على الخطوط الأمامية… رحلة داخل مختبرات الأنثروبولوجية العالمية/ محمد تركي الربيعو
منذ فترة، جمعتني الصدفة بأحد الباحثين العرب ممن يعملون اليوم في واحد من أهم المراكز العربية. دار يومها، نقاش بيني وبينه حول عدد من المواضيع، بيد أنه وقبل أن يغادر بدا عاتباً عليّ بعض الشيء، بسبب «استشهاداتي واعتمادي على مقولات الأنثروبولوجيين ودراساتهم»؛ ولا أخفي أنني تفاجأت وصُدِمت بعض الشيء، لا لأنه عاتبني «فالعتب على قدر المحبة» كما يُقال لدينا في بلاد الشام، بالإضافة إلى أنه لا معرفة وبحث جاد بدون ملاحظات، لكن ما صدمني حقيقة هو أن خلافه مع الأنثروبولوجيا بدا وكأنه خلاف عقائدي، فالرجل لا يرى في هذا الحقل سوى علم استعماري، وهو أسلوب في التفكير يُعيد إلى أذهاننا المقاربة ذاتها التي اعتمدها عدد من الباحثين ونقّاد الاستشراق لتاريخ هذا الحقل. ولعله من الممكن اعتبار هذا المشهد واحداً من الصور الأساسية التي بقيت تحكم رؤية نخبنا العربية لهذا العالم، إلى جانب صورة تقليدية عن أدوات هذا الحقل، لعبت أحيانا دوراً في شيخوخة هذا الحقل في عالما العربي، فما أن تذكر الانثروبولوجيا حتى تقفز مواضيع القبيلة، والتراث الشفوي، أو الزواج، بوصفها الموضوعات التي يفضلها الباحث المحلي العربي، ما دفع مؤخراً الأنثروبولوجي المغربي عبد الله حمودي في تقريره حول العلوم الاجتماعية والأنثروبولوجية، إلى إبداء حالة من التشاؤل حول مستقبل هذا الحقل في عالمنا العربي؛ ففي الوقت الذي يعيش فيه هذا الحقل انفجاراً كبيراً على مستوى أقسامه وأبحاثه الإثنوغرافية، فإن الباحث المحلي العربي لا يزال مقتصراً في جولاته داخل هذا الحقل على قرى معزولة، أو صغيرة، أو ضواحي مهمّشة، أو العودة لدراسة القبيلة بأسلوب يذكّرنا بظروف العمل التقليدية، بل إن إثنوغرافيا مثل أيف وينكين (مؤلف كتاب أنثروبولوجيا التواصل) يدعونا في ظل تطوّر مجالات هذا الحقل إلى أن نشتغل إثنوغرافيا حول طريقة الدخول للبيت وأسلوب التعاطي مع الجيران، وبالأخص في المدن والأحياء الجديدة، حيث تسود علاقة أقرب ما تكون إلى القطيعة بين الساكنين في طابق واحد.
وبالعودة لعبد الله حمودي وغيره من الأنثروبولوجيين ممن دعوا إلى تجاوز «المفاهيم الحارسة»، وفق تعبير أرجون أبادوراي، يبقى السؤال المحيّر أحياناً، حول ماهيّة المواضيع الجديدة التي يمكن الاشتغال عليها، وكيف يمكن تطوير الاهتمام بها.
قد يكون من المصادفات الجيدة هنا، اهتمام عدد من الباحثين والمترجمين العرب مؤخرا بهذا الجانب، وأذكر هنا على سبيل المثال ترجمة كتاب «أنثروبولوجي في المترو» للفرنسي مارك أوجيه، الذي حاول فيه دراسة ما دعاه بطقس ركوب المترو، وعناوين المحطات، وأساليب الشحّادين داخل المحطات، وطرقهم الجديدة للحصول على تعاطف المارة، وغيرها من الإشارات والزوايا الموجودة في المترو.
وفي السياق ذاته الساعي لتعريفنا بمجالات الأنثروبولوجيا اليوم، يمكن الإشارة إلى كتاب «ما الذي يفعله الأنثروبولوجيون؟» لعالمة الأنثروبولوجيا فيرونيكا سترانغ، تدرس في جامعة أوكلاند في نيوزيلندا حالياً، وترجمته للعربية هناء خليف غني. ففي هذا الكتاب تصحبنا المؤلفة (تعمل حاليا على دراسة التاريخ الثقافي للماء) في رحلة ممتعة وغنية، وإن بدت سريعة بعض الشيء في عوالم وأقسام عدد من المختبرات والمطابخ الأنثروبولوجية العالمية (في جامعة لندن ودورهام، مروراً بعدد من الجامعات الكندية والأسترالية والأمريكية) بهدف تعريفنا بما يعمل عليه الأنثروبولوجيين الغربيون اليوم في مختبراتهم، والذين لم تعد تقتصر مهامهم اليوم، وفق تعبير دليلتنا، على دراسة المجتمعات البدائية، وإنما الوجود في كل مكان، وعلى الخطوط الأمامية، لا لتفسير سلوكيات الناس فقط وفهمها في المدن الكبيرة، بل للدفاع عنهم وعن معتقداتهم وطرق تفكيرهم.
أنثروبولوجيا القمامة
نعثر، في أحد المختبرات، على أنثروبولوجيين يدرسون قمامة َعدد من العائلات في ولاية أريزونا. فالتغير المناخي لا يتعلق وفقا لهم بالمخلّفات وحسب، بل أيضاً بالنفايات والقمامة المنزلية. من هنا يحاول اليوم بعض الباحثين تطوير حقل يدعى «أنثروبولوجيا القمامة» يقوم على دراسة قمامة المنازل، بالشكل الذي يتيح لهم أيضاً معرفة أساليب إدارة الموارد والاستهلاك في هذه الولاية. وفي مكان آخر يقوم عدد من هؤلاء بمساعدة الجهات المسؤولة عن الإسكان والتخطط الحضري. كما نعثر على عدد كبير من الدراسات الإثنوغرافية التي تتناول كيفية تفكير المجتمعات بالأحياز المنزلية والعامة. وكيف تصممها وتستخدمها، وكذلك القيم والفكر المتنوعة ثقافياً التي تؤثِّر في هذه العملية.
وتؤلّف اقتصاديات الحصول على المنزل مسألة جوهرية للعديد من الأشخاص، خصوصاً في المناطق الحضرية. وثمة دراسات أنثروبولوجية مهمّة للغاية نُفِّذت في هذا المجال. فقد اشترك أرف تشامبرز في تقييم برنامج صممته وزارة الإسكان والتخطط الحضري الأمريكية، ونفذته في مدينة بوسطن، وكان الهدف منه منح المساعدات المالية للعائلات متدنّية الدخل، وتوفير عدد أكبر من الخيارات في قطاع إيجار المساكن، وكان دور تشامبرز هو تقييم تأثير هذه الخطة على العائلات وخياراتهم وتكاليف معيشتهم. وبينما تستمر المدن في التوسّع، تبرز مشكلات أخرى تتعلق بتصريف الفضلات والنفايات، إذ تحاول الحكومات إقناع السكان بتبنّي سلوكيات خضراء مثل إعادة تدوير النفايات وترشيد استخدام الطاقة، ولأهمية هذا الموضوع، حوّل هال ولهايت وزملاؤه اهتمامهم إلى دراسة استخدام الطاقة في المنازل في الولايات المتحدة واليابان، فبحثوا في العوامل الثقافية والاجتماعية التي تنمّي ممارسات الحفاظ على البيئة.
حراس المعرفة الجدد:
في محطة أخرى من محطات الرحلة، تكشف لنا المؤلفة عن دور عدد من الأنثروبولوجيين اليوم في دراسة دور وسائل الإعلام وتأثيرها. فمثلا يخبرنا أحد الأنثروبولوجيين بضرورة التفكير في عالمنا المعولم بالطريقة التي تسهم فيها وسائل الإعلام والتواصل في خلق حلقات وصل متعددة بين الأنشطة المحلية والإقليمية والدولية، التي تعرّف الناس بأنواع المؤسسات الخارجية وسبل الحياة البديلة. في حين يحدثنا أنثروبولوجي آخر، اسمه كوتاك، عن دراسته التي تناولت الدور الذي اضطلع به إدخال أجهزة التلفزيون في تغيير نمط الحياة المحلية في البرازيل، وهي دراسة طويلة أجراها على أربعة مجتمعات محلية، ابتغاء التعرف على طرائق تفاعلها مع هذا الجهاز، ونعثر على عدة مراحل:
مرحلة أولية، كانت فيه جدة هذا الجهاز التكنولوجي تعني أن الناس يركّزون على الواسطة أكثر منهم على الرسالة. مرحلة ثانية، تجاوب فيها الناس بشدة مع الرسائل التي يرسلها الجهاز. ومرحلة استقرار الأمور، في نمط أكثر شمولية ووضوحاً، تكشف فيها تأثير الجهاز من خلال تغيرات في السلوك والخيارات الثقافية.
ويرى كوتاك أن وسائل الإعلام الإلكترونية تنقل المعلومات والصور بنحو آني ضمن الحدود القومية ومن خلالها، وتتحول خلال قيامها بذلك إلى عامل تنشئة اجتماعي منافس للعائلة، والمدرسة، والأقران، والمجتمع المحلي، والكنيسة، وهذا يعني أن المخرجين التلفزيونيين (والعامليين في وسائل الإعلام على وجه العموم) باتوا اليوم «حرّاس المعرفة». وفي السياق ذاته، يؤلِّف الدورُ الذي تنهض به وسائل الإعلام في تشكيل الطريقة التي يتخيّل الناس من خلالها هوياتهم وهويات الآخرين محورَ دراسة دانييل لفكووتز، التي تتناول دراسة دور الصحف ووسائل الإعلام الإسرائيلية في إدامة ظهورات العرقية والتحيّز من خلال ربط الأقليات الإثنية بالجريمة (الأفارقة داخل إسرائيل مثلاً) وإعادة تقديم تمثيلات هوياتية مهيمنة أيديولوجياً.
قرابات جديدة
تطوف بنا دليلتنا الأنثروبولوجية في قسم آخر يعنى بدراسة تصرفات الناس، وكيفية تفكيرهم حيال القضايا الصحية. ومن بين ما نعثر عليه من اهتمامات متنوعة موضوع يتعلق بالحمل (لا سيما الحمل المعزّز تكنولوجياً في حالات التخصيب خارج الأرحام)، وتُعدُّ الجهود التي بذلتها كاثرين جياببتا سوانس من أبرز الدراسات الإثنوغرافية التي تناولت فيها أوضاع الممرضات في عيادات الاستئصال الوراثي، ووفقاً لما تذكره، تتسم عملية الاستئصال الجيني بشدة تعقيدها، فهي عملية رعاية صحية مباشرة ودقيقة، تتم من خلال مجموعة من الإجراءات الحساسة للغاية والمشحونة عاطفياً وأخلاقياً، ويشترك فيها كل من المريض والممرضات. وقد ساعدت هذه الجهود المستشفيات على تطوير سياساتها وإدارتها للأنشطة الصحية المختلفة. في حين يحدّثنا تشاريس ثومبسن عن دراساته داخل عيادات التخصيب، وما باتت تطرحه من أسئلة جديدة تتعلق بفكرة القرابة وسلاسل التحدر.
الطعام بديل عن الجنس
مع وصولنا مع الباحثة لقسم أنثروبولوجيا الطعام، ظنّنا لوهلة أن لا جديد ربما في هذا القسم، فهناك عدد لا بأس به من الأنثروبولوجيين الذين اشتغلوا في السنوات الأخيرة على هذا الموضوع، لكن سرعان ما تُظهِر لنا فيرونيكا أن الاهتمام بهذا الجانب لم يعد يقتصر على دراسة المعتقدات والممارسات الثقافية المحيطة بالطعام، بل ثمة عدد متزايد من الأدبيات الأنثروبولوجية عن الأطعمة الصحية ومعانيها والمفهومات التي يعتمدها الناس، ومنها دراسة روزالند كاورد عن الأطعمة الصحية التي تكشف عن القلق المتزايد بشأن استخدام بعض من المواد غير المرغوب بها في إنتاج الأطعمة الحديثة.
يقول لنا كاورد في الكتاب، إن الصحة والطعام في أسطورة الصحة البديلة يرتبطان بطريقة لا فكاك منها، كما لو أنه يتعذّر، بل يستحيل التمتّع بصحة جيدة من دون الاهتمام الجاد بالغذاء.. في المكان ذاته يعلمنا أنثروبولوجي آخر بأن الطعام وعلاقته بالصحة قد حلّ بنحو كامل محل الجنس بوصفه المصدر الرئيس لشعور البشر بالقلق بشأن الجسم. تعلمنا دليلتنا بأن هذه النتيجة تتناغم مع دراسة لها عن مياه الشرب، التي حاولت فيها معرفة السبب الذي يجعل الناس يدفعون مبالغ كبيرة للحصول على مياه القوارير، بدلاً من مياه الصنبور، إذ يخشون من احتمال تلوّثه كيميائياً أثناء معالجته، ورحلته الطويلة خلال مسارات يتحكّم بها الجانب الصناعي.
وفي مكان آخر ليس ببعيد عن هذا المكان، نتعرّف على هنريك روبنسو وهو يحلّل نتائج جولاته الإثنوغرافية بين لاعبي كرة القدم الشباب في مناطق أمريكا الوسطى، ومن بين ما يذكره هنا أن الرياضة تؤدي دوراً محورياً في تشكّل هويات الشباب المحلية، لجهة دورها في جعل اللاعب/الفرد يمرُّ بعملية مماثلة لتلك التي كان أعضاء الأخويات الدينية يمرون بها في الماضي، ولعل في هذا الكلام ما يذكّرنا بدراسات الأنثروبولوجي سكوت أتران، حول دور كرة القدم اليوم في تشكيل بعض المجموعات الجهادية في أوروبا بدلاَ من المساجد.
كما نتعرّف أيضاً، في جولتنا مع فيرونيكا، على أنثروبولوجيين يعالجون موضوع الإدمان، وآخرين يشتغلون على ملف التعليم، والمهاجرين، واللاجئين، وعالم مشاهير السينما، وزراعة البطاطا التقليدية، وشبكات الدعارة، ولغة الوسطاء السياحيين، ومشاهدة الأفلام. وربما يحتاج الأمر لأكثر من حلقة للتعريف بكل هذه الجولات التي نجحت في زيادة قناعتنا بأنه أينما وُجِد الإنسان، لا بد من وجود أنثروبولوجيين.
٭ كاتب من سوريا
القدس العربي