وانغ شياوبو.. كافكا وجويس بالخلطة الصينية
صدرت حديثاً عن منشورات المتوسط – إيطاليا، رواية “العصر الذهبي”، للكاتب الصيني وانغ شياوبو، ترجمها عن الصينية علي ثابت، وراجعها وقدَّم لها أحمد السعيد.
وانغ شياوبو، والذي يُطلَق عليه في الصين: النسخة الصّينيّة من امتزاج كافكا وجيمس جويس؛ يُعتبر من أكثر الكُتَّاب تأثيراً في الصين على مدار الثلاثين عاماً الأخيرة، ففي إحدى المدوّنات الصينية الشهيرة المتخصصّة في الأدب، طُرح سؤال حول ماذا يمثّل لكَ وانغ شياوبو عندما يخطر ببالكَ؟ وكانت الإجابة التي حصلت على أعلى درجة استحسان من المشاركين الذين بلغ عددهم نصف مليون شخص هي: وانغ شياوبو يعني لي امتزاج الواقعية بالفانتازيا، والحبّ بالثورة، والفكاهة بالنَّقْد اللاذع، والجنس بالسياسة، والتاريخ بالحاضر. وكان جواب المركز الثاني هو: وانغ شياوبو يشبهني، ولا أشبهه، فهو صعلوك مثلي، ولكني لستُ فيلسوفًا مثله.
وكتاب “العصر الذهبي” هو أول أعمال الكاتب التي تُنقل إلى العربية. ويضمُّ مجموعة من الروايات القصيرة لكاتبٍ يبتكر موضوعاتٍ للقصِّ، تُقارِبُ الحياة المعاصرة، وعبرها يمكن اكتشاف لذَّة القصِّ والقَنْص في آنٍ، فهو يأخذ القارئ باتجاه الأسئلة “المسكوت عنها” في أكثر المساحات الإنسانية تعقيداً، ويضرب، بنبرته الجريئة، عرض الحائط بالكثير من “التابوهات” أو الثوابت، سواء تعلّقت بالذات الإنسانية وهي في أقصى لحظات ضعفها أو بالصور النّمطيّة التي تُصدرها المؤسّسات – كل المؤسّسات – عن نفسها، وتُخفي خلف نفوذها نمطاً من الهشاشة، يصعب تفاديه. هنا كتابة تحتفي بالضعف الإنساني، وتزهو بجلال الخسارة، وتصنع من ندوب الحياة أفقاً للتحايل، ما يجعل القصص كلها (كرنفالاً) للاحتفال الساخر بمأزق الإنسان المعاصر في هذا البلد الكبير.
صعلوك فيلسوف
ومما جاء في تقديم أحمد السعيد: في الثلاث روايات القصيرة … يصاحبنا البطل نفسه وانغ أر (بطل العصر الذهبي) خلال أحداثها، فتارة في “ما بعد الثلاثين” يتقدّم الزمان عشرين عامًا، ونجده هو الأستاذ الجامعي المتمرّد الواقع حتّى أُذُنَيْه في آثار تاريخه الثّوريّ المعترض على راديكالية كل شيء في الصين، والداعي إلى اللّيبراليّة، والمطحون تحت قبضة زوجته المتسلّطة، والغارق في مشاكل صديقه الأبله، والحالم بالجنس الجنوني مع صديقته القديمة، وتارة في “الحبّ في زمن الثورة” التي يقول داخل النّصّ إنه استعار اسمها على غرار رائعة ماركيز “الحبّ في زمن الكوليرا”، وكأنه يقصد أن أميركا اللّاتينيّة تمرض بالكوليرا، أمّا الصين، فقد مرضت بالثورة، نجد وانغ أر يعمل في مصنع صغير كمنبوذ من المؤسّسة والمجتمع، ويشترك في المواجهات الثَّوريَّة كلها مع الحَرَس الأحمر، ويحمي مدينته، وتمرّ بحياته ثلاث نساء، تتباين كل منهنّ في دلالتها عن جانب من الثورة ودور “المؤسّسة” – أيّ مؤسّسة – في تقويض العقول. ونتابع التّنقّل مع وانغ أر في الرواية الأخيرة “عالمي المنير، عالمي المظلم”، وهو هنا مصاب بعجز جنسي نتيجة صدماته النَّفْسيَّة السابقة، فتظهر له مَنْ تساعده في التّغلّب على عجزه، ولكنها تتحوّل، في النهاية، إلى كابوس لا يقلّ بشاعة عن سابقيها، ولكنْ، تبقى فكرة الثورة والجنس والإنسان هي المسيطرة على المشهد الإبداعي، والتي تستشعر، في النهاية، أن وانغ شياوبو محرّك عرائس باهر، لكنكَ لا تعي جيِّدًا هل شخوصه هي العرائس أم نحن.
وقد نُشر هذه العمل، في بادئ الأمر العام 1991، على حلقات مسلسلة في ملحق جريدة ليان خه، في تايوان، بعد منعها في البرّ الرئيس الصّينيّ، ثمّ أصدرتْها دار نشر فان رونغ من هونغ كونغ في مارس 1992 – وكانت هونغ كونغ لم تعد لأحضان الصين بعد – ضمن مجموعة روائية للأديب وانغ شياوبو تحت عنوان: “طرائف وانغ أر”. وفي أغسطس 1992، أعادت إصدارها شركة تايوان ليان خه لأعمال النشر تحت عنوان: “العصر الذّهبيّ”، وأخيرًا، وبعد رَفْض متكرّر، نُشرت في البرّ الرئيس للصين العام 1994 على مسؤولية ابنة رئيس تحرير دار النشر، والتي تعرّضت للكثير من المشكلات حينها بسببها، لكنها، حتّى اليوم، لم تنقطع طبعاتها الجديدة عامًا بعد عام.
من الكتاب:
وحين جاءت إلى غرفتي المصنوعة من القَشّ، ارتدتْ معطفًا أبيضَ، يكشف عن ذراعَيْها وساقَيْها، لم يختلف مظهرها كثيرًا عمّا كانت عليه في العيادة، فقط ربطت شَعْرها الطويل المنسدل بمنديل، وانتعلت شِبْشِبًا. ولحظة أن رأيتُها، دارت الخيالات في رأسي: يا تُرى ماذا ترتدي تحت هذا المعطف الأبيض؟ أو لعلّها لم ترتدِ شيئًا على الإطلاق. كانت جميلة، وواثقة من أنها كذلك سواء ارتدت ملابسَ أم لم ترتدِ. لا بدّ وأنها تعلّمت الثقة بالنَّفْس منذ الصِّغَر. أخبرتُها بعد ذلك أنها بالفعل امرأة فاحشة، وسردتُ لها بعض المبرّرات كالتالي: فنعتُ امرأةٍ بذلك الوصف لا يعدو إلّا أن يكون مجرّد “لقب” يُطلقه عليها الآخرون، فإذا اتّفق الجميع على أنها فاحشة، فهي كذلك دون الحاجة لذِكْر مبرّرات منطقية، وإذا قال الجميع إنكِ تخطفين الرجال، فأنتِ خاطفة رجال بالفعل، وأيضًا دون حاجة لذِكْر أسباب. أمّا عن الدافع الذي يجعل الناس يصمونكِ بالفحش، فدعيني أُخبركِ: يعتقد الناس أن المرأة التي تنفصل عن زوجها، ثمّ لا تجد عشيقًا، لا بدّ وأن يعلو السوادُ وجهَهَا، وأن تتهدّل حَلَمَتَا ثديَيْها، ولكن وجهكِ لم يعله سواد؛ فبشرتكِ بيضاء ناصعة، وحَلَمَة ثديكِ لم تذبلْ، بل إنها منتصبة عالية، ومن ثمّ فأنتِ فاحشة ساقطة، لا محالة. وإذا أردتِ أن تُوقِفي الناس عن نعتكِ بالعاهرة، فلتجدي طريقة تجعلي بها بشرتكِ تبدو قاتمة، وحَلَمَتَي ثديَيْكِ مُتهدِّلَتَيْن، حينها لن يُلقّبكِ أحد بالفاحشة. بعد ذلك، ربّما تشعرين بالظلم، فإذا أردتِ اجتناب هذا الظلم، فلتذهبي وتخطفي رجلًا من امرأته، وبذلك ستُثبتين لنفسكِ أنكِ امرأة فاحشة فعلًا، فليس هناك ما يُوجِب على الآخرين أن يتأكّدوا أوّلًا من أمر غوايتكِ للرجال قبل نعتكِ بالعاهرة.
عن الكاتب
وُلد وانغ شياوبو في بكين العام 1952، وهو العام نفسه الذي اتُّهم فيه والده الثّوريّ الشيّوعيّ الذي عمل في فيلق الجيش الصّينيّ طوال عمره بتهمة “الطّبقيّة ومعاداة الاشتراكية”، فتكدّرت الأحوال، ولكنْ، تغيّرت الظروف للأفضل قليلًا بعد خمس سنوات حينما قابل والده، ضمن وفد من الشّيوعيّيْن، زعيمَ الصين ماو تسي دونغ، وانتظم الطفل شياوبو في دراسته الابتدائية، ولكنْ، ما هو إلّا عام حتّى قامت حركة “القفزة العظيمة للأمام”، والتي لا تخلو كتاباته من الإشارة إليها، وصولًا للعام 1968، وهو في الصّفّ الأوّل بالمرحلة الثانوية، حيث اندلعت “الثورة الثَّقافيَّة الكبرى”، وكُلّف بالعمل في فيلق الجيش الصّينيّ في مقاطعة يونان الحدودية، وهو مسرح أحداث معظم أعماله الأدبية، ومنها “العصر الذّهبيّ”، وأيضًا كان مسرح أحداث أولى إبداعاته القصصية التي نُشرت العام 1980 بعنوان “صداقة وطيدة”. وفي العام 1971، انتقل إلى معسكر آخر بمسقط رأس أُمّه في مقاطعة شاندونغ، ليعمل مُدرِّس محو أُمّيّة بالخدمة المَدَنِيَّة، وعن تلك الفترة، كتب أيضًا شياوبو العديد من القصص والمقالات، وبانتهاء الثورة الثَّقافيَّة وفَتْح باب القبول للتّقدّم للجامعة، تقدّم وانغ شياوبو الذي انقطع عن التعليم 12 عامًا، ولم يدرس سوى حتّى الصّفّ الأوّل من المرحلة الثانوية فقط، لامتحان الالتحاق بالجامعة العام 1978، وقُبل بجامعة الشعب الصّينيّة وهو في سنّ السادسة والعشرين. وقد درس الإدارة حتّى عام 1984، ثمّ انتقل إلى الولايات المتّحدة الأميركية مع زوجته لي ينخه التي تزوّجها العام 1980، والتحق في مركز الدراسات والبحوث الآسيوية، وحصل على درجة الماجستير، ثمّ تجوّل في أنحاء أميركا لفترة، وعاد إلى الصين، ليعمل مُدرِّسًا في جامعة الشعب الصّينيّة، ومن بعدها جامعة بكين، كمحاضر لمادّة المحاسبة، ثمّ استقال من العمل الأكاديمي في عيد ميلاده الأربعين، وتفرّغ للكتابة. ولكنْ، ما هي إلّا خمس سنوات من التّفرّغ الذي تمنّاه حتّى جاء يوم 11 إبريل 1997، وتوقّف قلبه فجأة من دون مقدّمات، ليفارق الحياة وهو في أوج عطائه الأدبي وذروة نضج إبداعه.
المدن