التغريب والإيهام في رواية "زجاج مطحون" لإسلام أبو شكير/ ضاهر عيطة
في روايته “زجاج مطحون” (دار المتوسط، 2016)، يزج إسلام أبو شكير بشخصياته الأربع في فضاء مغلق، حيث لا نوافذ ولا أبواب ولا فتحات تهوية، فبدوا كرهائن، أو مخطوفين، أو معتقلين، وهم يجهلون الجهة التي ساقتهم إلى هذا المصير المأساوي. وما يضاعف من وطأة المكان، حضور الزمن على نحو يولد إحساساً مريباً، إذ يعمل على انتزاع الملامح والصفات الإنسانية، ويستبدلها بصفات عمرية، رهينة بحركته، مما أدى إلى انشطار الكائن إلى عدة كائنات ممسوخة، فإن كانت هي شخصيات أربع، إنما تعود في أصلها لشخصية واحدة، تتجسد في الراوي إسلام أبو شكير، غير أن سطوة الزمن شطرتهم على هذا النحو، وقد جردتهم من أسمائهم وصفاتهم، ومنحتهم بدلاً من ذلك أسماء وصفات عمرية سريعة العطب والانزياح، عشريني، ثلاثيني، أربعيني، خمسيني.. وكل من هؤلاء ينازع الآخر على أحقيته بإسلام أبو شكير، إلى أن يتلاشى اهتمامهم بأسمائهم وذواتهم مع مرور الوقت، كذلك يتلاشى إحساسهم بوطأة المكان الذي حلوا فيه، ويغدو شغلهم الشاغل تأمين مستلزمات العيش، إلى حد أن هاجس التعرف على الجهة، أو القوة التي ساقتهم إلى هذا المصير، يغيب كلياً، وتغيب معه جميع الأسئلة، إذ يتبين لهم، أن مجرد الاستمرار في طرح الأسئلة سيؤدي بهم إلى الجنون. لقد بات الأمل ضمن معطيات الواقع الذي هم فيه ليس إلا خديعة، ومن يتمسك به سيؤول مصيره إلى هلاك، مما دفع بهم إلى التخلي عن الأمل، إذ اتضح لهم أن كل هذه المرارات، وهذا الضياع الذي هم فيه ما هو إلا لعبة مسلية، عليهم أن يلعبوها برضى واستسلام.. أي لا استنكار في عالمهم هذا، لا دهشة، لا تعجب.. يتقبلون شروطه وقوانينه على أنها أمور حتمية.
يحيلنا هذا الفضاء، أو العالم الافتراضي الذي ابتكره أبو شكير، إلى عالمنا الواقعي، وقد تم تسليط الضوء عليه، إلى حد بتنا مع شخصياته، وكأننا أمام مرآة لا شغل لها إلا أن تعرينا، وتكشف مدى هشاشتنا واضمحلالنا. فعلى الرغم من أن سياق الأحداث، وعدم معقوليتها، يدفعنا للاغتراب عنها، إلا أن طاقة الإيهام في مجرى أحداثها، تنال منا بقوة، حتى نجد ذواتنا وقد حلت في أجوائها المريبة، وسيق بنا إلى ذات الفضاء المكاني الذي أطبق بفكيه على شخصيات الرواية.
ويبدو أن القصد من إشارة أبو شكير في مفتتح روايته إلى القبر، أو المعتقل، أو المحتجز، كفضاءات مكانية لأحداث روايته، هو ترك الاحتمالات مفتوحة على مصراعيها لتوريط القارئ في ابتكار فضائه الموازي ضمن لعبة المخيلة المرعبة هذه، وإن كانت الشخصيات، ومنذ أن حلت في هذا الفضاء، تنبهت إلى انعدام فتحات التهوية، وكادت أن تنهار رعباً، لكن سرعان ما تطمئن إلى أن هناك عملية تهوية تتم على نحو أو آخر، تنسى هذا التفصيل وتنصرف لتأمين الاحتياجات اليومية، أي بعد النجاة من الموت اختناقاً، أو جوعاً، بات كل ما يخشى منه هو الموت قلقاً، ولذلك يتم الكف عن الترقب والانتظار، إذ يكفي أبطال الرواية في ظل هذا الانسحاق أن تتوفر لديهم موارد العيش من طعام وشراب وثلاجة وتلفاز .. ليشعروا بالرضى، وما من مشكلة في أن لا نافذة لديهم، ولا باب؟ طالما أنه بالإمكان رسم نافذة على الجدران، يرفعون عنها الستارة عند كل صباح، ويسدلونها عند كل مساء، حيث لا صباح ولا مساء إلا في أوهامهم ومخيلتهم، فالفشل الذي أعقب معظم محاولاتهم بالنجاة كشف لهم أن الأمل ما هو إلا لعنة حلت عليهم، وقد استهلك كثيراً من طاقتهم. لذلك أضحى اليأس حبل النجاة الوحيد لديهم، فالأمل المبني على الوهم هو أداة تحرق، ولا تضيء.
وكما أن حرمانهم من النافذة يحول دون تواصلهم مع الآخر، كذلك حرمانهم من المرآة حال دون تواصلهم مع ذواتهم، وقد تركوا ليتواصلوا مع قوة مجهولة، عمياء، لا يعرفون كنهها، تستجيب لمطلب من مطالبهم، وتمنع عنهم آخر، غير أن أبو شكير، بتركه لشخصياته دون مرآة، إنما جعل منها مرآة لذواتنا، وكأننا عدنا معها إلى مرحلة البدائية، فهم تارة يبدون كأطفال مستغرقين في البراءة، وتارة كوحوش مستغرقين في القسوة والعنف. وفي كلتا الحالتين يتصرفون حسب ما تملي عليهم غرائزهم وأوهامهم، حتى إذا ما حرموا من شيء، كالبن مثلاً، يخلقون الأعذار للقوة الخفية التي تحتجزهم، ويعللون ذلك بأن ثمة حرباً تدور رحاها في الخارج، وهي من تحول دون تأمين معظم متطلباتهم، وبذلك تشكل الحرب عنصراً قهرياً إضافياً موازياً لعنصري المكان والزمان، وهو بدوره يساهم في انعدام هاجس البحث عن الذات. فباسم الحرب، يتخلى الإنسان عن جوهر حياته، ويغدو السجن، المعادل للقبر، فضاءً طبيعياً، فحينما راحت جثة الثلاثيني تتفسخ على مرأى من أبصارهم، قرروا أن يتأقلموا مع الوضع، نظراً لظروف الحرب التي تحول دون دفنها، أو حتى إخراجها من هذا المكان.
وكان من شأن حادثة موت الثلاثيني، وما جرى من نقاشات حول جثته، أن تلخص حياة الإنسان على أنها انتقال من جثة لجثة، أو من مراحل عمرية إلى أخرى، وكأنه لم يعشها يوماً، أو كأن ثمة من يقطعها بسكين حادة، فحتى وإن كانت الأنا حاضرة، لكنه حضور ممحي، يتماهى في أنوات أخرى، هذه الأنوات التي صار لكل منها شخصية لا تقل تماهياً وانمحاءً عن غيرها، ومن هنا كانت أنا الراوي تخلط بين الـ{نحن}، والـ{أنا}.
ومع موت العشريني، يكون قد مضى على وجودهم في هذا الفضاء عشر سنين، والراوي الذي كان خمسينياً، صار ستينياً. وقد تم مسخهم إلى حد مفجع، خصوصاً حينما يفقدون اللغة والمقدرة على النطق، ويجتهدون في اختراع لغة خاصة بهم، وإذا ما عادت إليهم ملكة اللغة والنطق، تكون قد تحولت إلى عبء ثقيل، يجرح حناجرهم، ويؤذي أسماعهم.
ونظراً لأوهامهم التي تفترض استمرارية الحرب في الخارج، يطالبون بالثياب والأحذية العسكرية، والأسلحة من النوع الذي يلعب به الأطفال، ومناظير ليلية، لمؤازرة الضحايا والجنود في الخارج، وعندما لا يستجاب لمطالبهم يفعلون ذلك اعتماداً على أنفسهم، فينحتون تمثالاً لجندي كان قد خسر ذراعه في الحرب، تكريماً له، وكذلك يقلصون من استهلاكهم للطعام والشراب والكهرباء والمياه وشفرات الحلاقة، تعاطفاً مع الضحايا الحرب، هذه الحرب التي تبدو أنها الوهم الوحيد الذي هو حقيقة، فتمتد آثارها إليهم، وتحيل الجدار من حولهم إلى لون أحمر، وتكسر ذراع الجندي الذي نحتوه.
ومع وصول الورود البيضاء، التي يفترضها الراوي رمزاً للسلام وانتهاءً للحرب، ينتابه شعور الفرح، ويحتاج لمن يشاركه هذا الشعور، لكن ما من أحد بات من حوله، فقد مات الجميع، الأربعيني والخمسيني والستيني، ومع موتهم يستعيد كيانه وشخصيته المتمثلة بإسلام أبو شكير، لكن في وقت تكون فيه سنوات عمره قد التهمها الزمن، وصار هو سبعينياً، أو ربما ثمانينياً، أو تسعينياً..
“زجاج مطحون” رواية مشرعة على عدة احتمالات وتأويلات، وقد صيغت بتركيبة سحرية، ضمن أجواء مشحونة بالانفعالات والمتناقضات، وعلى درجة عالية من التنظيم والتبسيط إلى حد الادهاش.
عنوان الكتاب: زجاج مطحون المؤلف: إسلام أبو شكير