جغرافيا الاحتجاج: الانتفاضات العربية بوصفها حرب مدن/ محمد سامي الكيال
■ يحتاج فهم الحركات الاحتجاجية المعاصرة بشكل ملموس إلى ما هو أكثر من المعرفة الاجتماعية والسياسية الاعتيادية، لا بد من خرائط للمدن التي تجري فيها المظاهرات والصدامات. فمن الصراع حول منطقة «كولومبيا» في الخرطوم، مروراً بقطع الطرقات في لبنان، وصولاً لـ«حرب الجسور» في العراق، يبدو أننا أمام حرب مدن، بدرجات متفاوتة من العنف، بين السلطة والمنتفضين.
لا يقتصر هذا على الموجة الثانية من الربيع العربي، فجغرافيا المدينة، وارتباطها بضواحيها وأريافها البعيدة والقريبة، كانت عاملاً أساسياً في معظم الموجات الاحتجاجية التي شهدتها العقود الأخيرة. لسنا هنا فقط أمام مشهد ثوري استعراضي في الساحات الرئيسية، بل أمام معركة لإعادة صياغة الفضاء المديني لمصلحة طرف من أطراف الصراع الاجتماعي.
حددت المدن دوماً أنماط حياة قاطنيها، وتجسد هذا أساساً في تخطيطها العمراني؛ أساليب الوصل أو الفصل بين الجماعات المتجاورة فيها؛ المساحات المسوّرة والمفتوحة داخلها؛ تقنيات الجذب والاستبعاد عن طريق أسعار الإجارات، وتوافر فرص العمل، إلخ. يسعى آلاف المحتجين اليوم إلى خلق فضاء يوفر لهم حقوقاً وظروفاً أكثر أماناً في الحياة والعمل. ربما تكون هذه ثورة الفئات التي سمّاها عالم الاجتماع البريطاني جاي إستاندينج «البريكاريا»، أي الفئات التي تحاول بيع قوة عملها في ظروف تتسم بانعدام الأمان والاستقرار في ظروفها الحياتية، سواء من حيث العمل الثابت أو المسكن المضمون.
سبق لأنطونيو غرامشي أن استعمل تعبيري «حرب الخنادق» و«حرب الحركة» للتعبير عن المسارات المحتملة للصراع الطبقي. تتجسد حرب الحركة في استيلاء طبقة ما بشكل مباشر على جهاز الدولة، وهي تأتي تتويجاً لمسار طويل من الصراع. أما حرب الخنادق فأكثر تعقيداً، تقوم على محاولة تفكيك الهيمنة السلطوية، من خلال الاستيلاء على مؤسسات «المجتمع المدني» المرتبطة بالدولة، وجعلها تحت سيطرة طبقة ثورية صاعدة. في أيامنا يبدو أن نوعي «الحرب» هذه قد اندمجا حالياً في نموذج حرب المدن، فالصراع على المدينة يجمع التنافس على كلٍّ من القوة والهيمنة، من خلال محاولة المنتفضين إنتاج مساحات عامة متحررة قدر الإمكان من عنف السلطة وتحكمها بأنماط حياة البشر. فهل من الممكن اعتبار نجاح مشروع التغيير مرتبطاً بكسب حرب المدن؟ وعلى أي أساس يمكن للمحتجين إنتاج مساحاتهم «المتحررة»؟
تحيا المدينة
يعتبر الجغرافي البريطاني- الأمريكي ديفيد هارفي أن المدن وسياساتها العمرانية هي ميدان لتصريف وإعادة استثمار الفوائض الرأسمالية. تتراكم الفقاعات العقارية، وعمليات إعادة التخطيط المديني، مولدة أرباحاً جديدة، بدون النظر إلى العواقب الاجتماعية والاقتصادية والبيئة. وبذلك يتم ضمان بقاء التحكم والاستفادة من الفوائض، وهي ثروات ساهم المجتمع بأكمله في خلقها، بيد قلة من المستثمرين. عشرات آلاف السكان يفقدون نتيجة ذلك عوالمهم المألوفة، ويجدون أنفسهم مجبرين على التأقلم مع تغيرات قاسية في حياتهم، ليس لهم حق المساهمة في تقريرها: سكان العشوائيات المهددين بخسارة مساكنهم، المعطلون عن العمل في الأحياء العمالية التي أُغلقت مصانعها، أبناء الضواحي غير الآمنة، التي قد يحدد الانتماء إليها مستقبل الفرد وفرصه في التعليم والعمل، إلخ.
لم تعد مواقع الإنتاج المباشرة، مثل المصنع، هي العامل الأساسي في الصراع الطبقي، في رأي هارفي، بل المدينة بأكملها حيث يتم الاستهلاك وتحديد الظروف الحياتية. ما يتلقاه العاملون على شكل أجور، قد يعاد سحبه منهم من خلال الإجارات والفواتير الباهظة، والقروض أو الرهون التي عليهم سدادها. لا تقتصر مفاعيل ذلك على المدينة وحسب، بل تتم إعادة صياغة الأرياف لتخديم هذا التحول في المدن. هكذا يتم التراكم عبر نزع الملكية، أي الاستيلاء على كل ما هو عام، ومصادرة أملاك الفئات الأكثر فقراً، لمصلحة المزيد من التراكم الرأسمالي.
بالاعتماد على عمل عالم الاجتماع الفرنسي هنري لوفيفر، يحدد هارفي «طبقة» جديدة أقلّ تماسكاً، وأكثر سيولة من الطبقة العاملة القديمة: المستأجرون الفقراء، المشردون، أبناء الأقليات العرقية، النساء والمثليون. تسعى هذه الفئات إلى استعادة الحق في المدينة، أي الحصول على سلطة تخولهم المشاركة في عمليات صنع الفضاء المديني، وتسخيرها لمصلحتهم بشكل راديكالي. تصبح المدينة، وفق هذا التصور، ميداناً أساسياً للصراع ضد الرأسمالية: لم تعد المدينة التي ألفناها موجودة، بسبب عمليات إعادة توظيف الفوائض الرأسمالية، التي تغيّر المشهد الحضري دائماً.
إذن لتحيا المدينة التي يمكن أن نصبح قادرين على تشكيلها على هوانا!
من الصعب مقاومة إغراء تطبيق هذا المنظور على العالم العربي، إلا أن «حرب المدن» العربية لم تُظهر حتى الآن كثيراً من خصائص حركات «استعادة الحق في المدينة»، وعلى رأسها الطرح المكثف لمسائل ملموسة تتعلق بشروط السكن والحياة. تتوجه الاحتجاجات نحو التجمع في ساحات مركزية، أكثر من النضال الموضعي في نقاط متعددة في الفضاء المديني. وعلى الرغم من بروز فئات تسعى لتأكيد حق تواجدها في الحيز العام، لعل أبرزها النساء، إلا أن الشعارات المطروحة مقتصرة، حتى الآن، على تغيير التشريعات والقوانين، وليس إعادة تصميم الفضاءات التي تساهم في إنتاج ما تتعرض لها هذه الفئات من انتهاكات.
مشكلة السيولة
تركز معظم التحليلات التي تُنسب عادة لـ«اليسار الجديد» على ثيمة بروز فئات جديدة في الصراع الاجتماعي، إلا أنه من الصعب تحديد سمات الجدّة في هذه الفئات. صراع النساء والمثليين والأقليات القومية والعرقية، لانتزاع حقوقها لم يتوقف منذ بداية التاريخ المعاصر، أي منذ أن اكتسبت الحقوق صفة الكونية. كما أنه لا يمكن اعتبار هذه الفئات جديدة لكون قضاياها احتلت مركز الصدارة، فالعوامل الاجتماعية والاقتصادية لم تفقد حيثيتها وأولويتها في أي فترة من الفترات، رغم كل الضخ الأيديولوجي حول سياسات الهوية. ما اختلف أساساً هو أن التعبيرات التقليدية للصراع الطبقي، كما عرفناها في إرث القرنين التاسع عشر والعشرين، تغيرت نتيجة عمليات نزع التصنيع في الغرب خصوصاً. على هذا الأساس فالصراع حول المدينة كان أيضاً من قضايا الحركة العمالية في ذروة الصراع الطبقي الكلاسيكي، وهو ما انتبه إليه لوفيفر في إطروحته حول كومونة باريس (رغم إصراره على اعتبار المسألة أوسع من مجرد نضال عمالي)، ونجد له إشارت حتى في البيان الشيوعي، وكتابات فريدرك إنجلس حول أوضاع الطبقة العاملة الأوروبية. ما تفتقده الصراعات الحالية، هو وجود فئة اجتماعية واعية بذاتها ومصالحها، تُصلّب القضايا المتعددة للحياة المدينية، في إطار سياسي أو تنظيمي واضح، أي غياب «طبقة لذاتها». نجد أصداء هذا لدى ديفيد هارفي نفسه، الذي يطرح كثيراً من الأسئلة الجدّية، في كتابه «مدن متمردة»، حول إمكانية حركات اجتماعية تتسم بالتشرذم والسيولة على تحقيق تغيير فعلي.
يبدو ما يجري حالياً في المدن العربية أشبه بمحاولة فتح مجال عام في مواجهة هيمنة سياسية، تقوم أساساً على الإغلاق والحجز، إما بسبب الديكتاتورية المباشرة وغياب الحريات، أو بسبب الانقسام الطائفي والمناطقي، ولكن ما الذي يمكن للمنتفضين أن يفعلوه في مساحات مفتوحة، في ظل حالة «السيولة» التي يعيشونها؟
إنتاج المشاعات
بالنسبة لمايكل هاردت وأنطونيو نيغري، فإن البشر ينتجون دوماً «مشاعات» نتيجة عملهم الاجتماعي، الذي لا يقتصر على الإنتاج المادي. فاللغة المشتركة مثلاً هي نموذج أولي للمشاعات، ويمكن إضافة الأرض والبيئة والعلاقات الاجتماعية. المشاعة إذن هي كل ما يجعل «إنتاج العمل وإنتاج المستقبل» ممكناً، وهي تتعرض لخصخصة دائمة من قبل السلطة ورأس المال. التغيير، حسب هذا المنظور، يقوم على استعادة البشر للمشاعات التي ينتجونها. بكلمات أخرى لا بد من تحقيق سيطرة جماعية على كافة الشروط الحياتية، التي هي بدورها منتج جماعي.
إلا أن هذه السيطرة لا يمكن أن تتحقق بناء على الإرادة الخيّرة للناس، كما أن البشر ليسوا متساوين، أو يعيشون الظروف نفسها، حتى ضمن المشاعات المفترضة. إذا افترضنا أن حرب المدن العربية ستؤدي إلى إضعاف السلطات المركزية، نحو مزيد من الهيمنة المحلية على الفضاء المديني، فلا يوجد ما يضمن ألا يؤدي هذا إلى إعادة إنتاج البنى الأبوية والدينية التقليدية، في مساحات مشتتة ومعزولة، وهو ما ظهر واضحاً في الحالة السورية. يبدو جمهور الموجة الثانية من الربيع العربي أشد توقاً لحياة متحررة، وحاملاً لشعارت أكثر تقدمية. إلا أن قدرته على السيطرة على شروطه الحياتية، واستعادة «مشاعاته»، قد تكون متعلقة بتجاوز حالة السيولة التي يعيشها، نحو حالة أكثر جماعية وتنظيماً، أي تحوله إلى طبقة ثورية، وهو تطور لا يمكن أن يُفرض بشكل فوقي، بل يتم ضمن سيرورة الصراع الاجتماعي نفسه، ما قد يجعل «حرب المدن» التي تدور حالياً، أياً كانت نتائجها، عاملاً إيجابياً في التغيير.
٭ كاتب من سوريا