ولاة وأعيان وخروف محشي: هل كان القرن الثامن عشر عصر هيمنة بيوتات الوجهاء فعلاً؟/ محمد تركي الربيعو
حاولت المؤرخة الأمريكية جين هاثاوي، في كتابها المعنون «البلاد العربية في الحكم العثماني»، وفي سياق حديثها عن تحولات القرن الثامن عشر، التطرّق لأطروحة المؤرخ العربي ألبرت حوراني حول «سياسات الأعيان»، وهي الأطروحة التي ستبقى مهيمنة إلى يومنا هذا في عدد من الأوساط البحثية العربية، التي أعادت استدعاءها مرة ثانية لإسقاطها على حال عدد من المدن العربية، بُعيد الربيع العربي في ظل سيطرة الميليشيات وولادة قاعدة وفاعلين جدد، باتوا وفق حوراني هم من يمثلون «الأعيان الجدد» للدولة العربية المهمّشة، أو ما تبقى منها.
وكان حوراني قد نشر ورقة بحثية عام 1966 بعنوان «الإصلاح العثماني وسياسات الأعيان»، وصل من خلالها إلى سردية تقول بأن المدن العثمانية في القرن الثامن عشر عرفت ولادة قادة ووجهاء، أخذوا يؤلفون طبقة وسيطة بين الإدارة العثمانية والسكان المحليين؛ كما مال إلى التأكيد على استقلالية الأعيان عن الحكومة المركزية، كما لو لم يكن لها أي دور في تكوينهم. وفي ما يتعلق برسوخ الأعيان في الولايات، فإن حوراني أكد ضمنياً على تعربهم أكثر من محليتهم، وأنه في مقابل وجودهم نعثر على إدارة تركية غريبة، أجنبية، محتلة وإمبريالية.
ستدفع هذه القراءة ببعض تلامذته وقرّائه إلى القول لاحقاً بأن التوتر بين الجماعات القومية الناشئة، التي ميزت التاريخ العثماني المتأخر، تشكّلت جذورها في القرن الثامن عشر.
حاولت هاثاوي في كتابها القول إن التقسيم الذي طرحه بعض المؤرخين حول الانحدار العثماني وولادة اللامركزية ـ الذي بنى عليه حوراني لاحقاً نظريته حول الأعيان ـ يبقى تفسيراً عجولاً، كونه يقتضي خصاماً بين المسؤولين العثمانيين والأعيان المحليين، وهذا ما لم يكن واقعاً؛ فكثير من الأعيان كانت لهم روابط قوية بشخصيات نافذة في القصر، واستفادوا مما يمكن أن نطلق عليه «اللامركزية في المركز»، أي ظهور جماعات مصالح متنافسة ومتعددة داخل القصر السلطاني نفسه. وفوق ذلك اختلفت درجة اللامركزية وطبيعة هؤلاء «الأعيان المحليين» من ولاية إلى أخرى، وحتى من منطقة إلى غيرها.
مدينة الموصل العثمانية
وفي السياق ذاته الباحث عن إعادة قراءة القرن الثامن عشر ورجالاته خارج أسوار أطروحة حوراني، أو بعض القراءات المشابهة، نعثر على كتاب فريد من نوعه للمؤرخة دينا رزق خوري، المؤرخة في جامعة جورج واشنطن الأمريكية. وربما يأتي مكمن فرادة هذا الكتاب كونه يفسر ما أشارت إليه هاثاوي من ملاحظات حول أطروحة حوراني، عبر دراسة حالة تتمثل بمدينة الموصل العثمانية خلال الفترة الممتدة بين 1540/1834.
بدأت خوري في هذا الكتاب الصادر سنة 1997، والمُترجم مؤخراً للعربية عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات/ ترجمة سلوى زكو، في سياق إجراء بحوث تتعلق بالتاريخ الاجتماعي لمدينة الموصل، بإرشاد وتوجيه الراحل حنا بطاطو. إذ تبدأ دراستها بالقدوم العثماني للمدينة في عام 1519 وتنتهي بالانتفاضة الشعبية التي أطاحت بآل الجليلي/العائلة الحاكمة في المدينة عام 1834. وتشير الباحثة إلى أن اختيارها لهذه التواريخ يعود إلى كون القرن السادس عشر عرف تاريخ أول مسح تفصيلي للأملاك والعقارات قامت به الحكومة العثمانية، كما عرفت هذه الفترة تكوين نخبة أهلية أكثر تقبلاً للسيطرة العثمانية خدمت تدريجياً في عزل المنطقة عن روابطها الثقافية والاقتصادية مع رجال القبائل وتجارها. في حين يؤشر عام 1834 إلى نقطة تحول بالنسبة إلى الموصل، لأنها شهدت الإلغاء الفاعل لشكل من أشكال الهيمنة السياسية العثمانية والمرتبط بالبيوتات السياسية في القرن الثامن عشر، الأمر الذي دشّن فترة ارتبط فيها قطاع أوسع من طبقة ملّاك الأرض الموصليين بجهود الدولة التحديثية.
طعام وسياسة
ينقل لنا العمري في مخطوطته «الدرر المكنون في مآثر الماضي من القرون» حادثة جرت في الموصل في بداية القرن الثامن عشر (عصر الأعيان وفق تعبير حوراني). في عام 1719 جمع والي الموصل، مورالي علي، رسوم السوق من الحرفيين. بعد ذلك بأيام كان الوالي ذاته قد طُلب للخدمة في ولاية أخرى، وما أن سمع حرفيو المدينة هذا الخبر حتى توجهوا إليه مطالبين بإعادة الرسوم، من باب أن الوالي الجديد سيطالبهم مرة ثانية برسوم جديدة. رفض مورالي الاستجابة لطلب الحرفيين وفرّ من المدينة. وعندما التقى في طريقه الوالي القادم (ساري مصطفى) بادر إلى ابلاغه بالمشكلة التي واجهها في الموصل. وما إن وصل مصطفى المدينة، حتى تجمع الأعيان وشجعوه على فرض الضريبة السنوية على الحرفيين.
في مواجهة موقف كان قابلاً للانفجار، دعا الوالي عددا من الأعيان إلى وليمة من الطيور ولحم الخروف المحشي. ووفقاً للعادة الموصلية المتبعة لدى النخبة العثمانية، كان الطعام يقدم في وجبة واحدة. لم تُشبع الطيور جوع الأعيان، بيد أنهم سُعِدوا تماماً بعدما تناولوا الخروف المحشي. بعد الانتهاء من العشاء، أبلغ الوالي الجديد الأعيان أن رغبتهم في فرض ضريبة على الحرفيين تشبه كثيراً أكل الطيور، وعلى المرء أن يجمع درهماً واحداً في كل مرة كي يكون بمثابة إسهام في الجهد. ولما كانوا دسمين مثل الخروف المحشي، كان جمع الضرائب من ثلاثتهم أكثر سهولة. لم يكتف الوالي بهذه المقولة، إذ سرعان ما سيؤكد لهم بأن ابتزاز ثلاثة من الأعيان سيكون تبريره في يوم الحشر، أفضل من تبرير ابتزاز ثلاثة آلاف حرفي.
في تفسيرها لهذه النادرة الأخلاقية، تبين رزق في كتابها، أن مورالي علي وساري مصطفى يمثلان في هذه القصة الدولة، ولذلك كان عليهما دائماً أن يؤسسا لوضعهما الاعتباري، بحيث يبدو للسكان المحليين أنهما شركاء معاً في عالم القيم والأحكام الشرعية الإسلامية، وبوصفهما حماة للمصالح العامة ضد مصالح الأعيان المحليين الذين ارتبطوا بالدولة العثمانية عن طريق نظام معقّد من الامتيازات. أما ما تؤكّده هذه الحادثة وغيرها من الحوادث التي تعثر عليها الباحثة في سجلات المدينة العثمانية، أن هذا القرن (الثامن عشر) لم يكن قرن التدهور والانحدار، بل كان قرن اللامركزية والعثمنة الجديدة، وهو قرن لم يكن يعني تدهوراً في مكانة العثمانيين لصالح البيوتات المحلية، بل إعادة توزيع للثروات وطريقة إدارة هذه الولايات.
ولكن من أين جاءت فكرة الأعيان (بيوتات الوجهاء) الأقوياء؟
ترى الكاتبة أن ثمة عددا كبيرا من الدراسات حول الدولة والعلاقات في المجتمع في الفترة التي سبقت الحقبة الحديثة، اهتمت، إما ضمناً، أو صراحة بغياب الديمقراطيات والمؤسسات البورجوازية التي تحدُّ من سلطة الدولة في القرن العشرين. وربما كان أكثر التيارات الثقافية تطوراً هو التيار الفيبري، الذي ما زالت معالجاته مهيمنة على دراسة العلاقة بين الدولة والمجتمع في أوائل الحقبة الحديثة لكل من أوروبا والشرق الأوسط، وقد تعزّزت بانبعاث الحركات السياسية ذات التوجه الإسلامي. وتفترض هذه الدراسات وجود فارق أساسي، في الواقع المؤسساتي والأيديولوجي، بين العالم الإسلامي والغرب. وربما كان أرنست غلنر أكثر مؤيدي هذه المعالجة وضوحاً. وبالنسبة له، كان ابن خلدون، مثقّف القرن الرابع عشر من الشمال الافريقي، قد وضع أفضل تحليل للعلاقة بين الدولة والمجتمع في العالم الإسلامي. وطبقاً لهذه الرؤية، يمكن تفسير كثير من التاريخ الإسلامي، من خلال القوة الدافعة للمجموعات القبلية التي وصلت إلى السلطة لتجدّد شباب أنظمة الدولة المتداعية، بيد أنها سقطت ضحية القوة الهدّامة للحياة المتحضّرة في المدينة. سيدفعه هذا التحليل إلى القول بأن هناك تعارضاً متــــوارثاً بين بُنى الدولة والمجتمــعات المدنية.
وما يلفت نظر رزق، أن رؤية غلنر هذه لن يكون تأثيرها مقتصراً على العالم الغربي، وإنما ستمثّل النظرية التي سيميل إليها عدد كبير من المؤرخين العرب، في العقود الأخيرة، ممن سعوا إلى تفسير الثقافية السياسية للدولة العثمانية عن طريق الجمع بين المفاهيم الفيبرية في النظم السلطانية، مع قراءات من العصور الوسطى المتأخرة للمثقفين المسلمين، أمثال الماوردي وابن خلدون.
تشير المؤلفة في هذه الزاوية إلى كتابات المؤرخ اللبناني وجيه كوثراني والمؤرخ العراقي سيار الجميل. إذ نجد أن كوثراني في معظم كتاباته يتحدث عن الدور المتسع للدول الاستبدادية واستيلائها على الحياة المدنية في الشرق الأوسط.
فمثلاً يرى كوثراني أن هناك انقساماً واضحاً بين الدولة والمجتمع، وأن الجذور التاريخية لهذا الانقسام تأسّست في الفلسفة الإسلامية في العصر الوسيط، ولذلك فهو يعتقد أن الروابط بين الدولة والمجتمع تمت المحافظة عليها وإعادة إنتاجها من خلال نظام التزام جباية الضرائب، غير أن الضغط الذي ولّده هذا النظام، والذي أعطى المزيد من موارد الدولة إلى الأفراد، رافقه امتداد أوروبي اقتصادي وسياسي، جعل من قابلية الدولة في الحفاظ على سيطرتها على السكان المحليين في السلطة في الولايات أمراً عسيراً. نجد أيضاً، مقابل هذه الرؤية، محاولة سيار جميل تفسير القرن الثامن عشر بوصفه قرن الانحدار العثماني لصالح الأعيان. إذ ينظر إلى عملية اللامركزية والإقليمية في القرن الثامن عشر لا بوصفها محض تمرد على امتيازات الدولة، بل بوصفها توكيدات للهوية الإقليمية المترافقة مع إعادة لتوصيف شرعية الدولة العثمانية. فالتطور الإداري والاقتصادي والسياسي لفترة الإصلاحات، وفقاً لجميل، وضع الأساس العملي للتعديلات الجغرافية والإدارية لفترة الإصلاحات. ورغم أنه يحذر المؤرخين العرب من نزوعهم إلى إضفاء صبغة قومية على حكم العائلات والبيوتات المحلية، فهم لم يكونوا أسلافاً للأعيان القوميين في القرن التاسع عشر، إذ بقيت أيديولوجيا الإصلاح التي تبنوها «إسلامية» وليست قومية، إلا أنهم نمو بالفعل إحساساً بالهوية الإقليمية.
ما يلاحظ من خلال تحليل الباحثة لخطابي كوثراني والجميل حول القرن الثامن عشر، أن كلا القراءتين بقيتا تحومان حول فكرة أن ظهور الأعيان قد جاء على خلفية انحدار الدولة العثمانية، وهو تحليل يقدّم، وفق وصف خوري، شكلاً غير تاريخي للهيمنة السياسية (عبر إسقاط قراءة ابن خلدون ولاحقاً غلنر وحوراني) التي كانت مبنية على تفسيرات مفكري العصري الوسيط حول طبيعة السلطة. فهما بافتراضهما وجود انقسام بين الدولة والمجتمع، إنما يخلقان ميادين وديناميات مزدوجة للممارسة السياسية، في حين تبين تجربة مدينة الموصل العثمانية، في هذه الفترة، أن الممارسة السياسية للأعيان لم تذهب قط أبعد مما هو محلي ومباشر، ولم تكن لها تأثيرات طويلة على سياسات الدولة المركزية، التي تبدو من خلال السجلات الشرعية، ووثائق المدينة أكثر انتشاراً بكثير مما كانت عليه في أي فترة أخرى، كما أنه وخلافاً للفكرة حول وجود خلاف بين السكان والدولة، تبين رزق أن المجتمعات الحضرية والريفية في الموصل كانت أكثر اندماجاً في النظام العثماني في أواخر القرن الثامن عشر، وهو قرن اللامركزية، من اندماجها خلال حقبة سابقة، عندما قيل إن سيطرة الدولة كانت أكثر صرامة، وإنه مع أوائل القرن التاسع عشر، كان التجار وصغار ملّاك الأراضي في المدينة مهتمين بإعادة بناء سلطة الدولة وشرعيتها، بطريقة تتيح لهم التخلص من الصعود السياسي للبيوتات السياسية.
٭ كاتب من سوريا
القدس العربي