيضاً، لكن أيا منهما لم ينجح في تجنيب البشر الحرب، فالناطقون باللغة ذاتها تحاربوا بسبب الاختلاف الديني ( البوسنة ) والمتماثلون في الدين تحاربوا بسبب اختلاف اللغة ( العرب والترك والأكراد). وكل الشواهد تؤكد أنه من المستحيل فصل اللغة عن المكون الهوياتي ” فاللغة يجب أن تبقى عماد الهوية الثقافية، والتنوع الثقافي عماد كل تنوع بالمطلق “.
اللغة حاجة انتمائية، وقطع صلة الرحم بينها وبين إنسانها يولد اضطراباً عاماً في الشخصية، وكمبدأ عام يجب الحفاظ على كرامة كل اللغات، وهي أهم من حرية المعتقد، لأن الأخير قد يتضمن نزعات معادية للحرية.
إن الهوية معقدة وفريدة ومتحولة معاً، فهي متعددة، والإنسان يعيشها بكليتها، فالإنسان ليس مجموعة “رقع” بل نسيج متكامل.
إن معظم الناس المعاصرين هم مهاجرون، إما بسبب ترك الموطن الأصلي، أو نتيجة تبدّل صورة الموطن الأصلي والتغيّر السريع الذي جعل الغالبية ضحية مفهوم ” الهوية / العشيرة ” تحت ضغط عاطفة الحنين. وتُشكل الانتماءات الطبيعية ( الاسم أو لون البشرة مثلا ) سبباً في التمايز والإحباط، ودافعاً إلى التحدي، بحيث يظهر المهاجر متمسّكاً بمكوّن هويته المبدئي، ويتوهّم أن البلد المضيف صفحة بيضاء يكتب فيها ما يشاء دون تغيير في سلوكه، والمقيم الأصلي يعتبر هوية موطنه صفحة كُتبت وانتهت، وعلى المهاجر الامتثال لها.
حلّاً لتلك المعضلة يلجأ كثيرون إلى الحل التلفيقي العاطفي من خلال مقولة أن البلد المضيف صفحة مكتوبة ولكن ليست منتهية، فيبدأ البحث عن المشتركات وينسى المكونات الهوياتية فيغفل دور المكون الثقافي في بلدان المصدر المغايرة دينياً وقيمياً. كما يُسقط كليا الدور التخريبي الذي تمارسه حكومات الدول المتشددة، بالإصرار على إبقاء المهاجرين جاليات تابعة لها وليسوا مواطنين في الأوطان الجديدة، فيتم تخزينهم لاستخدامهم أدوات ضغط وأحيانا أسلحة تهديد وقنابل موقوتة.
إنّ المسلّمة الأولى التي تستند إليها العالمية ( الانتماء الإنساني ) التي يطرحها هي مسلمة حقوق الإنسان التي يجب أن تكون للإنسان، وليس للإنسان المسلم أو المسيحي أو غيره ” لأن البشرية واحدة بالرغم من تعددها ” فالعولمة والتطور التقني مكَّن البشر من تبادل كل شيء وعرض خصوصيات الشعوب وثقافاتها في كل مكان، لكن هذا، وإن كان يولد تفاؤلاً، لكنه أيضاً يثير ريبة عند كثيرين.
ويكمن الحل في ” التبادلية ” التي تجعل كل إنسان يشعر بوجوده داخل العولمة ” فكل منا يجب أن يعتمد اليوم عناصر متعددة وافدة من الثقافات الأكثر تفوقاً على أن يستطيع التحقق كذلك من اعتماد بعض ثقافته الخاصة “
فهذا العالم ليس ” ملك الآخرين ” بل ملك لمن يحجز مكاناً فيه، والشعور بالانتهاك موجود حتى عند أولئك الذين نظنهم في أعلى السلّم ( الفرنسيون مثلا الذين يشعرون بالسخط من انتشار الإنكليزية على حساب لغتهم ) أو حتى المجتمع الأمريكي المتهم بأنه مهيمن.
والمسألة ليست في تجميد مجتمع عند لحظة وتقديسها، بل في الحفاظ على التراث البشري في تنوّعه.
ويرى معلوف أن كل شخص يجب أن يصل إلى قدر من التماهي مع البلد الذي يحيا فيه ومع العالم المعاصر، وهذا يستوجب تغييراً في السلوك على المستوى الفردي والجماعي. والهوية، في المحصّلة، هي حصيلة انتماء متعدد ومتنوع وليست نتاج مكون أحادي. كما يجب على المجتمعات بذل المزيد من الجهد لإبراز التنوع الذي صاغ الهوية .
وفي خاتمة بحث “الهويات القاتلة” يتمنى معلوف أن نصل إلى عصر لا نكون فيه بحاجة إلى تأكيد الانتماء، وإلى تلك الهويات القاتلة.
تلفزيون سوريا