“الجنس والسياسة”: محاولة تفكيك الجسد العربي/ نجيب مبارك
في كتابه “الجنس والسياسة: التدبير السياسي للجسد في الإسلام” (المركز الثقافي العربي، 2018)، يطرح الكاتب والباحث المغربي حسن إغلان إشكالية التدبير السياسي للجسد في راهننا العربي الإسلامي، ويحاول مناقشتها باعتماد مقاربة نقدية تروم تحرير هذا الجسد من الأغلال التي تكبّله حتى اليوم، وتخلّصه من الأعطاب التاريخية التي لحقت به على مدى قرون، كما تثير مجموعة من الأسئلة والقضايا تندرج كلّها ضمن إشكالية أوسع وأخطر هي علاقة السياسي والديني في ثقافتنا العربية والإسلامية.
الجسد بين الفلسفة والدين والعلوم الإنسانية
من أجل الإلمام بتاريخ الجسد، يشير الباب الأول من الكتاب إلى أهمّ القضايا التي أثيرت حوله، عبر ثلاث محطّات رئيسة وهي: الفكر الفلسفي، والفكر الديني، وأخيراً الفكر العلمي. هكذا، في الفصل الأول، الّذي حمل عنوان “الجسد فلسفيّاً”، يرصد الباحث كيف استقطبت موضوعة الجسد اهتمام الفلاسفة من أفلاطون إلى هيغل، حيث كان الاهتمام منصبّاً حول الأولوية الأنطولوجية، أي الحديث عنه وفقاً للثنائية الميتافيزيقية جسد/ روح. إلّا أن هذا التقليد الفلسفي لم يصمد كثيراً مع التحوّلات الكبرى الّتي حدثت في القرن التاسع عشر، خصوصاً مع نيتشه، حيث بدأ التّأسيس الفعلي لمقاربة الجسد فلسفياً. ولا ننسى أيضاً الإحالة على مشروع ميشيل فوكو البارز، لكونه انشغل بموضوعات جديدة كالجنون، السجن، الجنس، وما يجاريها من موضوعات ظلّت غير مفكّر فيها.
في الفصل الثاني، ينتقل الباحث إلى مقاربة الجسد دينياً، من خلال التركيز على مفهوم الجسد وفق ما رسّخته الديانات التوحيدية: اليهودية، المسيحية، والإسلام الّذي أخذ القسط الأوفر من البحث عبر فحص النصوص المؤسّسة له (القرآن والسنة). وبعد ذلك يلتفت إلى مفكّرين كبيرين، هما أبو حامد الغزالي ومحي الدين ابن عربي. وقد وجد في هذين النموذجين أجوبة وتأويلات حول تطويع الجسد حتّى يكون مقابلاً للمطلق الإلهي. بينما في الفصل الثالث، الموسوم بـ”الجسد علمياً”، ينحصر مجال البحث في الجسد العربي الإسلامي فقط باعتباره سؤالاً علمياً وفق ثلاثة مجالات من العلوم الإنسانية، وهي: الأنثربولوجيا، السوسيولوجيا، التحليل النفسي، من خلال دراسة نماذج محدّدة، هي على التوالي: عبد الله حمودي، فاطمة المرنيسي وفتحي بن سلامة.
مركزية الفقه ومركزية القضيب
إنّ الفرضية الّتي انطلق منها الباحث تسعى إلى رصد تمظهر الجنس من منظور سياسي في الثقافة العربية والإسلامية، وهو تدبير يروم تفكيك الجسد العربي في الأبعاد الّتي بُني عليها. جسدٌ يحمل التاريخ والمكبوت والجراحات المتعدّدة، إن على المستوى الديني أو على المستوى السياسي. صحيح أن موضوعة السياسي والديني كان لها نصيب أوفر في البحوث والكتابات العربية منذ زمن بعيد إلى حدود يومنا هذا، إلّا أن أغلب الكتابات والأطاريح – الجديدة في عالمنا العربي- انشغلت بهذه الثنائية المعضلة في هذا التاريخ، ما دام أن الديني منغرس في المجتمع والثقافة العربيين إلى حدّ كبير، سواء بالتأويل الإيديولوجي للسلطة السياسية أو بعملية استخدامه بالشكل الّذي يفيد طمأنة الكراسي الوثيرة، ومن يجلس عليها، وكذلك إخضاع الشعب بمجموعة من النصوص الدينية التي تعلّل ذلك.
على نهج ميشيل فوكو، الّذي قام بتفكيك بنيات الفكر الغربي، يرى الباحث أنّ الموضوعة الإشكالية الّتي يجب أن ينطلق منها تحليل وتفكيك النظام الرمزي الذي يؤسّس المجتمع العربي الإسلامي ماضياً وحاضراً، هي ما يسمّيه “مركزية الفقه ومركزية القضيب في الثقافة العربية الإسلامية”، بحيث يفترض أنّ النظام الثقافي العربي يتمحور بين هذين الحدّين. يقول محمد عابد الجابري: “إذا جاز لنا أن نسمّي الحضارة الإسلامية “بإحدى” منتجاتها فإنّه سيكون علينا القول عنها “حضارة فقه” وذلك بنفس المعنى الّذي ينطبق على الحضارة اليونانية حينما نقول عنها إنّها حضارة فلسفة” وعلى الحضارة الأوروبية المعاصرة حينما نصفها بأنها “حضارة علم وتقنية””، وبما أنّ “الفقه هو أعدل قسمة بين الناس”، فهذا يعني رسوخه في الوعي واللّاوعي الجمعيين. ذلك أنّ المسلم لا يستطيع القيام بأيّ سلوك إلّا إذا استشار -ضمناً أو صراحة- هذا الفقيه، وكأنّه الرقيب الّذي يراقب هذا السلوك ويقوّمه بشكل يفيد صعوده إلى السماء. بهذا المعنى، يكون الفقيه حارس السلطة السياسية والدينية، بل أكثر من ذلك هو مستودع الإجابة عن أسئلة الجمهور اليومية. إنّه يشرّع الأخلاق والدين في النظام السياسي ومن ثمّ يمنح هذا النظام أو ذاك شرعيته. ولأنّه يحتلّ مركزيّة رئيسة في الثقافة العربية الإسلامية، مثلما يحتلّ القضيب مركزية في هذه الثقافة نفسها، انطلاقاً من النصّ المقدس وما يحتلّه في الثقافة العربية الإسلامية إبّان الدعوة المحمدية، وفي النظام السياسي الذي دشّنه، والذي تمّ بمقتضاه تغيير رؤية الإنسان – ساعتها- إلى العالم. إنّ مركزية القضيب إذاً لا تتأسّس على الأفضلية بين الرجل والمرأة فحسب، وإنّما على الإرث الثقافي الّذي حمله العرب في الإسلام.
التدبير السياسي للجسد في الإسلام
إنّ البحث في هاتين المركزيتين الرئيستين في ثقافتنا العربية والإسلامية لا يتأتّى إلّا عبر التحليل الدقيق لهما من جهة، وللعناصر والمفاهيم الّتي تعيش داخلها من قبيل التدبير السياسي للجسد/الجنس في هذه الثقافة. وهي موضوعة اختارها الباحث لتفكيك الإشكالية أوّلاً، وثانياً للنظر في تطويع هذا الجسد كي يكون ملائماً ومتلائماً مع الشرط الثقافي الّذي دعت إليه الدعوة المحمدية عبر رمزيات متعدّدة كالختان، والوضوء، والصلاة، والطهارة، والنجاسة، والحج، وغير ذلك من الأمور الّتي تضع الجسد في خدمة الأرض والسماء، وهي كلّها تؤدّي إلى الطاعة بما هي مفهوم سياسي وديني.
وفي سياق الحديث عن التدبير السياسي للجسد يقترح الباحث ثلاث بوّابات لضبطه:
– الجسد المعذّب، أو بالأحرى تعذيب الجسد، وهو يحيل على التعذيب باعتباره شرطاً من شروط قيام الدولة في الإسلام، وما لاقاه معارضو سياسة الدولة من أشكال في التعذيب، وهي أشكال ما زالت حاضرة في زمننا العربي المعاصر. والجسد الولهان المعذّب وفق ما تخبرنا به مرويات الشعر العربي والتصوّف الإسلامي، معذّب تعذيباً يكون جسراً نحو الاتّصال والوصل بالمعشوق سواء كان أنثى أو الله.
– الجسد المحجوب، وهي تحيل على تميّز بين الخاص والعام في سياسة الدولة الإسلامية منذ الدعوة المحمدية، فالحجاب شرط لقوامة الرجل على المرأة. لا يتعلّق الأمر بحجم المرأة في المجال العمومي والشأن السياسي بقدر ما يكون حجم الذّكر كذلك. صحيح أن مسألة الحجاب اهتمّ بها الفكر المعاصر والإعلام في الراهن العالمي بشكل ملفت، وصحيح كذلك أنّ الفقهاء شرّعوا لهذا الحجاب حدوده عبر القرآن والحديث النبوي، لكن من وجهة نظر أخرى يكون الحجاب موضوع سؤال في التدبير السياسي للجسد.
– الجسد الأخرويّ هو العنصر الثالث والأخير ما دام المسلم لا يعيش زمنه إلّا جسراً يوصله إلى اللّازمن، أي إلى الآخرة (الجنّة أو جهنم)، هذه الأخيرة هي امتحان للعبور من محطة إلى أخرى، من الحياة إلى ما بعد الموت. لقد فاض الخيال العربي الإسلامي بكثير من التوصيفات للجنة، حيث يكون الجسد محايثاً لله، وللانتظارات التي ينتظرها هنا أو هناك. لقد بيّن القرآن ذلك مثلما أشار إليه النبيّ، لكن الفقهاء والمتصوّفة والرواة تخيّلوا أشكالاً جسدية أخرى. وهو بالجملة الجسد الذكوري وما سيحتلّه من متع ولذّات لا محدودة.
الكتابة الإيروتيكية العربية
يدعو القسم الأخير من الكتاب إلى وضع الكتابة الإيروتيكية العربية ضمن إشكاليتها المركزيّة (الجنس والسياسة)، وهي بذلك بحث في الهامشي من هذه الكتابة. فالعرب والمسلمون احتفوا بهذا النمط من الكتابة منذ القدم، انطلاقاً من الشعر الجاهلي إلى الحكايا والنوادر الصاعدة من القصور الأمويّة والعباسية وحواشيهما. لقد جمع العرب في تراثهم هذه النصوص بشكل ملفت، ضمن مصنّفات ما زال بريقها مشتعلاً إلى اليوم. هذا البريق هو ما تعبّر عنه “ألف ليلة وليلة” و”العقد الفريد” وسواهما من الكتب، إلى حدود نشر كتب أخرى بعناوين مختلفة، كالنصوص المحرّمة في زمننا المعاصر. لقد تفنّن العرب في هذا الأدب، وأحاطوه بعناية كبيرة تتفاوت مدّاً وجزراً بحسب وضعيات السلطة والقراءة والزمن التاريخي، لهذا من الواجب قراءة المتن الإيروتيكي الّذي كتبه الفقهاء، كالشيخ النفزاوي وابن قيم الجوزية والتيفاشي وجلال الدين السيوطي وغيرهم. هذه القراءة سيطرحها الباحث في فصلين: الأوّل يهتمّ بـ”بلاغة الجماع”، فهذا المفهوم ظلّ يتراوح بين القدسي والدنيوي، باحثاً عن إقامة سكن بينهما، سواء بالتحايل عليهما أو باقتناص الرغبة وتفعيلها في الزمان والمكان كنوع من الانجذاب نحو اللذّة. أمّا الفصل الثاني، فهو يتناول “الكتابات الجنسيّة في النص الفقهي”، وهو بحث عن سياسة الجنس من خلال نصوص الشيخ النفزاوي وجلال الدين السيوطي، باعتبار هذه المراجع تشكّل بنيات الكتابات الفقهية العميقة حول الجنس، ولأنّها كذلك تمدّنا برؤية العربي للجنس والأهمية البالغة الّتي تحظى بها، وكأنّها هي الرافعة الرئيسة في ثقافتنا العربية الإسلامية.
عنوان الكتاب: الجنس والسياسة: التدبير السياسي للجسد في الإسلام المؤلف: حسن إغلان
ضفة ثالثة