كيف يتجلى “النصر”! رحلة عبر سورية الممزقة
في طريقنا حول أنقاض ضاحية دوما في دمشق، استغرق الأمر بعض الوقت لإدراك ما هو مختفٍ. كان هناك نساء يتسوقن، ورجال مسنون يركبون دراجات نارية، وأطفال نحيلون ينقلون أوعية من الماء، بينما عدد الشباب كان قليلًا.
لقد ماتوا في الحرب، أو أُلقي بهم في السجون، أو شُردوا خارج الحدود السورية. الآن، شاء القدر أن تنجو نساء مثل أم خليل، الجدة البالغة من العمر 59 عامًا، ذات الوجه المستدير، لتقضي ما تبقى من عمر تستذكر غيابهم.
قُتل ثلاثة من أبنائها. وتعرض آخر للتعذيب في سجن للمتمردين، واختفى الخامس في سجن حكومي. كان على زوجات أبنائها أن يبدأن العمل، بينما كانت هي تربي خمسة أحفاد من دون زوجها، الذي مات في غارة جوية.
أم خليل، التي تسكن في شقة أحد معارفها البعيدين، حيث ما تبقى من أسرتها يجلسون القرفصاء، قالت: “أحياناً أجلس وأفكر، كيف حدث هذا؟ كان لدي أبناء يعملون. كان كل شيء طبيعيًا، وفجأة فقدتهم. كان لدي زوج، وقد فقدته هو أيضًا. ليس لدي إجابات. ليسامح الله من كان وراء هذا”.
ثمّ انفجرت: “سواء غُفر لهم، أم لم يُغفر، ما الذي سيتغير؟ أتمنى أن أجد من دمر هذه المدينة. سوف أقتله”.
الخراب والتعافي، موزعان بشكل غير متساو
بعد ثماني سنوات من الحرب الأهلية، تسيطر الحكومة السورية الآن على معظم البلاد، ويبدو قريبًا أنها ستسيطر على إدلب، آخر مناطق المتمردين.
لبعض الوقت لم يكن فوز بشار الأسد [بالحرب] موضع شك. نحن -ثلاثة صحفيين من صحيفة نيويورك تايمز- أتينا إلى سورية، لنرى كيف تجلى فوزه!
خلال زيارتنا خمس مدن وقرى تسيطر عليها الحكومة، على مدار ثمانية أيام في حزيران/ يونيو، وجدنا الخراب والكرم، وجدنا الناس يقضون يومهم في حالة من الحزن. لقد وُزعت المعاناة بشكل غير متكافئ، حيث حلَّ معظمها على الفقراء، وعلى المناطق التي كان يسيطر عليها المتمردون سابقًا. والتعافي، أيضًا، كان بشكل غير متساو.
في دمشق، العاصمة، يسطع ضوء مول تجاري بكلفة 310 مليون دولار، تم بناؤه خلال الحرب على مسافة ليست بعيدة من جبل حيث كانت القوات الحكومية تطلق منه قذائف المدفعية على مناطق المتمردين، يتردد صدى طقطقة أحذية الكعب العالي للمتسوقات. وفي دوما المجاورة، التي كان يسيطر عليها المتمردون طيلة معظم الحرب، ما تزال المياه طموحًا أكثر من كونها واقعًا، في اللاذقية، على ساحل البحر الأبيض المتوسط، معقل الحكومة، بكت الأمهات على صور أبنائهن الميتين. بعد مرور أكثر من عامين على استعادة الأسد لمدينة حلب الشمالية، كانت المصانع والأسواق القديمة، تتحرك من جديد، لكن الكهرباء تأتي مدة قصيرة.
ليست البنية التحتية فقط هي التي تحتاج إلى إعادة البناء. سورية التي رأيناها كانت تفتقد إلى طبقة وسطى، فرَّ أعضاؤها أو سقطوا إلى أسفل السلم الاقتصادي. تُقدّر الأمم المتحدة أن أكثر من 8 من 10 أشخاص يعيشون الآن في فقر، حيث يُحصّلون أقلّ من 3,10 دولار في اليوم للشخص الواحد.
حتى مع عودة المُهجرين إلى ديارهم، لا يزال الشباب يُجبرون على الالتحاق الجيش، ويختفي المنشقون، أو أولئك الذين على علاقة بهم، في السجون القاتمة. لا يزال الناس يفرّون من البلاد، غير أن أعداد من يفرّ اليوم أقل بكثير مما سبق.
من دون مساعدات لإعادة الإعمار من مانحين دوليين، كان السوريون الذين قابلناهم يبذلون ما في وسعهم لإصلاح الثقوب التي أحدثها الرصاص في جدرانهم، ولإطعام أطفالهم والعثور على قوتهم.
ومع رحيل الكثير من الرجال، تُركت هذه المهمة للمسنين، والشباب الصغار، وخاصة النساء، ومنهم النساء من الأسر المحافظة التي تعمل الآن لأول مرة.
أم عقيل، وهي امرأة تبلغ من العمر 40 عامًا في شرق حلب، قالت: “لم أعتقد مطلقًا أنني سأعمل يومًا، لكن العمل يظلّ أفضل من أن أتسوّل”. وقالت إن الحكومة اعتقلت زوجها، بشكل غير عادل، وتمنت أن تعمل بناتها عندما ينهين دراستهن، “كي لا يواجهن ما واجهته”.
الأسد في كل مكان، وكذلك أتباعه
في كل مكان ذهبنا إليه، كان من المستحيل أن ننسى مَن الذي أشرف على الدمار، ومن سيتولى السيطرة على ما سيأتي.
“الأسد للأبد”، لافتة تحمل صورة الأسد، وهي واحدة من اللافتات العديدة المعلقة على طول الطرق السورية.
تنتشر صورته على لافتات عند مداخل المدن التي تم الاستيلاء عليها. على ولاعات السجائر التي تُباع على بسطات الهدايا التذكارية في دمشق، يطلُّ ووجهه محشورٌ بين وجوه داعميه: فلاديمير بوتين (الرئيس الروسي)، وحسن نصر الله (زعيم حزب الله). عند أحد حواجز الجيش الذي مررنا به، كان هناك ما لا يقل عن 13 من شبيحة الأسد، وكلهم يحدقون في اتجاهات مختلفة مثل مجموعة من الكاميرات الأمنية. وعملاؤه كانوا دائمًا موجودين في رحلتنا.
منعت الحكومة السورية العديد من زملائنا، في صحيفة نيويورك تايمز وغيرها من وسائل الإعلام الإخبارية، من الكتابة، لأنها تُعدّ مفرطةً في النقد، وقد استلزم الأمر منا نحن الثلاثة، أنا، المراسلة في بيروت، ومترجمي اللبناني، وميريديث كوهوت، مصورة أميركية، ما يقرب من نصف عام للحصول على إذن دخول. لكن التأشيرة لا تعني الإذن بالتجول بحرية.
في كل مكان ذهبنا إليه تقريبًا، كان يرافقنا رجال من الحكومة، والعديد من الجنود، ومخبرون بالملابس المدنية مسلحون من أجهزة المخابرات السوري القوية. في بعض الأحيان يقف العملاء بجانبنا عند كل محادثة تقريبًا مع سوري، ويعرّفون عن أنفسهم بأنهم “صحفيون”. كان من الصعب علينا التحدث إلى الناس، لأن الأمر مخيف بالنسبة إليهم.
في أحسن الأحوال، حصلنا على نظرة ضيقة وموالية: لا أحد ممن تحدثنا إليهم يلقي اللوم على حكومة الأسد في الكارثة التي دمّرت سورية. كانوا يعزون الانهيار الاقتصادي دائمًا إلى نتائج العقوبات الأميركية، لا إلى الحرب أو الفساد.
“كلنا لدينا قصص حزينة واحدة”
كان المخبرون حريصين على إظهار أن الحياة تعود إلى طبيعتها. كان هذا واضحًا بما فيه الكفاية في دمشق، التي تجنبت إلى حد كبير الأضرار المادية.
في طريقنا نحو دوما، وبعد دقيقتين بالسيارة من دمشق، تحول المشهد الذي نراقبه عبر نافذة سيارتنا فجأة من مدينة نشطة إلى حقل من الأنقاض القاتمة. بدا الأمر وكأنه استمر لأميال، رماد الحرب: المباني السكنية التي تشبه أماكن وقوف السيارات في الهواء الطلق، والأبواب التي تنفض الغبار الرمادي، والمآذن التي تخرج منكسرة من تحت الأنقاض مثل الشموع نصف الذائبة وسط كعكة.
كان للتدمير رتابة قاتمة، حيث محت الطائرات الحربية والمدفعية جميع ملامح وأسس الإنسانية باستثناء القليل منها. ليس من السهولة أن ننسى أن هذه الأرض كانت عامرةً ببيوت أهلها ذات يوم، ولم تكن مجرد أنقاض.
في دوما، كانت حركة الزبائن الذين يبحثون عن فواكه وأدوات منزلية بسعر مخفض في سوق وسط المدينة بطيئة ولكنها ثابتة. لكن بعد مرور أكثر من عام على قيام الحكومة بإنهاء سيطرة المتمردين عليها، نتيجة حصار أدى إلى إجبار الناس على أكل الحشائش، لا يزال معظم المدينة غير صالح للسكن.
يمكنك أن تعرف الأمكنة التي بدأ الناس بالعودة إليها، والتخييم بشكل أساسي وسط تلال من الأنقاض، من خلال الأقمشة الوسخة التي توضع كجدران للشقق التي لم يتبق فيها ثمة جدران.
في إحدى الكتل السكنية، كانت الثريات المتفحمة التي تظهر من خلال الفتحات الكبيرة في مبنى واحد تشهد بقوة على الطبقة الوسطى المحطمة في دوما. قادتنا إحدى الطفلات اللواتي يلعبن بالخارج إلى الطابق العلوي لمقابلة أجدادها، علي حمود طعمة وزوجته أم فارس. (في التقاليد العربية، تُعرف العديد من النساء باسم “أم فلان” باسم ابنهما الأكبر، بينما يُنادى الرجال غالبًا باسم “أبو فلان”، وكان معظم الناس حذرين بشأن إعطائنا أسمائهم الكاملة الصريحة).
كان الجدّان قد عادوا إلى شقتهم في أيار/ مايو، ووجدوها منهوبة ومحروقة. قطعة الأثاث التي تمكنوا من إنقاذها كانت سجادة خمرية وزرقاء، أخذتها أم فارس عندما فروا إلى قبو في الجانب الآخر من المدينة في الأيام الأولى من الحرب. وطوال السنوات السبع التي عاشوا فيها تحت الأرض، وأحيانًا كانوا يمضون أيامًا عديدة من دون طعام أو ماء، رفضت أن تمدّها، في انتظار اليوم الذي تعود فيه إلى المنزل.
في وقت عودتهم، كان قد مات 20 من أفراد الأسرة. كانت هي وزوجها يربيان 11 حفيدًا يتيمًا، في مبنى مهجور.
بالنسبة إلى الأصدقاء والجيران القلائل الذين بقوا، قالت: “نحن نتجنب رؤية بعضنا البعض، لأننا جميعًا لدينا نفس القصص المحزنة”.
حفيدها خالد، 9 أعوام، جلس يمسح تارة الدموع من عينيه وتارة يدفن وجهه في الوسادة. وقالت أم فارس إنه لم يكن يبكي على والده الميت. يعمل خالد في الحدادة، حيث كان يحصل على ثمن صندويشتين في اليوم كأجرٍ. سبّب الشرر والمواد الكيميائية الأذى لعينيه. كان العلاج مكلفًا. ولكن من دون عمله، كان الطعام مكلفًا أيضًا.
نهض السيد طعمة وعاد مع صحن زجاجي صغير فيه بعض المعجنات المحشوة بالجوز والتمر. كان السوريون الذين قابلناهم يقدمون دائمًا لنا ضيافة، بغض النظر عن قلة عددهم. هنا في غرفة معيشة السيد طعمة، كان من غير الود أن ترفض.
أخبرتني السيدة كوهوت، مصوّرتنا، فيما بعد أنها شاهدته وهو ينبش بين أكوام من الممتلكات في خزانة الملابس، ويخرج شيئًا من القاع: الحلويات، من آخر صندوق كان معبأً بعناية.
ودّعنا من هم في الشارع المسحوق، حيث نظر السيد طعمة حوله إلى ما كان، وما زال بطريقة ما، منزله. وقال: “هذه أفضل منطقة في كل مدينة دوما”.
“إنه لشرفٌ لنا أن نضحي بابننا”
تضاعفت أعداد المسؤولين الحكوميين معنا، عندما سافرنا إلى محافظة اللاذقية الساحلية. كانت هذه المدينة محشوة بمؤيدي الرئيس من المسلمين العلويين، وهم أقلية دينية كانت مهمشة سابقًا، حيث يسيطر أفرادها على الجيش والأجهزة الأمنية.
في قرية بيت ياشوط الجبلية، صور لشبّان ماتوا وهم يقاتلون من أجل أن يبقى الأسد – يسمونهم “شهداء”- صورهم معلقة على أعمدة الهاتف.
قام حشد ضم جنرالًا عسكريًا ومسؤولًا في القرية وآخرين من مكتب المحاربين القدامى بمرافقتنا من منزل إلى آخر.
سألتُ ياسين حسنا، وهو أب لأحد الجنود القتلى، عن تضحيته: “هل كان الأمر يستحق كل هذا”. فقال وعيناه على الجنرال الذي هز رأسه بالموافقة: “كل شيء يهون من أجل سورية، أتمنى أن نصبح جميعًا شهداء من أجل البلد”.
إحدى الأمهات، زكية أحمد حسن، أظهرت لنا كرسيًا من البلاستيك، كانت تجلس عليه في كثير من الأحيان بجانب قبر ابنها الحجري، تشرب القهوة وتغنّي له، وقالت: “إنه لشرفٌ لنا أن نضحّي بابننا. لقد كان يدافع عن البلد”.
يفترض كثير من غير العلويين أن العلويين قد تمّت مكافأتهم بكثرة مقابل ولائهم للأسد. لكن عائلات العلويين الذين قُتلوا لم تحصل إلا على القليل/ الفتات. لقد تحدثوا إلينا عن عدم قدرتهم على شراء الحليب أو حليب الأطفال، وعن ارتفاع ثمن البطاطا والزيت والسكر، وأنهم نسوا الطريق المؤدي إلى اللحّام.
مرّرت السيدة حسن يدها عبر الخضروات التي كانت تزرعها بالقرب من قبر ابنها. “حتى لو كان الأميركيون يعاقبوننا، على الأقل يمكننا أن نأكل الخيار والخبز”!!
كان المحافظ، إبراهيم خضر السالم، حريصًا على التأكيد على أن الحكومة تكرس المزيد من الموارد لعائلات المحاربين. كان من المفترض أن يحصلوا على أولوية في الوظائف الحكومية، إلى جانب الامتيازات الصغيرة مثل الإعفاء من الضرائب المفروضة على السيارات والرسوم الجامعية.
وقال السيد السالم: إن “الرئيس شخصيًا يعطي الأولوية لهذه القضايا. كل يوم، يتابع هو والحكومة أمور أُسر الشهداء”. صوّر ثلاثة مصورين حكوميين مقابلتنا كاملة مع المحافظ.
في حلب، أيام حافلة بالنشاط مع ليالٍ محرومة من الضوء
على الطريق شمالًا إلى حلب، كانت السيارات المحترقة مقلوبة على جانبي الطريق، وينتشر دخان رمادي وبني على مسافة من أحد الحرائق التي أحرقت حديثًا آلاف الفدانات من المحاصيل. لا يبدو أن هناك من يعرف من هو المسؤول عنها، كل ما يبدو أن آلام الجوع في سورية بدت وكأنها تزداد سوءًا.
قبل الحرب، كانت حلب أكبر المنافسين لدمشق، وأكبر مدن البلاد ومحركها التجاري. وفقًا لـ رنا، مرافقتنا، لا ينام أهلها أبدًا. أو لم يعتادوا على ذلك: لقد أدى الحصار الحكومي إلى تفتيت سوقها المبني من القرن الرابع عشر، وفي معظم المدينة، الأنوار مطفأة.
بعد مرور عامين ونصف على ما وصفه جميع من قابلناهم بتحرير شرق حلب الذي كان يسيطر عليه المتمردون، ما زال مصدر الكهرباء بشكل أساسي من المولدات. ومن دون أموال إعادة الإعمار الحكومية، اعتمد إعادة البناء على المدخرات الشخصية. هناك أشخاص لا يستطيعون تحمل تكاليف الأبواب أو النوافذ، وبسبب قلة الكهرباء يجلس الناس خارج المنازل كل ليلة، حتى وقت النوم.
بدأت المستشفيات الخاصة فقط العمل من جديد، ربما لأن الحكومة قصفت المستشفيات مرارًا وتكرارًا، ولأن المستشفيات العامة ما تزال في حالة خراب.
ولكن في النهار، كانت المنطقة مزدحمة بباعة الجبس المتجولين والمارة. أخبرتنا امرأة قابلناها في أحد صالونات الحلاقة أنها لم تقص شعرها منذ بداية الحرب. المدارس قد فتحت أبوابها من جديد.
أمامنا تظهر إحدى اللافتات معلنةً أن “الأمان عاد إلى سورية”. لكن يبدو أن ذلك الأمان بعيد المنال بالنسبة إلى أم أحمد، 28 عامًا، التي كانت تجلس على درج المدخل مع أختها عند الغسق محاطة بمبانٍ محطمة.
أزواجهما، كلاهما مفقودان، على حد قول المرأتين، اُعتقلا مع تقدم القوات الموالية للحكومة في شرق حلب في عام 2015.
كانت مرافقتنا تقترب أكثر فأكثر، وهنا توقفتا عن الحديث. رنا التي لم تعط اسمها الأخير، أخبرت أم أحمد أن الأمر أكثر تعقيدًا مما هو ظاهر. لا ينبغي لها أن تقول هذه الأشياء للصحفيين.
قالت أم أحمد: “هل علينا أن نكذب؟! هذا ما حدث”. عند ذلك، قادتها رنا إلى المطبخ، حيث سمعتُ أصواتاً مرتفعة. وعندما عادت كانت هادئة.
في وقت لاحق، اشتكيت إلى وزير الإعلام حول زيادة عدد المرافقين. فقال: عليك أن تفهم، نحن لسنا أميركا. نحن نفعل ذلك بشكل مختلف. والجميع هنا يفترض أنكم جواسيس.
عندما حان الوقت لمغادرة سورية، رافقنا عناصر من الاستخبارات العسكرية إلى الحدود اللبنانية. كان علينا التنحي أكثر من أربع مرات عن الطريق السريع، لأن سيارتهم كانت تتعطل بشكل متكرر، على ما يبدو، لم تكن صيانة السيارات على جدول الميزانية. في كل مرة حاولوا فيها العودة إلى الطريق، كان صندوق السيارة السوداء المخدوشة يفتح مجددًا بتوقيت كوميدي لا تشوبه شائبة.
كانت هذه هي المرة الأولى التي يخرج أي منهم عن البرنامج النصي طوال الأسبوع.
حتى بعد 8 سنوات من الحرب، ما تزال الأفضل
كيف يبدو النصر؟ ما لا يقلّ عن نصف مليون قتيل، أكثر من 11 مليون اُقتلعوا من ديارهم. ركام في المدن، الأشباح للجيران. مراكز التسوق للبعض، والخيار المحليّ (العجور) للآخرين.
شاهد معظم الناس الذين قابلناهم ما قالوا، ولم يتكلموا عن الماضي أو المستقبل، ورؤوسهم محنية في مهمة البقاء اليومية. لكن في كثير من الأحيان، ذكّرنا شيء ما بأن سورية كانت أكبر من حربها، مهما كانت طويلة، ومهما كانت فظيعة.
عند وقت العشاء في ليلتنا الأولى في حلب، قال سائقنا، أبو عبدو، إنه كان يعرف بعض الأماكن لتناول الطعام بالقرب من الفندق منذ أيام ما قبل الحرب، حيث كان ينقل السياح إلى المدينة.
المطعم الأول الذي تذكره كان مدمرًا. وكذلك الثاني. وفي منتصف الطريق إلى الكتلة السكنية التالية، وقف رجل في المدخل الوحيد المُضاء بجوار لوحةٍ كُتب عليها: “مطعم أبو نواس”. هرع أبو عبدو نحوه: “سيد محمود، هل تتذكرني؟ اعتدت أن آتي إلى هنا طوال الوقت. كان لديك أفضل الأطعمة”.
لم يتعرف عليه المالك، عبد الغني محمود، في البداية. ولكن بعد ذلك، عاد وقال بشكل مفاجئ: “أوه نعم، نعم فعلًا، كنت تأتي”.
كان المطعم فارغًا باستثناء رئيس الطهاة في إحدى الزوايا. كانت أغطية طاولاتنا ملطخة، وكذلك كانت جداريات حلب القديمة على الجدران. عدد قليل من الذباب يطير حول منطقة الطعام. الشيء الوحيد الذي لم يتبدل بعد عدة عقود من الزمان هو الطاولة المليئة بالطماطم الطازجة والخيار والفجل والنعناع.
عندما طلب أبو عبدو تناول مشروب بالثلج، اعتذر السيد محمود: لقد تم تحطيم المولد الذي يشغّل الثلاجة، لذا لم يعد هناك ثلج. نظرت إلى مترجمي الفوري: هل سنأكل اللحم هنا فعلًا؟
جاءت أولًا الخضروات، ثم الحمص، والمتبل، وهو باذنجان مشوي مطحون. ثم العديد من الأطباق من الدجاج المشوي المُتبّل وكباب الضأن.
بدأت الأكل، ونسيت على الفور التبريد. لقد تناولت هذه الأطباق عدة مرات من قبل، في لبنان والآن في سورية. كانت هذه الأفضل. وقال أبو عبدو: “إنه نفس الشيء. نفس ما أتذكره”.
عندما غادرنا، كان الشارع مظلمًا وفارغًا، مع أن الوقت ما يزال مبكرًا. لقد مرّت سنوات عديدة منذ أن كانت حلب لا تنام.
اسم المقال الأصلي What ‘Victory’ Looks Like: A Journey Through Shattered Syria
الكاتب فيفيان يي، والمصورة ميريديث كوهوت
مكان النشر وتاريخه نيو يورك تايمز،The New York Times، 21/8
رابط المقالة https://www.nytimes.com/2019/08/20/world/middleeast/syria-recovery-aleppo-douma.html?action=click&module=Top%20Stories&pgtype=Homepage
ترجمة وحدة الترجمة والتعريب/ أحمد عيشة
جيرون