سوزان سونتاغ.. المكافِحة/ نجوى بركات
في مذكّراته عنها، يروي الصحافي والكاتب السياسي دافيد رييف، أن كلمات والدته الأخيرة له كانت: “أردت أن أقول لك…”، قبل أن تنطفئ من دون أن يتمكّن من وداعها. ووالدته الكاتبة الشهيرة والنسوية اليسارية هي سوزان سونتاغ التي ألّفت نحو 15 عملا تُرجمت إلى أزيد من ثلاثين لغة، وهي أيضا المثقفة الملتزمة والباحثة التي اشتهرت بأعمالها عن الفن والصورة، والروائية التي حازت “ناشيونال بوك أوارد” عن روايةٍ لها، وهي أرفع الجوائز الأدبية الأميركية…
يخبرنا ابنها الوحيد عن صراعها مع السرطان وقد هرع إليها في مارس/آذار 2004، حين أعلمه الطبيب أن مرضها من النوع الفتّاك، وأنها ما عادت تملك كثيرا من الوقت، ليفاجأ بها تقول له “ثمّة قلة تنتصر عليه، فلم لا أكون من بين هؤلاء”. لقد سبق لسوزان سونتاغ أن قارعت هذا المرض الخبيث مرة أولى، وانتصرت عليه حين أصابها في الثدي عام 1975، وثانية في الرحم عام 1989 وانتصرت عليه، وثالثة وأخيرة انتصر عليها في 28 ديسمبر/كانون الأول عام 2004، وكانت في عمر يناهز الواحدة والسبعين، ولكن بعد أن قاومته بشراسة، وحاولت وتشبّثت وتعذبت لكي تبقى على قيد الحياة. بهذا الشأن، يكتب ابنها: “كنت أود لو أقول لها لا تحبّي الحياة إلى هذه الدرجة، فأنت لطالما قدّرتها أكثر مما تستحق.. كنت أود أن أواسيها، مع علمي بأنها لم تواسَ أبدا”.
ولم تكن علاقة سونتاغ مع المرض عابرة، فقد كتبت عنه عملا مهما جدا هو “المرض كاستعارة” (1977)، تبعه “الإيدز واستعاراته” (1989) و”أمام ألم الآخرين” (2003)، وكذا علاقتها مع الموت الذي بقيت ترفضه، وترفض الرضوخ له حتى رمقها الأخير. وقد تكمن هنا حرقة الابن الذي يواجه موت قريبٍ لا يريد أن يرحل، ولا يريد هو أن يخيّب أمله المستحيل، فيدعمه ويشجعه، مع علمه أنه أمل واهٍ. إن “الإفلات من قبضة الشعور بالذنب يعني أنك كنت قد نفّذت كل طلبات الراحل، ومعناه أنك أمضيت حياتك بأكملها، وأنت تواكب احتضار من تحب”.
بيد أن “وفاة امرأة لا تواسى” أكثر من كتابٍ عن الحداد، فهو يتناول شرطا إنسانيا بامتياز يطلق عليه الكاتب عبارة “مع وقف التنفيذ” التي تختصر الحياة في علاقتها مع الموت المحتوم، واستحالة تفكير الموت والفناء على كل بشري، مع استخدام مراجع فلسفية وأدبية من نوع “حيث أكون، لا يكون موت. وحيث يكون الموت، لا أكون أنا” (أبيقور). فكيف حين يكون المعني هو المريض نفسه، وقد حكم عليه الطب بالإعدام، ومع ذلك يبقى محتفظا بفسحة أمل؟ أو حين يكون ذلك المريض هو سوزان سونتاغ التي كانت مرعوبةً من فكرة الموت، وكانت، في الوقت نفسه، تشعر بأنها “مميزة” وخاصة، ما حداها ربما إلى الصراع إلى النهاية.
هذا ويتناول ديفيد رييف فكرة النكران ويرى أنها من أشكال الكذب الضروري على الذات وعلى الآخرين، نوع من التفكير السحري والنظريات العقلانية التي يلجأ المريض إليها لتفسير مرضه، وحاجته لأن “يخترع قصصا” تتيح له أن يستمر في الأمل. هكذا منعت سونتاغ المحيطين بها من أن يفقدوا الأمل، أو أن يتصوّروا أو يتقبّلوا رحيلها. “كنت أتمنى لو أني استطعت ضمّها بين ذراعيّ، لو أخذت يدها بين يدي”. يكتب ابنها، مضيفا أن كتابه هذا هو كلمة الوداع التي لم يقلها لأمه. ويروي أن والدته لطالما كانت مرعوبةً من الموت، بحيث إنها لم تكن تحتمل الحديث عنه، في حين كانت تهجس به، فتمضي وقتها في زيارة المدافن، وتضع خلف مكتبها جمجمة بشرية وسط صور الكتّاب الذين كانت تجلّهم. “في نظرها كان الموت ظالما بقدر ما هو القتل”، ولم تكن في حالة نكرانٍ كسواها، وإنما في حالة رفض، فلم يكن يمكنها تقبّل فكرة رحيلها، إذ سعت بقوة إلى أن تحيا بضع سنوات أخرى من دون أن تبالي بنوعية تلك السنوات. “ومع أنها عرفت كثافة العذاب الذي كانت ستعاني منه بعد زراعة النخاع الشوكي، فلا أعتقد أنها كانت امتنعت عن رمي النرد، والمجازفة بكل شيء من أجل قليل من الوقت الإضافي في هذا العالم: وأكثر شيء، مزيد من الوقت للكتابة”.
العربي الجديد