ماكسيم شيه في “حرب الظل في سوريا”: أمريكا وأوروبا سلحتا الجهاديين لمصالحهما وليس لتحقيق الديمقراطية/ سمير ناصيف
هل تفقد أي ثورة أو انتفاضة أو حركة احتجاج ضد دولة أو مجموعة سياسية تمارس القمع والاضطهاد قيمتها وصدقيتها عندما يتبين أن أجهزة أو مجموعات خارجية لها أجندتها السلبية تغلغلت داخلها وساهمت في توجيهها نحو ممارسة العنف المبالغ فيه (وخصوصا الممارس في كثير من الأحيان ضد الأبرياء المدنيين) والذي يختلف جذرياً عن أهداف الثوار والمنتفضين لأسباب ودوافع إنسانية وأخلاقية؟
وهذا سؤال يجب طرحه لدى قراءة كتب تندد ببعض الثورات التي انطلقت في العالم العربي في نهاية العقد الأول من الألفية الثانية في مصر وتونس وليبيا وسوريا، والتي قد تنطلق في المستقبل في دول عربية أو شرق أوسطية أخرى.
ويندرج في هذا السياق كتاب صدرَ مؤخرا بالفرنسية للاختصاصي في حقل الاستخبارات والسياسة وحقوق الإنسان الصحافي الفرنسي مكسيم شيه بعنوان “حرب الظل في سوريا”.
ففي فصلي الكتاب الثالث والرابع، يتحدث المؤلف عن عملية استخباراتية أدارتها أجهزة أجنبية وفي مقدمتها “وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية (CIA) والاستخبارات الفرنسية (DGSE) والبريطانية (6MI) بالتعاون مع جهاز الموساد الإسرائيلي وأجهزة أمنية خليجية عربية وتركية لتسليح الجيش السوري الحر وخصوصا بين الأعوام 2012 و2015 انتهى معظم أسلحتها في أيدي منظمتي “النصرة” و”تنظيم الدولة الإسلامية” (داعش) بإدراك ومعرفة هذه الأجهزة الاستخباراتية الدولية لكونها لم تكترث بالفعل لأهداف الثوار السوريين المستندين في ثورتهم إلى القيم الديمقراطية الإنسانية (في معظمهم) بل سعت إلى القضاء على نظام الرئيس السوري بشار الأسد لتحقيق مصالح مادية وسياسية واقتصادية أجنبية.
أطلق هذه العملية حسب المؤلف، مدير جهاز الاستخبارات المركزية الأمريكية السابق الجنرال المتقاعد ديفيد باتريوس في عام 2012 وأكملها من بعده خليفته في هذا المنصب جون برينان بالتعاون مع قادة أجهزة الاستخبارات الأجنبية الآخرين وسُميت هذه العملية (Timber Sycamore) التي تعني “ألواح خشب ثمينة من شجر التين السوري”.
واللافت في هذه العملية أن دورها تضاءل بعد تسلم جون كيري وزارة الخارجية من الوزيرة هيلاري كلينتون، في عهد الرئيس باراك أوباما، ولكن رصاصة الرحمة أطلقها عليها الرئيس الأمريكي الحالي دونالد ترامب في نيسان/ابريل 2017 بعد ثلاثة أشهر على تسلمه منصبه الرئاسي وعلى إثر قراره التنسيق مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في الشأن السوري.
ويرى المؤلف في الفصل السادس من الكتاب أن باراك أوباما وجون كيري، من جهتهما، فضلا خيار التفاوض والتوصل إلى الاتفاقية النووية مع إيران (التي وقّعت في عام 2015) بدلا من قرار توجيه ضربة عسكرية ضد النظام السوري خلال هذا التفاوض كما قررا احتواء “داعش” والمنظمات الجهادية الأخرى آنذاك بدلاً من القضاء عليها نهائيا لاستخدامها كورقة في التفاوض مع نظام بشار الأسد وحلفائه.
ويعتبر المؤلف أن هدف أوباما وهدف ترامب من بعده في التعامل العسكري مع المنظمات الجهادية المسلحة في سوريا لم يكن بالفعل القضاء على الإرهاب والمساهمة في إنشاء دولة سورية ديمقراطية، بل التأكيد للجهات السورية وحلفائها أن السيطرة على المنطقة الشرقية والجنوبية الشرقية السورية الغنية بالنفط والطاقة لن تكون بالكامل من نصيب الدولة السورية وأن أمريكا والدول الحليفة معها ستكون لها حصتها من خيرات هذه المنطقة (ص 170).
ويؤكد الكاتب ذلك الواقع في الفصل الرابع من الكتاب (ص 159 ـ 160) حيث يشير إلى هدف مزدوج للقوات الأمريكية الضاربة في سوريا بحيث تقصف مواقع “داعش” ولكنها تتأكد من عدم تسلم قوى أُخرى مجرى الأمور ولذلك فهي لا تقضي على المنظمات الجهادية نهائيا، ولا تتيح لقوى ذات هدف سوري حصراً (أي قوات النظام أو قوات الجيش السوري الحر) الدخول إليها. كما يوضح أن عمليات قصف الجيش الأمريكي (تحت قيادة ترامب) استثنت المناطق الواقعة تحت سيطرة القوات الجوية العسكرية الروسية في قصفها ما يؤكد وجود تضامن وتفاهم أمريكي ـ روسي في هذا المجال.
ولعل الكاتب أدرك ما لم يدركه محللون أمريكيون بان أوباما وترامب تشاركا في كونهما لم يركزا في الدرجة الأولى على إنهاء نظام بشار الأسد، وفضلا مواجهة الإرهاب في سوريا جزئيا، وليس القضاء عليه نهائيا. وما اختلف بينهما وبين مشروع ديفيد بترايوس (مدير CIA السابق) وبعض الجهات في الحكومة الفرنسية السابقة (خصوصا وزير الخارجية لوران فابيوس) ان بترايوس وفابيوس ربما كانا يتوقعان أن مشروعاً قد يوصل سوريا إلى نظام تقوده المنظمات الجهادية المسلحة التي ستدّعي انها تمثل المعارضة السورية الديمقراطية.
ومثل هذا النظام قد يمتد إلى مناطق في الشرق الأوسط لدى أمريكا وفرنسا وبريطانيا مصالح كبيرة فيها كالدول النفطية الخليجية، ولذلك تم التخلي عن عملية (Timber Sycamore) وعن بترايوس وفابيوس ومشروعهما وفتح المجال أمام تفاهم أمريكي ـ روسي بالتعاون مع دول أخرى ومع نظام الأسد لتقرير مستقبل سوريا.
ويشير عنوان الفصل الخامس من الكتاب إلى المقاربة التي ارتكز إليها المؤلف. فالعنوان هو كالتالي: “الولايات المتحدة وحلفاؤها هم المسؤولون الأوائل عن الفوضى الجهادية في الشرق الأوسط”.
فبعد إدراك قادة دول خليجية ان دعوات “وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية لها لدعم الجيش السوري الحر بدلا من “داعش” و”النصرة” من جانب مديرها جون برينان (في كانون الثاني/يناير 2014 جاءه رد من وزير خليجي سعودي راحل (حسب ما ورد في مقال أورده الكاتب للصحافي الأمريكي سيمور هيرش): “إذا نحن دعمنا داعش فهذا ردنا على دعم أمريكا لحزب (الدعوة) في العراق”. (ص 133 ـ 134)
ويقول الكاتب إن شركة “لافارج” الفرنسية دفعت 4.2 مليون دولار لمسؤول سوري بارز سابق للمساهمة في تمويل “داعش” و”النصرة” بإيعاز من وزير الخارجية الفرنسي السابق لوران فابيوس مما أثار فضيحة كبرى في فرنسا ما زالت تفاعلاتها قائمة حتى الساعة، وقد ساهم في هذه العملية السفير الأمريكي السابق في سوريا روبرت. س. فورد ومدير الاستخبارات الخارجية الفرنسي السابق برنار باجوليه والموساد الإسرائيلي واستمرت بين عامي 2013 و2017 وحظيت بضوء أخضر من وزيرة الخارجية الأمريكية في مطلع عهد رئاسة أوباما الثاني هيلاري كلينتون (ص 143 ـ 144).
ويعتبر الكاتب أن السبب الرئيسي لانتشار الإسلام الجهادي العنيف في منطقة الشرق الأوسط ارتبط بالغزو الأمريكي العسكري للعراق في عام 2003. ويتحفظ إزاء النظرية القائلة بان خطأ نظام أوباما كان فقط عدم القيام بعمل عسكري في سوريا لتغيير النظام، مشيراً إلى ان مسؤولية التحريض على العنف في منطقة الشرق الأوسط تواجدت منذ عقود، وتفاقمت بعد الغزو الأمريكي للعراق وما زالت أمريكا وحلفاؤها مسؤولتين عما حدث ويحدث وما قد يحدث في المستقبل في سوريا والعراق والمنطقة عموما. فالتحريض المباشر بالرشاوى والوعود ثم التراجع والمساومة هما أخطر من حسم الأمور واتخاذ الخيارات الواضحة، في نظر الكاتب.
ويرى في خلاصة كتابه ان الصحف الغربية خصوصا، والعربية المتغاضية عن عرض الحقائق، مسؤولتان عن التراجيديا والآلام التي حصلت وتحصل في سوريا والعراق وفلسطين وذلك لعدم فضح هذه الأجهزة الإعلامية الغربية والعربية لما جرى بالفعل في “حرب الظل السورية” وفي مؤامرة “ألواح خشب ثمينة من سوريا” (ص 181).
ومن المؤسف، حسب قوله، ان صحفاً أمريكية، وبإيعاز من إدارة أوباما، قررت عدم اعتبار “جبهة النصرة” إرهابية في احدى المراحل برغم ما ارتكبته من جرائم في سوريا والشرق الأوسط والعالم.
أما الأمر الأكثر خطورة فكان عدم اعتبار بعض الصحف الأمريكية البارزة أن عملية تمويل خليجية ضخمة للمنظمات الجهادية المسلحة كانت تجري بوسائل مباشرة وغير مباشرة بالتعاون مع أجهزة الاستخبارات الأمريكية والفرنسية والبريطانية وغيرها، حسب ما اعترف بهذا الأمر مؤخراً مسؤول خليجي كبير.
وما أسف المؤلف عليه كثيراً ان العمليات الإرهابية التي جرت على الأرض وفي المدن الفرنسية والبريطانية البارزة (وبينها العاصمة الفرنسية باريس، والعاصمة البريطانية لندن) ارتكبها أشخاص مرتبطون بهذه المنظمات الجهادية العنيفة التي عملت في سوريا والعراق في السنوات الأخيرة. أي ان أمريكا وفرنسا وبريطانيا وأجهزتها الاستخباراتية مولت إرهابيين قتلوا أمريكيين وفرنسيين وبريطانيين أبرياء يعيشون بسلام في بلدانهم، بالإضافة إلى قتل وتهجير عرب آمنين في منازلهم وأوطانهم، ويتساءل قائلا: “من هم الذين يستحقون المحاكمة في هذا المجال؟ هل هم الذين استخدموا سلطاتهم لتمويل قتل مواطنيهم في دولنا الغربية، وقتل الآخرين في أوطانهم أو فقط قادة الأنظمة الديكتاتورية في العالم؟”.
ويضيف: “ماذا سيحدث إذا نفّذَ مخضرمو “داعش” و”النصرة” مجازر جديدة في فرنسا وأمريكا وبريطانيا؟”.
ويستنتج بان العدالة الإنسانية يجب ان تنتصر على التستر على الإرهاب والإجرام بحجة أفضلية مصالح الدول مؤكداً بان المبادئ الأخلاقية لا تفقد قيمتها أمام محاولات تحريفها.
Maxime Chaix: “Guerre de l’ombre en Syrie”
Ed. Erick Bonnier, Paris 2019
214 pages
القدس العربي