خالد خليفة في “لم يُصلّ عليهم أحد”: محاولة لإعادة كتابة تاريخ حلب/ عمار ديوب
يذهب الكاتب والروائي خالد خليفة، في روايته الجديدة (لم يصل عليهم أحد) نحو التاريخ، وتحديدا نحو تاريخ حلب، ساردا هويتها المتعددة دينياً وقومياً واقتصادياً، ومتحدثا عن التيارات الثقافية المتعددة حينها، والصراعات بينها. رواية قدمت لنا، قدراً عالياً من الأفكار حول الهوية الوطنية للمدينة، حيث العلاقات المتينة بين العائلات المختلفة دينياً.
عنوان المقال هذا، هو عنوان الرواية الأخيرة، للصديق خالد خليفة؛ رواية تتحدث عن ضرورة الحق بحياة مختلفة. وللدقة هي سرد سلسل كالماء العذب عن تاريخ حلب بأدوات ومخيال الروائي.
بنى خليفة روايته على أربع شخصيات أساسية، زكريا وحنّا وعازار ووليم، وشخصيات أخرى مؤثرة في البنية العامة للرواية، وهناك الشخصيات الهامشية أيضاً. يمثل الأربعة (الشخصيات) الطوائف الدينية السماوية الثلاثة؛ نشؤوا في عائلات، وشكلوا عائلات بدورهم. الزمن المتغير، وتغيّر الدول والاستعمارات، هي أسباب حقيقية لاختلاف مواقفهم ومنظارهم للحياة ولكل شيء، والتغيير ليس بالضرورة نحو الأمام، فقد يكون نحو الخلف أو نحو الأمام، والرواية تتضمن ذلك.
قبر العاشقين
تغطي الرواية زمناً يمتد من، وما قبل، 1880 إلى 1951. إن مقتل الحبيبين، عائشة ووليم، على يد الضابط العثماني “حكمت ضاشوالي” الذي رفضته عائشة، حيث هربت مع وليم المسيحي، وهو ما حال دون تتويج خطوبتها الإجبارية للضابط، بالقفص المُهلك؛ ورفضُ الصلاة عليهما من قِبل رجال الدين، ودفنهما مع بعض، كان سبباً في تسمية عنوان الرواية. الصلاة التي تليت عليهما هي حالات الشعور بالفقد من رفاقهما، زكريا وحنّا، الأخير هو صاحب حقل الكرز الذي دفنا فيه، وصار قبرهما يسمّى، قبر العاشقين.
من العسف اختصار اسم الرواية بالمصير التعيس للعشق؛ العنوان كما أعتقد، يتأسس على طوفان نهر الفرات على قرية “حوش حنّا”، وإغراقه كافة سكانها باستثناء شاهاونيفين، وزكريا، وحنّا، حيث كان يلهون في حلب، وكذلك من استطاع الهرب، وهي أحصنة زكريا الأصيلة. غير الطوفان، هناك الزلزال الذي ضرب حلب في 1822 وفقا للرواية، وأيضاً المذابح والمجازر هنا وهناك، التي كان العثمانيون يرتكبونها لأتفه الأسباب، ووقعت أغلبيتها ضد الأرمن، ولماردين النصيب الوافر منها؛ وأيضاً ما فعله جماعة الحاجة أمينة، المتشدّدة، والتي كانت ترى رؤى غريبة في شبابها، ونادراً ما أخطأت رؤاها تلك! وهي عمّة زكريا، الذي كرهته وأختَه سعاد، واعتبرت أنّ الأخيرة لطّخت سمعة أبيها أحمد البيازيدي، وحوّلت متجرها إلى دار دعارةٍ. وبتصميم سعاد على إقامة عرض للفساتين التي تُفصلها، وقد احترفت الخياطة، فإن الحَاجة دفعت بمريديها، وهم أنصار أبو الهدى الصيادي، ويستقون من أفكاره فتاويهم وسلوكياتهم. وكذلك هاجموا القلعة التي بناها كل من زكريا وحنّا في بلدة العنابية، والتي سميت قلعة اللذة، وكانت تمارس فيها أفعال اللذة فقط. وقد أحرقوها “بالقوادات” الهرمات، اللواتي بقين فيها، ولم يجدن مكاناً “عائلة، طائفة، مأوىً مخصصاً… الخ، يأويهن؛ القلعة أصبحت لهن، بعد توقف كل من زكريا وحنا ورفاقهم عن الذهاب إليها بعد فقدان حنا لزوجته وابنه في الطوفان، وفقدان زكريا ابنه فيها ونجاة زوجته شاها. يريد خالد خليفة القول إن تلك الميتات لم يُصل عليها أحد، بل وما قيمة الصلاة على الموتى ظلماً؟!
لا تقاطع مع ألم اليوم!
هل هناك من إسقاطات تتضمنها الرواية، وتعكس الدمار والمجازر اللذين طافا كل المدن السورية؟ هل الكاتب أراد الكتابة عن الواقع الحالي، فناور وألبس الطوفان والزلزال والمذابح الموجودة في تاريخ حلب ليحكي عن واقع اليوم؟ أبداً أبداً.
إن صفحات الرواية الـ 348 لم تتضمن كلمة واحدة، قد يُفهم منها ذلك. هنا أهمية الرواية بالتحديد، فهي تتقصد إعادة بناء التاريخ، وتقديم عملٍ ثقافيٍ عن مرحلة تاريخية محدّدة. ربما يمكن تأويل الإسقاطات عبر قراءة متمهلة عن تاريخ حلب، والعلاقات بين الطوائف وهويتها التي تتشكل وفقاً لتلك العلاقات، وأنها كانت مميزة، وتسير نحو المزيد من الانفتاح وليس العكس، بينما واقع حالنا، ومنذ 1951 ولاحقاً وربما قبل ذلك، شهد المزيد من التقوقع الديني والطائفي، أي تفكّكت هوية المدينة المدنية، وتعزز الأمر مع الزمن، حتى تلاشى الوجود اليهودي في سورية، وهناك تخوف من تراجع أعداد المسيحيين، والحقيقة أن التهجير طال كذلك المسلمين السنة أيضاً. التهجير هذا بمثابة هندسة ديموغرافية خطيرة، وجرى في كافة المدن السورية؛ من هذه الناحية ربما يريد الروائي القول: لو بقيت أمورنا تسير نحو ما بدأت به نهاية الدولة العثمانية فربما تم القضاء على الجماعات المتشددة التابعين للحاجة أمينة وأشباهها، وكل جماعة تعيق الانفتاح المجتمعي وتأسيس دولة حديثة.
حياكة معقدة
البنية السردية للرواية محبوكة كالحياكة المعقدة؛ فتارة تشيخ الشخصيات، لينقطع السرد، ويعود إلى مرحلة طفولتها، وتارة يأخذنا الكاتب بسردٍ جديد عن أباء الشخصيات الرئيسية في الراوية، كنجيب البيازيدي وحاييم اسطنبولي وكبرييلكريكورس، وحينا آخر نجده يبني قصصاً كثيرة لحياة الشخصيات الهامشية، كالخادمة مارغو والأب نجيب البيازيدي والخادمة أم الخير، بل وحتى كبرييلكريكورس، والد حنّا الذي قتل في مذبحة في 1876. الشخصيات التي ليست ثانوية وليست رئيسية، أيضاً لها حكاياتها، وأيضاً تظهر مراراً وتكراراً، كلما كانت البنية تستدعيها، كعارف آغا وبشير المفتي والأب إبراهيم وماريانا. ربما من الصحيح القول إن الشخصيات الرئيسية تتهمش أحياناً، وتظهر شخصيات أخرى، فتصبح رئيسية بدورها، كأحمد البيازيدي، وعارف والأب إبراهيم وأورهان ومريم ويوسف وعائشة ابنة زكريا ووليم أخيها، حيث سماهما زكريا بهذه الأسماء تخليداً لأصدقائهم، شهداء العشق، السابق ذكرهم. قصدت من كل ذلك، إن الرواية تعكس عالماً معقداً ومتشابكاً، وهذا متأت من محاولة الكاتب، تدوين تاريخ حلب بطريقة روائية، وبحبكة أدبية، وليس حبكة تاريخية، وسرد بحثي جاف.
شخصيات الرواية
شخصيات الرواية: حنّا مسيحي سرياني ووارث للكثير من الأموال والأراضي عن أبيه، ولديه ثأر مع العثمانيين، قتلة والده وعائلته، ورافض لهم، ومؤيد لكافة الأشكال المؤسسة للحركات القومية العربية، ونشأ بمنزل أحمد البيازيدي، أبو زكريا وسعاد، وتصاحب مع عازار ووليم، وشكلوا عصابة من المراهقين. وباعتباره مالكاً كبيراً، فهو عارف بأحوال مدينة حلب وخلافاتها ومشكلاتها ويساهم في إصلاحها أيضاً، ولكنه وبعد غرق زوجته وطفله، انعزل وتصوّف، وتقريباً ترهبن، ولم تجدِ كل المحاولات لجعله قديساً أو للعودة إلى ما كانه من قبل الطوفان. عاد إلى قريته حوش حنا مع رفيقه زكريا، وانتحر غرقاً بالنهر، وذهب إلى أسرته في أعماق النهر. زكريا، وارث بدوره وأسس لنفسه عملاً جديدً، وهو تربية الخيول، ولديه أراضٍ، ولكنه ابن موظف كبير في المحاسبة، ووجود أبيه كمحاسب للولاية، سمح للأب بدور كبير في المدينة وكذلك لزكريا.
عازار ابن اليهودي، حاييم اسطنبولي، لم يكن له تأثير يذكر في المدينة، بسبب عيش أبيه في الميتم، وفقره؛ وليم أيضاً من عائلة متواضعة. وإذا أضفنا شخصيات كأحمد البيازيدي، وكابرييلكريكورس، وسعاد، وأمينة، ومريانا وإبراهيم ووليم الابن وعائشة المفتي وعائشة البيازيدي، وغيرهم كثير، فسنجد أن الرواية حاولت تصوير تاريخ حلب، وهويتها المتعددة دينياً وقومياً واقتصادياً، وعكست التيارات الثقافية المتعددة حينها، والصراعات بينها، وقدمت لنا، قدراً عالياً من الأفكار حول الهوية الوطنية للمدينة، حيث العلاقات المتينة بين العائلات المختلفة دينياً.
انحدار نحو الوراء
تطرقت أعلاه لقضية الإسقاطات، ولن أعود إليها، وأضيف هنا، أن تاريخنا الاجتماعي والثقافي، لم يتقدم كما كان يتجه العصر الذي كُتبت عنه الرواية، وقد انحدر بشكل كبير بعد الستينيات خاصة، وهذا دلالته تتعلق بخلل كبير في الهوية والمجتمع والاقتصاد والنضج القومي أيضاً. لا أريد تحميل الرواية قضايا لم تكن بذهن كاتبها حينما وضع تصوراته الأولى عنها، وكان بإمكان الكاتب، وقد تصدى لقضية خطيرة، وهي هوية وتاريخ حلب روائياً، أن يفسر لنا، لماذا سار خط التطور نحو التدهور ولم يتقدم؟ صحيح، أنه قدم لنا شخصية الحاجة أمينة كرمز للسلفية والتطرف، ورافضة للصوفية ولكل شكل آخر من التدين والهوية الوطنية للمدينة وللانفتاح المجتمعي. بقية شخصيات الرواية لم تقدم نموذجاً للتقدم، فحنّا انتحر، وزكريا كاد يتوفى، وأجزاء منه تتساقط تباعاً، وسعاد هجرت الخياطة وتفرغت لأخيها، ووليم فشل في تجاوز موت أخته عائشة وكاد يتوفى، ووليم وعائشة العاشقان والمختلفان دينياً قتلا، وهيلين توفيت… هكذا؛ هناك موت كثير في هذه الرواية، رغم أن القارئ، سيجد أنّ الرواية تتحدث في أماكن كثيرة عن الحب والجنس والعاهرات والسلفية، وأيضاً سيجد النص مليئاً بعلاقات الحب الفاشلة، كزواج هيلين، والزواج الفاشل لكل من مريم وسعاد.
رواية أم تاريخ مدينة؟
لا شك أن شخصيات الرواية، تعكس، كلاً بمفردها، جزءاً من تاريخ المدينة، ومجتمعها، تعكس هوية المدينة المصاغة وفقاً لمخيال الكاتب أولاً، وربما للواقع ثانياً. أيضاً، الرواية حاولت أن تكون واقعية عبر تدوينها لجزء من مذكرات حنّا، ونص لجنيد خليفة الصحفي والقصصي وصلاح العزيزي الذي كان مراسلاً بين عائشة ووليم، ثم أحبها، ثم أفشى مكان وجودهما للضابط العثماني، ثم بشعوره بالخزي والعار، والتكفير عن ذنب الإفشاء بقتل الضابط، وبإنشاد مقاطع من رسائل عائشة ووليم من على مئذنة الجامع الأموي لتسمعه كل حلب، والانتحار بعدها عبر رمي نفسه منها، هناك أيضاً الكلام عن السلفية والصوفية، ووقائع كثيرة. الرواية بذلك تحاول أن تعكس واقعاً، وهو ما فعلته روائياً بشكل أساسي، وبالتالي تصديها للواقع حينذاك، ليس هو الأساس، بل الأساس أن للرواية بنية سردية متميزة، وشكلت هوية خاصة للمدينة. ما قصدته أن للرواية عالمها الخاص، والكلام عن أي رواية وليست روايتنا هذه، وقد أجاد الروائي، أيما إجادة، في السبك بين شخصياتها وعوالمها وعلاقاتها ومصائرها.
نستطيع القول، إن تاريخ حلب، كما كل المدن السورية، يحتاج روايات كثيرة أخرى، وما محاولة خالد خليفة، إلّا تأسيس رواية مالكة لأدوات العمل الروائي بعيداً عن مفهوم الرواية التاريخية والأمانة للتاريخ، فالرواية تنتمي لنفسها أولاً كنص أدبي متميز، وهذا ما يميز العمل. ربما يمكننا هنا طرح سؤال: أليس هناك ضرورة لروايات أخرى تتكلم عن تاريخ هذه المدينة؟ الجواب: بالتأكيد هناك ضرورة، وستكون أيضاً متماسكة روائياً وتاريخياً.
هذه الرواية هامة بالمعنى الروائي من أجل معرفة هوية حلب، وربما هوية بقية المدن السورية، وتشكل فارقاً في الرواية السورية، وربما تؤسس لرواية سورية متميزة، وتعكس التاريخ بكل تعقيداته. وهنا أقول مع ميلان كونديرا، أهمية الرواية في تصديها للتعقيد في “التاريخ، المجتمع، الثقافة، الحرب، قضايا المرأة، دواخل الأفراد، وهكذا”.
(عنوان الرواية، لم يُصلّ عليهم أحد، الكاتب خالد خليفة، دار نوفل، 2019. لبنان – بيروت)
من الرواية
كان حنّا في الثامنة من عمره يتلصّص من نافذة منزل خادمتهم مارغو على الموكب الذي تجمّع سكّان ماردين لرؤيته، صُدم حين رأى جثّة والده كابرييل كريكورس مرمّية على حمار، وهو يعضّ بفمه المرتخي الشفتين على عضوه المقطوع، بينما اصطفّ سكّان ماردين على جانبي الطريق الرئيسي يبصقون عليه شامتين، يحيط الجنود بموكبه الذي دار كلّ الأزقة في حفلة تجريص لم تشهدها ماردين من قبل.
وصل خوري مرسل من دير الزعفران إلى مكتب القائمقام، تسلّم الجثمان، ليدفنه على مسؤوليته في مقبرة المسيحيين، كما دفن قبل يوم بقيّة أفراد عائلة كريكورس التي وصفها القائمقام بالمجرمة لأنّهم قتلوا ضابطًا عثمانيًا، وهجموا على دار القائمقام وأحرقوها.
هذه الصورة لازمت حنّا طوال حياته، لم يفهم لماذا يبصق الناس على رجل ميت، ولم يكن لدى خادمته مارغو الخائفة وقت كافٍ لتشرح له أنّ أهالي ماردين يكرهون أباه منذ زمن بعيد.
كانت مارغو خائفة، لم تتوقف حفلات البحث عن حنّا وعن عمّه وأبنائه، فتشوا بيوت البلدة، بما فيها بيت مارغو التي أخفت حنّا في قنّ الدجاج الكبير، وفي الليل مدّت له فراشًا صغيرًا بين أكياس العدس والبرغل، أغلقت بابها وطلبت منه عدم مغادرة قبو المنزل الفقير، كانت مارغو مرتبكة لا تملك وقتًا للإجابة عن أسئلة الطفل المذعور، تستنجد بالصلاة ليسوع وأمّه العذراء.
حكاية ما انحكت