هانا فراي.. الآلة والإنسان يداً بيد؟/ محمد صبحي
ماذا سيفعل الإنترنت؟ سؤال شغل بال المتخصصين في منتصف تسعينات القرن الماضي، في بدايات انتشار الشبكة، قبل أن يصبح الاسم ذائعاً على ألسنة الناس في كل مكان كما هو الحال الآن. مثلاً، تنبَّأ نيكولاس نغروبونتي (معماري أميركي – يوناني وعالم كمبيوتر ومؤسس مؤسس معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا) بأن الإنترنت سيساهم في “عولمة المجتمع، وإبطال السيطرة المركزية، وتسوية التسلسلات الهرمية للسلطة”. جون بيري بارلو، شاعر وناشط الحقوق المدنية، وافق في كتابه التسعيني “إعلان استقلال الفضاء الإلكتروني” على ما قاله عالم الكومبيوتر ووصف الإنترنت بـ”وطن جديد للروح”. إستير دايسون، صحافية ومستثمرة رأس المال المُخاطر، قالت إنها “تعيش على الإنترنت ولا تستطيع الحياة من دونه”. كيفن كيلي، المحرر التنفيذي ومؤسس مجلة Wired، اعتقد أن “من يطيعون منطق الإنترنت سيتمتعون بميزة كبيرة في النظام الاقتصادي الجديد”.
حسناً، بعد أكثر من عشرين عاماً، يمكننا كشف حساب الإنترنت. هل ساعدت الشبكة في نشر الحرية والديموقراطية، أم أنها صارت وسيلة مُجرَّبة ومختبرة للسيطرة على الملايين في العديد من الأماكن؟ ما هي نماذج الأعمال الجديدة التي تأسست على حِسّه، وما المهارات التي صرنا نحتاجها فعلاً للنجاح العملي؟ في أوائل العام الحالي، أصدر المستثمر التقني الأميركي روجر مكنامي (واحد من المستثمرين الأوائل في فيسبوك) كتاباً بعنوان “Zucked”، عبّر فيه عن حزنه لما آل إليه موقع التواصل الشهير ومخاوفه بشأن تعامل القائمين عليه مع مسائل خصوصية المستخدمين والديمقراطية والأمن وغيرها من القضايا. مارك زوكربرغ نفسه، مؤسس ورئيس مجلس إدارة “فايسبوك”، مثل أمام جلسة استماع كونغرسية، قبل عام ونيف، للحديث عن قضية تسريب بيانات المستخدمين، بعدما أثارت جدلاً واسعاً في كافة أنحاء العالم.
من جانبها، أصدرت هانا فراي، عالمة الرياضيات والمحاضرة في كلية لندن الجامعية، كتاباً جديداً من شأنه أن يساعدك في الحصول على نصيبك في هذه المناقشات. بخاصة أولئك الذين لا يملكون مهارات واسعة في علوم الكومبيوتر الأساسية. “مرحباً بالعالم: أن تكون إنساناً في عصر الآلة”(*)، وهو عنوان الكتاب، ليس بياناً سياسياً، لكنه في جزء كبير منه عبارة عن مقدمة منعشة وسهلة الفهم لما يمكن أن تفعله أجهزة الكومبيوتر، وكيف تعمل برامجها، وما الخوارزميات التي يتحدث عنها الجميع.
برصانة تامة، تستشهد فراي بمقتطف من القاموس يعرّف الخوارزمية بأنها “عملية إنجاز تدريجي (خطوة بخطوة) لحل مشكلة أو تحقيق هدف محدد، تستخدم بخاصة مع جهاز كومبيوتر”. بتعبير أدق، هي كائنات رياضية موجهة الهدف تقوم بتحويل العمليات الرياضية إلى رموز كومبيوترية، بحيث يمكن للكومبيوتر معالجة بيانات العالم الحقيقي. وتشرح بعد ذلك ماهية تلك الخوارزميات واستعمالاتها، بما في ذلك وصفات الكيك أو الميول الجنسية أو تعليمات إيكيا للبناء. هناك أربعة أنواع من المهام التي يمكن للخوارزميات تنفيذها: تحديد الأولويات (مثلما في غوغل) أو التصنيف (فيسبوك) أو الدمج والجمع (Parship) أو الفلترة والتصفية (Alexa). ثم هناك طريقتان، لكيفية عمل الخوارزميات: الاستناد إلى قواعد، أي ترميز ثابت، أو التعلم الذاتي، أي تدريبها على تحقيق أهداف بحيث تجد بنفسها من خلالها المسار الأفضل(**).
لا تصنّف فراي خوارزميات التعلم الذاتي كذكاء اصطناعي حقيقي، وتعتبر تصنيفها كذلك مضللاً، وعوضاً عن ذلك ترى من الأنسب تسميتها “إحصائيات كمبيوترية ثورية”. يتماشى هذا الموقف الرصين مع الطرح المريح لهذا الكتاب في موضوع يسبب حالياً قدراً كبيراً من الجدل في أوروبا والغرب. حتى مشاكل المركبات ذاتية الحكم، في رأيها، سيتم تجاوزها في المستقبل المنظور. في الوقت ذاته، لا يعني هذا أن فراي لا ترى أي مشكلة في استخدام خوارزميات التعلم الذاتي التي صارت مألوفة في وقتنا الحالي وتثير توقعات سلبية جديدة حول زيادة مهارات الكمبيوتر وتدخل الذكاء الاصطناعي في مناحي الحياة اليومية.
مسلحةً بذلك التقديم المتزن والهادئ، تفتح المؤلفة لقرائها العديد من المجالات التي يمكن للخوارزميات فيها منافسة البشر أو حتى تجاوز إنجازاتهم، والتي يعتمد عليها الناس بشكل كبير في حساباتهم. لتأكيد فكرتها، تعاين فراي ثروة من الحكايات المتعمقة (معظمها معروف) من مجالات جمع البيانات، والقضاء، والطب، والسيارات الذاتية، والجريمة، وأخيراً الفن. تكتب عن السلسلة التجارية التي تستخدم حفاضات الأطفال كمساحة لإعلاناتها، والقضاة وأفراد الشرطة الذين يستخدمون أجهزة الكومبيوتر لتحديد المشتبه فيهم في مراكز الاحتجاز، والمباراة التاريخية التي هُزم فيها بطل العالم السابق في الشطرنج غاري كاسباروف بواسطة الكومبيوتر “ديب بلو”. تستعين أيضاً بدارث فيدر ولوك سكاي ووكر (شخصيتان خياليتين من سلسلة أفلام “حرب النجوم”)، في إجراء لعبة مقابلة بين تنبؤات سلبية كاذبة (لها عواقب وخيمة خطيرة) وأخرى إيجابية كاذبة (لها عواقب أقل خطورة)، لتصل في النهاية إلى أنه لا يمكن للمرء تطوير خوارزميات تنبؤ عادلة تماماً.
في واحد من أهم فصول الكتاب، تكتب عن مشتري وبائعي البيانات، ولماذا يشارك الكثير من المستخدمين، طواعيةً، الكثير من المعلومات عن أنفسهم، وما الذي يجعل التوقعات والاقتراحات الكومبيوترية ممكنة الدقة، وإلى أي هدف يمكن توظيف تلك البيانات. ولسخرية القدر ومصادفاته الحكيمة، تزامن صدور الطبعة الأولى من الكتاب مع بدء أفول شركة كامبريدج أناليتيكا البريطانية (شركة شهيرة لإدارة خدمات تكنولوجيا المعلومات أنشئت في العام 2013، ولم تعد موجودة حالياً. تصدّرت العناوين في أوائل 2018 على خلفية فضيحة تسريب “فايسبوك” بيانات مستخدميه لصالح الشركة). تشرح فراي كيف يمكن التحكم في سلوك الناس باستخدام الخوارزميات، لكنها أيضاً تؤكد مدى ضآلة التأثيرات في الواقع. وبشكل عام، لا يهدف الكتاب إلى تقييم أو اقتراح حلول واضحة، فالعديد من فصوله تنتهي بأسئلة أصيلة. لذا فمهمة الإجابة موكلة إلينا نحن البشر، ففي النهاية لدينا تلك المجتمعات ونحن من يختار الممارسات الاجتماعية التي نريدها.
أحياناً، تعلِّق فراي، وتسمح للقارئ بمعرفة الاستنتاجات السياسية التي ستستخلصها. لكن فوق كل ذلك، تقوم مَن حاضرت مرات كثيرة عن الرياضيات لجمهور واسع في تجمعّات “تيد توكس” و”بي بي سي”، عبر دفق معلوماتي وإتقان منهجي بتجنب إثارة الذعر أو اللعب على مشاعر نهاية العالم والديستوبيا المرافقة له. فحتى إن كان يتم التعامل معها كحقيقة بديهية، من الواضح دائماً أن التكنولوجيا ليست جيدة أو سيئة في ذاتها. لكن تحديد ذلك يعتمد على طريقة استخدامها والتحكم بها. تؤكد فراي على ذلك، أكثر من مرة، فسواء استخدمت الشركات الخوارزميات بإيجابية أو أساءت استخدامها، وترجمتها بشكل صحيح أو بصورة غير لائقة، أو اعتمدت سجلات موثوقة لأنشطتها أو محرَّفة؛ لا تتنازل المؤلفة عن ثقتها الأساسية في أن المسار الصحيح في معظم الحالات لن يكون استبدال البشر بالآلات، بل دعم أحدهم للآخر.
رأي لا يمكن الموافقة عليه كلية إلا مع بعض التحفظات. فمع الاعتراف ببحثها الدقيق والمتوازن، لا يزال استنتاجها بخصوص حجم تأثير الخوارزميات في حياتنا إشكالياً. يظل التعامل مع فكرة أنه يجب علينا تعلم العيش مع الخوارزميات/الآلات التي تتحكم في وظائف المجتمع، مرهوناً بتحفظات كبيرة. نعم، هناك فوائد وإمكانات جديدة. نعم، الخوارزميات المطورة بشكل أفضل يمكنها تحسين جودة الحياة. لكن، غالبا ما ينسى بعض المطوِّرين التكنولوجيين أن الخوارزمية (نتاج الآلة) يجب ألا يعتمد عليها أبداً في اتخاذ قرارات إنسانية، مثلما لا يمكن الاعتماد عليها في فعل إنساني بحت كالإيثار الفعال.
بعبارة أخرى، الخوارزميات لا تتنفس أو تفكر. لا يمكنها التعبير عن القيم الديمقراطية، مهما كانت متطورة. لا تعرف كيف تفكّر بشكل نقدي. هدفها الوحيد هو إكمال البرنامج وتحقيق الهدف. لا قيمة للخصوصية عندها. الخوارزميات لن تهتم بأمرنا طالما أكملت مهمتها على نحو ناجح. لذا لا يمكن لوم أحدهم على عدم قدرته التعايش مع فكرة إجباره على تسليم إرادته الحرة أو بياناته الخاصة لتحسين خوارزمية شخص آخر. بعض الأشياء لا يمكن التنبؤ بها بحيث لا يمكن إناطة آلة بها. هذا هو ما يجب أن نتعلمه حقاً.
(*) “مرحبا بالعالم: أن تكون إنساناً في عصر الآلة” – هانا فراي. “دووبلدي” للنشر، 256 صفحة.
(**) خوارزميات التعلم الذاتي: فرع من فروع الذكاء الاصطناعي. تقوم خوارزميات التعلم الآلي بإنشاء نموذج رياضي يستند إلى بيانات عينية تُعرف باسم “بيانات التدريب”، من أجل إجراء تنبؤات أو قرارات دون أن تتم برمجتها بشكل صريح لأداء المهمة.
الخوارزميات المستندة إلى قواعد: في علم الكومبيوتر، يعد النظام المستند إلى القواعد عبارة عن مجموعة من أوامر “إذا-إذاً” “if-then” التي تستخدم مجموعة من التأكيدات، بهدف التصرّف بناء عليها. في تطوير البرمجيات، يمكن استخدام الأنظمة المستندة إلى القواعد لإنشاء برامج توفر إجابة لمشكلة بدلاً من خبير بشري.
المدن