قبل حلول الظلام: سيرة مختلفة لسجون سورية/ حسام جزماتي
كان معبد الحسون في الثالثة والعشرين من العمر فقط عندما اعتقل بسبب انتمائه إلى مجموعة يسارية معارضة مكونة من حوالي عشرة أشخاص تشكلت في مدينته الرقة. كان طالباً جامعياً في كلية الآداب، قسم اللغة العربية. سيُحكم خمس سنوات فحسب، وهو رقم قليل بمعايير الاعتقال السياسي السوري في الثمانينات، وذلك لغموض التهمة وعدم كفاية الأدلة، غير أنه سيقضي اثني عشر عاماً تنقل فيها بين سجون المزة وتدمر وصيدنايا. وهو يسجّل ما تبقى من ذكريات تلك التجربة في كتاب «قبل حلول الظلام: حين يصير الدم ماءً…» الصادر للتو.
في «روايته» هذه، كما يصفها على الغلاف، سيختار الحسون موقع المراقب. وبلغة شيّقة سيقدم لنا الآخرين، بل إنه سيختار منهم الهوامش لا المتن. سيشير إلى الإخوان والطليعة والسلفيين وأعضاء حزب التحرير الإسلامي ورابطة العمل الشيوعي بالعموم، لكنه سيعتني أكثر برسم صور وشخصيات دعاوى غير معروفة على نطاق واسع ومن اقتادتهم تهم متعسفة أو مبالغ فيها إلى حد كبير، مما يزيد من سوريالية مشهد السجون السياسية السورية وقراقوشية أحكامها التي تولتها وقتها محكمتان:
المحكمة الميدانية العسكرية الأولى برئاسة اللواء حسن قعقاع، وهو ضابط سكير كان رفيق شباب حافظ الأسد، وعضوية العميد حسن الجرف والرائد جودت حبيب الذي كان طرف الادعاء. مقرها في آمرية الطيران وكانت تتردد على سجن المزة لتبليغ الأحكام. والمحكمة الميدانية الثانية برئاسة اللواء سليمان الخطيب. وكان المتهمون يعرضون عليها بالجملة، فقد تصل أعدادهم إلى مئة أو مئة وخمسين في اليوم، يُحكم على نصفهم أو ثلثيهم بالإعدام. ومقر عملها الأساسي هو سجن تدمر. كانت المحكمتان تعملان بآليات مستقلة لا ضوابط لها عدا بعض التوجيهات العامة التي كانتا تزودان بها من سلطات أعلى، وبحسب مزاج رئيس المحكمة ومساعديه.
سيحدثنا الكتاب عن مجموعة العميد شعبان خطاب التي ضمت حوالي مئة ضابط أكثرهم من حائزي الأوسمة في حرب تشرين 1973. وهي مجموعة انقلابية ذات نزوعات وطنية وعلاقة هشة مع القيادة القومية لحزب البعث في العراق ونافذة تحاورية مع الطليعة المقاتلة للإخوان المسلمين عبر عدة لقاءات لم تسفر عن نتائج بعد مع أحد قياديي التنظيم، وقد تم اختراقها بالمقدم مصطفى حماض الذي كان مرتبطاً برئيس شعبة الاستخبارات العسكرية علي دوبا. وكان من قيادات هذه المجموعة الرائد الطيار عثمان أصفر الذي وقع أسيراً لدى الإسرائيليين أثناء حرب تشرين وخضع للتحقيق في أحد مقرات استخباراتهم حيث سئل عن حياته العسكرية دون أي ضغط، مما أتاح له فرصة المراوغة والكذب في الأجوبة كما يشاء، مستغرباً من سذاجة المحقّقَين البادية وقلة معرفتهما ببلده وجيشها وطيرانها وقطعاتها، حتى استدعي في اليوم التالي لمقابلة محقق في غرفة أخرى، أخبره أنهم لم يدققوا في أجوبته بالأمس لأنهم لا يحتاجون منه أي معلومة، وسرد على الرائد سجل حياته منذ مدرسته الابتدائية وحتى أسماء أقاربه وزوجاتهم وأبنائهم، مروراً بسيرته العسكرية وأسماء قادته وزملائه في المطار!
يورد المؤلف هذه الشهادة كدليل على حجم الاختراق المعادي الذي يرجح أن يكون وراء اعتقال الرائد محمد وداد بشير، ضابط المخابرات الذي تتبع الجاسوس الإسرائيلي إيلي كوهين واعتقله بإشراف اللواء محمد سويداني الذي سيراه المؤلف في سجن المزة كذلك، مع أفراد القيادة قبل انقلاب حافظ الأسد (المعروف بالحركة التصحيحية)، مثل نور الدين الأتاسي وصلاح جديد ومحمد عيد عشاوي.
كما سيحكي عن مجموعة «شغب اللاذقية»، وهم عدة شباب مهنهم الأساسية صيد السمك والتهريب وتدوير الحشيش والمخدرات، انخرطوا في تمرد الثمانينات بطريقة مستقلة واعتباطية، مدفوعين بحساسية الحالة الطائفية في الساحل، وأرهقوا أجهزة الأمن في اللاذقية بقيادة أبي علي الجندي. وحكموا بالإعدام. ومثلهم مجموعة علي فرمان في حلب، وكانوا شرسين قساة تحدوا السلطة بقوة دون خلفيات سياسية. وسيقص علينا بعض سير المهربين الذين نقلوا رسائل سياسية متبادلة ضمن بضائعهم لدوافع مالية، وفي حالات أقدم بعضهم على تهريب بعض قطع الأسلحة أو التمويل، عبر مسالك الحدود، لمجموعات معارضة مختلفة.
على جدار خارجي لسجن تدمر سيقرأ الشاب، المحال إلى هناك إثر الحكم عليه، عبارة خطّها عناصر من سرية التأديب تقول: «أبو جهل يرحب بكم»، هو مساعد أول ابتكر أنواع التنكيل التي تمارس على السجناء، ويعدّ جلاد تدمر الأول. وعلى جدار باحة الحمامات داخل السجن عبارة كاريكاتيرية أخرى كتبها «البلديات»، وهم سجناءُ مهجع وحيدٍ للقضائيين بين السجناء السياسيين، كانوا موجودين لغرض العمل في الخدمة العامة، للمخبز والمطبخ وتنظيف أواني الطعام وغير ذلك. وكان رئيسهم يُنتقى من السجناء العلويين القضائيين، أو أن يكون مدعوماً بواسطة ثقيلة، ويُطلَق عليه وصف «رئيس الورشات»، ويُعامَل باحترام وخشية يعادلان ما يحظى به رقيب أول في سرية الشرطة العسكرية. كانت العبارة قد كُتبت في الأصل بصيغة «لن تموت أمة قائدها حافظ الأسد»، لكن أحد رؤساء البلديات كتب اسمه، فرحاً بتعيينه، بعد أن طمس اسم الأسد، لتصبح العبارة: «لن تموت أمة قائدها رئيس الورشات أحمد سعيد»!
فالمسؤولون هنا هم الحكام، وهو ما تبين من «ليلة إعدام مهند وفائي»، كما بات السجناء يسمّونها. إذ نودي باسم هذا الشاب الحلبي الذي كان قد حوكم وهو يتوقع مصيره، لكن شاباً آخر بالاسم نفسه أجاب من أحد المهاجع: «حاضر»، ليسمع العبارة المؤذنة بالموت: «ضب غراضك ولاه، واقطع علاقتك بالمهجع». فوجئ الشاب ولكن لم يكن أمامه سوى الخروج، وحين طمّشوه وكلبشوه واقتادوه إلى باحة الإعدامات أخذ يصرخ بأنه بريء ولم يمثل أمام المحكمة، حتى اقترب منه المساعد، مسؤول الخدمة اليومية وقتها، وطابق السجلات ليكتشف اختلاف البيانات العائلية ويرسل وراء مهند وفائي المقصود فجاؤوا به بعد بحث جديد. وحين سأله أحد العناصر: «سيدي.. وهاد اللي جبناه بالغلط.. شو نسوي فيه؟» أجاب المساعد ببرود: «اعدموه كمان..»!
يحدثنا الكتاب عن التجارب الجحيمية هناك، كانقطاع المياه عن السجن لعدة أشهر في الصيف القائظ، والاكتفاء بكميات شحيحة جداً ينقلها السجناء من الصهريج. وعن تفشي الجرب وشيوع الإصابة بالسل الذي أدى إلى وفيات يصعب حصرها. وعن الذهانات وتفكك الشخصية. وعن الأضرار الصحية المستدامة الناجمة عن إخضاع بعض السجناء لتجارب على الأسلحة الكيماوية والجرثومية في مقرات عسكرية. وعن شخصيات تدمرية طريفة أو غريبة مثل يشار، وهو شيخ دمشقي من أصول شركسية محكوم بالسجن المؤبد، التف حوله عدد من المؤمنين به إيماناً مطلقاً، كانوا يعتقدون أن جميع البشر هم من الكفار الواجب اعتزالهم، بما فيهم غالب سجناء تدمر، ولذلك كانوا يصلون في جماعة وحدهم، راحت تتوسع مع الوقت فصاروا بضع عشرات. وعن مهاجع الأحداث الذين لم يبلغوا السن القانوني، وبعضهم في عمر الثالثة عشرة، وقد تعرضوا لتعذيب أشد من الرجال، كما حُرموا من خبرات الإدارة والعلاج التي يحوزها هؤلاء عبر الأطباء المعتقلين الذين يذكر منهم زاهي العبادي على نحو خاص، لأنه صار الطبيب الفعلي للسجن كله في متابعة مرض السل، قبل أن يقضي هناك.
إثر تأسيس سجن صيدنايا عام 1987 سيُنقل الحسون، وآخرون، إليه، حيث سيتلقون الصدمة الأولى برؤية وجوههم في المرآة بعد كل هذه السنوات. كانت تلك اللحظات هي الأقسى، إذ يتكثف في وجدان المرء كل ما حدث له.
في السجن الجديد ستتسع دائرة القوس لتضم تيارات وكتلاً بشرية إسلامية وقومية ويسارية ولبنانيين وفلسطينيين. وكعادة المؤلف في التقاط النماذج الفردية سيحدثنا عن «أبو حلب»، وهو معاون باص يسافر بين حلب ودمشق. وذات يوم أتاه رجلان غريبان وعرضا عليه أن ينقل «نملية» (خزنة خشبية تغطى بغربال ناعم وتستخدم لحفظ الأطعمة وتعريضها للهواء) فيوصلها إلى عنوان في دمشق مقابل مبلغ مجز، فلما وصل إلى الشقة المقصودة فوجئ بعناصر المخابرات، الذين رابطوا فيها ككمين، يلقون القبض عليه ليجد نفسه جزءاً من خطة لاغتيال عبد الحليم خدام، وزير الخارجية وقتها، وكان هدف من أرسله معرفة إن كانت العملية قد كشفت.
وفضلاً عن عتهٍ ولاّديٍ أصلي، فاقم التعذيب الذي تعرض له الشاب من تدهور وضعه العقلي والصحي، ليخرج أخيراً بعد أربعة عشر عاماً قضاها بين سجون عدرا وتدمر وصيدنايا، دون أن يفطن إليه أحد بعدما أخذت السلطة تطالب بمحاكمة خدام نفسه، وبعدما أصبح السوريون جميعاً يشبهون «أبو حلب» في وجه من الوجوه، وصارت البلاد كلها تشبه «النملية» التي حملها وورّطته.
تلفزيون سوريا