«الإخوان المسلمون في سورية» نقاش في أفكار دارا كوندويت D. Conduit/ حمود حمود
ربما لا يخفى على أحد منا بعد أكثر من ثماني سنوات ذلك الفشل الهائل الذي مُنيت به، وما زالت، معظم أوجه «معارضاتنا» السورية، ليس في تحقيق تقدم عسكري وسياسي فحسب، بل حتى في تقديم منظومة قيمية حداثية أو «بديل أخلاقي» عن اللاأخلاقية المتوحشة لنظام البعث واشتقاقاته في المشرق. عدم اعتراف المعارضات السورية بهذا الفشل يعني، بوجه منه، استدامة التشبث بنواصي الفشل، ومن جهة أخرى استمرار بعض أطياف المعارضة -وتحديداً تلك الإسلاموية- بسياساتها الانتهازية: «الاستثمار» بالفشل.
والحال، أنّ جماعة الإخوان المسلمين في سورية ما زالت تقدم لنا المثال الأهم عن هذه العلاقة المتشابكة بين نجاحها وفشل أشقائها من أطياف المعارضة الأخرى. إحدى النتائج التي خلصت لها الباحثة دارا كوندويت D. Conduit (من جامعة ديكن الأسترالية) في كتابها الصادر حديثاً عن الإخوان المسلمين في سورية «D. Conduit, The Muslim Brotherhood in Syria, Cambridge University Press, 2019»، والتي تقول بأنّ الإخوان السوريين قد أثبتوا أنهم الأقدر والأكفأ والأشد تنظيماً من بين كل جماعات المعارضة السورية عشية الانتفاضة السورية (مثلاً: ص 17-151-161-) وأثناء مسارها المعقد في إثبات وجودهم واتباعهم سياسة «أننا هنا»، لهي نتيجة دقيقة إلى حدّ بعيد. وهذا بالفعل ما لا يمكن لأي مراقب إنكاره. بيد أنّ الإشكال، كل الإشكال، هو في كيفية التوصل إلى هذه النتيجة، أو قل المنهج البحثي الذي ألزمت به المؤلفة نفسها في درس الإخوان السوريين. وعموماً، سنغض النظر عن هذه النقطة الآن. ولأنه يصعب علينا في سياقنا هنا الإحاطة بكلية الكتاب وتفاصيله الهائلة، فإنه سيتم التعرض فيما يلي إلى بعض النقاط الرئيسة التي يعالجها الكتاب من جهة، وتقديم، من جهة أخرى (في عجالة مستقلة تالية)، رؤيتنا النقدية لبعض الإشكاليات المنهجية التي وقع بها الكتاب في قراءة «إخواننا».
ينقسم الكتاب في خطه العريض إلى جزأين: الأول (في خمسة فصول)، والذي يعيد قراءة تاريخ الإخوان السوريين من اللحظات التأسيسية في أربعينيات القرن الماضي حتى سنة 2011، وذلك بهدف تحديد أهم الخصائص التكوينية للمسار التاريخي للإخوان وكيفية تغّير هذه الميزات مع مرور الوقت؛ أما الجزء الثاني (في ثلاثة فصول)، فإنه يتناول المسار الوجودي، سواء سياسياً أم عسكرياً، في انخراط الإخوان في الانتفاضة السورية. وبصرف النظر عن التفاصيل الهائلة التي تخللها هذا الدرس، فإنّ ما يسترعي النظر هو الضابط النقدي الذي سيطر على كلية الكتاب:
في محاولة المؤلفة الخروج من الأحكام الغربية (القديمة) التي تنظر إلى الإخوان من نظارة العنف والإرهاب ووصفهم بالدوغمائية والتصلب، فإنها تجد في الإخوان أنهم يمتازون في مسارهم التاريخي بثلاث مميزات تراها فيهم بكونها تشكل أعمدة بنيوية في مسارهم العملي واستجابتهم للتحديات السياسية التي واجهوها. الأولى، هي «البراغماتية» التي ترى أنها منبنية في الـ DNA للإخوان منذ لحظة التأسيس أثناء فترة مصطفى السباعي وظلت سمة مميزة للجماعة حتى انتفاضة 2011 (ص 14 و164)، وحتى إنْ وصلت حدة هذه البراغماتية أحياناً إلى «الانتهازية»، كما يرى الكتاب. وأهم ما تراه المؤلفة هنا أن هذه البراغماتية قد ميزت الإخوان بـ«قدرة فريدة على التكيف مع الظروف السياسية المتغيرة» (ص14) وبالتالي المرونة الإيديولوجية الضرورية في مواجهة المشهد السياسي السوري المتغير (ص223). وهذا بالفعل، ما يمكن قراءته مثلاً في براغماتية الإخوان في تشكيل تحالفات مع أطياف سورية مناقضة لها أيديولوجياً (وهو الأمر الذي تجلى بعد استلام بشار الأسد سدة السلطة)، بل حتى في السير في فتح قنوات حوارية سرية مع نظام الأسد. ولا تنسى المؤلفة أنْ تولي هذه الميزة مساحة كافية في القسم الثاني من درسها بعد عودة الإخوان إلى الشارع السوري ومشاركتهم السياسية والعسكرية في الانتفاضة السورية.
أما الخاصية الثانية فهي «الفردانية» والتي يمكن قراءتها ضمن التشكيلات الأساسية مبكراً للإخوان الذين تألفوا من نخب علمانية وليبراليين اقتصاديين؛ ورغم أن هؤلاء غالباً ما كانوا يتصرفون تحت «راية الجماعة»، بيد أنهم كانوا أيضاً أفراداً سيطرت عليهم المصالح الفردية، وهو الأمر الذي أكسب الجماعة مهارة في الوصول إلى غاياتها (ص 14 و44). الميزة هذه يمكن قراءتها أيضاً في منحى مهم في مسار الإخوان حينما أخذت تنحو شكلا آخر (ص97) فرضته المواجهة بين الإخوان ونظام البعث.
التمايز الفرداني الداخلي بين أفراد الجماعة، وهذا رأيي، كان يصب تماماً في مصلحة دهاليز الاحتيال التي نقرؤها عند الإخوان، مثلاً حينما يتم تنصل «الجماعة» من بعض «أفراد الجماعة» إذا ما صدرت عنهم أفعال أو أقوال يُنتقدون عليها، وبنفس الوقت يحافظون على اسم الجماعة! ما يحسب للمؤلفة هنا هو درسها الواسع وتقديمها خريطة كبيرة أعادت قراءة تاريخ الإخوان السياسي وكذلك مواجهاتهم العسكرية، وهي الخريطة التي يمكن الإفادة منها في مسألة أجدها مهمة: وهي ألا ننظر إلى تاريخ الإخوان على أنه يشكل «تاريخ جماعة» متماسكة بمقدار أنه «تاريخ أفراد» من الجماعة. والفرق بين الرؤيتين هائل. ففي حين إنّ الأولى تحيل إلى أنّ الإخوان يمثلون جماعة متماسكة هيكلياً وتنظيمياً تقوده سلطة المراقب العام المركزية وكل ما يصدر عنها من أقوال وأفعال يجسد مأسسة منضبطة، نجد أنّ الرؤية الثانية تركز على البعد الفردي الذي تعكسه مصالح فردية، تصل إلى حد التناقض بين أفرادها، وتعكس التنوع في المجتمعات السورية.
ويمكن بالفعل أنْ أؤكد من غير مبالغة (عطفاً على رؤية المؤلفة) أنّ تاريخ الإخوان السوريين هو أيضاً تاريخ التناقضات العمودية والأفقية في المجتمعات السورية. لنقرأ مثلاً وجهاً من أوجه هذه التناقضات في الفروع الإخوانية السورية، الشمالية (الحلبية) التي اتسمت بالعسكرة على حساب الأيديولوجية، من جهة، والجنوبية (الدمشقية) التي أولت اهتمامها إلى الجانب العلمي والدعوي الإسلامي وعدم انخراطها بشكل مباشر في الأعمال المسلحة، من جهة أخرى (لا ننسى مثلاً كيف أنّ هذه التناقضات برزت للسطح أثناء الصراع بين أفراد الجماعة على سدة سلطة الجماعة في سورية، الأمر الذي اضطر التنظيم الدولي من القاهرة للتدخل وحسم الأمر، حيث كان هناك حقاً تنظيم حلب بقيادة الشيخ عبد الفتاح أبو غدة وتنظيم دمشق بقيادة عصام العطار، وقد تصارع القسمان حول دور «الطليعة المقاتلة» المسلحة بزعامة مروان حديد، والتي شكلت من جانبها، بالفعل، قسماً ثالثاً في الجماعة).
أما البعد الثالث الذي ميز الجماعة بحسب المؤلفة فهو «المرونة الأيديولوجية». فالجماعة، والرأي للكتاب، لم تشكل أبداً تنظيماً «أيديولوجياً عميقاً» (ص40)؛ حيث عكس توجه الإخوان منذ البداية ميراثاً فكرياً متنوعاً يحوم بين طرفي الصوفية والسلفية، الأمر الذي أعطى الجماعة بعداً مرناً في التعامل مع القضايا والتحديات التي واجهوها وتحديداً قبل صعود البعث إلى السلطة، لتعود هذه المرونة ونلاحظها في التعامل مع الانتفاضة السورية وأطياف المعارضة الأخرى، وهو الأمر الذي يفسر قوة حضورهم السياسي.
هذا بالضبط ما يعكسه الكتاب في درسه لإخوان سورية. ورغم ذلك، فإنّ دارا كوندويت لا ترى أنّ المستقبل يضحك أمام مستقبل الإخوان في سورية. فنظراً إلى سجل الجماعة المختلط (الذي يتميز أيضاً بالعنف وسمعة الطائفية والانتهازية السياسية والمنفى الطويل) «سيكون من الصعب أمامها الحصول على موقع مهم في المستقبل إذا ما جرت انتخابات» (ص184). وهذه نتيجة أجدها حقيقية إلى حدّ بعيد، رغم القصر النقدي والمنهاجي في الدرس البحثي للكتاب، أقله بالنظر إلى تشابك الإخوان بالمحيط الأصولي الجديد على الساحة السورية ومستقبلهم ضمن فضاء الإسلام السياسي في سورية، وتحديداً في السنوات الأخيرة مع ولادة أطياف إسلامية أخرى منافسة للإخوان.
ثقل الإخوان المسلمين بين أطياف المعارضة السورية، لا يعكس على الإطلاق ثقلاً لهم في الشارع السوري. لكن للأسف لم يتم إيلاء هذه النقطة مساحة نقدية كافية. وعموماً، فإنه سيكون لنا عودة نقدية أخرى لاحقاً لتناول بعض الإشكالات الجوهرية التي ابتلي بها الكتاب، وتحديداً في مسألة المرونة الأيديولوجية، التي تصر عليها المؤلفة، وكون الإخوان «ديمقراطيين بالأساس» (هكذا!) ورؤية المؤلفة لعلاقتهم بالعنف كونها لا تجسد سياسة متأصلة فيهم بل وجهاً «تكتيكياً» لجؤوا إليه…الخ.
بروكار برس