طبيبة “كهف الغوطة” لـ”المدن”: لا أنسى أولئك الأحياء الأموات/ تهامة الجندي
في فيلمه الوثائقي “الكهف”، الذي رُشح مؤخرًا لجائزة الأوسكار، يفتح المخرج السوري فراس فياض، عدسته على ذاكرة ثاني منطقة محررة، استعادها النظام السوري بالكثير من جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، بمساعدة حليفيه الروسي والإيراني. ذاكرة “الغوطة الشرقية” التي سجلت 46 هجمة كيماوية، ومقتل 12736 شخصًا، واعتقال 6583، وموت 1218 معتقلًا بالتعذيب، ناهيك عن الحصار الخانق الذي أودى بحياة 427 إنساناً من الجوع، نصفهم من الأطفال.
يتابع الفيلم تفاصيل تلك المأساة من خلال فريق طبي يعمل في مشفى ميداني تحت الأرض، يدعى “الكهف”، أسسه الدكتور سليم، وترأسه طبيبة الأطفال أماني بلّور، ويمتد زمنيًا منذ حصار الغوطة الشرقية في تشرين 2013، وحتى استعادتها وتهجير المدنيين بالحافلات الخضراء في نيسان 2018. غالبية المشاهد داخلية، ترصد العلاقات الاجتماعية بين فريق العمل، والوافدين من ضحايا القنابل المتفجرة والكيماوي والحصار، وتتوقف عند الممرضة سماهر، مسؤولة الطهي التي فقدت ذاكرتها أثناء القصف. كما ذكرت لي أليسار حسن، كاتبة سيناريو الفيلم، ومؤلفة كلمات الأغنية التي تؤديها رشا رزق في مشهد الختام.
وأليسار من مواليد السلَمية العام 1983، درست الإعلام في جامعة دمشق، وعملت في صحيفة “البيان” الإماراتية، ومجلة “الصدى”، ثم في “مهرجان دبي السينمائي” قسم السيناريو، وتزوجت فراس فياض فور خروجه من المعتقل في بداية الثورة. أسست معه راديو “صوت راية” في اسطنبول أواخر العام 2012، وأطلقت حملة “الإجهاض الآمن” لدعم السوريات المغتصبات، وبعد إغلاق الراديو العام 2016، أسهمت في تأسيس “تلفزيون سوريا”، قبل أن تنتقل وأسرتها للعيش في ألمانيا.
سألتها أن تحدثني عن المحطات الفنية، ورحلة التهجير التي تقاسمتها مع شريك حياتها؟ قالت: “بعد زواجي من فراس عملنا على الفيلم الوثائقي “الضفة الأخرى”، وكان من المفترض أن يُعرض في مهرجان دبي السينمائي، سافرت قبله بيومين إلى الإمارات، لكن السلطات السورية اعتقلت فراس للمرة الثانية، وهو في مطار دمشق، وبقي قيد الاعتقال سبعة شهور، عشت خلالها عند أهلي في الإمارات، وحين أُفرج عنه وغادر الحدود متسللًا، التقينا في الأردن، ثم انتقلنا إلى اسطنبول”.
أضافت: “خلال عملنا في الراديو، صنع فراس أفلاماً وثائقية تلفزيونية عديدة، وفيلم “آخر الرجال في حلب”، وكانت مشاركتي بسيطة، أما حين حدثني عن فكرة فيلم “الكهف”، وعن الطبيبة المدهشة أماني، تحمست كثيرًا، وقررت أن أشاركه العمل بكل امكاناتي، من كتابة الأفكار والتصورات الأولية، إلى التنسيق والإعداد، وعلى مدار عامين كان المصورون الذين اختارهم فراس، يرسلون إلينا الأشرطة من الغوطة، وكنا نعاينها ونختار الأنسب منها، حصلنا على كم كبير من الوثائق، وقمت بكتابة السيناريو لتسلسل المشاهد وبناء القصة، بحيث يتخذ الفيلم بُعده الدرامي، ويقدم رسالته المرجوة.
طلبتُ من أليسار أن تصف بطلة الفيلم أماني، فقالت: “إنها شخصية فريدة ومؤثرة جدًا، طبيبة أطفال في الثلاثين من عمرها، انتُخبت مرتين لإدارة مشفى “الكهف”، وصارت تقود فريقاً طبيًا من 130 شخصًا، يخدم 400 ألف مدني في مجتمع محافظ، ومنطقة محاصرة بالقصف. شخصية بسيطة وملتزمة دينيًا، لكنها تملك ثقة عالية في النفس، وتعرف حقها جيدًا كأنثى، وتصر على دورها في المجتمع، وهذا يظهر واضحًا في أكثر من مشهد بالفيلم”.
اتصلتُ بالدكتورة أماني بلّور، وسألتها لماذا اختارت البقاء في الغوطة، والعمل في مشفى “الكهف”، فقالت: “أنهيت دراسة الطب في العام 2012، وكنت أنوي الاختصاص في طب الأطفال، ومنعتني الظروف. كانت الغوطة من المناطق الثائرة، وقوات النظام تقتل المتظاهرين السلميين بالرصاص الحي، وبعد فترة قصيرة بدأت باقتحامها وقصفها. رأيت الجرحى من الكبار والأطفال والنساء، وأردت أن أساعد المصابين، ولم أكن أملك الخبرة الكافية، فقررت الالتحاق بمشفى ميداني، أفتُتح قريبًا من منزلي في قبو إحدى البنايات بكفر بطنا، وبدأ المصابون يتوافدون بأعداد كبيرة، والأوضاع تزداد سوءًا يومًا بعد يوم، والكثير من الأطباء غادروا الغوطة، وتضاعفت المسؤولية الملقاة علينا”.
سألتُها كيف كان شعورها، وهي تعالج الجرحى أمام عدسة التصوير؟ قالت: “لم أشعر بعدسة التصوير نهائيًا، ففي تلك الفترة كان القصف والحصار على أشده، والإصابات كثيرة جدًا، وضغط العمل كبير، ومسؤوليتي كبيرة لأني مديرة المشفى، كان كل همي تأمين المواد الطبية، وحماية المصابين، وتحصين المشفى من القصف”.
طلبتُ من أماني أن تصف الوضع أثناء هجمات الكيماوي، فقالت: “كنت شاهدة على أكثر من هجمة كيماوي، لكن الضربة الأفظع كانت في آب 2013. كانت الساعة حوالى الثانية فجراً، واستيقظت على ضجة كبيرة، وأشخاص يطرقون بابي ويحثونني على الذهاب إلى المشفى، خرجت على الفور، وحين وصلت المشفى صُعقت بمشهد أناس لا هم أحياء ولا أموات، ولا يوجد على أجسادهم جروح أو دماء، كانوا مجرد بشر يختنقون أمامي بالمئات، وكان الكادر الطبي محدود، ومعظم العاملين من المتطوعين وليسوا من المتخصصين، وجميعنا لم نكن ندري شيئًا عن هذا النوع من الإصابات، وليس لدينا أدنى خبرة عن كيفية علاجها، وأغلب المسعفين الذين ذهبوا لإنقاذ المصابين، أُصيبوا مثلهم واختنقوا. بدأنا نستخدم المواد المخففة لأعراض الاختناق، واستطعنا أن ننقذ القليل من المصابين، فيما بعد علمنا أنه الاختناق بغاز السارين. كنتُ أجلس على الأرض وحولي عدد كبير من البشر، بعضهم مات، وبعضهم لا يزال يختنق، أجساد باردة وشفاه زرقاء، والأطفال هم الاكثر من بين الضحايا، وكنت أركز جهدي على إنقاذهم، مشهد مؤلم وصادم لن أنساه، وسأظل عاجزة عن وصفه”.
وماذا عن ظروف الحصار؟ قالت: “الأطفال المصابون بسوء التغذية كانوا أكبر مآسي الحصار، بعضهم لا يأكل سوى أوراق الخس، والأوفر حظًا يأكل خبز الشعير، وكل الأطفال الذين عالجتهم كانوا في الحد الأدنى من الوزن الطبيعي أو ما دونه، وكنت شاهدة على وفاة بعضهم لنقص الحليب، ووفاة آخرين بسبب نقص الدواء، وموت طفلة مصابة بالسرطان لنقص العلاج الكيماوي، وعالجت تلاميذ مدارس بحالة إغماء لنقص السكر في الدم من الجوع”.
ينتهي فيلم “الكهف” بمشهد التهجير، فكيف كان شعور أماني وهي تصعد الحافلة الخضراء؟ تقول: “كانت مطالبنا بسيطة، الحرية والعيش بكرامة، وعدد من ظُلموا حولنا كبيرًا. قدمنا عملًا جبارًا من أجل الصمود، ولفت أنظار العالم إلينا، وكان لدينا أمل في النصر ومحاسبة المجرمين، فجأة تم اقتحام الغوطة بتلك الهمجية، ولم يبقَ أمامنا خيار سوى الموت أو الاعتقال، أو أن نحمل وجعنا، ونمضي في حافلات التهجير، من دون أن نعرف إلى أين، وأي مستقبل ينتظرنا؟ كانت خيبة الأمل كبيرة، ليس فقط من كم الإجرام الذي تعرضنا له، إنما من المجتمع الدولي الذي رآنا نُقتل، ولم يوقف الجريمة. لم نخرج باحثين عن حياة جديدة، بل خرجنا محبطين ويائسين. وأنا اتجه نحو الحافلة أحسست أن كل المشاعر الإنسانية قُتلت، ولا أزال مثقلة بالذكريات والأحزان، لكن لا أنسى أننا، نحن الناجين من المقتلة، علينا أن نكون صوت القتلى والمعتقلين والعالقين تحت القصف”.
تضيف أماني: “الحرية والعيش الكريم ليست مطالب ثانوية، إنها أولويات عاجلة، أرجو من المجتمع الدولي أن يتحرك، ويولي القضية السورية الاهتمام الذي يُرضي شرعة حقوق الإنسان، أن يحصل المهجرون في الشمال السوري على حقهم من المساعدات الإنسانية، وينال الأطفال حقهم من التعليم، أن نتخلص من الديكتاتور، ويعم السلام على سوريا”.
فهل تجدد أملها مع انتفاضة لبنان والعراق؟ تجيب: “أحلى لحظات أعيشها، حين أرى الشعوب تنتفض وتطالب بحريتها وكرامتها، وفرحي لا يوصف بالذين خرجوا للتظاهر في لبنان والعراق، رغم أنهم يدركون المخاطر التي سيتعرضون لها من قتل واعتقالات. أعلام ثورات الربيع تُرفع في كل ساحات التظاهر، وما إن خرجت المظاهرات في لبنان، حتى نبذت العنصرية ضد اللاجئين السوريين. تكاتف رائع بين المنتفضين يدل على أن الانظمة هي من تختلق الأزمات والتفرقة بيننا. أتمنى للمتظاهرين النصر، وألا يعيشوا العنف الذي عشناه في سوريا، وأتمنى أن تقوم مصر من جديد ولا تقبل بحكم العسكر. انتهى عصر الديكتاتوريات، وينبغي أن تسود الديموقراطية في بلادنا”.
المدن