خوذات كالقدور هويّات كالبسكويت/ أحمد عمر
استوقفنا كمين لم نره أمس. ظنّنا أنَّ الكمين حاجز طيّار، لكنه حطَّ على الأرض ليبني عشّه بذلك البيض الحديدي على الرؤوس. أزياءُ أنفارها مدنية، وهم مدرّعون بسيور متصالبة لها جيوب للذخائر وجعب للعتاد، رؤوسهم غائبة تحت مغافر الحديد إلى الأذقان فهم مقمحون، تبرق تحت الشمس فينزلق الشعاع ويسيل مثل الدبق ويغشي الأبصار، كانوا يحفرون خندقاً بمعاول، ويملؤون بعض الأكياس برمل الخندق، بينهم رجل يأكل جاثياً تحت قلنسوة الحديد، وآخر يأكل بيد ويحمل بالأخرى مدفعاً على كتفه ويفتش بين الأعشاب اليابسة عن شيء ضائع. رفع الجاثي رأسه وضبطني أنظر إليه، فخلع قلبي بنظرته وهو يمسكني بالجرم المشهود، فزغت ببصري إلى سراب الأمل في أخدود الأفق البعيد الذي انقلب يأساً، رفعت بصري إلى شمس تزّاور عن باصنا، وتبحث عن خوذة، كانت هي الأخرى مذعورة. لوِ اطَّلعت علينا لوليت مِنّا فرارا ولَمُلِئت منّا رعبا.
انبثق الكمين فجأة في العراء الصلب مثل نبتة صبّار سامة، مدرعةٌ واقفة، وشاخصةٌ معدنية عليها صورة الرئيس مطبوعة على العلم أو أنّ العلم كان مطبوعاً على صورة الرئيس، ورجل تحت قبة خوذته يكتب على جدار المدرّعة بصباغ أسود الوعيد شعار الإبادة، وجثة كلب مقتول عليه دماء بالوصيد. سائق باصنا محارب قديم، صمته يمدُّ الركاب بشعاع شحيح غارب من الأمل، كنا نلوذ بلقبه القديم وحكمته، ولوحة الباص الحكومية، آية قرآنية مهيبة في صدر الباص بخط الثلث الجليل “وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ”. تمنيت لو استطعت رؤية نبضات قلوبنا نحن الركاب على جهاز القلب، أظن أن جبال النبضات كانت قد سحقت إلى سلك شائك. الباص قديم، من حقبة مضت لكنه عاش بفضل حنكة الحدادين وأطباء الآلات، فالصحن روسي والقلب أمريكي وبه عشرات الأجهزة الإيطالية القديمة، مثله مثل عقيدة الدولة المظفرة. تحوّل الباص بالحاجز الكمين إلى زنزانة لها نوافذ زجاجية ملطخة بالطين اليابس حتى غدا صلصالاً كالفخار تحت الشمس، كان الدخان الخارج من أنبوب مدخنة الباص العمودي علامة على حريق عتيق في صدر المركبة الهجناء، مصحوباً بقبعٍ مثل قُباع الخنزير من قلب المعدن.
كل جيوش العالم تخدم شعوبها في الأزمات الطبيعية والحربية. جعل الجيش الياباني من أجساد جنده جسراً لعبور الشعب فوق الأقنية والوحول إبّان الزلزال الأخير. كنا قد تجاوزنا ثلاثة كمائن، فتح نفر من أنفار الكمين الأول باب الباص وخطب خطبة قصيرة من الشتائم المحكمة، فلم نسمع لأحد همساً أو رِكزا، ونجحنا في الاختبار وأغلق الباب. الكمين الثاني كان من الجيش النظامي، قال إن مهمتهم هي حمايتنا، فانتشرت أرواحنا لوهلة مثل ذيل طاووس ميت، وهذا هو الامتحان الثالث. كانت أرواحنا المعدن تتمدد بحرارة الأمل وتتقلص ببرودة الخوف.
كان طعام النفر المسلّح رغيف خبز مبسوط وفيه جبلة لعلها الحلاوة أو معجون الحمّص، فهو ينتزع من أطراف الرغيف لقيماته ويأكل، أشفقت عليه، الحراسة ليست عملاً سهلاً على القاتل الصوص وهو يحمل كل هذا العتاد والذخيرة ومختبئ في بيضة الحديد، طال انتظار الباص إلى أن صعد أحد المخوّذين، كانت عيناه غائبتين تحت القدر الحديدية، فلا تريان إلا ما يقع تحتهما وتشعران الناظر بالضيق، فالعيون مغرفة الكلام، وبدأ مهمته المنتظرة الخالدة وهي فحص الزمر الدموية للهويات، مدَّ يده للسائق من غير كلمة، كأنه رجل آلي، فناوله السائق هويته التي كان قد جهزها أمامه كأنه رجل آلي أيضاً، قلت لنفسي لو نصير مثل السيارات بلوحات خلفية وأمامية، النساء يعرِّفهن الحجاب والسفور؛ تقدميات لائقات بالوطن أو رجعيات للاعتقال أو الاغتصاب، فهنَّ بسكويتات أسهل كسراً وأزكى طعاماً، وحظُّ الرجال أفضل من حظِّ النساء. قلّب صاحب الخوذة العميقة الهوّة الهويّة البسكويت، وقرأ العلامات، وشمَّ الحروف، وبحث فيها عن السكر والملح، وأعادها إليه، فاستبشرنا خيراً، وطفونا وتنفسنا قليلاً، وعدنا إلى الغوص في قواقع الخوف الهشّة.
انتقل إلى الراكب الأول، السائقون يستأنسون بالركاب الإناث ويؤثرونهم بالمقاعد الأولى، وكانت زميلة محجّبة، نظر إلى هويتها، نجت بسكويتتها من الكسر، أخذنا نفساً عميقاً، وعدنا إلى الغوص في الخوف. حواجز أخرى بطيئة مثل الكوابيس، يقطفون فيها الهويات، ويأخذونها لعرضها على مجسات كومبيوتر، يعبث بأزراره جندي نصف أميّ له وجه صارم من الشمع تحت القدر المعدنية.
بلغ الغارق في فنجان الخوذة المقلوب زميلنا رامي، وقلّب بسكويتته، مؤكدٌ أنّ قلب رامي كان ينبض مثل لغم قديم تالف، هو من أعرق العائلات في المدينة، ثلثها ملاحقون وثلثها الثاني في المعتقلات وثلثها قتلى، أمسك الرجل تحت الخوذة بالهوية وكسرها مثل قطعة بسكويت، وأعادها إليه قطعتين، كان ذلك يعني أنه حكم عليه بالإعدام، كسر البسكويت عند أغلب الحواجز يعني أنّ صاحبها أهمل هويته المقدسة أو خلع الجنسية عن نفسه. وكان يعني أيضاً أنّ هذا الحاجز يستعفف عن القتل ويريد نثر سمسم التشويق على قطع البسكويت المكسور، ويترك “راحة الحلقوم” للحاجز التالي، انتهى من فحص هويّات الركاب، بعد أن حكم على ثلاثة منهم بالإعدام من غير أن نرى عينيه. العدالة معصوبة العينين. يحيا العدل. بمصطلحات العمل ولغة الصناعات هذا “خط إنتاج”؛ كمين يخطب، كمين يكسر، كمين يقتل.
نزل، وبقي فترة على الأرض وهو ساكن مثل سلحف في صندوق الخوذة، ناظراً إلى أعمال الحفر من أسفل الخوذة، يرى نصف العالم السفلي، ويراقب الحفر كأنه لعبة شطرنج، قدرت أنه نزع بطانة الخوذة حتى تنسدل ويتجنب وهج الشمس. صاحب المدفع كان ما يزال يعبث مع خيال ظله لعبة المطاردة، ويحاول ضبطه ليقصفه بالمدفع. فكرت في أنَّ كسّار الهويات صاحب الخوذة المسدلة إلى التراقي يستطيع بحيلة سهلة رفع الخوذة كأن يحشوها بجريدة أو جورب، ويحسّن جودة نظره، كانت حيلتي مع خوذة الأمن الصناعي.
مديراً ظهره، أشار إلى سائق الباص بإصبعه أن يتقدم، السائق كان يراقب أدق الحركات في المشهد، فاصطاد إشارته التي تحّولت إلى نبضات في أفئدة الركاب وزئير في قلب الباص الكهل.
انطلق الباص مطلقاً معجون غيمة من دخان الحضارات الروسية والأمريكية والايطالية، فرّ هارباً وصار بعيداً عن الحاجز، ثم هدّأ السائق السرعة بعد أن طلب منه أحد المكسورين أن يتوقف، فحاجز الموت أمامنا على بعد كيلومترات، ففعل، لحق به مكسورا الهوية ونزلوا من “المركبة الفضائية” فصار الثلاثة على الأرض، ودّعونا ملوحين تلويحات مكسورة مثل هوياتهم وظلوا في العراء، ولم يرد أحد على تلويحتهم خوفاً من التعامل مع إرهابيين، صغرت قطع الحلقوم الثلاث إلى أن ذابت في الشمس، فهمنا أنهم يمكن أن يعودوا إلى بيوتهم مشياً إلى الأقدام عبر الطرق الترابية المواربة، والأفضل إذا أرادوا عمراً جديداً، وينشر لهم ربهم من رحمته، أن يؤووا إلى كهف، غيّرت رأيي ووجدت أنّ نفر الخوذة العميقة كريم فقد منح الزملاء الثلاث حياة جديدة. لقد قلنا إذا شططا.
أصبنا بخرس مثل خرس عناصر الكمين البكم العمي. امتنعت أعيننا عن الغمض، ونحن ننتظر وصولنا إلى الصراط لنعلم أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا، وبأيدينا هوياتنا السكينية القاطعة التي يمكن بها شطر تفاحة نصفين. كنت أحاول تقدير الشيء المفقود الذي كان يبحث عنه رجل المدفع، لعله فأر، أو جندب، وبقيت أجاهد نفسي لمنعها من التفكير في الخط السيء الذي كتبت به العبارة الوعيد على جدار المدرّعة، حتى إنّ حرف الدال قُلب راء، واللام دالاً، وتغيّر معناها: “الأسر أو نحرق البدر”. وأقنعت نفسي أنّ صاحب المدفع كان يبحث عن خاتم سقط من إصبعه وبلعته سمكة بريّة، واستقر رأيي على أن المخلّفين الثلاثة محظوظون، وأنّ كسر الهوية يعني فكاً من أسر الجاذبية، وريشاً، وندمت أني لم أنزل معهم، حتى إني شعرت أنني خائن وهالك، كانت بسكويتة هويتي القاسية القاطعة ما تزال في يدي، والقساوة غير الصلابة. لم أعدها إلى جيبي، فهي درعي الهش، حسدت الجندب ونظرت متحسراً إلى سرب طيور كان يعبر السماء الصافية مثل صفحة زرقاء ليس فيها سوى ذلك السطر المشتهى من الطيور الحرّة، الصافات.
المدن