طيات الاستشراق بين إدوارد سعيد ووائل حلاق/ بشر سليمه
كان وما يزال كتاب الاستشراق للأكاديمي والناقد إدوارد سعيد من أبرز المشروعات الثقافية التي مرت على جنبات الفكر العربي والعالمي معا.
فقد بقي على مدى تجاوز العقود الثلاثة محتفظا بأهميته، ومصدرا لمعرفة تأسيسية للمفاهيم الغربية للشرق وتأسيسية ظاهرة الاستشراق في أسبابها، وتحولاتها، وتجلياتها، ووظيفتها الثقافية والسياسية، لقد تلخَّص مشروع سعيد في بناء فكري ثلاثي المفهوم بدءا من افتراض تناقض جذري بين الشرق والغرب يصاغ في ثنائيات من اللاعقلانية والبدائية، يليها اللاأخلاقية التي يوسم بها الشرق مقابل العقلانية، ثم التقدم والفضيلة الغربية.
ولا بدّ من الإشارة إلى أن الاستشراق عند سعيد هو أيضا مرَّ عبر بناء ثلاثي بدأه عام 1978 بكتاب الاستشراق، ليتبعه بكتاب القضية الفلسطينية عام 1979 ثم ينهيه بكتاب تغطية الإسلام عام 1981.
كثيرة هي الكتب التي نُشِرَت في نقد الاستشراق لعل أبرزها قدمه إعجاز أحمد وصادق جلال العظم. إلا أن القارئ والباحث والمتابع للاستشراق كان ينتظر في الآونة الأخيرة كتاب وائل حلاق الأخير والذي تم نقله إلى العربية بعنوان قصور الاستشراق. فإدوارد سعيد كان ناقدا أدبيا، فجعل يدلو بدلو ما قدمه أهم الأدباء الغربيين مثل فلوبير، جوزف كونراد، بيير لواس. أما وائل حلاق فهو باحث وناقد تاريخي متخصص في تاريخ الفكر الإسلامي، كان في كتابَيه السابقَين: الشريعة، والدولة المستحيلة موضع اهتمام ودراسات مطولة ومهمة، ساعدت في تشكل الرغبة الملحّة للجمهور لمعرفة ماهيّة كتابه النقدي ذي الصبغة التاريخية للاستشراق بشكل عام ولنقده مشروع إدوارد سعيد الاستشراقي بشكل خاص. هل يعني هذا أن الاستشراق في فكر سعيد لم يأتِ فيه أي بُعدٍ نقدي تاريخي؟!!..بالتأكيد لا، بل باختصار، يعتبر حلاق أن سعيدا لم يكن موفقا في هذا. فمثلا، سحب سعيد خيط امتدادات الاستشراق عبر خط زمني بدءا باليونانيين حتى تاريخ كتابته للكتاب أي فترة الإمبريالية الأميركية، وفي هذا إشكالية في مفهوم سعيد لجوهر الغرب الذي اعتبره ثابتا لا يتغير حسب توقيت وتاريخ تلك المرحلة المحددة. يتابع حلاق النقد جغرافيّاً ليجعلنا نجد ببساطة أن اليونان وما أدخله سعيد في كتابه عنهم مثل تحليله لنتاجات عديدة مثل الكوميديا الإلهية والتراجيديا في تلك الحقبة، لا يمكن إدخالها إطلاقا مع ما شمله سعيد في المرحلة تلك، فلا اليونان كانت تقع ضمن أوروبا ولا ما تبع مرحلتهم يقع على مفاهيم غيرهم موقع مفاهيمهم ذاتها. طبعا لا بد من الإشارة هنا تحديدا إلى كتاب مارتن برنال المثير للجدل أثينا السوداء لننظر أولا إلى بقعة اليونان وتنوعات دورها الخاص ثم إلى المفهوم المرفوض لدى حلاق وهو مفهوم الجوهر الواحد لدى سعيد أي وضع شعوب مختلفة في عصور مختلفة في قالب واحد والذي كان في مشروعه النظرة للآخر أو تشويه صورة الشرقي.
وفي معرض انتقادات حلاق لسعيد، فنجده في كتابه يشدد على عدم فهم سعيد لمفهوم المؤلف عند فوكو، الأمر الذي أودى بسعيد إلى صبغهِ المؤلفين بصِبغة واحدة بما فيهم من كان محطّ إطراء ضخم عنده مثل لويس ماسينيون.
ظلّ نقد الحداثة في أعلى سلّم الأولويات في مشروع حلاق الثقافي، فهو هدف كتابه الرائع الدولة المستحيلة حسب تأكيده في أحد اللقاءات الصحفية، وكذلك هو العنوان الفرعي لكتابه الحالي قصور الاستشراق: “منهج في نقد العلم الحداثي”.
في كتاب الدولة المستحيلة يصرح حلاق أن الدولة الغربية الليبرالية ما هي إلا أداة قمع وتشويه وتخريب لمجتمعات العالم الثالث التي استعمرها الغرب، وكيف كان مفهوم الدولة كارثة عليها مع نقد تاريخي منهجي لتطور مفهوم الدولة بالغرب. أما في قصور الاستشراق فيصب اهتمامه على الكولونيالية، النموذج المعرفي الغربي، الفرد العلماني الليبرالي، وذلك من خلال إيضاح العلاقات
الدنيوية بينها دونما أي فصل لهم ثم إسقاط كل ذلك على الدراسة النقدية لمشروع سعيد الاستشرافي. فإن رؤية العربي أن الاستشراق هو تلك الصورة النمطية السلبية التي شكلها الغرب عن الشرق وتراثهم إنما هو تجلِّ لطرح سعيد للاستشراق، وهو ما يعتبره حلاق أنه تشوّه فكري في مستوى الخطاب المعرفي. فيرى حلاق أن الاستشراق يعبر بشكل صارخ عن تجليات المعرفة الحداثية الغربية في فهم الحضارات والمجتمعات، ويجب على الشرقي التفكر مليّاً حول علاقة الاستشراق بالكولونيالية، تأثيرات الحداثة على الشرق، وإسهام الاستشراق في ترسيخ الاختراق الكولونيالي للشرق.
وللتحيزات عند سعيد طغيان بادٍ واضح حسب رأي حلاق، لذلك يلجأ هو لدراسة الاستشراق من خلال خطاب علمي موضوعي لا بناء أيديولوجي، وذلك لتجنّب الإثقال بالتحيّزات. وحينما يريد حلاق الدراسة هذه كما يجب فإنه يتبنى استشراقا موضوعيا بعيدا عن الازدراء يدين الكولونيالية ويعترف بروحانية الشرق.
يركز حلاق كثيرا على أمور لم يلتفت إليها سعيد وكانت على درجة من الأهمية مثل علاقة الاستشراق بالظاهرة العلمانية، وعلاقة الاستشراق بالإبادة، ويعتبر أن سعيدا جعل يدور حول إدانات سياسية للاستشراق لم تؤدِّ إلى فهم الاستشراق بل إلى تسطيح الوعي بالخطاب الاستشراقي، ومردّ ذلك إلى تبنّي سعيد النزعة الإنسانوية العلمانية secular humanism.
يعتبر حلاق أن النقد السياسي الصحيح للاستشراق يجب أن يبدأ بالأسس التي خلقت أي تصور له، وهي الليبرالية، العلمانية، الرأسمالية، والدولة الحديثة إذ إنها ظواهر متداخلة.
إن نقد الذات الحداثية الغربية ضرورية عند حلاق لأنها منتجة للخطاب، وعليه يجب دراسة البنية المعرفية التي ولّت ذلك الخطاب، فهور يرى أن سعيدا قد تغافل عن المنظومة الخطابية بشكل عام وفصل الاستشراق عن ظواهر معرفية شتى ارتبطت به، واكتفى بإرجاع الأمر إلى نتاج المؤلفين فحسب. أما حلاق فربط بين المؤلف، الخطاب، النموذج المعرفي، الباراديم.
يلاحظ قارئ كتاب قصور الاستشراق إبراز حلاق لأهمية الفيلسوف الفرنسي ريني غينون في الفصل الثالث بشدة في أثر ما طرح على الاستشراق ويبرز أيضا غياب غينون ولو بإشارة سريعة في كتاب إدوار سعيد، فغينون مستشرق كلاسيكي له تأثير كبير على كثير من الباحثين الذين قضوا عمرا في بحث الاستشراق، ولهذا وقع خاص لقوة أفكاره وأهميتها بالنسبة للحداثة والاستشراق، مبينا أن غينون قد بدأ بكتابة أهم ما طُرح عن الاستشراق قبل نصف قرن مما كتبه سعيد وبدأ به وانتهى إلى من انتهى إليه سعيد. أيضا من الجدير بالذكر أن غينون قد رفض بشدة البنى الأوروبية المادية والعلمية والفلسفية والسياسية بكاملها، وترك فرنسا ليستقر في القاهرة مكوّنا أسرة مع زوج مصرية، وينضم إلى طريقة صوفية. يمنع كل هذا انطباق تحليل كاراتاني عن المستشرق الذواقة أو تحليل إدوارد سعيد لماسنيون وأشباهه على حالة غينون.
ويؤكد حلاق بأنه فيما لو اطلع سعيد على أعمال غينون لَغيَّر من نظرته للمستشرقين والتي كما ذكر حلاق عن سعيد أنه صبغهم جميعا بصبغة واحدة. يعيدنا هذا الأمر إلى ما أدرجه حلاق ضمن مآخذه على سعيد في بداية كتابه وهو عدم اطلاع سعيد على نتاج المستشرقين الألمان، فالمستشرقون الألمان كانت دراساتهم أقل حدية، فلم يقوموا باستخدام المعرفة لتحويلها إلى استعمار بل مجرد رغبة في معرفة الآخر. أيضا ضمن الإدراجات النقدية الأخرى كان لحلاق تركيز على تجاهل سعيد لكتابات مستشرقين ألمان كثر.
واطلاع حلاق على مختلف دراسات الاستشراق واضح تماما في كتابه، حتى إننا نجده في الفصل الخامس يشير إلى المزرحنوت Mizrahanut وهو حقل الاستشراق الإسرائيلي كامتداد للاستشراق الغربي ومسهم فيه.
يضيف حلاق أيضا معضلة تبنّي كتاب سعيد لنظرية الحتمية الفوكوية التي لا تأخذ بعين الاعتبار الفردانية التأليفيةauthorial individuality والإسهام الفردانية individualistic contribution.
رغم تشديد حلاق في المقدمة على أن كتابه هذا لا يمكن فهمه إلا عبر فهم كتابَيه السابقين، فإنه يعود وفي أهم فصول الكتاب وهو الفصل الخامس والأخير مطالباً القرّاء بالعودة إلى كتابه الدولة المستحيلة لمراجعة بعض السبل التي يمكن من خلالها لمجموعة من الآخر الإنساني البدء في نقد بنّاء للحداثة.
لا يخفى على القارئ لكتاب إدوارد سعيد تبيانه لتاريخانيّة الاستشراق فيحددها في أواخر القرن الثامن عشر، وأوائل القرن التاسع عشر، حيث شهدت تلك المرحلة تزايد عدد أساتذة الدراسات الشرقية، وتأسيس جمعيات علمية مختلفة في أوروبا تعالج الشرق وتدرسه، إلا أن سعيداً في انتقاله لما بعد تلك المرحلة أي عشرينيات القرن الماضي، حتى إعلان مؤتمر باندونج عام 1955 م لاحظ أن الاستشراق قد وقع في أزمة، فقد كان الشرق بأكمله قد استطاع الحصول على استقلاله السياسي عن الإمبراطوريات الغربية، وبدأ يجابه تجسيدا آخر للقوى الإمبريالية متمثلا في الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، ليجد الاستشراق نفسه عاجزا عن تميز شرقه في العالم الثالث الجديد مواجها شرقا جديدا مسلحا سياسيا، أما حلاق وعن تلك المرحلة الأخيرة وما تلاها بعشرات السنوات -بعد صدور كتاب سعيد-، فقد ألقى الضوء على بزوغ مرحلة جديدة من الاستشراق أقبلت بحلول منتصف القرن العشرين رافقها حصول معظم دول العالم على ما يسمى الاستقلال، وقد كانت هذه المرحلة
بعد نهاية الحرب العالمية الثانية وانتهت في ثمانينيات القرن العشرين. نقلت هذه المرحلة حصر مفهوم الكولونيالية المباشرة بهدف الدمج في الحضارة إلى ما سمّاه تعديل المسارات التي يُنظر بها الآن إلى الشرق، فقبل ذلك أي في القرنين التاسع عشر والعشرين كنا لا نرى سوى مرحلة من الهيمنة تتجلى في شكل العولمة، وفي هذا استمرار للاتجاه الذي يركز على القوة السيادية.
وفي تلك المرحلة الجديدة يؤكد حلاق وجود تنوع غير مسبوق اكتسبه الاستشراق عبر سرديات أصلية وفرعية مثيرة للخلاف بين المفكر المعارض والمفكر الهدام، ومن ثم يحيلنا حلاق إلى مرحلة أخرى مهمة لنقد أزمات الحداثة الحالية معتمدا على فلسفة كل من شيلر وغينون وهي تحقيق هدف أي دراسة منشودة عبر الارتباط بالنقد الذاتي بصورة شبه حصرية، وبالتالي ينبغي على الاستشراق أن يضع المفعول مكان الفاعل وهذا بمثابة فيلولوجيا جديدة تتموضع حول ما يمكن أن نسميه التاريخانية التوجيهية.
تلفزيون سوريا