مكاوي سعيد… والقاهرة الحالمة التي لا تنام!/ عاطف محمد عبد المجيد
في مقدمته لكتابه «القاهرة وما فيها.. حكايات، أمكنة، أزمنة» الذي يشير ناشره، الدار المصرية اللبنانية، إلى أنه الكتاب الأخير، حيث صدر بعد رحيل كاتبه، يتساءل مكاوي سعيد لماذا القاهرة، وقد كُتبت عنها آلاف الكتب والدراسات من مصريين وأجانب في العصر الحديث على الأقل؟ ويجيب متسائلاً أيضًا: فهل لأنها أكبر مدينة عربية من حيث المساحة وعدد السكان؟ أم لأنها أكثر المدن تنوعًا ثقافيًّا وحضاريًّا؟ حيث مرت بالعديد من الحقب التاريخية، ولا تزال باقية فيها آثار شتى من معالم العالم القديم والحديث، أم لأنها عاصمة الوطن العربي كما يقول بعضهم ومركز الكون كما يُغالي آخرون؟
كان الراحل مكاوي سعيد يحب القاهرة، لأنه ولد في عاصمتها الفخرية «منطقة وسط البلد» التي عشق أماكنها وتاريخها وأرواح ساكنيها الراحلين، التي تجوب طرقها وأسبلتها كل ليلة، والمقيمين فيها الذين يتجولون ويتجادلون ويضيفون إليها أو ينتقصون منها، على حد قول المؤلف، ليس هذا هو الكتاب الوحيد الذي ألّفه عن القاهرة، بل سبقه كتّاب آخر جعل عنوانه « مقتنيات وسط البلد « ثم جاء كتابه الأخير هذا امتنانًا، كما يذكر، لهذه البقعة المباركة التي عاش فيها وتنسّم نسيمها وارتوى من عشقها وعاصر تحولاتها وتأسّى على ما يجري لها.
عن القاهرة
كتاب «القاهرة وما فيها»، كما يؤكد مكاوي سعيد، لا يتناول أحداثًا تاريخية بعينها، ولا حوادث سارة أو مفجعة بذاتها، إنما هو يجري كمياه المطر، بما يحويه من مقالات وتدوينات الكتب والأخبار، وما كتبه الأجانب والمصريون والمتمصرون عن القاهرة في عهد الفاطميين، وعن القاهرة الخديوية، وعن السلاطين والملوك في ما قبل عصر ثورة يوليو/تموز 1952، وفي ما حدث بعدها وصولاً إلى عصرنا الحالي، في السياسة والفن والمعمار والطرائف، وعن فنانين محبوبين، وعن المسرح المصري والسينما. هنا لا يُدين الكاتب أحدًا، بل يقدّم حوادث وقعت بالفعل بأدلتها التي شَكَّلها وجه القاهرة المبهر، والذي يعرفه العالم كله. هذا الكتاب، مثلما يقول سعيد، يضم معلومات قد لا يعرفها كثيرون، وصورًا نادرة للتدليل على أهميتها وقيمتها، وإضاءة على موهوبين أثْروا حياة القاهرة الفنية، ثم غابوا ونأى الزمن بهم، فلم يعد يذكرهم أحد، أو يتذكر ما قدموه لهذا الوطن. وقد نُكبت مصر والقاهرة على مدار الزمن المعيش بمن استولى على آثارها، أو دمرها، أو زوّر تاريخها عمدًا أو من دون قصد.
الفيلسوف الألماني
هنا يكتب مكاوي سعيد عن هانز إنبدورفر الأديب والشاعر والفيلسوف الألماني الذي ولد عام 1940 ورحل عام 1999 وكان من أكبر عشاق مصر ومولعًا وشغوفًا بها، وقد زارها أكثر من ثلاثين مرة، وعاش في أحيائها الشعبية البسيطة وانخرط بين أهلها وعايش أيامها النابضة بالحركة ولياليها الساهرة، وارتدى جلباب أولاد البلد، ودخن الشيشة في مقهى الفيشاوي، وتعلم اللغة العربية وأحب الأفلام المصرية وجلس مع أم كلثوم، وتناول معها العشاء، كذلك يكتب عن المدرب الكوري شونج للمنتخب المصري للتايكوندو، الذي تأخر عليه، يوم وصوله إلى القاهرة، مندوب الاتحاد فاستقل تاكسيًّا قام بتوصيله إلى مستشفى العباسية، نظرًا إلى أن السائق لم يفهمه جيدًا، وظن أنه يريد مستشفى العباسية وليس مبنى الاتحاد، وهناك قضى ثلاث ساعات حتى عثر عليه مندوب الاتحاد وأخرجه منها، ولا يزال شونج يعيش في مصر التي أحبها، كما ورد في الكتاب.
كذلك يكتب المؤلف عن حلمي بكر الذي دأب في العقد الأخيرعلى إصدار تصريحات نارية تجاه ما يحدث لحال الأغنية وتدهور مستواها، ومنها قوله إن الأغنية الآن من مخلفات الحرب، وإنها من نتاج نكسة 67 وكان يجب أن تتوقف بعد انتصار 73، لكنها واصلت تدهورها، ويقول في تصريح آخر إن ما يحدث في عالم الأغنية الآن ما هو إلا «سَلْق بيض»، إضافة إلى دخول بكر في مصادمات ومساجلات مع بعض المطربين الجدد، مهاجمًا إياهم بكل قسوة، في الوقت الذي ابتعد هو عن التلحين. هنا أيضًا نقرأ عن أمير الضحك والبكاء عبد الفتاح القصري، وعن انكسارات وهزائم الراقصة الحافية سامية جمال، وعن لغز قصر الرخام الوردي، وهو قصر في مدخل جزيرة الزمالك، وكان مالكه الأول هو علي كامل فهمي، الذي رحل شابًا وورثته عنه شقيقته عائشة فهمي، أيضًا يكتب سعيد هنا عن شكسبيرة الزمالك النجمة زينات صدقي، وكان لها صالونها الذي لم يكن ينال حظه من الشهرة، وعن شيوع فكرة الصالونات الأدبية أو السياسية في مصر، كصالون مي زيادة وعباس العقاد وصالون الأميرة نازلي، الذي انعقد في نهايات القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، وكان مقره في حي عابدين، مقر الأرستقراطية المصرية آنذاك، وكان يضم العديد من المثقفين والكتاب ورجال الدولة والسياسة، ومنهم سعد زغلول وقاسم أمين وجمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده، وأحمد لطفي السيد وعبد الرحمن الكواكبي وطلعت حرب، غير أن هذا الصالون كان له أعداء أشاعوا بأنه ينشر دعوات التغريب والأفكار التي تدعو لانحلال المرأة، ووصمها الزعيم محمد فريد بمناصرتها للإنكليز.
طرائف قاهرية
هنا أيضًا يكتب سعيد عن علي مبارك وعن أعماله العظيمة في مجال الهندسة، وعن مؤلفاته المهمة ومنها، الخطط التوفيقية وآثار الإسلام في المدنية والعمران. كما يذكر الكاتب أنه من الطريف أن تتضمن لائحة علي مبارك لإصلاح التعليم أن يُصرف مجانًا لكل تلميذ ثلاثة قمصان وطربوشان وزر صديريات وثلاث طواقي غزلية، وثلاثة جلاليب ملونة شكل واحد مسدودة الصدر بياقة وثلاث دكات لباس. مكاوي سعيد يذكر هنا أيضًا أن محمد علي حين نظم مدينة القاهرة قام بتقسيمها إلى ثمانية أقسام، وجعل في كل قسم منها مركزًا للبوليس، أيضًا من الطرائف التي يحكيها سعيد هنا طرفة تخص السلطان برقوق، الذي حرّم على الباعة النداء على فاكهة البرقوق، حتى لا يستغل المعارضون والناقمون على حكمه اسم هذه الفاكهة في السخرية منه، ولهذا أطلقوا على البرقوق اسم الأشقر حتى انتهى عصر برقوق. وطرفة أخرى يرويها عن الحاكم بأمر الله الذي حرّم أكل الملوخية، لأن خادمه الخاص كان اسمه ملوخية، وما زال في القاهرة حتى اليوم شارع اسمه درب الملوخية. كما يذكر أن المبخراتي كانت له قديمًا أهمية كبيرة، ولم يكن يوجّه اتهامات الحسد إلا للنساء فقط، ولعله كان يريد بذكائه إرضاء نساء البيت الذي يقوم بتبخيره، لأنهن كنّ يعتقدن أن العين الحسود هي عين امرأة قادرة على الوصول إلى غرف نومهن.
سعيد يكتب هنا كذلك عن ليالي الأنس في الأزبكية وعن حدائقها المسحورة، وعن ساكنة أقدم مغنية ظهرت في عهد الخديوي عباس حلمي الأول، وعن ألمظ التي تزوجها عبده الحامولي، وعن أشهر الموسيقيين والمغنيين في أوائل القرن العشرين الذين طالهم النسيان كأحمد الليثي الذي لم يشتهر إلا سواه في تصوير النغمات بالأصابع بدون الريشة. كما يكتب عن الحياة في البلاط الملكي المصري، وعن أمير الشعراء في شارع كشكش بك، وعن شهرة شارع عماد الدين بما كان يقدمه من هزليات وصلت إلى قلوب الناس وأقبلوا عليها لأنها بالعامية.
وبعد.. هذا كتاب ممتع وشيق بالفعل، يضم بين غلافيْه، جنبًا إلى جنب، الفكر والثقافة والتاريخ والجغرافيا والطرائف وغيرها، كتبه مكاوي سعيد، وحكى ما فيه بأسلوب سلس، ينساب في رقة وعذوبة، يقترب من السرد الروائي الذي لا يشعر معه قارئه بأي ملل أو رتابة، وكم هو مهم لمن أراد أن يغوص في عالم القاهرة قديمًا وحديثًا، ويعرف عنها ما لم يكن يعرفه من قبل.
٭ شاعر ومترجم مصري
القدس العربي