برهان غليون في “عطب الذات”..فشلت الثورة السورية أو تمّ إفشالها؟/ سمير سعيفان
على الرغم من أن أغلب المقالات التي تناولت كتاب الأكاديمي، وأول رئيس للمجلس الوطني السوري، برهان غليون “عطب الذات، وقائع ثورة لم تكتمل.. 2011 – 2012” (الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، 2019) قد تناولت أحد الجوانب التي تناولها أو أثارها الكتاب، فإن هذه الجوانب لا تشكل إلا الجزء الأقل أهميةً وحضورًا في الكتاب، ويبقى الجانب الأهم هو تحليل مسار الثورة/الانتفاضة، سواء من حيث أداء المعارضة بكل أطرافها، وهو أداءٌ معطوبٌ ذاتيًا، بحسب تقدير غليون، أو من حيث أداء اللاعبين الإقليميين، إضافة إلى تناول سياسات النظام وأدائه. وبالتالي، فإن الكتاب هو الأول الذي يتحدث بهذا الشمول عن الثورة السورية، لكاتب سوري مشارك فيها، يتناول تجربته وتجربة الثورة السورية، ويقوم بتحليل مسارها ومواقف الآخرين منها. ولكن الكتاب، في الوقت نفسه، ليس عرضًا لتجربة غليون السياسية ودوره فيها، بقدر ما هو تحليل لمسار الثورة الذي لم يحظَ بعد بتغطية كافية.
وعلى الرغم من أن العنوان “عطب الذات..” يضع المسؤولية على “ذات” المعارضة التي نهضت ضد النظام القائم، وعلى عيوبها القاتلة، وخصوصا غياب القيادة والشرذمة السياسية والعسكرية، فإنه في الواقع يوسّع دائرة الذات، لتشمل الداعمين المباشرين لها، والملتصقين بها بقوة، إذ توحدت ذواتهم مع ذواتها في الفشل، ولم تكن مسؤوليتهم عن الفشل أقلّ من مسؤولية المعارضة ذاتها. ويوسع غليون تحليله ليشمل الأدوار التي لعبها اللاعبون الدوليون، وخصوصا الولايات المتحدة ودول أوروبا الرئيسة، في فشل، بل “إفشال” الثورة السورية، وأسباب هذه المواقف حيالها.
وعلى الرغم من النقد الذي يوجهه غليون إلى المجلس الوطني، فهو يعدّ تشكيله نجاحًا، وقد امتلك فرصًا كبيرةً، أهدرها أو لم يتمكن من استثمارها، بسبب تقلب القيادات وتبدلها، وسوء الإدارة وغياب الاهتمام بالعمل الطويل والجاد، فصراعات المجلس وسوء إدارته أضاعت الفرص التي لم تعوّض، فهو آلة تفتقر إلى الروح الواحدة، والانسجام، وقد تحوّل “إلى منتدى اجتماعي صغير يعتني بمصالح أعضائه”، وقد “اختطف المجلس الوطني فريقٌ صغيرٌ لا علاقة له بالثورة ولا بالسياسة”، وأن خلافات المعارضة أدّت إلى فقدان فرصة احتلال كرسي سورية في جامعة الدول العربية وفي الأمم المتحدة. ولا يملك أكثر أعضاء المجلس خبرة في العمل السياسي، وهو الأمر نفسه الذي منع ائتلاف قوى الثورة والمعارضة السورية فيما بعد، وبقي لا “يمون” على أي واحدةٍ من الفصائل المسلحة، وبالتالي لم يكن “ليُقنع أحدًا، بأن هناك بديلًا سياسيًا مقبولاً عن نظام الأسد”. إضافة إلى ذلك، يرى غليون أن المجلس الوطني قد وضع استراتيجية كارثية؛ إذ رفض أي انفتاحٍ على شخصيات المعارضة الأخرى ومجموعاتها، والاستمرار في طلب التدخل الدولي، والسير في تسليح الثورة ودعم كتائبها من دون شروط. ويصف غليون فكرة التدخل العسكري بالوهم وبالخديعة والخرافة، ويحمّل العنف الذي مارسه النظام وحلفاؤه المسؤولية، وبأنها “أوصلت المتظاهرين إلى الاقتناع بأن نظام الأسد لا يفهم إلا لغة القتل والعنف”.
يقدّم غليون صورة سلبية عن دور تنظيم الإخوان المسلمين السوريين في المجلس الوطني وفي الثورة، ويحمّلهم مسؤولية فشل المجلس، وبحسبه: “لم يكن أمر المجلس الوطني يهمهم، ولم يكونوا حريصين على نجاحه”، بل كان المجلس بالنسبة إليهم “يقدم التغطية السياسية التي شعروا أنها قد تفيدهم لمتابعة نشاطهم الخاص والمستقل”، وهم يملكون قدراتٍ مالية لا تملكها أي قوة علمانية؛ ما جعلهم أكثر فاعلية، ولكن غليون، في الوقت ذاته، يتهمهم بالضعف والتشتت في الرؤية والصراعات بين تياراتهم، ويخص مجموعة العمل الوطني التي يتزعمها أحمد رمضان بالنقد الحاد، و يعدّها “من مشتقات الإخوان المسلمين”، وأنها سعت إلى فرض هيمنتها على المجلس، وهم يتحمسون حيث توجد نشاطات تخدم أهدافهم، ولا يتردّدون في تعطيل أي مشروع لا يفيدهم. وكان الإخوان المسلمون غير متحمسين لمشاريع توحيد الفصائل العسكرية وإصلاح المجلس وهيكلته، وتفعيل هيئاته. وفي الوقت نفسه، ينتقد غليون قوى اليسار والعلمنة على موقفهم من المجلس الوطني، وعدم المشاركة فيه بذريعة سيطرة الإسلاميين عليه، وهو الأمر الذي لا يقرّه غليون، ويرى أن قوى اليسار والعلمنة كانت أكثر انغلاقًا، وأن أهم صفات أفراد هذه النخبة، المشتتة وغير المتجانسة، هي الأنانية والفردية والنرجسية والتنافس والخصومة الدائمة، وتقريبًا انعدام أي استيعاب لمعنى المسؤولية الجماعية.
يرى غليون أن “عطب الذات” يكمن في مسألتين تختزلان أسباب الفشل: فقدان القيادة، والشرذمة السياسية والعسكرية، ولعل الثانية نتيجة لغياب الأولى. ويقول: “لو قُيّض للسوريين وجود قيادة وطنية، تحظى بالصدقية ودعم الشعب، وتكون قادرةً على المناورة السياسية وتجميع القوى المحلية والدولية وتعبئتها؛ لتغيّر مجرى الصراع”، وهو “لا يقصد بالقيادة شخصية قيادية مفردة، وإنما نخبة سياسية متفاهمة ومتكاملة ومتعاونة لتحقيق أهداف الشعب، وتوحيد صفوفه المعارضة وصفوف الشعب، فمن دون هذه النخبة؛ لا يوجد أي فرصة لبروز شخصية قيادية، التي لا تظهر أصلًا إلا لتمثيل النخبة التي تدعمها وتقف خلفها”، ويرى أن غياب قيادة سياسية للحراك كان نتيجة طبيعية للتصحّر السياسي الذي فرضه البعث، خلال نصف القرن الماضي من تاريخ سورية والسوريين”.
مثلت عسكرة الحراك موضوع الاختلاف الأول في صفوف المعارضة، وثمّة قطاعات عريضة ترى أن مقتل الثورة بدأ مع عسكرتها، وعلى الرغم من أن موقف غليون كان ضد العسكرة، إذ أعلن لاءاته الثلاث: لا للتسليح والعسكرة، لا للتدخل الخارجي، لا للطائفية. فإنه يرى، في الوقت ذاته، أن اللجوء إلى السلاح لم يكن قرارًا من أحد، بل جاء كردة فعل، دفاعًا عن النفس، وعن المتظاهرين السلميين، في مواجهة عنف النظام وانسداد أفق الحل السياسي، مما جعل اللجوء إلى السلاح خيارًا وحيدًا.
لعبت أقنية التمويل دورًا حاسمًا في أسلمة الفصائل، إذ بدأت الفصائل تتجمع وتكبر ويزداد طابعها الإسلامي، أما الفصائل ذات الطابع العلماني، فبقيت صغيرةً، لأنها أرادت الحفاظ على استقلالها. ويقول غليون: “اضطررنا إلى مناشدة الدول الغربية بأن تنقذ الكتائب المفلسة من إغراء الالتحاق بداعش والنصرة، ولكن دون جدوى”، (يُحجم غليون عن ذكر الفصائل السلفية الأخرى، مثل جيش الإسلام وأحرار الشام وفيلق الرحمن، وغيرها الكثير ممن يشبههم في مرجعيته). وبسبب الدعم الكبير للقوى السلفية والجهادية، فقد ابتلعت الثورة الديمقراطية. وقد نقلت العسكرة “قيادة الثورة” من السلطة المدنية إلى السلطة العسكرية، وتم تقويض الأجندة الديمقراطية التحرّرية، والجري وراء شعارات ثورة إسلامية واهمة، وتغيّرت صورة الانتفاضة، من انتفاضةٍ سلميةٍ تهتف للحرية والكرامة، إلى صورة حربٍ أهليةٍ يتبارى فيها الجميع ويتسابقون للقتل. وتشكلت عشرات الفصائل الكبيرة ومئات الفصائل الصغيرة في فوضى عسكرية لا مثيل لها. وتم إفشال جميع المحاولات، لتشكيل قيادة عسكرية موحدة، فلم تقبل الدول الداعمة للفصائل أن تتحد، بسبب “حرص كل دولة على الاحتفاظ بسيطرتها على الكتائب والفصائل التي تموّلها، كقاعدة نفوذ لها داخل الثورة وبعد انتصارها”، كما أن الإخوان المسلمين وقفوا ضد تنظيم القوى العسكرية وإخضاعها لقيادة سياسية، وفضلوا بقاء الفصائل مشتتةً على أن تخضع لقيادة من خارج صفوف الإخوان، ورأى السلفيون في الدعوة إلى توحيد الكتائب “مؤامرةً يقودها العلمانيون لبسط سيطرتهم عليها”. كما شجع انقسام المعارضة على توجه الأكراد من المطالب الكردية العادلة قبل الثورة، إلى أجنداتهم الخاصة، وإلى مطالب متطرّفة وغير واقعية، بعد الثورة، في سلوك انتهازي.
يرى غليون أن الدين لم يكن في السياسة عامل توحيد للقوى، بل عامل ترسيخٍ للانقسامات وتبرير وشرعنة لها. وأن تسلّط الإسلاموية السياسية على الثورة وضع القضية السورية في طريق مسدود، و فتحت الباب لدخول قوى متطرّفة، فكانت السبب الرئيس في تخلي الغرب عنها، وتكوين قناعة مشتركة لدى الغرب بأنه لا يوجد في سورية بديل للأسد أفضل منه، فانتقل تركيز المجتمع الدولي إلى محاربة الإرهاب، ما شكل انعطافة في توجه المجتمع الدولي، وأصبح بقاء الأسد البديل الأفضل لديه.
يلخص غليون رؤيته لموقف المجتمع الدولي (اللاعبين الكبار) من الثورة، بأن “الحكومات العربية والأجنبية التي أعلنت موقفها إلى جانب الثورة، لم تكن مهتمةً بنجاح الثورة ذاتها، بمقدار ما كانت تسعى إلى الضغط على النظام من أجل دفعه إلى انتهاج سياسةٍ واقعية، تجنّبه التورّط في حربٍ داخلية تهدّد مصالحها، وأن مصلحتها تكمن في إنقاذ النظام من جنونه، أكثر بكثير من سعيها إلى الانقلاب عليه، أو دعم ثورة شعبية لا تعرف مآلها، ولا يمكنها التحكّم فيها أو السيطرة على دينامياتها”.
ويتهم غليون المجتمع الدولي بالتقصير في القيام بردة فعل مناسبة على جرائم النظام، وخصوصا تجاه دور موسكو في تعطيل أي قرار لمجلس الأمن ضد النظام. ويعتقد أن “موقف الرئيس أوباما … كان له مساهمة كبيرة في دفع الأوضاع السورية إلى الكارثة”، كما يعتقد أن ثمّة اتفاقًا بين أوباما وإيران على إطلاق يد طهران في منطقة الشرق الأوسط، مقابل تنازلها في مسألة التخصيب النووي. ويرى أنه كان بإمكان أوروبا أن تلعب دوراً أكبر وأكثر إيجابيةً في تطورات الأزمة السورية، لو أنها وسّعت هامش مبادرتها المستقلة، ولم تضعف أمام القوى الكبرى وتستسلم لوهم القيادة الأميركية.
ويرى غليون أن النظام لم يكن ليستطيع أن يتخذ تلك الاستراتيجية القاتلة، لولا الدعم الإيراني والروسي المطلق، فقد رمت إيران بثقلها السياسي والمالي والعسكري إلى جانب الأسد، منذ مارس/ آذار 2011، و”منذ البداية، نظرت إيران إلى المعركة في سورية على أنها معركتها القومية، لا معركة حليفها، فالحرب ضد الثورة السورية هي فرصتها التاريخية لتأكيد حضورها القوي في المنطقة واستعراض قوتها، وحسم معركة التنافس على سورية مع تركيا وبلدان الخليج، وخوفًا من انتقال عدوى الثورة إلى إيران في حال انتصارها في سورية”. وكانت إيران تعلم ما تريد، واندفعت فورًا إلى دعم النظام بقوة، بينما لم تعلم دول الخليج المنقسمة ما هو الرد المناسب. وقد ساهم التدخل الإيراني الطائفي الشيعي في تأجيج رد الفعل السني في سورية، وأدّى إلى شعور المسؤولين الخليجيين بأنهم يواجهون تحدّيًـا لأمنهم القومي، دفعهم إلى زج قوى جديدة في المعركة، بصرف النظر عن عقيدتها وأيديولوجيتها السلفية والجهادية، وكانت مليشيات إيران منظمة بقيادة عسكرية منضبطة، مقابل تشرذم فصائل المعارضة وتشتتها، عسكريًا وسياسيًا. كما يرى أن الشعب السوري دفع ثمن معاملة الغرب لروسيا باستهتار واحتقار شديدين وداس مصالحها بعد انهيار الاتحاد السوفيتي. لذلك كانت الحرب في سورية فرصتها للعودة إلى الساحة الدولية، وقد أغرى تردّد أوباما وسياسة الولايات المتحدة المتخبّطة والانكفائية معًا بوتين بالهجوم، ولم تنفع أي إغراءات لروسيا كي تتخلى عن الأسد. ويرى غليون أن من المستحيل تعديل موقف روسيا، وكان موقفها هذا على حساب دماء الشعب السوري.
وعلى الرغم من النقد الشديد الذي يوجهه غليون إلى الجميع تقريبًا، عن مسؤولية فشل الثورة السورية وإفشالها، فإنه يضع المسؤولية الأولى في الكارثة السورية على نظام الأسد، فمواقف هذا النظام المتطرّفة الرافضة أي استجابة لمطالب الشعب هي ما فتح الباب لكل الكوارث اللاحقة، فقد كان شعار النظام وداعميه، منذ البداية، هو: “كل شيء أو لا شيء”، ويشبّه غليون نهج النظام في مواجهة الثورة بأنه “قد أحاط نفسه بحزام ناسف، وأعلن استعداده في أي لحظة لتفجيره”، ويرى أن بنية النظام الطائفية التي تكونت منذ 1970 عصيةٌ على الإصلاح، ولذلك لم يستجب النظام في 2011 لأي دعوة إصلاحية، وأن النظام أظهر تماسكًا مدهشًا، خلال ثماني سنوات متواصلة من الصراع على الأرض، بسبب طبيعته العصبوية. وفي المقابل، تحول رد المجتمع إلى النوع نفسه، أي عصبية نخبة أقلوية حاكمة تحولت إلى نادٍ مغلق، مقابل عصبية مجتمعية أكثرية مهمشة عقودا مع بؤس معنوي وثقافي.
عن تجربة غليون
خلاصة ما أراه في تجربه برهان غليون الشخصية القصيرة في المجلس الوطني، والتي يقيّمها هو ذاته بأنها فاشلة، أن فشلها يقوم على عاملين: الأول أنه قد “تورّط” في قيادة مجلسٍ ليس له هيكل مؤسّسي، بقدر ما كان تجمعًا لقوى عدة، بينها أحزاب سياسية منظمة، في مقدمتها الإخوان المسلمون، ذات تاريخ طويل في التكتيك والتحالفات المعلنة والسرية، ولا تفكّر إلا في مصالحها ومكاسبها الحزبية الضيقة، بينما كان هو مجرد فرد واحد، ليس لديه مجموعة أو كتلة في المجلس، ولم يستطع تشكيلها، وأنه بقي وحيدًا، من دون الاعتماد على تعاون أي فريقٍ معه. والعامل الثاني أن ليس لديه، وهو الأستاذ الجامعي، خبرة سابقة في العمل التنظيمي المؤسساتي السياسي، لذلك كانت معاناته كبيرة. وهو، بعد تجربته في رئاسة المجلس الوطني ينتقد تسنم المثقف أي سلطة.
من جهة أخرى، بدا البروفيسور الجامعي غليون، في كتابه هذا، متفوقًا على غليون الممارس السياسي. وعلى نقيض تجربته السياسية في المجلس الوطني التي انتقدها، فإنه في كتابه هذا يُظهر قدرةً على التحليل العميق، لأسباب “عطب الذات” الذي يرى أنه أساس الفشل، من دون أن يهمل الأسباب الخارجية. وهو يقدّم “شهادة حية من قلب الحدث، عن الثورة الشعبية في حقبتها الأنصع”.
إلى أين وصلنا
“كانت الانتفاضة السورية الصاعق الذي فجّر حروبًا عنيفة: سورية – سورية (بين النظام والشعب)، وإقليمية (بين الخليج وإيران)، ودولية (بين روسيا المهمشة المستبعدة من الغرب). وتحمّل السوريون، شعبًا ووطنًا، عنف هذه الحروب الثلاث التي جرت على أرضهم، وعلى حسابهم، دفعة واحدة. وقد تم إفشال جميع الجهود الساعية إلى الوصول إلى حل سياسي أو تسوية، ويُرجع غليون عدم التوصل إلى حل سياسي بين الأطراف المتصارعة على الأرض السورية، إلى التعارض العميق في المصالح والتناقضات، وانعدام إمكانية التوفيق بين رهاناتها القصوى. ويحدّد غليون الأسباب بثلاث استحالات:
أولا، استحالة التوفيق بين رهانات الحرية التي فجرتها انتفاضة الكرامة السورية، ورهان فرض الإذعان الذي رعاه الأسد.
ثانيا، استحالة إيجاد تسوية بين طموح طهران لبناء الهلال الشيعي وإحلاله محل الهلال الخصيب، ومتطلبات الأمن والاستقرار في الخليج.
ثالثا، استحالة التوفيق بين رهانات روسيا على هزيمة الثورة السورية لفرض نفسها شريكًا للغرب، ورفض الغرب التفاوض معها أو الحوار على المسائل الاستراتيجية العالمية.
ويؤكد غليون أن هذه الاستحالات الثلاث قد دفعت إلى إطالة أمد الحرب، وتحوّلها إلى استعراض للقوة، والتطرّف في المواقف، والمبالغة في العنف، لفرض التراجع على الطرف الآخر. وهكذا أصبح التفكير في البحث عن حلٍّ أمرًا مستبعدًا.. ولم يعد أحد يسأل عن الضحايا، ولا عن الدمار، ولا عن مصير ما بعد الحرب. ويستخلص أن من انتصر في الحرب هو النظام الذي حسم المعركة لصالحه، ضد الشعب الذي ثار وفرض الطاعة والإذعان ثانيةً، وإيران التي فكّت طوق العزلة التي فرضها الغرب عليها، وأصبحت لاعبًا إقليميًا، وروسيا التي استعادت دورها لاعبا على الساحة الدولية. وكان على السوريين أن يدفعوا ثمن هذه الحروب، من دماء أبنائهم وتهديم بلدهم وتفتيت مجتمعهم.
.. “لقد أصبحنا لا أحد معنا”، هذا هو الاستنتاج الرئيس الذي يخرج به قارئ كتاب “عطب الذات .. “، وهذا ما يقوله غليون بالنص: “لم يكن في المشرق دولة أو طبقة حاكمة واحدة تعطف، بالمعنى العميق للكلمة، على قضية الشعب الذي يتعرّض لحرب إبادة، ولم يكن لسورية ولشعبها حلفاء بالمعنى الحقيقي للكلمة”. ويبدو أن هذا الاستنتاج المتطرّف وقع تحت تأثير النتائج التي أفضت إليها الثورة/ الانتفاضة، والتي تبدو بلا أفق اليوم، بينما حصلت، وخصوصا في السنتين الأوليين، على دعم كبير وقوي، مع رغبة حقيقية في انتصارها وهزيمة النظام، ويبدو أن العامل الأميركي، وخصوصا دور الرئيس أوباما بالذات، قد كان العائق أمام وصولها إلى هذه النتيجة، خوفًا من وقوع سورية في الفوضى، على غرار ما جرى في ليبيا، إضافة إلى رغبته في إرضاء إيران.
“ما حصل هو أن شعب الثورة الذي كان أقوى الفاعلين، والمحرّك للتاريخ في هذا الجزء من العالم في تلك اللحظة، بدلًا من أن يفرض إرادته ويحقق أهدافه، وجد نفسه، بعد صراعٍ مرير وتضحياتٍ ليس لها مثيل، الخاسرَ الأكبر والمتضرّر الرئيس من الثورة التي أعلنها للتحرّر من العبودية التي فُرضت عليه”. لعل هذه العبارات تلخص الاستنتاج الرئيس الذي وصل إليه البروفيسور غليون في كتابه.
يقول بابلو نيرودا: “نعرف فنقصّ الحكايا، ونقصّ الحكايا لكي نعرف”، ويقول غليون في كتابه: “غاية ما نضيفه من تحليلات وتفسيرات وشروح، في محاولاتنا النظرية، هو أن نتعلم كيف نتعلم من أخطائنا، وكيف نتغلب عليها.. من أجل أن نحولها إلى خبرة عميقة ونبقيها حية في عقولنا.. لتصبح وعيًا متوهجًا ينير طريق المستقبل.. ونطمئن آلاف آلاف الشهداء على أن تضحياتهم لم تذهب سدى، ونسمح لهم بأن يرقدوا بسلام”، و”سيحتاج السوريون إلى ثورة ثانية، حتى يتمكّنوا من إزاحة أنقاض الحرب عن صدورهم، ويتحرّروا من تراكماتها”.
العربي الجديد