إنقاذ الليرة السورية: المهمة المستحيلة -مقالات تناولت الأمر-
إنقاذ الليرة السورية: المهمة المستحيلة/ قاسم البصري
فشلت جميع محاولات النظام السوري الكثيرة والمتخبطة خلال الشهرين الفائتين في تحقيق أهدافها الرامية إلى ضبط سعر صرف الليرة السورية أمام الدولار، وباتت معدلات التغيّر في قيمتها صعوداً وهبوطاً بنسبٍ لا تقلّ عن 5% بشكلٍ شبه يومي دليلاً على مكانتها المهتزّة وعدم القدرة على احتواء أزمتها. وعلى الرغم من أنّ النظام استطاع دعمها لترتفع قيمتها من 960 ليرة مقابل الدولار الواحد إلى حدود 750 ليرة مطلع هذا الأسبوع، إلا أنّ هذا التحسن لم يستمر أكثر من يومين، وعاودت الليرة فقدان 6% من قيمتها خلال يومٍ واحد أول أمس الثلاثاء، لتصل إلى حدود 850 ليرة مقابل الدولار، وهو الرقم الذي أقفلت عليه أمس الأربعاء بحسب موقع الليرة اليوم.
ولا شكّ في أنّ عدم ثبات سعر الصرف ارتفاعاً وانخفاضاً وتغيّره من ساعةٍ إلى أخرى، كما تُظهر الرسوم البيانية أدناه، يكشف أنّ جميع سياسات النظام النقدية وغير النقدية لاحتواء أزمة الليرة لا جدوى منها على المدى الطويل، وما هي إلا محاولات دفعٍ موضعية بأثرٍ طفيفٍ ومحدود الأجل، ذلك أنّ النظام لم يعد يمتلك القطع الأجنبي الذي يمكّنه من ضبط السوق، وهو أيضاً عاجزٌ عن تأمينه أو السيطرة على حركته في البلاد، كما لم يعد بمستطاعه تأمين الدعم، كما درجت العادة، من الدول التي تحمّلت عنه أعباء مالية كبيرة خلال السنوات الماضية، فإيران، حليفته الوثقى، تعاني هي الأخرى من أشدّ العقوبات المفروضة عليها في تاريخها، ومن تعاظم الاحتقان الشعبي على تعثّر الأوضاع المعيشية فيها وانهيار العملة المحلية. كما أنّ اللجوء إلى روسيا لم يعد ممكناً، إذ أنّ الأخيرة باتت سياستها حيال سوريا تقوم على فرضية أنّ الوقت قد حان للاستفادة من النظام السوري بدلاً من دعمه، وذلك بعد أن انتشلته من السقوط بفعل تدخلها العسكري والسياسي والاقتصادي بشكلٍ متواصل على مرّ الأعوام التسع المنقضية.
وقد جاءت زيادة الرواتب التي أقّرها بشار الأسد (13 ألف ليرة سورية بعد اقتطاع التأمينات والضرائب) بمثابة إعلانٍ صريحٍ من النظام بأنّ الارتفاع الحاصل في سعر صرف الدولار لن يكون تداركه أو الحدّ منه ممكناً، وبالتالي فإنّ ارتفاع الأسعار بشكلٍ سريعٍ ومديد هو النتيجة الحتمية، وذلك في ظلّ عجز البنك المركزي عن تمويل المستوردات، وإصداره قائمةً جديدةً تقضي بتقليص عدد السلع المشمولة ببيع القطع الأجنبي لمستورديها من خلاله، وكذلك على ضوء أنّ سعر الصرف في السوق بلغ ضعف السعر المعتمد من قبل المصرف المركزي، المُثبّت منذ تشرين الثاني (نوفمبر) من عام 2018 عند 438 ليرة مقابل الدولار الواحد، وعدم وجود نيّة بتغيير السعر المرجعي للصرف، رغم أنّ خسارة الليرة من قيمتها قد بلغت فقط في شهر تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي أكثر من 20%، وذلك دون أن يصحو المركزي من سباته العميق.
ويُظهر ذلك أيضاً توجّهاً أكثر وضوحاً لدى النظام نحو حجب الدعم عن معظم المواد الاستهلاكية الرئيسية، وما تبقّى من مستلزمات الإنتاج الزراعي والحيواني والصناعي المشمولة بتغطية القطع الأجنبي اللازم لاستيرادها عن طريق المركزي، وذلك نظراً للعجز شبه الكلي الحاصل في ميزان المدفوعات. وربما سيجري إلغاء هذا الدعم بشكلٍ كاملٍ في مراحل مقبلة، وترك التجار «رسمياً» يؤمّنون ما يلزمهم من القطع الأجنبي لتمويل هذه المستوردات من خلال السوق السوداء (وهو الأمر الحاصل فعلياً اليوم)، على أن تُدرج بعض السلع الاستهلاكية الرئيسية كالرز والسكر والزيت ضمن البطاقة الذكية أسوةً بالمحروقات.
وفي ظلّ فشل الإجراءات النقدية لتدارك أزمة الليرة، اتّجه النظام خلال الأيام الماضية إلى أساليب جديدة للتعمية على المشكلة النقدية وأسبابها الحقيقية، وقد تركّز ذلك في فرض طوقٍ جمركي في محيط المدن السورية وبين أحيائها، تحت ذريعة وقف عمليات التهريب وملاحقة التجار الذين يتلاعبون بأسعار الصرف، ليوحي للناس أنّ هؤلاء هم سبب الأزمة ومفتعلوها. كما أغلق النظام عدداً من محلات الصيرفة ولاحق أصحابها، وعاود اتّباع سياسة الحجز على أموال بعض المتنفذين من الدائرة الضيّقة المقرّبة من بشار الأسد لاحتواء غضب الشارع، وكان آخرهم طريف الأخرس، عمّ أسماء الأسد. واللافت أن حجز الأموال جاء هذه المرة عن طريق المديرية العامة للجمارك، وهو ما يتماشى مع رواية النظام بأنّ التهريب وتجّار الأزمات الذين أثروا نتيجة انشغال «الدولة في حربها على الإرهاب» هم من تسبّبوا في تفاقم أزمة الليرة. رواية النظام فيما يخصّ العابثين باقتصاد البلاد تتناقض مع نفسها، فهو يُنكر حيناً وجود الأزمة فعلياً ويُشدّد على قوة الاقتصاد وثبات مكانة الليرة، ولكنّه في الوقت نفسه يُوجّه الاتهامات إلى جهاتٍ وأشخاص ودولٍ على أنهم سبب الأزمة غير الموجودة!
وقد فشلت خطط حكومة النظام لدعم الليرة السورية، سواء عن طريق مبادرة الدعم من خلال رجال الأعمال، أو بـ «الكلمة الطيبة» بحسب شعار الحملة التي سبق أن أطلقها البنك المركزي. وفي موازاة ذلك، يسعى النظام إلى تأمين القطع الأجنبي الآن عبر طرح أذونات خزينة عامة بالليرة وبالدولار، على حدٍ سواء، للاستكتاب بفوائد مرتفعة، وذلك كي يؤمّن من خلال هذه السندات كمياتٍ من المال بالعملة المحلية والقطع الأجنبي؛ بهدف دعم ميزان المدفوعات لتأمين الاحتياجات المعيشية الأساسية ورفع قيمة الليرة، وفي الوقت نفسه خفض الفائض من العملة المحلية التي يتداولها السوريون، والتخفيف من عملية استبدالها بالدولار في السوق السوداء. واقعياً، من غير الممكن لهذه العملية أن تنجح إلا عبر إجبار رجال الأعمال على شراء أذونات الخزينة بالإكراه، لأنّ ضعف الملاءة النقدية للنظام وانعدام الثقة بالمصرف المركزي لدى أولئك الذين يُفترض أنهم سيقبلون على شراء هذه الأذونات، كلّها أمورٌ ستحول دون ذلك.
وفي حين أنّ موضوع أزمة سوريا الاقتصادية كان غائباً بشكلٍ شبه تام عن التداول في لقاءات بشار الأسد التلفزيونية المُكثّفة خلال الفترة القصيرة الماضية مع وسائل إعلام أجنبية متنوعة، إلا أنه كان حاضراً في لقائه مع التلفزيون الرسمي لنظامه، حيث أشار إلى أنّ العقوبات الأجنبية والحصار الاقتصادي الذي تعانيه سوريا هما العاملان المفصليان في بروز الأزمة الحالية وتعاظمها، مُشيراً إلى أنّ معاودة نظامه السيطرة على مساحاتٍ واسعة من البلاد كانت تخضع لسيطرة المعارضة قد حرمته من تدفقات القطع الأجنبي التي كانت تصل إلى تلك المناطق من خلال الأموال والمشاريع التي كانت تنفّذها المنظمات الدولية وتلك التابعة للأمم المتحدة، وهو ما انعكس سلباً على سعر الصرف. صحيحٌ أنّ النظام كان يستفيد من الدولارات التي كانت تدخل إلى مناطق سيطرة فصائل المعارضة، لكنّ الأسد يبالغ في قيمتها وأثرها على الاقتصاد كما لو أنها كانت تُقدّر بالمليارات، وذلك اتساقاً مع البروباغندا التي تبناها نظامه وأبواقه مبكراً عن دعم جهات دولية للمناطق الثائرة بمبالغ طائلة، وهذا ليس هو الحال على أرض الواقع، ولو كان ذلك صحيحاً لانعكس تدفقها على حياة الناس بشكلٍ إيجابي، ولم تكن معدلات الفقر في هذه المناطق مساوية أو تفوق نظيرتها في مناطق سيطرة النظام.
اليوم، وفي سياق الترابط بين مناطق سيطرة المعارضة والفصائل الإسلامية والمناطق الخاضعة للنظام من الناحية النقدية وحتمية إعادة تدوير النقد في عموم البلاد، برز من جديد اقتراح اعتماد الليرة التركية كأداة نقدٍ تبادلية بين السكان في مناطق سيطرة هيئة تحرير الشام ومناطق سيطرة الفصائل المدعومة تركياً في الشمال، وذلك للتخفيف من آثار التضخم وتراجع مستوى المعيشة بفعل انخفاض قيمة الليرة السورية. وهذه ليست المرة الأولى التي يتمّ فيها تداول هذا المقترح، فقد سبق الحديث عنه إبّان أزمة انخفاض قيمة الليرة السورية في العام 2015، وقد فشل تطبيقه حينها، كما سيفشل تطبيقه اليوم حتماً، وذلك بسبب غياب الأدوات المالية اللازمة، ولأنّه ليس من مصلحة الجانب التركي تسريبُ كميات غير مضبوطة من عملته المحلية إلى خارج حدود البلاد، حيث يكون من الصعب السيطرة عليها.
ولا يمكن فصل انخفاض قيمة الليرة السورية عن انخفاض نظيرتها اللبنانية والإجراءات التي اتبعها المصرف المركزي اللبناني للحدّ من خروج القطع الأجنبي من المصارف اللبنانية، بل وسعي جهات لبنانية إلى استجرار الدولار من سوريا بخلاف ما كانت الحال عليه سابقاً، حين كان التجار السوريون والنظام السوري يحصلون على كمية وازنة من احتياجاتهم من الدولار من الأسواق اللبنانية، وبالتالي لم يخسر النظام السوري لبنان اليوم فقط كدولةٍ يمكنه تهريب القطع الأجنبي منها، بل صار هنالك تسرّبٌ معاكسٌ للدولار من سوريا باتجاه لبنان. يُضاف إلى ذلك أنّ تشدّد البنوك اللبنانية بعد انخفاض قيمة الليرة اللبنانية في منح القطع الأجنبي للمودعين قد أثّر بشكلٍ كبير على قدرة رجال الأعمال السوريين، وقسمٌ كبيرٌ منهم يعمل كواجهة للنظام السوري، على سحب إيداعاتهم بالدولار وتمويل مستورداتهم من خلالها، أو سحبها وإعادة ضخّها في السوق المحلية السورية.
يزيد انخفاض سعر صرف الليرة من أزمة السوريين المعيشية باختلاف الجهات المُسيطرة على الأرض، وقد كانت أولى الآثار وأكثرها سرعةً انكماش الأسواق وخلوّها من عددٍ كبيرٍ من السلع، فضلاً عن ارتفاع معدلات التضخم. ورغم أن هذه الآثار جاءت سريعةً نتيجة انخفاض قيمة الليرة، فإنها لن تعاود الاستقرار بالسرعة نفسها في حال تمكّن الليرة من استعادة قيمتها أو جزءٍ منها، إلّا إذا كان هناك استقرار طويل الأمد، ولو كان نسبياً على الأقل.
لا يمكن أن تعصف الأزمات المالية والنقدية بأنظمة وحشية من طبيعة نظام الأسد، ويمكن التدليل على ذلك بعديد الأمثلة لدولٍ منهارة نقدياً، كإيران أو كوريا الشمالية أو العراق في ظل العقوبات على نظام صدام حسين، غير أنّ تلك الدول طوّرت من أدوات إنتاجها وكيّفت اقتصادها ليكون أكثر مرونةً في مواجهة انهيار العملة والعقوبات الاقتصادية وعدم القدرة على تأمين القطع الأجنبي لتمويل مستورداتها، وذلك من خلال خلق بدائل محلية أو آليّات تمكّنها من الالتفاف على العقوبات ومبادلة سلع معينة بمنتجات محلية، وهو ما ليس بمقدور نظام الأسد فعله، فالاقتصاد محطّم، وعجلة الإنتاج مُدمّرة، وموارد البلاد الطبيعية تتناهبها روسيا وإيران والولايات المتحدة، بينما يواصل النظام الانشغال بحربه على إدلب وسحق ساكنيها والمُهجّرين إليها.
موقع الجمهورية
—————————
الأسد بدولارين/ عمر قدور
مع الانهيار الجديد لليرة السورية ووصولها إلى عتبة الألف ليرة مقابل الدولار، شاعت نكتة سورية تقول أن الأسد أصبح بدولارين، عطفاً على كون فئة الألفي ليرة “وهي الأعلى” تحمل صورة بشار الأسد. انهيار الليرة رافقته إجراءات عديدة، منها زيادة الأجور بما يعادل 26 دولاراً سرعان ما انخفضت قيمتها بالتدهور اللاحق على إعلانها، ومنها أيضاً استعراضات لرجال السلطة بمداهمة المحلات التجارية لإجبار أصحابها على عدم رفع أسعار بضاعتهم، وصولاً إلى فرض ضرائب جديدة أعلى على أصحاب الفعاليات الاقتصادية تحت التهديد بالاعتقال.
في الوقت نفسه، وأيضاً مع دخول فصل الشتاء، تواصل قوات الأسد هجومها الشرس على إدلب، مع اتباع سياسة الأرض المحروقة خاصة على جانبي الطريق الدولي بين دمشق وحلب. ورغم أن تكلفة المجهود العسكري تبقى طي الكتمان إلا أنه لا يصعب تقدير أثره على وضع اقتصادي متدهور أصلاً، أي أن نهج العصابة الحاكمة لم ينحرف للحظة عما هو معتاد، والأولوية فيه للحرب، الأولوية التي صار واضحاً للعيان أنها بالمعنى المباشر على حساب قوت الموجودين تحت سيطرتها. مع التنويه بأن السيطرة على إدلب غير مجزية مقارنة بتكاليف الحملة الاقتصادية، من دون أن نأخذ في الحسبان كلفتها البشرية الكارثية على أهالي المنطقة المستهدفة، وحتى على قوات الأسد.
كانت الأخبار قد نقلت أيضاً في الأيام الأخيرة قيام مرتزقة أنقرة في عفرين بقطع أشجار الزيتون التي تُشتهر بها المنطقة، واعتُبر ذلك نوعاً من التنكيل الإضافي بالأهالي الأكراد. وكانت المصافي النفطية البدائية التي تغذي جزئياً المنطقة بالمحرقات قد تعرضت لقصف بطيران مجهول ما أدى إلى شلّها نهائياً، وهي فرصة إضافية للتربح من عمليات قطع الأشجار والمتاجرة بالحطب من أجل التدفئة “بعيداً عن الاعتبارات السياسية والأخلاقية”، حيث يبلغ سعر الطن ما يعادل 100 دولار. عمليات التحطيب هذه صارت شائعة في العديد من المناطق، وهي تستنزف المخزون الحراجي والأشجار المثمرة، ما يحتاج تعويضه إلى عقود من الزمن.
جرى ربط انهيار الليرة بأزمة المصارف اللبنانية، حتى في بعض أوساط الموالاة من باب التبرير للسلطة، وهذا إذا صحّ نسبياً يدعو للتساؤل عن حجم الأموال المودعة من قبل أثرياء السلطة نفسها في المصارف اللبنانية، وعن سبب هروبها من الداخل. والواقع أن فرضيات عديدة منها ما يحيل الانهيار إلى العقوبات الدولية، خاصة أثرها على طهران التي لم تعد قادرة على دعم بشار مالياً، هذه الفرضيات تقرّ بأن السعر القديم للصرف ليس حقيقياً وكان طوال الوقت خاضعاً للتحكم، وذلك يستدعي التساؤل تالياً عما إذا كان ثمة قرار بتخفيض سعر الصرف أتت لحظته المناسبة مع أزمة المصارف اللبنانية وتراجع سعر صرف الليرة اللبنانية أيضاً.
من السهل اقتصادياً البرهنة، وفق النكتة السورية، على أن السعر الواقعي للأسد قد لا يتجاوز الدولار الواحد. يلزم من أجل ذلك النظر إلى سعر الصرف المتردي كمؤشر نسبي غير دقيق، وأن تراجع سعر الصرف في جزء منه اضطراري، وفي الجزء الآخر هو خيار اقتصادي للسلطة.
ثلاثة اعتبارات أساسية تؤثر اليوم في سعر الصرف، أولها أن سلطة الأسد لم ترفع قبضتها، ولا هي حتى مجرد لاعب ومضارب ضمن مضاربين آخرين. الاعتبار الثاني هو تدني القدرات الشرائية مع هبوط النسبة الساحقة من السوريين إلى ما دون خط الفقر، الأمر الذي يقلل إلى مستوى منخفض جداً من الطلب حتى على المواد الأساسية المستوردة مثل الغذاء والدواء. الاعتبار الثالث هو مجازاً “الركود الاقتصادي”، والتعبير الأدق هو العطالة أو الشلل الاقتصاديين، حيث يغيب الطلب على مستلزمات الإنتاج الصناعي والزراعي، فلا نشهد تضخماً قائماً على ارتفاع معدل النمو الاقتصادي.
ما يجعل التراجع الأخير في سعر الصرف بمثابة هجوم وحشي جديد من سلطة الأسد أن العوامل الاقتصادية الأساسية لم تتغير، فلا هي في سبيل تحرير سعر الصرف، ولا عجلة الاقتصاد بدأت في الدوران كي تتسبب بالتضخم. المؤشر الأهم على كون ما حصل “في جزء معتبر منه على الأقل” مبيتاً هو رفع الأجور مع بدء انهيار سعر الصرف، وليس بعد استقراره. بعد إحداث الصدمة، يمكن للسلطة التدخل لخفض سعر الصرف عن آخر مستوى وصل إليه، فتبدو كأنها حققت إنجازاً بينما تكون قد حققت وفراً بالقياس إلى السعر القديم والقيمة الحقيقية لمعدل الأجور السابق.
بلا أدنى رحمة، تسير السلطة بنهجها الاقتصادي الذي يقسم المستوى الاقتصادي بين شريحتين من دون تدرجات في وسطهما. هناك غالبية عظمى باتت تعتمد على أجور الوظيفة العامة، مع انهيار القطاع الخاص الإنتاجي، وهذه الفئة التي يمكن وصف عمل قسم هام منها بالبطالة المقنَّعة تبقى أوفر حظاً ممن يعانون البطالة التامة، إلا أنها لعائلة تحصل على أجرَيْن بوضع أفضل من البطالة بما لا يزيد عن المئة والخمسين دولاراً في الشهر. الفئة الثانية هي ما تبقى من أثرياء السلطة، بعد هروب قسم منهم وتهريب رأسمال معظمهم إلى الخارج، يُضاف إليهم أثرياء السلطة الجدد من بوابة الحرب. أفراد الشريحة الثانية هم الزبائن الحصريون لمحلات الألبسة أو المطاعم الفخمة، ولكل ما يظهره إعلام الأسد للدلالة على وجود حياة طبيعية في مختلف المدن السورية.
الخبر السيء للنسبة الساحقة المتضررة أن حرب الأسد، التي تُستخدم كذريعة للوضع الاقتصادي البائس وتستنزفه في الوقت نفسه، لن تتوقف قريباً، وليس من مصلحته إيقافها لأنها تغطي على الاستحقاقات التي تليها. لتسديد القروض الإيرانية والروسية، رهن بشار الثروات العامة التي كان ممكناً أن تساعد على تلطيف مآسي المستقبل، وعندما نتحدث عن الضحايا ينبغي ألا ننسى أن الكتلة الأساسية منهم هي بمثابة العصب المفترض للموارد البشرية، فضلاً عن نظيرتها من اللاجئين إلى الخارج.
الخبر الأسوأ أن العصابة لا تخفي جشعها إلى إعادة الإعمار، وتساوم منذ الآن عليه. يعلم الجميع مصير المساعدات التي كان يحصل عليها الأسد من دول الخليج، وهي بدأت منذ حرب تشرين ولم يتوقف آخرها حتى منتصف الثمانينات، ليعاود الحصول عليها بعد موقف الأسد الأب من حرب الخليج في بداية التسعينات. إذا أتيح لبشار البقاء مع إعادة الإعمار حينها سيظهر التضخم الحقيقي، وستكون النكتة الحالية قد أعطت صورته على ورقة الألفي ليرة أكثر بكثير من قيمتها مقابل الدولار.
المدن
——————————-
السوريون ولعنة الدولار في دمشق/ سلوى زكزك
يختبر السوريون منذ حوالي الأسبوعين حرباً من نوع مختلف، كانوا وكأنهم ينتظرونها، لكن ليس من موقع المرحّب، بل من موقع العالم بمسيرة الأحوال التي تعني لهم اقتراب موت كان مؤجلاً، لكنه الآن انحرف بسرعة حادة وجنونية وبات لصيقاً بهم ومشرفاً على اختناقهم ومتدخلا ًبنهايتهم الموجعة.
المحال التجارية مغلقة، وجوم حاد في قسمات الوجوه العابرة، والجميع مشغول بمتابعة أسعار الدولار الذي حلّق عالياً ويبدو أنه مصرٌّ على بلوغ الذرى دون تهيب أو تردد.
في الحافلة العامة الصغيرة يدور حديث واحد (حديث الأسعار الجديدة)، ويطوف رعب واحد (الرعب من تغول التجار ومن فشل أي تدخل حكومي)، يجمع ما بين قلوب الجميع ويوحد ترقبهم الحذر لدرجة القلق الوجودي الحاد وسؤال البقاء من عدمه.
اعتاد السوريون على الاعتراض بالسخرية من أحوالهم البائسة بدلاً من لغة الصمت أو الفعل المهدد لسلامتهم الشخصية، لكن ردود الفعل الساخرة هذه المرة اكتست بالمرارة وبالتعاطف شبه العام مع اللبنانيين في مخاض ليرتهم العسير، في صيغة نقلت فرح السوريين بالثورة اللبنانية وخوفهم على أشقائهم في حالة خاصة كسرت الحساسية المعهودة والاتهامات المتبادلة.
واعتادت السياسات الحكومية على التهديد والوعيد للتجار الصغار والتهديد بعقوبات رادعة وقاسية. وسارت دوريات المراقبة التموينية لتخالف بأرقام كبيرة الباعة الذين لم يضعوا لوحة للتسعير أو ممن لم يظهروا فواتير نظامية، مما دفع الباعة للتوقف عن البيع وإغلاق محالهم خوفاً من الغرامات التي يعجزون عن سدادها وكي يأخذوا وقتهم ويتلمسوا طبيعة السوق الراهنة وحالة الأسعار أولاً فأول في حالة يسمونها اللوحة الواضحة خوفاً من خسارات محققة، لدرجة قال لي صاحب أحد محال السمانة بأنه يخاف من بيع أية مادة ولو بربح إضافي خوفاً من اضطراره لشرائها مجدداً بسعر لا يقدر عليه، وإن قدر على شرائه ومن ثم بيعه فلن يحقق له ربحاً يكفي معيشته وحاجاته الضرورية. أي أن هامش الربح تضاءل بصورة مرعبة وباتت محصلة الأرباح لا تفي بأبسط الاحتياجات. وتجدر الإشارة إلى أن الباعة السوريين يصفون حالة الكساد بتعبير (إننا نأكل رأسمالنا)، بمعنى أنهم مضطرون للإنفاق من قيمة رأس المال الفعلية التي يجب أن تبقى مصانة لشراء البضائع وليس للإنفاق.
للمرة الأولى أيضاً طفا على السطح تعاطف غير مسبوق بين الباعة وخاصة باعة الخضار وبين عامة السوريين. كنت شاهدة حين منح بائع الخضار سيدة ثلاث رؤوس من القرنبيط مجاناً، وكل ما فعلته بعد شكره بأن وجهت السطح العلوي للرؤوس نحو أسفل الكيس لأنها مصابة بالسواد نتيجة قدم قطافها وببعض البقع العفنة خجلاً من تعليق الجوار أومن المارة بأنها قد اشترت نفايات الخضار وما لا يصلح للطعام البشري.
رتبت مها خزانة المونة في حالة هيستيرية، قسمت كل ما لديها ليكفيها ثلاثة شهور، قسّمت الأرز بكأس الشاي وكذلك العدس والبرغل، أما زيت الزيتون فقررت أن تستعمل منه ملعقة واحدة لكل طبخة. الخوف الأكبر كان فيما يخص ما تمتلكه من مازوت شحيح للتدفئة (في ظل تقنين حاد طال الكهرباء)، إضافة لقلة حبات الدواء التي لن تكفيها لآخر الشهر مما دفعها للتخلي عن شراء اللحم ودفعت ما كان مرصوداً له لشراء علب دواء في حركة استباقية خوفاً من ارتفاع متوقع وغير قابل للمهادنة بأسعار الأدوية الدائمة الموصوفة لمعالجة الأمراض المزمنة.
كل ما فعلته الحكومة لتطمين السوريين هو إعلانها عن توفر سلة غذائية تحتوي على خمسة كيلوغرامات من السكر وثلاثة من الأرز و ثلاثة من البرغل وعبوة زيت نباتي سعة ليترين وعلبة سمن نباتي سعة كيلوغرام واحد وكيلو من الحمص وكيلو من العدس وكيلو من الشعيرية وربطتي معكرونة بمبلغ مقداره عشرة آلاف ليرة. لكن وعلى الرغم من أن كافة الأصناف المذكورة هي من الدرجة الثانية ومتدنية الجودة، إلا أن أعداد السلة المذكورة تبخرت بسرعة فائقة ولم يستفد منها إلا من تتوفر بين يديه العشرة آلاف وواسطة نقل سهلة أو مجانية، أي وبصريح العبارة فإن المستحقين الفعليين لهذه السلة لم يستفيدوا منها لضيق ذات اليد ولتعثر وصولهم إليها.
تخلى البعض عن عادة شرب القهوة بعد أن وصل سعر كيلو القهوة المهيّلة إلى خمسة آلاف والقهوة بدون هيل وفي المحال الشعبية إلى ثلاثة آلاف ومائتي ليرة، والبعض توقف عن التدخين نهائياً. أما التوقف عن تناول اللحوم فقد وصل إلى حده الأعلى في مسيرة طويلة تمتد منذ سنين بعيدة تدّرج عبرها السوريون من الشراء بالكيلو وصولاً إلى الشراء بمبلغ مقطوع مقداره خمسمائة ليرة فقط وهي لا تكفي ثمناً لمائة غرام من اللحم المدهن ومن النخب الثالث.
لكن الصورة الأشد قتامةً تكمن في ترافق هذا الارتفاع الهائل مع قدوم فصل الشتاء وغياب الكهرباء في ظل عملية تقنين تصل إلى غياب كامل للكهرباء لمدة ست عشرة ساعة يومياً مترافق مع غياب شبه كامل للمحروقات وخاصة المازوت والغاز بالأسعار النظامية. هذا الوضع يعني أن السوق السوداء باتت هي المجال الوحيد أمام السوريين لتأمين احتياجاتهم الأساسية، والتي تتضاعف فيها أسعار كافة المواد دونما حسيب أو رقيب، لابل وعلى سبيل المثال لا الحصر يتوفر المازوت وبصورة علنية ومستجر مباشرة من المصدر الرسمي للتوزيع ولكن بسعر مضاعف تماماً للسعر الرسمي المعلن عنه.
يفتقد السوريون الراحة حتى في قسمات وجوههم ويخافون من ارتفاع سعر الخبز المدعوم من قبل الدولة، ويدب الهلع في نفوسهم من مجرد التفكير بأنهم سيفقدون نصف أرغفتهم التي تحشو بطونهم وبطون أطفالهم إن تم رفع سعر الخبز أو نقص عدد الأرغفة في الربطة، لا شيء يرعب السوريين أكثر من خطر فقدانهم لخبزهم اليومي، يقول أجود لابنه: “من اليوم وطالع رغيف بزيت وزعتر أو بلبنة والرغيف الثاني حاف.”
فكيف إذا عرفنا أن الزيت المرافق للزعتر هو الزيت النباتي وبأن اللبنة مغشوشة وممزوجة بالنشاء ليشتد قوامها. ولقد كنت شاهدة عيان على تخلي شاب يعمل مياوماً في سوق باب سريجة عن سندويشته الثانية التي اعتاد أكلها في وجبة الغداء نظراً لارتفاع سعر السندويش عامة. يبدو أن السوريين يتدربون بشكل متتال على إدارة أمعائهم الخاوية بتقنين عجيب يستهلك طاقتهم على مواصلة العيش ويفتك بقوتهم وبأسباب بقائهم.
يتضامن السوريون في الحد الأدنى المتاح، لكن الأفق غامض وداكن السواد، وما تعجز عن امتلاكه لا يمكنك تقاسمه مع غيرك وإن كان ابنك. ارتفاع سعر الدولار وضبابية أشكال التدخل الرسمي للجم الآثار المدمرة لهذا الارتفاع يسم الحاضر والقادم بالخشية حيال إمكانات العيش في صلب احتياجاته الأساسية.
أمام دكان بيع الفلافل يقترب فتى على عربة مدولبة من أذني قائلاً لي في طريقة تشبه الهمس وكأنني قريبة مباشرة له: “تشتريلي سندويشة فلافل معك؟”. نعم أشتري له اليوم وبكل تضامن وبكل رضى، لكن ماذا عن الغد؟ وماذا عن احتياجات أخرى كاللباس أو الدوا؟ وأين أهله؟ أين يسكن؟ وكم من الوقت والمال يحتاج لشراء أو تركيب ساقين اصطناعيين؟ أو هل سيذهب إلى المدرسة أم أنه سيبقى في عرض الطريق متروكاً لكل العبث؟
تترافق الأزمة الحادة التي خلقها ارتفاع الدولار مع هشاشة بالغة في الوضع الاقتصادي بشكل عام، تتجاوز الجمهور الأكثر فقراً، لتلامس أصحاب الورش الصغيرة التي توقفت عن العمل وسرحت عمالها وكما يقولون قطعت برزق عائلات بأكملها، حتى أن بعض المعامل المتوسطة قد أجبرت موظفيها على أخذ إجازات من عملهم للعجز الحاصل في السيولة وفي تأمين المواد الأولية التي يتم الحصول عليها بالدولار فقط.
العجز الساطع إن صح التعبير، يهيمن على البنية الهشة فيخلع عنها ما كان يعتقد البعض أنه ركائز داعمة في مسيرة تحصيل ما يلزم من أجل عيش غير كريم لكنه أقوى من الموت أو الانهيار. الطمأنينة في غياب مضطرد ومخيف، والحياة تبدو مجرد ترتيب لما تبقى من الوقت، والموت متدفق كالسيل بالجلطات والسكتات القلبية والأغلبية تمشي وهي تكلم نفسها وكأنها شريك العمر الأوحد.
—————-
الليرة السورية تتهاوى.. إلى التاريخ/ ابراهيم حميدي
وصل صدى الاحتجاجات في إيران والعراق ولبنان إلى دمشق عبر تدهور سعر صرف الليرة السورية مقابل الدولار الأميركي إلى رقم قياسي غير مسبوق في تاريخ البلاد، من دون وجود مؤشرات عن توقف الانهيار البالغ نحو 4% يومياً.
مع أن الاقتصاد السوري غير مرتبط كلياً بالاقتصاد العالمي، فإنه يعتمد بشكل رئيسي على إمدادات النفط ومشتقاته من إيران والزيارات من العراق والتحويلات من الأردن. غير أن النظام المصرفي اللبناني يعد بمثابة رئة الاقتصاد السوري، فيما تعد موانئ لبنان نافذة الحكومة السورية للالتفاف على العقوبات الأميركية والأوروبية التي فُرضت بعد 2011.
كان الدولار الأميركي يساوي 46 ليرة في 2011 وانخفض تدريجياً إلى أن استقر في منتصف العام الجاري عند 500 ليرة. لكن في الأسابيع الأخيرة تصاعد التدهور في سعر الصرف على وقع الاحتجاجات في الدول المجاورة والحليفة للحكومة السورية.
وأزمة لبنان الاقتصادية هي الأسوأ منذ حربه الأهلية بين عامي 1975 و1990. وتسعى الحكومة، عبر فرض قيود، لمنع نزوح الرساميل بعدما باتت الدولارات شحيحة ومع هبوط قيمة الليرة اللبنانية في السوق السوداء.
في موازاة ذلك، هوت الليرة السورية بنسبة 30% في الأسابيع التي تلت تفاقم أزمة لبنان الاقتصادية في 17 أكتوبر (تشرين الأول)، بعد موجة الاحتجاجات. واقترب سعر صرف الدولار من جدار الـ900 ليرة، في أدنى سعر في تاريخ البلاد.
وحسب خبراء سوريين، هناك جملة من الأسباب المحلية والإقليمية والدولية لتدهور سعر الليرة السورية، بينها «فشل مشروع صندوق دعم الليرة السورية التي قامت به دمشق بالتعاون مع القطاع الخاص السوري وغرف التجارة والصناعة، حيث عاد تدهور الوضع المالي وبسرعة وانعكس بشكل كبير على سعر صرف الليرة بسبب الخوف من انعكاسات ذلك الحراك على الوضع العام في سوريا وعلى الاقتصاد بشكل محدد، بالإضافة إلى أن السوريين بادروا بتحويل أموالهم إلى دولار والاحتفاظ به معهم والابتعاد عن المصارف».
وفرضت السلطات على كبار رجال الأعمال قبل أسابيع إيداع أموال بالقطع الأجنبي في المصارف الحكومية و«المصرف المركزي». وعُقد في أحد فنادق دمشق اجتماع لهذا الغرض، لكن الالتزامات لم تصل إلى السقف المطلوب من السلطات وكانت تتراوح بين 300 و500 مليون دولار، إذ إن التعهدات كانت قليلة ووصلت في بعض الأحيان إلى بضعة آلاف من الدولارات الأميركية.
وأوضح خبير مالي أنه بسبب التغيرات في السياسات المالية للمصارف اللبنانية قام آلاف السوريين بسحب أموالهم المودعة في المصارف السورية الخاصة المرتبطة بالمصارف اللبنانية «تخوفاً من أن تعمل تلك الأخيرة على تغيير في سياساتها النقدية كما حصل مع المصارف الأم في لبنان». وأشار عاملون في مصارف سورية خاصة إلى «عمليات سحب كبيرة للمودعين السوريين بالليرة وتوقف عمليات الإيداع والتحصيل المصرفي».
كانت السلطات السورية قد فرضت قيوداً على رجال الأعمال لمنع إيداع أموالهم في مصارف لبنانية مقابل التركيز على المصارف الحكومية في دمشق. وفرض «مصرف سوريا المركزي» تعليمات على المصارف لوضع سقف لعمليات السحب عند خمسة ملايين ليرة في اليوم، ثم خُففت إلى عشرة ملايين.
ومن الإجراءات الأخرى التي أسهمت في انخفاض سعر الصرف، توقع إجازات الاستيراد والتسهيلات المصرفية التي كانت تتم عبر طريق المصارف اللبنانية، إضافةً إلى إلغاء دمشق إجازات الاستيراد الشهر الماضي لـ«ضبط انهيار العملة السورية».
كانت ودائع السوريين في المصارف اللبنانية مصدراً أساسياً لدخل رجال الأعمال والأثرياء في دمشق. والفوائد التي تُدفع على الودائع في لبنان كانت تُحول إلى داخل البلاد هي مصدر مهم للدولارات للاقتصاد. كما يلجأ سوريون إلى النظام المالي اللبناني كقناة لإرسال أموال إلى أقاربهم تقدّر بمئات الملايين كل عام. وأفاد خبراء بأن «عشرات المودعين السوريين يواجهون مصاعب في سحب أموالهم المودعة في المصارف اللبنانية خصوصاً أولئك الذين تم الطلب منهم خلال حملة دعم الليرة إعادة الأموال التي اقترضوها من المصارف السورية في السنوات الماضية».
وقال أحدهم: «هناك عشرات أخذوا قروضاً من المصارف السورية وحوّلوها إلى دولار وأودعوها في مصارف لبنانية لتحصيل فوائد عالية تصل إلى 8% على الدولار و15% على الليرة اللبنانية».
كما تواجه شركات الحوالات السورية المرخصة وغير المرخصة مصاعب كبيرة في إيجاد طرق لتحويل الأموال من وإلى سوريا. كما أن «الفرق الهائل في سعر الصرف الرسمي هو 437 ليرة للدولار في حين سعر الصرف للدولار قد تجاوز الـ890 ليرة سورية للدولار الواحد، يدفع بالتحول نحو السوق السوداء وشركات الصرافة غير الشرعية». في عام 2017 أعلن «المصرف المركزي» أن قيمة تلك الحوالات الخاصة تصل إلى حدود الـ3 ملايين دولار يومياً من أصل إجمالي تداول قدره 15 مليون يومياً، ما يشكّل مصدراً لدخل الحكومة من القطع الأجنبي.
كانت أميركا والدول الأوروبية قد فرضت عقوبات على مصارف حكومية وشخصيات سورية مقربة من السلطات. وهناك أنباء عن حزمة جديدة من العقوبات الغربية، في وقت تسيطر «قوات سوريا الديمقراطية» المدعومة من واشنطن على حقول النفط والغاز شرق الفرات. وحسب معلومات، يذهب نحو 30 ألف برميل من النفط يومياً إلى مناطق الحكومة بموجب اتفاقات بين «قوات سوريا الديمقراطية» ودمشق.
وقال خبراء إن دمشق «تعتمد على الموانئ وشركات لبنانية لتجاوز العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها، ذلك أن 90% من الصفقات النفطية وعمليات الاستيراد إلى سوريا تمر عبر تلك القنوات اللبنانية لتجاوز العقوبات. كما أن عمليات استيراد المواد الأولية اللازمة لتشغيل القطاعات الصناعية الخاصة والعامة تتم عبر هذه الشركات».
——————
سُخرية بليرة/ مرهف عبد الحي
تابع العالم قصة الموزة المعلقة على الحائط للفنان ماوريتسيو كاتيلان، التي عُرضت كعمل فني في صالة معرض آرت بازل في ميامي بالولايات المتحدة، والتي بيعت بمبلغ 120 ألف دولار، وهو ما أثار جدلاً في أوساط الفنانين، حول إذا ما كان يمكن اعتبار عملٍ كهذا فنّاً فعلاً، وحول ما إذا كانت تستحق فكرة هذا العمل 120 ألف دولار! وبعد أيام من الجدل، قام فنان آخر، هو دافيد داتونا، بانتزاع العمل الفني وأكله، منهياً بذلك حياة الموزة.
على الجانب الآخر من الكرة الأرضية، وفي السياق السوري تحديداً، تحوَّلَ هذا العنصر الفني ذاته، الموزة، إلى عنصرٍ مثيرٍ للضحك الهزلي عند حديث السوريين عن الحالة الاقتصادية وأوضاع الليرة السورية، وذلك بسبب ارتفاع سعر الموز وغيره من المواد الغذائية وغير الغذائية، بعد ارتفاع سعر صرف الليرة خلال الشهرين الأخيرين. ذلك عدا عن رمزية الموز كسلعة غالية السعر، ورفاهية يمكن الاستغناء عنها، تعود جذورها في ذاكرة السوريين إلى الأزمة الاقتصادية في ثمانينيات القرن الماضي.
لا يمكن أن يفهم شخص غير سوري، أو شخص غير مطلّع على أسعار الموز في سوريا مثلاً، ما هو الجانب المضحك في نكته عن الابن الذي يسأل والده أن يشتري له الموز، فيضحك الأب، وتضحك الأم، ويضحك الجيران، وحتى البائع نفسه يضحك. المضحك في هذه النكتة على وجه التحديد أن سعر كيلو الموز وصل إلى 1300 ليرة سورية، وهو رقم كبيرٌ جداً بالقياس إلى متوسط الأجور والمعاشات العام في سوريا، وعليه صار الموز حلماً مستحيلاً بالنسبة للطفل في النكتة. تحمل النكتة مفارقة بين سعر الموز كما يجب أن يكون، وبين أحلام الطفل الكبيرة التي لا تعرف معنى حدود القدرة الشرائية لوالده، وهي التي تولّد الضحك الهزلي عند السوريين عند سماعهم لهذه النكتة وما يشبهها.
تندرج معظم نكات السوريين المنتشرة على وسائل التواصل الاجتماعي بما يخص الوضع المعيشي ضمن الكوميديا السوداء، حيث أن ضحك السوريين على مآسيهم لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يكون سببه حوادث أو مواقف مضحكة، بل سببه في الغالب صعوبة تصديق أنّ ما يحدث هو واقع وحقيقي، وذلك منذ بداية تفاقم الأوضاع المعيشية والخدمية في سوريا، من انقطاع التيار الكهربائي أو انعدام وسائل التدفئة وصولاً إلى غلاء الأسعار. وإلى جانب صعوبة التصديق وغرائبية الواقع، يولّدُ كلٌّ من التكرار والتسارع أثراً مضحكاً عموماً، وذلك ينطبق على سرعة تغير سعر صرف الليرة مؤخراً؛ مثلاً أن تستعيد نكتة قديمة ألّقها: «ما هو سعر الصرف الآن؟»، والجواب يكون «ماذا تقصد؟ قبل السؤال أم بعده؟»، أو نكتة أن «الدولار إذا استمر على هذا النحو سيصل إلى 2020 قبلنا»، وصولاً إلى التعجّب من انهيار قيمة الليرة السورية كما في التعليق الساخر: «هاتلك بمليونين ليرة فلافل وبمليون ليرة مسبّحة».
النوع الآخر من النكات هو تلك التي لم تقصد أن تكون نكاتاً أصلاً، أو بشكل أدق، لم تقصد أن تثير الضحك بين السوريين، إلا أنها أثارت السخرية أكثر مما فعلت النكتة المقصودة، ومن أمثلة ذلك الحملة التي أعلنها البنك المركزي السوري تحت شعار «ادعم الليرة السورية ولو بكلمة طيبة». كانت هذه الحملة مادة للسخرية والضحك بين السوريين، وذلك ليس بسبب الفرق الشاسع بين التصريحات الرسمية فقط، بل بسبب كمية الاستغباء الذي تحمله للسوريين، وأيضاً بسبب المفارقة بين عالمين مزدوجين؛ العالم الأول هو واقع الفرد السوري من جهة، والعالم الثاني هو ما يتوجب عليه أن يدّعيه من جهة أخرى، على غرار الدعوات شبه الرسمية المكثّفة لنشر إشاعة عن أن سعر صرف الدولار الأميركي انخفض إلى 500 ليرة، في حين أن السعر في الواقع كان يقترب من 900 ليرة. والفكرة التي تكمن وراء هذه الدعوات تعتمد على القول إن سعر الصرف يرتفع نتيجة إشاعات يطلقها «الأعداء والمتآمرون» من خارج الحدود، وبالتالي فإن الحل يكمن في نشر إشاعات معاكسة.
يثير هذا النوع من المفارقات الضحك المرّ عند عموم السوريين، حتى وإن كان هذا الضحك يدور بين المرء ونفسه في حالات كثيرة، أما ما يثير الضحك أكثر، فهو دعوات تناقلها السوريون، تحثّهم على ادّخار أموالهم المتبقية «إن وجدت» بالليرة السورية، أو على شكل أصول ثابته، أراضٍ أو ذهب أو سيارات، وأن الدولار ليس للاكتناز بل للصرف فقط. هناك طبقتان من المفارقة المضحكة هنا، الأولى أن الأغلبية الساحقة من السوريين داخل البلاد لم يعد لديهم مدخرات تستحق الذكر، والثانية أنه حتى في حال وجود هذه المدخرات بالدولار، فكيف يمكن أن يصرف الناس شقاء العمر وعامل الأمان المالي الوحيد المتبقي لهم، في وقت يهدد فيه الجوع والفقر غالبية السوريين في سوريا. في حالة سريالية كهذه، يبدو أفضل تعبير يمكن أن نستعين به لوصف الوضع الحالي، هو الوصف الذي تستخدمه جريدة شبكة الحدود بما يخص التصريحات التي لا يمكن تصديقها؛ «ليتها الحدود».
من صفحة شوئسمو على فيسبوك
لا يمكن للسوريين عندما يسمعون هذه التبريرات والمقاربات حول العجز الاقتصادي إلا أن يضحكوا هزلاً وألماً؛ يضحك السوريون على مآسيهم ليس اعتياداً ولا تقبّلاً، بل تنفيساً عن غضبهم وعن عجزهم أمام الحالة الاقتصادية والصعوبات المعيشية. كما أن النكات عموماً، التي تحتاج حدوداً واسعة من الخيال والذكاء الخالص، تلعب دوراً تصحيحياً، يصحّح الواقع عن طريق السخرية كما يصحّح أبعاد ومواقع الشخصيات في خيال صانعي النكتة. والضحك الهزلي لا يمكن إلا أن يكون جماعياً، حتى لا يتحول إلى مآساة، كما في قصة الطفل الذي طلب من والده أن يشتري له الموز، وهي الحادثة التي يمكن في الواقع أن تدفع الأب للبكاء والانهيار، أو حتى الانتحار كما في حالات سمعنا عنها مسبقاً في سوريا وغيرها. ليس الضحك على هذه النكتة تجميداً للمشاعر الإنسانية أو سخريةً منها، على العكس تماماً، هو تعبيرٌ عن الدهشة وعدم الرغبة بتصديق بشاعة ما يحدث، وهو كشفٌ عن «تواطؤ مُضمَر» بين السوريين المدركين لحقيقة العجز الاقتصادي السوري، وحقيقة المسؤولين عنه.
موقع الجمهورية
———————–
رحلة الليرة السورية إلى الانحدار.. الخفايا والمآلات/ مصلح مصلح
أدى الارتفاع الهستيري في أسعار السلع والخدمات في الأسواق المحلية السورية، إثر إنخفاض سعر صرف الليرة من دولار واحد مقابل 800 ليرة يوم 30 تشرين الثاني/نوفمبر الفائت، إلى تخوم دولار واحد مقابل 1000 ليرة، يوم 2 كانون الأول/ديسمبر، إلى إصابة المستهلكين بمشاعر الذعر التي تشلّ القدرة على التفكير والفهم لحالة الارتفاع الجهنمي والمفاجئ لجميع أسعار السلع المحلية والمستوردة رغم أن الكثير منها متواجد في مخازن التجار منذ أشهر.
في محاولة فهم الناس لهذه الظاهرة الجهنمية التي تجعلهم ينامون على سعر الكيلو الواحد من الحمص بـ 800 ليرة ويفيقون على سعره بـ 1200 ليرة، لم يجدوا في جعبتهم من تفسير لواقعة إفقارهم هذه سوى الاستعانة بالجنون، وذلك إما لعدم فهم كنه العلاقة العكسية التي تربط بين انخفاض سعر صرف الليرة وارتفاع أسعار السلع العام في السوق المحلية، أو ربما لأن الأخذ بمنطق الجنون يعفي المتضررين من نقد ومسائلة الجهة المسؤولة عن التسبب لهم بهذا الضرر، وهي في حالتنا هذه السلطة الأسدية التي خبروا أن نقدها أو التلميح إلى مسؤوليتها نوع من الجنون المودي للهلاك.
في ظل اقتصاد طفيلي يعتمد في تأمين معظم حاجاته الأساسية على الخارج، بما فيها المواد الخام الداخلة في صناعة المواد الغذائية، فإنه من الطبيعي أن يقود كل انخفاض في سعر صرف الليرة مقابل الدولار إلى ارتفاع في أسعارها المحلية مقدرة بالليرة، فإذا ما استعنا بمادة السكر لشرح العلاقة العكسية بين انخفاض سعر الليرة وارتفاع أسعار المواد المقدرة بها، يصبح علينا من السهل التنبؤ بارتفاع سعر الكيلو من 250 ليرة إلى 500 عندما تغير سعر الصرف من مستوى 1 دولار مقابل 500 ليرة إلى 1000، الأمر الذي يعني انخفاضًا حقيقيًا في القدرة الشرائية للأشخاص، أو بلغة أخرى نقص كمية البضائع والسلع التي يستطيعون شرائها بنفس المقدار السابق من المال.
يبدو أثر انخفاض سعر صرف الليرة على الناس الذي لا يملكون من مصدر مالي يسدون به حاجاتهم اليومية سوى أجورهم، أو رواتبهم الشهرية المحدودة، شبيهًا بأثر اللعنة التي تصيب الشخص بالبلاء الطام والعام دون أن يتمكن من معرفة السبب الكامن وراء ذلك أو الحكمة من انحداره نحو الجوع، ودون أن يعرف لمَ تكون آثارها حكرًا عليه وحده، دون كل صاحب تجارة أو صناعة أو خدمة قابلة للبيع.
تتعلق قدرة التجار ومن في حكمهم في تجاوز الأثر الضار للتغيرات الحادة في سعر الصرف على حياتهم، عبر لجوئهم لإعادة تسعير بضائعهم وفق سعر الصرف الجديد، الأمر الذي لا يعني زيادة أرباحهم كما يعتقد الجميع، بقدر ما يعني قدرتهم على الحفاظ على القيمة الحقيقية لبضائعهم وإلا تعرضوا لخسارة كبيرة وخروج من السوق، سيفضي بهم للانضمام لجحافل أصحاب الدخل المحدود من المعدمين، التي لا يمكن لأي زيادة حكومية هزيلة أن ترتق الفجوة بين رواتبهم الاسمية والقيمة الحقيقية المنخفضة لها، الأمر الذي لا يمكن وضعه إلا في مصاف الاحتيال المالي المنسوب للحكومة التي لا تملك حلولًا لمواجهة الأزمات الاقتصادية التي تصنعها سوى القيام ببيع الوهم والضحك على الذقون.
في عملية تحديد سعر صرف عملة محلية مقابل أخرى أجنبية، تتدخل عوامل اقتصادية متنوعة، يأتي على رأسها قوة الاقتصاد المحلي أي قدرته على إنتاج البضائع والسلع التي تفي بحاجة السوق المحلية، كما قدرته على التوسع وتوظيف أعداد متزايدة من الأيدي العاملة، كل ذلك مع الأخذ بعين الاعتبار الحفاظ على مستوى تضخم منخفض (ارتفاع منخفض في أسعار السلع)، إلا أن العامل الحاسم الذي يحدد مقدار صرف العملة، يظل مرتبطًا بطرفي الميزان التجاري، الصادرات والواردات.
إذا ما زادت قيمة الواردات عن الصادرات انعكس ذلك انخفاضًا على سعر صرف العملة، ومن ثم رتفاعًا في أسعار السلع المحلية والمستوردة معًا، وهو الأمر الذي عرفته الليرة طيلة تاريخها من استيلاء حافظ أسد على السلطة، حيث انحدر سعر صرفها من 3,6 ليرة مقابل الدولار في بداية السبعينيات إلى سعر 11,20 أواسط الثمانينيات إلى استقرارها لفترة طويلة عند حاجز 46 ليرة طيلة التسعينات وما تلاها، الأمر الذي انعكس تدهورًا في القوة الشرائية لرواتب الناس وأجورهم، مقابل الثراء الفاحش لرجالات السلطة الذين تعاملوا مع ثروات الاقتصاد الوطني بمنطق الغنيمة الواجبة النهب.
تبدو أزمة سعر الصرف الحالية التي أدت لصعود سعر الليرة من 800 ليرة إلى 1000 مقابل الدولار، أزمة جوهرية ملازمة لطبيعة الاقتصاد السوري في وضعه الحالي، والتي من المتوقع لها أن تتكرر مرات ومرات كلما وجد النظام نفسه عاجزًا عن تمويل مستورداته. فبعد أن توقف الإيرانيون عن تمويلها بفعل شح مواردهم المالية بفعل الحصار الأمريكي، وبعد أن تم وضع معظم وكلاء الأسد التجاريين من أمثال رامي مخلوف وسامر الفوز وقاطرجي وغيرهم تحت سيف العقوبات الدولية، لم يبق للنظام سوى الاعتماد على مصادر تمويل احتيالية أخرى تقع بطبيعتها خارج الاستعانة بالصادرات الحقيقية.
تمثل المصدر الأول بالاستفادة من تحويلات المغتربين السوريين في دول الخليج العربي ولبنان، والتي كانت تبلغ قيمتها الإجمالية بحدود الثلاثمائة مليون دولار شهريًا، إلا أن التعليمات التي صدرت من قبل إدارة الخزانة الأمريكية في بداية الشهر الثامن من العام الحالي، لمكاتب الصيرفية في تلك الدول بالتوقف عن تحويل مبالغ تلك الحوالات إلى البنك المركزي السوري بالدولار، والاستعانة عنه بتحويلها إليه بالليرة السورية، حرم البنك المركز السوري حصيلة واردات أجنبية كانت تصل في قيمتها إلى ما يقارب الثلاث مليارات دولار سنويًا على أقل تقدير.
أما المصدر الثاني فقد تمثل بشبكة من العملاء المحليين اللبنانيين، التي كانت تقوم بشراء الدولار من مكاتب الصرافة اللبنانية بالليرة السورية، وتحويلها لصالح التجار السوريين الذين عمدوا لفتح اعتمادات لهم بالدولار في البنوك السورية، كي يتمكنوا من استيرادها عبر ميناء اللاذقية، الأمر الذي يسمح لهم بتنفيع خزينة النظام ببعض الرسوم الجمركية، والتمكن في الوقت نفسه من التهرب من النسبة العظمى المفروضة عليهم.
إلا أن الأزمة المالية التي تمر بها المصارف اللبنانية جراء الانتفاضة الشعبية، أجبرتها على تقنين كمية سحب عملائها من الدولار بواقع يومي لا يتجاوز الألفي دولار لكل صاحب حساب أيًا تكن مدخراته، وما كل ذلك سوى خوفها من مسارعة اللبنانيين لسحب ودائعهم، مما يعني إفلاسها الحتمي، الأمر الذي أضرّ بقدرة النظام وشبكاته بالوصول إلى الدولار المتحصل عليه من البنوك اللبنانية.
في ظل اقتصاد حرب ببنية إنتاجية محلية مدمرة، جراء سياسات الأرض المحروقة والتطهير العرقي التي أتبعها النظام إتجاه معارضيه، وبموارد تصديريه قريبة من الصفر، فإن إمكانية تعافي اقتصاد النظام من أزمات سعر الصرف التي تستتبع ارتفاعًا جنونيًا في الأسعار، أمرًا مشكوكًا فيه وغير قابل للتحقق إلى حد كبير.
إذا ما صدقت التوقعات بتوقيع الرئيس الأمريكي قانون قيصر بعد إقراره من قبل الكونغرس، الذي يحرم النظام من الحصول على أية موارد أجنبية، أو كما يحرمه من أية إمكانية لإعادة إعمار ما دمرته آلاته العسكرية، فإن قدرة النظام على توفير الحاجات الأساسية للناس الذي يعيشون في كنفه ستصبح مسألة أقرب إلى المستحيل، اللهم إذا تدخلت الأمم المتحدة وفرضت معادلة “الغذاء مقابل الرحيل”، رحيل الأسد عن سدة السلطة التي مكنته من إفساد حياة الناس وقوتهم.
الترا صوت
——————————
قدرة السوريين الشرائية.. التجليات الكبرى لفشل حكم آل الأسد
مرّ الوضع الاقتصادي السوري خلال الـ25 عامًا الماضية، بثلاثة مراحل مفصيلة أثرت على القدرات الشرائية للأسر من أصحاب الدخل المحدود، أو الأسر المصنفة ضمن معدلات خط الفقر، فقد كانت الأسرة السورية خلال تسعينات القرن الماضي، حين كان حافظ الأسد يستلم زمام السلطة، تتأرجح ما بين الطبقة الوسطى أو الفقيرة، نتيجة السياسات الاقتصادية التي كانت تعتمد على تقديم الدعم لأغلب السلع الغذائية، أو مجانية الطب والتعليم، وبعض الموارد الخدمية تيمنًا بتجربة الاتحاد السوفييتي.
ومع وصول بشار الأسد للسلطة منتصف عام 2000، بدأ الوضع الاقتصادي في الانحدار أكثر بعد التوجه لتطبيق سياسة اقتصاد السوق المفتوح، وإصدار قرارات لرفع الدعم على السلع الأساسية التي كانت الحكومة تقوم بدعمها، مقابل استمرار قيمة الأجور ضمن معدلاتها المتعارف عليها ما ساهم بخلق فجوة بين طبقات المجتمع السوري، وبدء تراجع الطبقة المتوسطة إلى المستويات الدنيا.
إلا أن ذلك لم يدم طويلًا، فقد دفعت المظاهرات السلمية التي قابلها النظام السوري بالعنف المفرط، بالبلاد إلى أزمة يستعصي حلها على المجتمع الدولي أثرت على الحياة الاقتصادية، وأدى بانهيار العملة المحلية إلى أدنى مستوياتها، ما ساهم بارتفاع الأسعار بنسبة تتجاوز الـ150%، بالإضافة لدمار البنية التحتية التي أثرت بشكل كبير على الواقع الخدمي الذي بدأ يستعيض عنه السكان المحليون بالخدمات الخاصة، الأمر الذي زاد من أعباء المواطن العادي.
السياسات المالية الكارثية
يؤكد الصحفي المختص علي نمر في بداية حديثه لـ”ألترا صوت” على أنه كان يوجد خلل في توزيع الدخل القومي منذ ثمانينات القرن الماضي وحتى اللحظة، قائلًا: “أعتقد أنه لم تكن هناك نوايا صافية لمعالجة هذا الخلل لا في عهد الأسد الأب، ولا الابن، في إعادة النظر بمجمل السياسات المالية التي كانت كارثية بحق أصحاب الدخل المحدود”.
ويرى نمر أنه إذا عدنا للأرقام الصادرة عن الأمم المتحدة بين عامي 1990 و2001، والتي ذكرت أن معدل النمو السنوي لدخل الفرد في سوريا يساوي 1.9% سنويًا، فذلك يعني أن سوريا كانت بحاجة لأكثر من 50 عامًا للوصول لمصاف بعض الدول الآسيوية، منوهًا إلى أن التقارير الأممية تتحدث عن حالة السلم لا الحرب كما هو الحال الآن.
أرقام المكتب المركزي للإحصاء مشكوك بها
ويعتبر نمر خلال حديثه أنه إذا اعتمدنا على معدلات النمو الصادرة عن المكتب المركزي للإحصاء بين عامي 1999 و2001، والتي تشير إلى 4.2%، أي أن “مضاعفة الدخل الوطني كان يتطلب 20 عامًا، في الوقت الذي كان المطلوب مضاعفة حصة الفرد مرتين خلال فترة زمنية قصيرة جدًا كي تتلاءم مع الحدود الدنيا الضرورية للحد الأدنى لمستوى المعيشة”، ورغم أن جميع أرقام المكتب المركزي للإحصاء كان “مشكوكًا بأمرها”، لأنها “بكل بساطة كانت تعبر عن سياسات النظام اقتصاديًا”، إلا أن أي تحليل اقتصادي كان يعتمد على الأرقام الصادرة عن المكتب باعتباره الجهة الوحيدة الرسمية التي كانت تصدر البيانات الاقتصادية.
منذ عام 1980 وإلى 2005 ارتفع سعر الدولار من أربع ليرات سورية إلى 50 ليرة
منذ عام 1980 وإلى 2005 ارتفع سعر الدولار من أربع ليرات سورية إلى 50 ليرة حتى وصل لأكثر من 450 ليرة بعد الحرب
ويشير نمر إلى أنه إذا أردنا تقييم وضع الأسرة السورية خلال تلك الفترة “فيمكن ربطها بالمشكلة المزمنة والمستمرة في سوريا ألا وهي الفقر”، حيثُ يتحكم 10% من السكان بقوت 90% منه. ويضيف نمر بأنه “منذ العام 1980 إلى 2005 ارتفع سعر الدولار من أربع ليرات سورية إلى 50 ليرة سورية، أي أنه تضاعف أكثر من 12 مرة”، وهو ما سبب “تراجعًا في القوة الشرائية للمواطن نتيجة التضخم أولًا، والارتفاع المتصاعد للأسعار ثانيًا”، كما قال.
هذا وقد كان ولا يزال التفاوت في القدرة الشرائية شاسعًا بين واقع الأجور وضرورات المعيشة. “نقطة التشاؤم عند الشعب السوري هي: كل شي بينزل وبيطلع إلا الأسعار إذا ارتفعت مستحيل تنزل”، يقول نمر.
التعليم والصحة لم يكونا أفضل حالًا
وفي سؤال عن الوضع الصحي والتعليمي، يستعين نمر بحديث للخبير الاقتصادي منير الحمش، الذي ذكر في أحد أبحاثه أنه “بدأت اللعبة الخبيثة مطلع الثمانينات مع لجوء الحكومة إلى تجميد الأجور وتخفيض دعم أسعار السلع الأساسية تدريجيًا، ومن ثم تخفيض مخصصات التعليم والصحة، وفي كل مرة كان يتبع الأسلوب الخبيث ذاته”.
وينوه نمر إلى مقتبس منير الحمش، مؤكدًا أن الرقم الذي نشر في تقرير التنمية الإنسانية العربية للعام 2002 كان “كارثيًا”، ومشيرًا إلى أن الدراسة الإحصائية أكدت على أن “تعداد الأميين الذين لا يتقنون القراءة أو الكتابة بلغ 2.4 مليون سوري”. أما في المجال الصحي فقد جاءت سوريا في المرتبة الـ18 عربيًا، و143 عالميًا.
الليرة السورية تفقد قيمتها عند كل أزمة
وكان لتبدل قيمة صرف الليرة السورية مقابل الدولار الأمريكي أثر أساسي على القدرات الشرائية للمواطن السوري، ويرى نمر في هذه النقطة بدايةً أن الاقتصاد السوري أساسًا هو “اقتصاد هش وفق كل المقاييس والمؤشرات”، ولذلك فإنه “من الطبيعي أن تكون الليرة السورية غير متينة وقوتها الشرائية ضعيفة، أو تفقد قيمتها الحقيقية عند كل أزمة مهما كانت صغيرة أم كبيرة”.
وهو ما جعل من “جميع الإجراءات التي قام بها المصرف المركزي أن تكون حلول إسعافية، أو يمكن تسميتها بالتخدير الموضعي لتخفيف حجم الفجوة”، كما يوضح نمر، مشيرًا إلى أن أي “هبوط في قيمة الليرة يطفو على السطح حجم التوزيع غير العادل للثروة الأمر الذي كان يكشف النهب الكبير من قبل الجهات النافذة في الحكم والمسيطرة على قرارات المصرف المركزي واحتياطه النقدي”.
ويختم علي نمر حديثه لـ”ألترا صوت” بالإشارة إلى أنه في دراسة أعدتها هيئة تخطيط الدولة بالتعاون مع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي في سوريا بين عامي 2003 و2004، ذكرت أنه “لم يتمكن حوالي مليوني سوري من الحصول على حاجاتهم الأساسية من المواد الغذائية وغير الغذائية”، مضيفًا أنه خلال “مدة قصيرة ارتفع الرقم لأكثر من 5.3 مليون شخص تحت خط الفقر، وهذا مؤشر أن الإصلاحات الاقتصادية لم تكن يومًا في مصلحة الفقراء”.
استهداف “لقمة المواطن”
وإذا كانت الحالة الاقتصادية بشكلها العام قبل عام 2011، متأرجحة ما بين الصعود والهبوط بسبب السياسات الاقتصادية التي استهدفت أصحاب الدخول المحدودة بشكل أساسي، فإن القدرات الشرائية تراجعت بنسبة كبيرة ما بعد عام 2011، بسبب العقوبات الاقتصادية التي فرضتها الدول الغربية على النظام السوري، وتراجع سعر صرف الليرة السورية لأدنى مستوياتها، فضلًا عن حجم الدمار الذي أصاب المؤسسات الخدمية والبنى التحتية بشكل عام.
يرى الصحفي المختص ناصر علي في حديثه لـ”ألترا صوت”، أنه منذ اندلاع الثورة السورية كانت “لقمة المواطن هي المستهدفة من أجل تركيعه، وبدأت تصل السلع متأخرة إلى أسواق المناطق الثائرة، والتي تشهد مظاهرات عبر المصادرات والحواجز”، ومع ازدياد مستوى العنف والقصف الجوي والمدفعي بدأت المرحلة الأخطر، وهي “فرض الحصار مما أوصل أسعار بعض السلع لأرقام فلكية”.
ويوضح علي، أن سكان الغوطة الشرقية التي كانت تحت سيطرة قوات المعارضة، لم يكن بمقدورهم شراء السلع الغذائية أو الخضروات، فقد بلغ على سبيل المثال سعر الكيلو الواحد من السكر 40 ألف ليرة، علمًا بأن سعر الكيلو الواحد قبل عام 2011 لم يتجاوز 100 ليرة، لكن سعر صرف الليرة السورية مقابل الدولار أثر على أسعار السلع الغذائية، ما أوصلها إلى هذه القيمة.
وينوه ناصر علي إلى أن ارتفاع الأسعار في مناطق قوات المعارضة ساهم بحدوثه “بعض الفصائل المقاتلة في المقلب الأخر بالاتجار بلقمة الناس”. في إشارة لسيطرة بعض فصائل ريف دمشق على الأنفاق التي كانت تستخدمها في إدخال المواد الغذائية إلى المناطق التي كان يفرض عليها النظام السوري حصارًا خانقًا، حيثُ عمدت الفصائل إلى فرض مبالغ مالية كبيرة مقابل السماح للتجار بإدخال المواد الغذائية إلى المناطق المحاصرة، كانت تجري بالتوافق بين جميع الأطراف بحسب تحقيق استقصائي سابق نشره موقع عنب بلدي.
ولفت ناصر علي إلى أن النظام السوري أوقف الدعم عن السلع التي كان يقوم بدعمها سابقًا، وهي تُصنف من السلع الأساسية مثل الزيوت والسكر والأرز، ومثلها ينطبق الحال على المحروقات التي ارتفع سعرها، مشيرًا إلى أن السوق المحلية اعتبارًا من عام 2011، باتت تشكو “من التسعير غير المنظم نتيجة الفساد وأدوات الاحتكار القوية”.
ظروف اقتصادية صعبة في مناطق النظام
من الجهة الأخرى، كان السكان المقيمون في مناطق سيطرة النظام، أو المناطق التي استعاد النظام السيطرة عليها لاحقًا، يعيشون ظروفًا اقتصادية صعبة، لأن دخل الموظف لم يطرأ عليه أي زيادة فيما الليرة السورية كانت تواصل انهيارها ونزيفها. ويقول ناصر علي إن راتب الموظف الذي له في خدمة الدولة أكثر من 10 سنوات، لم يتجاوز حتى الآن 35 ألف ليرة سورية، أي ما يعادل 80 دولارًا أمريكيًا!
فيما يحصل المتقاعد على مبالغ أقل، كون راتبه لا تطرأ عليه الزيادات السنوية والحوافز، هذا عدا عن المتقاعدين الذين يتقاضون رواتب قليلة كالعاملين في حقول التربية، ممن لا يحلمون شهادات عليا، فبالكاد تصل رواتبهم لحدود 15 ألف ليرة، أو ما يعادل 35 دولارًا.
أزمة في الخدمات العامة
ولم يقتصر انحدار المستوى المعيشي إلى أدنى معدلاته على مستوى السلع الغذائية بعد عام 2011، إنما امتد ليشمل باقي قطاع الخدمات، ويقول ناصر علي في هذا الشأن إن الرعاية الطبية “عاشت أزمة حقيقية في أغلب المناطق السورية، وشهدت مناطق المعارضة خروج أغلب المستشفيات بسبب قصفها، وانعدمت الأدوية الرئيسة للأمراض المستعصية كالقلب والسرطان والسكري والضغط وأدى فقدانها إلى وفاة الكثيرين”.
ويضيف بأنه على الرغم من اختلاف الحال نوعًا ما في مناطق سيطرة النظام السوري، فإن “أسعار المواد الطبية ارتفعت بنسبة تجاوزت 100%، وفقدت عشرات الأصناف من الأدوية بسبب خروج معامل الدواء في ريفي دمشق وحلب من الخدمة”، وشمل ذلك أيضًا ارتفاع أجور العمليات الكبرى بشكل كبير رغم محاولة النظام الإسهام في تقديم الخدمات المجانية.
إلا أن هذه المستشفيات أثناء الحرب أو قبلها بحسب علي، “باتت تتقاضى أجورًا بنسب مختلفة، بعد أن بدأ النظام في مطلع 2007 بخصصة بعض المرافق الصحية”، فيما وصل أجور المستشفيات الخاصة للعمليات الكبرى إلى ملايين الليرات، فقد كانت عملية استئصال الزائدة الدودية تكلف 200 ألف ليرة سورية، بعدما كانت تكلف سابقًا نحو 50 ألف ليرة سورية.
ارتفعت أسعار العقارات في سوريا بشكل جنوني، حتى وصلت في بعض المناطق لملياري ليرة سورية!
ارتفعت أسعار العقارات في سوريا بشكل جنوني، حتى وصلت في بعض المناطق لملياري ليرة سورية!
ويشير علي إلى أن ذلك ينطبق على القطاع التعليمي، حيثُ دمرت اعتبارًا من عام 2011 نحو 70% من المدارس والمعاهد التعليمية، ما دفع بالأطفال في مناطق المعارضة لتلقي التعليم في المنازل والأقبية التي كانت تحميهم من القصف الجوي، وهو عكس ما كان سائدًا في مناطق سيطرة النظام التي استمرت لديه العملية التعليم لكنها “باتت تشكل عبئًا على كاهل المواطن، فتكلفة المستلزمات المدرسية وصلت لـ20 ألف ليرة سورية لتجهيز الطالب الواحد في المرحلة الإعدادية، أي أكثر من نصف راتب الموظف”.
ولعل ذلك يندرج على وضع أسعار العقارات التي ارتفعت بشكل جنوني حتى أصبح امتلاك منزل للموظف العادي حلمًا صعب التحقق، حيثُ يوضح علي أن أسعار المنازل في منطقة مثل حي المالكي، الذي تسكنه البرجوازية السورية يصل لـ2 مليار ليرة سورية، أما منطقة البرامكة التي تعتبر واحدة من المناطق الحيوية في العاصمة دمشق فيصل سعر المنزل فيها إلى ما يقرب 180 مليون ليرة.
الليرة السورية تراجعت منذ بداية 2011
وفيما يتعلق بسعر صرف الليرة السورية مقابل الدولار الأمريكي، فمنذ بداية 2011، تشهد الليرة انتكاسة مالية، حيث شهدت تراجعًا حادًا أمام الدولار في أول ستة أشهر بما يقرب من 15%، ورغم كل محاولات النظام الإمساك بالبنك المركزي وسوق الصرف، إلا أن العقوبات التي بدأت مع اشتداد العنف وصلت بقيمة الليرة السورية من 50 إلى أكثر من 460 ليرة مقابل الدولار في هذه الآونة. وفي فترات متفاوتة بين عامي 2014 و2015 وصل سعر صرف الليرة السورية إلى 600 ليرة مقابل الدولار الأمريكي الواحد.
هذا الانحدار الذي شهدته الليرة السورية أدى بالضرورة كما يرى ناصر علي في نهاية حديثه لـ”ألترا صوت” إلى “ارتفاع كبير في أسعار السلع المحلية والمستوردة والتي دخل في صناعتها المواد الخام المستوردة”، فعلى سبيل المثال يبلغ سعر البراد صناعة محلية في الوقت الحالي قرابة 200 ألف ليرة، فيما كان سعره قبل الأزمة في حدود 40 ألف.
لذا فإن هذا الارتفاع الجنوني في الأسعار، ينعكس بشكل مباشر على الحياة المعيشية للأسرة السورية، إذ “لم يعد بإمكان المواطن أن يعود إلى ما يشبه حياته قبل الحرب بالرغم من حالة شبه الاستقرار الحالي بسبب هدوء أغلب الجبهات”، كما يقول ناصر علي.
——————-
تدهور الاقتصاد السوري… أسباب ونتائج!/ أكرم البني
ليس غريباً ما تشهده الليرة السورية اليوم من تراجع متسارع أمام العملات الأجنبية، حيث تجاوز سعر صرف الدولار الواحد 750 ليرة، وليس غريباً أن يصدر النظام، في الوقت ذاته، مرسوماً بزيادة 20 ألف ليرة (نحو 27 دولاراً) على رواتب المدنيين والعسكريين، في محاولةٍ لتنشيط حركة السوق والقدرة الشرائية وتخفيف ما يعتمل في نفوس المعوزين من غضب ونقمة، ولكن الغريب هو إصرار السلطة السورية على الترويج لأوهامها في ربط ما يحصل بمؤامرة كونية للنيل من موقفها الممانع، وبالعقوبات الاقتصادية الغربية التي فُرضت عليها، وبما تعدّه حملات إعلامية خارجية مضللة تزعزع الثقة بالليرة والاقتصاد وتشجع هجرة الاستثمارات ورؤوس الأموال، بما هو إصرار، كعادتها، على تجاهل ما صنعته أياديها، وإنكار الأسباب الحقيقية التي تقف وراء هذا التدهور الاقتصادي غير المسبوق…
أولاً، تجاهل ما خلفه العنف السلطوي المفرط واستباحة مختلف وسائل الفتك والتنكيل من تدمير لأجزاء كبيرة من البنية التحتية الضرورية لأي عملية إنتاجية، ومن تخريب مساحات واسعة صالحة للزراعة وتعطيل العديد من المنشآت الصناعية والقدرة على استثمار الثروة النفطية، وتدمير قطاع السياحة وتهجير ملايين السوريين من أصحاب الكفاءات العلمية والمهنية.
ثانياً، أن رفض المعالجة السياسية والإصرار على الخيار الأمني والاستمرار بتوجيه مختلف موارد البلاد لاستجرار السلاح ولتغطية تكاليف العمليات العسكرية، أفضى لاستنزاف خزينة الدولة من العملات الصعبة، وتحجيم الدخل القومي بشكل كبير جداً بخسارة الكثير من مصادره التجارية والزراعية والصناعية والباطنية.
ثالثاً، حين تحتل سوريا المرتبة 178 عالمياً ضمن قائمة أسوأ الدول في الفساد، ولا تترك خلفها سوى الصومال، وحين تتضاعف أرقام ودائع أهم ضباط ورجالات النظام في بنوك سويسرا والإمارات وروسيا، وحين يتسع دور السوق السوداء برعاية مسؤولين كبار وأمراء الحرب وتجارها، وميليشيا «حزب الله» اللبناني و«الحرس الثوري» الإيراني، وتغدو متحكمة إلى حد كبير، ليس فقط في سوق القطع الأجنبية بل في حاجات المواطنين الأساسية، حينها يمكن تقدير الآلية التي تُنهب من خلالها أموال السوريين وثرواتهم، ويمكن الاستنتاج أن زيادة الأجور المتواضعة لن تعوض الخسارة الناجمة عن الفساد وتراجع قيمة الليرة وجنون الأسعار، ولن تنتشل العاملين في الدولة من مستنقع الفقر والحرمان، فكيف الحال مع العاملين خارج مؤسسات الدولة وملايين العاطلين عن العمل!
رابعاً، صحيح أن العقوبات الاقتصادية الغربية لعبت دوراً مهماً في مفاقمة أزمة الاقتصاد السوري، لكن العقوبات التي فرضتها واشنطن على طهران لعبت دوراً أكثر أهمية، فقد كان النظام السوري مطمئناً للدعم الإيراني ومعتمداً عليه لتخفيف مصاعبه الاقتصادية، لكن بعد أن رزحت طهران في العامين الأخيرين تحت وطأة حصار اقتصادي دولي كبير، لم تعد تستطيع تحمل تكاليف هذا الدعم، فاقتصرت مساعداتها على إمدادات النفط وبعض التوريدات العسكرية.
خامساً، هروب رؤوس الأموال، ليس فقط بسبب مناخ الحرب وتردي الوضع الأمني، وإنما بسبب انتشار مرعب لظاهرة الابتزاز المالي، إنْ بعمليات الخطف والمبادلة، وإنْ بفرض إتاوات عند الحواجز على الأشخاص الذين يعبرون من منطقة إلى أخرى وعلى السيارات المحملة بمنتجات زراعية وصناعية، وإنْ بإجبار التجار والمستثمرين على دفع مخصص شهري لمركز أمني أو عسكري يدّعي حمايتهم، فمثلاً بلغ حجم رؤوس الأموال السورية المهاجرة إلى تركيا ومصر والأردن ولبنان، ما يقارب 35,7 مليار دولار باعتراف حكومات هذه الدول، عداكم عن رؤوس أموال وُظفت بالتشارك مع مستثمرين أجانب، وعن أموال مهاجرين سوريين استُثمرت لإنشاء مشاريع صغيرة في ألمانيا وكندا.
والحال، أنه على الرغم من تغير خريطة الصراع وتقدم قوات النظام في حربها ضد فصائل المعارضة المسلحة ومحاصرتها في مدينة إدلب وأريافها، فإن الرياح الاقتصادية لم تجرِ وفق ما تشتهيه سفن النظام، بل قادت السوريين من سيئ إلى أسوأ، لتتفاقم أزمتهم المعيشية وخسائرهم الاقتصادية مع كل يوم جديد.
تقول التقارير الأممية، إن نسبة البطالة ارتفعت إلى 78% وثمة نحو تسعة ملايين سوري عاطل عن العمل، بينما ازدادت الأسعار بشكل عام بين 2011 و2019 نحو 14 ضعفاً، كما أن الاقتصاد السوري خسر 226 مليار دولار من إجمالي الناتج المحلي وهو ما يعادل أربعة أضعاف إجمالي الناتج المحلي عام 2010، فضلاً عن دمار 7% من المساكن والمباني والمنشآت العامة كلياً و20% جزئياً.
وتضيف تقديرات الأمم المتحدة أن سوريا تحتاج إلى 250 مليار دولار لإعادة الإعمار، وأن معدلات الفقر والعوز المالي ارتفعت بشكل حادّ من 33% إلى 80% وصار أكثر من نصف المجتمع، أي ما ينوف على 12 مليون سوري، بحاجة إلى شكل من أشكال المساعدات الإنسانية المختلفة، كالغذاء والمياه والمأوى والصحة والتعليم، وباتت العائلة السورية، المكونة من 6 أفراد، بحاجة إلى دخل شهري يقارب 300 ألف ليرة سورية أي ما يعادل اليوم 400 دولار، لتوفير أهم المستلزمات والحاجات المعيشية.
إن النتائج المأساوية الذي خلّفها الصراع الدموي، واستمرار سلطة لا تزال مطمئنة لانعدام أي رد فعل عالمي جدي ضد عنفها المفرط، لا يثيران التفاؤل بانتفاضة شعبية سورية ضد الجوع والفساد أسوةً بما يحصل في لبنان والعراق وإيران، ولا يشجعان على القول بأن تدهور الوضع الاقتصادي والمعيشي سوف يغيّر المشهد ويقرّب النظام من سقوط عجزت عنه الوسائل السياسية والعسكرية، بل ما يمكن قوله إن هذا التدهور يكشف مدى العجز والارتهان الذي وصل إليه النظام، والكوارث التي ألحقها وسيلحقها بالبلاد ومقدراتها، كي يحافظ على سلطته وامتيازاته، ويفضح وجوه الفساد والاستئثار واللصوصية التي يستخدمها رجالاته في إدارة الاقتصاد ولإعادة إنتاج هيمنتهم وامتيازاتهم، والأهم أنه يُظهر حقيقة أنْ لا مستقبل للسوريين من دون تغيير جذري في نظام الحكم وأساليبه، من دون التمسك بحل سياسي يستند إلى العدالة الانتقالية كخطة طريق واجبة لخلاص مجتمع طحنته الحرب الأهلية ومثقل بتركة من الانتهاكات والجرائم والظلم، وبغير ذلك لا يمكن توفير المناخ المشجع للبدء بإعادة الإعمار وبعودة ملايين السوريين إلى وطنهم، وقطع الطريق على أطراف خارجية تتطلع بنهمٍ للسيطرة على مقدرات البلاد ومستقبل شعبها.
———————————-
الأسباب العشرون لانهيار الليرة السورية/ محمد السلوم
تزايدت مخاوف الشعب السوري، ولا سيّما في الداخل، من انهيار الليرة السورية، والدخول في المجاعة ومزيد من عدم الأمان، واشتعلت صفحات التواصل، خاصة في مناطق النظام، في البحث حول أسباب انهيار الليرة، ومظاهر المعاناة الكبيرة التي يواجهها ما تبقى من الشعب السوري، ويمكن حصر أسباب انهيار العملة بنحو عشرين سببًا:
صفرية الاحتياطي النقدي للبنك المركزي: على الرغم من مزاعم بوجود 700 مليون دولار تكفي لثلاثة أشهر، فهناك تأكيدات على صفرية الخزينة السورية بالبنك المركزي.
استعادة النظام السيطرة على مناطق جديدة: اعترف رأس النظام، في مقابلة له، بأن المناطق الخارجة على سيطرته التي كان يسيطر عليه “الإرهابيون” و”العصابات المسلحة”، بحسب لغة النظام، كانت تزود النظام بالعملة الصعبة من نشاطات المجتمع المدني والمنظمات الإنسانية، ودعم الدول المختلفة للثورة السورية.
إبعاد رجال الأعمال والشركات والبنوك التجارية من سوق الحوالات: زعم النظام أنه صادر أموال محيطه العائلي المالي، مثل مخلوف وغيرهم من تجار عائلة الأسد، وبحسب التسريبات الصحفية، فإن ذلك الحجز جاء بهدف تسديد فواتير الآلة العسكرية الروسية، أو بسبب صراع داخل عائلة الأسد ناجم عن صراع روسي إيراني.
القرارات المالية المتناقضة لدى النظام: لا يوجد قرارات واضحة لوزارة المالية السورية، فتارة توقف استيراد مواد معينة، وتارة توقف تصدير مواد أخرى، وآخر قراراتها وقف عمل “الأسهم السورية” التي تعكس السعر الحقيقي لليرة في السوق، ليعلن المصرف المركزي تثبيت الدولار عند 434 ليرة، بهدف إجبار التجار على شراء الليرة بالدولار بحسب سعر الدولة، لا بحسب سعر السوق الذي تجاوز الألف ليرة للدولار الواحد، ويُتوقع أن يتجاوز الألفين نهاية عام 2019 بحسب محللين اقتصاديين غربيين. مما يكسب النظام القدرة على تأمين مزيد من العملة الصعبة.
تحويل كثير من التجار مخزونهم إلى الدولار: يمتلك التجار السوريون في المصارف اللبنانية بين 30 و50 مليار دولار، وبالتالي يفضل التجار تداول الدولار كضمان وأمان لأموالهم، والتربح من الفوائد البنكية بدل المغامرة بها بالاستثمارات، وجلب السلع من استيراد أو تصدير.
الزيادة الوهمية للرواتب التي أدت إلى ارتفاع الأسعار بشكل جنوني: أصدر رأس النظام المرسوم 23 لعام 2019، بزيادة الرواتب بنسبة 20 بالمئة، وهي الخطوة الغبية المعهودة للنظام، والتي اعتادها الشعب السوري منذ عقود، حيث إن زيادة الرواتب سيقابلها ارتفاع مجنون بالأسعار، يُثقل كاهل الشعب السوري الذي وصل تسعون بالمئة منه إلى خط الفقر وما دونه.
فشل صندوق دعم الليرة: أعلن “فوز” المقرب من النظام أنه تبرّع بالدولار لدعم الليرة السورية، وفعليًا كانت استجابة التجار منخفضة، ولم يتم تأمين أكثر من عشرة بالمئة لميزانية الدولة، مقابل توزيع البقية بين التجار على حساب تجار آخرين.
فشل القيام بحذف صفر: يعدّ حذف الصفر -بحسب دعوات كثيرين- مغامرة غير محسوبة، وعملية تجميلية لا أكثر، فالسوق السورية الداخلية متآكلة، ولا قوة شرائية بالمقابل، كما لا يوجد صادرات. وإذا حُذف الصفر؛ فستتحول سورية إلى الحالة الفنزويلية، فقد ألغى تشافيز وبعده مادورو الأصفار، فدخلت العملة الفنزويلية حالة سقوط حر.
لا صناعة ولا سياحة ولا زراعة: الصناعة السورية مدمرة أو شبه مدمرة بالكامل، سواء في عاصمة الصناعة السورية حلب، أو في مركز الصناعات الغذائية في دمشق، ولا يتوافد إلى سورية إلا بضعة (يوتيوبرز) عرب وغربيين يمينيين، ويمين غربي يستمتع بما سمي “السياحة السوداء” لرؤية دمار سورية، وما آلت إليه من خراب، كما تم تدمير الزراعة، بوسائل كثيرة، آخرها حروب القمح، وهناك توقف شبه تام عن زراعة القطن والمحاصيل الأساسية.
لا منافذ حدودية للتصدير على الأقل لدول الجوار: فشل النظام في فتح معبر نصيب مع الأردن، حيث الطريق إلى الخليج العربي، بعد تحذير الولايات المتحدة للأردن وبقية الدول العربية من استئناف العلاقات التجارية والمالية مع النظام السوري، وبذلك تكون التجارة البينية على مستوى دول الجوار منعدمة.
العقوبات الأميركية على النظام: فرضت الولايات المتحدة، منذ إقرار قانون سيزر بمجلس الكونغرس والشيوخ، ومنذ بداية 2019، عقوبات قاسية على النظام، أوقفت من خلالها تطبيع العلاقات العربية معه.
سيطرة أميركا على المنابع النفطية ومنع تهريبها للنظام: أعلن الرئيس الأميركي ترامب أن الولايات المتحدة تسيطر على منابع النفط السورية شمال شرقي سورية، بعد إعادة انتشارها شرق سورية إثر عملية “نبع السلام” التركية، وأنها تحمي تلك الآبار، وتمنع تهريب إنتاجها إلى مناطق النظام، بعد أن كانت (داعش) تبيع النفط للنظام، وبعدها (قسد)، فدخل النظام في دوامة أزمة محروقات حادة.
استحواذ روسيا وإيران على مؤسسات سيادية: تستحوذ روسيا على ميناء طرطوس لمدة 49 عام، ولها حق التجديد لـ 25 عامًا إضافية، كما تستحوذ على الفوسفات والغاز، لتغطية نفقاتها الحربية، في حين تسيطر إيران على السوق العقارية السورية، ضمن استراتيجيتها في التغيير الديموغرافي والسيطرة على محاور اقتصادية مهمة، فضلًا عن أنها تدخل بضائعها وتروجها في الأسواق السورية.
استعجال روسيا الحل بالسيطرة على مناطق كانت تضخ الدولار: تضرر النظام من توسيع مناطق سيطرته، حيث يتطلب ذلك التوسع زيادة الإنفاق الحكومي وتمدده، فضلًا عن خسارته، كما ذكرنا، مناطق مهمة كانت تزوده بالدولار.
العقوبات الأميركية على إيران: استحوذت إيران على 200 مليار دولار من الأموال العراقية، وكانت تمول بجزء كبير منها حليفها النظام السوري، وميليشياتها التابعة لها في سورية ولبنان والعراق، وقد تسببت العقوبات الأميركية غير المسبوقة على إيران، في إفلاسها، باعتراف الرئيس الإيراني ذاته، إذ فقدت قدرتها على تصدير نفطها، وظهر ذلك جليًا بأزمة ناقلة النفط الإيرانية التي توجهت إلى سورية (داريا 1).
العقوبات الأميركية على لبنان والأزمة اللبنانية: طوال عقود كان يُعدّ لبنان “الرئة الاقتصادية” التي يتنفس بها النظام السوري، وكانت المصارف اللبنانية المصدر الرئيس لتنوع العملات الصعبة في الخزينة السورية، إلا أن مصرف لبنان أوقف نقل تلك العملات خارج لبنان، وخاصة أن معظم المصارف التجارية اللبنانية توجد في دمشق، وبحسب (الفايننشال تايمز)، كان يتم نقل تلك الأموال إلى النظام، وقد توقف النقل أخيرًا، إثر الأزمة الاقتصادية في لبنان وتراجع الليرة اللبنانية، إضافة إلى الثورة اللبنانية.
الأزمة العراقية: أثرت الثورة العراقية في النظام السوري، واضطرت تركيا إلى تزويد المناطق المحررة في الشمال السوري ومنطقة (نبع السلام) بالنفط العراقي، وبالمقابل يتجه الأكراد المتحالفون مع واشنطن إلى استخدام جزئي للدولار بدل الليرة. وتتجه إدلب ومناطق ريف حلب الشمالي إلى استبدال الليرة التركية بالسورية، على الرغم من محاولة النظام تهريب عملته المزورة والمطبوعة لديه من فئة 2000 ليرة، لاستبدالها بالليرة التركية ودعم ليرته. كما أعلن صاغة مدينة إعزاز الحلبية تحولهم إلى التعامل بالليرة التركية، كذلك أدت الثورة العراقية إلى تجميد التسهيلات الإيرانية عبر العراق لإنقاذ ليرة النظام السوري.
استمرار الأعمال العسكرية لا تؤجل أو تجمد سرعة الانهيار: يحاول النظام التصعيد في إدلب إلى جانب روسيا لكسب الوقت، وتسريع سيطرة النظام على معظم المناطق، للحصول على تسهيلات إعادة الإعمار، وبالتالي إنقاذ الليرة السورية، وعلى النقيض من ذلك يفضل النظام عدم تجميد عملياته العسكرية، في محاولة تجميد تلك الكارثة المالية أو تأخيرها.
إعادة الإعمار مستحيلة بوجود النظام الحالي: حتى لو تمكنت روسيا من إنهاء الوضع في إدلب، فلن تتمكن من جلب أموال الغرب لإعادة إعمار سورية، في ظل وجود النظام القابع في دمشق، فالضمانات والشروط الدولية واضحة في هذا المجال، فلا إعادة إعمار دون انتقال سلمي للسلطة في سورية.
السوريون لاجئون لا مغتربون: ظهرت دعوات على وسائل التواصل الاجتماعي، عدا دعوة صندوق دعم الليرة وإلغاء صفر، لقيام المغتربين السوريين بدعم الليرة، والمعروف أن المغتربين حتى اللاجئين السوريين يحاولون دعم أهاليهم داخل سورية، لكن الحقيقة اليوم أن اللاجئين السوريين يشكلون أكثر من نصف الشعب السوري، وبالتالي فأسطورة المغتربين وأوهام النظام بوجودهم لم تعد تنطلي على أحد، فضلًا عن أن تجّاره الذين يستثمرون في مناطق مختلفة من العالم معظمهم أدار ظهره له، إما خشية العقوبات والملاحقة الدولية، أو خشية خسارة أموالهم، إذا تم تحويلها إلى الليرة السورية.
صدرت قرارات أوروبية في إسبانيا وفرنسا بمصادرة أموال جزار حماة بالثمانينيات “رفعت الأسد” وكامل أفراد عائلته، بالمقابل قام آل مخلوف والأسد بشراء عقارات في موسكو، كما تلاحق الولايات المتحدة أموال آل الأسد التي نهبوها من الشعب السوري، في بنما وغيرها من أنحاء العالم، والكل يعلم أن أموالهم موجودة في دبي عاصمة غسيل الأموال العالمية، وشبه جزيرة القرم ورومانيا وروسيا البيضاء.
يبقى الإنسان السوري الضحية الحقيقية لانهيار ليرة بلاده التاريخي، ويتوقع مراقبون غربيون قيام ثورة جديدة في مناطق النظام، بدأت بشائرها بإضراب سائقي الأجرة باللاذقية، حيث يسيطر النظام، وهناك دعوات لإضراب عام كذلك بمدينة اللاذقية، فسقوط النظام بات مصلحة للشعب السوري، لإعادة تدفق الأموال وإعادة الإعمار. وفي النهاية الرغيف لا يمزح.
جيرون
—————————
العملة السورية تتدهور.. والنظام يستفيد
لم يكن مستغربًا تعرّض الليرة السورية للانهيار، في ظل حرب مستمرة منذ تسع سنوات، ودمار أكثر من 40 بالمئة من البنى التحتية السورية، ونزوح ولجوء نحو نصف الشعب السوري إلى دول الجوار ودول العالم، هربًا من النظام وحربه التي غيّرت حاضر سورية وستؤثر في مستقبله إلى زمن طويل.
خلال هذا الشهر، تراجع سعر صرف الليرة السورية مقابل الدولار سريعًا، ليبلغ سعر صرف الدولار الواحد أكثر من 950 ليرة سورية، ولم يستطع النظام السوري وقف تراجعه الحاد، وباتت سورية تواجه خطر تعويم عملتها، ما قد يؤدي إلى انهيارات متتالية في المدى المنظور.
خسرت الليرة السورية أكثر من 100 بالمئة من قيمتها، خلال الشهرين الأخيرين، إذ كان سعر صرف الدولار 463 ليرة سورية، نهاية أيلول/ سبتمبر الماضي، ووفق اختصاصيين، من غير المتوقع أن تستطيع الحكومة السورية السيطرة على تراجع الليرة المستمر منذ بداية الثورة السورية عام 2011 حتى اليوم، حيث كانت قيمة الدولار في ذلك العام نحو 50 ليرة، والآن تضاعفت قيمته 19 مرة.
بالتزامن مع التراجع الحاد في قيمة الليرة السورية، قرر 16 مجلسًا من المجالس المحلية في شمال شرق سورية، مناطق سيطرة المعارضة المسلحة المدعومة من تركيا، منع تداول الورقة النقدية السورية من فئة ألفي ليرة، وحددوا مهلة شهر للتخلص منها واستبدالها، وأعلنت المجالس أنه سيتم دفع فواتير الخدمات، مثل الإنترنت والكهرباء وغيرها، بالدولار الأميركي أو الليرة التركية.
وفئة الألفي ليرة تحمل صورة بشار الأسد، وأصدرها البنك المركزي السوري قبل سنتين، وتدور نقاشات في شمال سورية حول طباعتها من دون رصيد، بغرض امتصاص سيولة العملات الأجنبية من الأسواق في المناطق التي تقع تحت سيطرة المعارضة السورية المسلحة التي تشرف عليها تركيا.
وعلى الرغم من صدور دعوات كثيرة، خلال السنوات الأخيرة، من أطراف في المعارضة السورية لسكان المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، لاستخدام الليرة التركية أو الدولار بدلًا من الليرة السورية، فإن التعامل الأساسي بقي عبر الليرة السورية.
يقول أسامة القاضي، رئيس مجموعة عمل اقتصاد سورية: “تمر العملة الوطنية السورية بأسوأ كارثة اقتصادية منذ تاريخ نشوئها، حيث تدهورت قيمتها تدهورًا غير مسبوق. إن واقع الاقتصاد السوري الكارثي لا يُنبئ بمستقبل أفضل لليرة السورية التي لا يوجد لها حامل حقيقي من حجم سلع وخدمات، خصوصًا بعد حرمان ناتج الدخل القومي من مساهمات النفط والسياحة، وشلل شبه نصفي في الزراعة والصناعة والتجارة. إن التدخل (المكياجي) ذا النكهة الأمنية في السوق، بالضغط على الصرافين لدفع مبلغ خمسة ملايين دولار، أو إجبار بعض التجار على دفع عشرة ملايين دولار، أو سجن بعض الصرافين، وغير ذلك من الأدوات الأمنية المصرفية، سيكون عاملًا مثبطًا لتسارع هبوط الليرة، ولكنه لا يمكن أن يكون حلًا حقيقيًا للنهوض بقيمة الليرة”.
بدأ انهيار العملة المحلية السورية، بعد أن أصدر الرئيس السوري بشار الأسد، الشهر الماضي، مرسومًا يقضي بزيادة رواتب الموظّفين، وقد شملت الزيادة جميع موظفي الدولة المدنيين والعسكريين، حتى المؤقتين منهم، وهذه الزيادة أتت بشكل مفاجئ وغير متوقع، لأن سورية تمرّ أساسًا بضائقة مالية، نتيجة انهيار الاقتصاد وضعف التمويل القادم من الممولين الأساسيين للنظام السوري كإيران وروسيا.
ربط الباحث الاقتصادي السوري عارف دليلة سبب انهيار الليرة، بـ “تطور الأوضاع الداخلية، الأمنية منها بالدرجة الأولى، وكذلك الاقتصادية كاضمحلال الإنتاج من المنتجات الأساسية، والإنفاق والفساد المنفلت الذي لا يسنده أو يغطيه أي احتياطي أو دخل أو دعم خارجي هذه الأيام، لتأتي زيادة الرواتب الأخيرة في هذه الظروف، كسكب البنزين على النار! مع تأكيدنا أخيرًا أنَّ المواطنين يستحقون ويحتاجون إلى أضعاف أضعاف هذه الزيادة، ولكن كقيمة حقيقية تؤخذ من المنهوبات والفاسدين، وليس كزيادة اسمية فارغة تنتقص من إمكاناتهم الشحيحة”.
في بدايات تراجع قيمة الليرة السورية عام 2012، كان النظام السوري يقول إن السبب هو “المؤامرة الكونية”، وفيما بعد، قال إن السبب هو الحرب وتبعاتها، ثم الحصار الاقتصادي، وآخر الأسباب هو اكتشاف “مفاجئ” لتهريب المليارات خارج البلاد، حتى إنه اتهم رجال الأعمال السوريين بغش الحكومة ببيانات وهمية عن حجم أعمالهم، لكنها لم تستطع فعل شيء حقيقي لوقف هذا التراجع في قيمة الليرة.
لا يقوم النظام باتخاذ أي إجراء أو تدخل فاعل للحد من التدهور، ويعتقد البعض أن النظام يرعى بشكل ما هذا الانهيار، أو على الأقل لا يُبدي أي ممانعة للحد منه، لأن ارتفاع سعر صرف الدولار من شأنه أن يخفض من القيمة الفعلية لكتلة الرواتب المستحقة لأكثر من مليون ونصف مليون عامل، مدني وعسكري، وتُقدَّر تلك الكتلة، وفق سعر صرف افتراضي بـ 500 ليرة سورية، بملياري دولار سنويًا، ويمكنها أن تنخفض إلى مليار دولار في حال وصول الدولار إلى ألف ليرة.
كانت تصريحات بعض المسؤولين السوريين مُضحكة، فقد قال حاكم مصرف سورية المركزي، حازم قرفول، في حزيران/ يونيو 2019: إن “ارتفاع الدولار وهمي، وليس له أية مبررات اقتصادية، وليس له أي مستند على الأرض إطلاقًا، وإنما بعض المضاربين تعودوا على سياسة معينة للمصرف في الماضي، ويمكننا التحكم في سعر الصرف من خلال تحفيز الاقتصاد الوطني”، وقال وزير الاقتصاد، في كانون الأول/ ديسمبر 2019: “إن الواقع الاقتصادي يتحسن تدريجيًا، لكن المواطن لم يشعر بذلك”.
تُعاني سورية مشكلات عديدة: الفساد والسرقة العلنية، تهريب رؤوس الأموال، الحرب ونتائجها، العقوبات الاقتصادية الأوروبية والأميركية، عدم وجود خطة اقتصادية واضحة سابقة وحالية يقودها مختصون، كما تؤثر فيها العقوبات الاقتصادية على إيران التي أوقفت الخط الائتماني لسورية، وغير ذلك من العوامل.
يأتي انهيار الليرة السورية في ظل جو من الغضب والإحباط الشعبي العام، وتحميل النظام بأفراده وسياساته وتحالفاته الداخلية، مع مافيا المال وأمراء الحرب، مسؤولية الخراب الحالي، وتعتقد بعض أطراف المعارضة السورية أن انهيار العملة المحلية يمكن أن يساهم في سقوط النظام وانهياره، لكن وقائع الحال الاقتصادي تقول غير ذلك.
يقول القاضي: “إن أثر الانهيار الاقتصادي على الحكام شبه معدوم؛ لأن الأزمة الاقتصادية تخنق الشعب اقتصاديًا، ويُباد أي احتجاج بالحديد والنار، ولا يهتز عرش النظام المستبد، فها هو روبرت موغابي، في الموزامبيق، ظل متمسكًا بالسلطة 30 عامًا حتى صار عمره 93 سنة، على الرغم من الانهيار الاقتصادي والتضخم الذي بلغ أكثر من 70 مليارًا بالمئة! وأزيل عن حكمه بانقلاب وطُرد طردًا عسكريًا، وليس اقتصاديًا، مع أن عملة الموزامبيق بلغت أن دولارًا أميركيًا واحدًا صار يعادل ملياري دولار زيمبابوي، إن (الكائنات) السياسية المتسلطة بوحشية لا يؤثر فيها انهيار الاقتصاد، بل يزيدها (حيونة سياسية) وتستمتع بمقاومتها لـ (الإمبريالية)، وبقائها بالسلطة، بالرغم من تدمير البلاد وسحق الشعب وتجويعه”.
رافقت انهيار سعر صرف الليرة حركة تجارية غير معتادة في الأسواق، تجلت بشراء المواد الغذائية وبعض المستلزمات الضرورية، في ظل قناعة لدى السوريين بأن “اليوم أرخص من الغد”، ويشير ذلك إلى إحساس عام باستمرار الهبوط، وانعدام الوثوق بأي فاعلية للنظام على هذا الصعيد.
وعن علاج انهيار العملة، قال دليلة: “يكون ذلك بزيادة الإنتاج، وبعلاج كل أسباب توقف وانهيار العملية الإنتاجية والخدمية والاستيرادية في سورية، وعلى رأسها الفساد المركزي، والبدء الفوري بتأمين شروط عودة السوريين المهجرين والنازحين عن أرضهم وبيوتهم ومشاغلهم إليها، وإطلاق سراح المعتقلين، أي بوقف الخيار العسكري الأمني الإجرامي، والذهاب إلى الحل السياسي الذي لا يبدأ باللجنة الدستورية – الملهاة، إنما بتحقيق مطلب الشعب السوري، أي بالانتقال بسورية من نظام الاستبداد والنهب والفساد والانحطاط (اللاوطني واللاأخلاقي) إلى نظام الحرية والكرامة والتقدم والديمقراطية، ولكن الذي حصل هو اتباع منهجية كارثية والتنكّر للوظيفة الأساس للسلطة، وهي تحقيق التقدم الاقتصادي الاجتماعي ورفع مكانة الوطن والمواطن المادية والمعنوية الحضارية”.
إذا كانت هذه هي الحلول لوقف تدهور قيمة الليرة السورية، فإننا نخشى أن ينتظر السوريون كثيرًا، ويراقبوا انهيارات متتالية في قيمة عملتهم، لأن ما تحدّث به دليلة هو ما يُطالب به السوريون منذ تسع سنوات، ولم يقبل النظام السوري أن يحقق منه شيئًا على الإطلاق.
————————-
ماذا وراء ارتفاع مزاج السوريين الساخر هذه الأيام؟/ رشيد حاج صالح
وصلت سخرية السوريين وتهكمهم على أوضاعهم العامة إلى درجات ملفتة للنظر هذه الأيام. أما أهم الموضوعات التي كانت موضع سخريتهم هناك:” زيادة الرواتب”, انخفاض سعر الليرة السورية”, ” لقاءات بشار الأسد مع الصحفيين”, ” ارتفاع الأسعار”, ” أزمة المحروقات”, ” السيادة الوطنية”, ” الطرق التي تقترحها الممانعة إلى القدس”, والموضوع الحاضر دائماً ” مكافحة الدولة للفساد”. ولكن ما هي أسباب ارتفاع وتيرة سخرية السوريين هذه الأيام، وما هي الرسائل التي يريدون تمريرها عبر تهكمهم؟
عادة لا تحب السلطات التقليدية السخرية والتهكم، ولا سيما في مجال السياسة والأمور العامة حيث تشير قواميس اللغة إلى أن الأصل في السخرية هو محاولة إذلال الآخر والاستهزاء منه بطريقة تهكمية. ولذلك نجد أن السخرية تنتشر في البلاد الديمقراطية أكثر من انتشارها في سورية والبلدان المشابهة لها لأن أجهزة المخابرات لا تتساهل مع النكت ذات الحس السياسي النقدي.
فمن يتعرض للسخرية يشعر بالغضب، لأن السخرية تقوم بوظيفة مضاعفة: الهجاء من جهة والإضحاك من جهة ثانية. وهذا يعني أنها من الأسلحة المعنوية الثقيلة التي تستخدم للنيل من مكانة الآخر، وإن كان الآمر عن طريق التهكم والتندّر.
ومن جهة ثانية فإن الناس كثيراً ما تلجأ إلى مواجهة البؤس بالتهكم، عبر الضحك عليه – بحسب صامويل بيكيت – لأن العقل في النهاية لا يستطيع تحمل البؤس من حيث هو وضع” لا معقول”.
يعود سبب التشدد الأمني في التعاطي مع السخرية السياسية في سورية إلى أن أسلوب التهكم من أكثر الأساليب تأثيراً على الناس، وسرعان ما تنتشر النكث السياسية انتشار النار في الهشيم. أكثر نكتة سياسية انتشرت في ثمانينات القرن المنصرم، وكانت كثيراً ما تكتب على جدران الحمامات العامة هي نكتة ” الفيل الذي يطير”. بطل هذه النكتة كان أحد أبناء حافظ الأسد في البداية ثم تم تخفيفها إلى صيغة ” أحد أبناء المسؤولين”. وعلى الرغم من أنها ليست نكتة من العيار الثقيل إلا أن انتشارها يعكس انخفاض درجة الحريات في الأفق العام (عقوبة السخرية على رئيس الجمهورية تصل إلى ثلاث سنوات سجن في القوانين السورية).
قبل الثورة كانت أجهزة الأمن تضبط مجال السخرية السياسية بطريقتين: الأولى هي السماح لبعض الممثلين بإطلاق بعض النكت السياسية عبر مسرحياتهم ومسلسلاتهم، على أن يكون هذا الممثل من المضمون ولائهم، بحيث يمكن استخدام رصيده الشعبي لصالح النظام (أكبر مثال دريد لحام)، سيما وان المجال الإعلامي تحت سيطرة النظام بشكل كامل. وهنا ليس من هدف لهذا النوع من السخرية سوى ” التنفيس” عن صعوبات الحياة التي يوجهها السوريون. الأسلوب الثاني هو قيام المخابرات نفسها بإطلاق بعض النكات السياسية الموجهة لتمرير بعض الرسائل بشكل مبطن، وتصور حافظ الأسد بأن لديه قدرات غير عادية، وما النكت الثقيلة التي قيلت عن منافسين محتملين لحافظ الأسد في المستقبل، بقصد إذلالهم والنيل من وقارهم، سوى أمثلة على هذا النوع من النكت.
يستخدم السوريون هذه الأيام أساليب السخرية المعروفة، ومن أهمها أسلوب إكساب الألفاظ معاني غير معانيها الحقيقية. فبحسب النكتة التي يتداولها السوريون ” الحكم في سوريا أصبح ديمقراطياً تُشارك فيه كل دول العالم من غربه لشرقه ومن شماله لجنوبه”, وهناك من يسأل ” إذا الواحد يشعر بأنه وحيد في هذه الحياة فهل يعفى من التجنيد؟ “, ويتهكم بعضهم ” كم أتمنى العيش في سورية التي تظهر على قناة سما الفضائية”. كما يستبشر بعضهم بإمكانية تحسن الاقتصاد السوري لأن سورية ” أصبحت تصدر سورية هذه الأيام الفوسفات والحمضيات واللاجئين “. كما يحكى أن ” مرة مواطن سوري فاق من النوم ولم يسمع صوت رصاص، فكّر حالو بالجولان”.
كما يأخذ الوضع الاقتصادي المتردي وتراجع العملة السورية نصيب الأسد في سخرية السوريين من أوضاعهم. فالحل لمشكلة تراجع الليرة السورية أمام الدولار هو أن ” نزوّج الدولار من الليرة السورية عسا أن يستقر وضع الدولار “، مثلما يلخص أحد الشباب العاطل عن العمل مشكلتهم الاقتصادية بأنها تعود إلى أنهم ” علّموهم في المدرسة كيف تتكاثر الثدييات والزواحف والطيور ولم يعلموهم كيف تتكاثر الأموال”, أما أعراض قرب نفاذ الراتب فهي” ضيق المزاج، اضطراب النوم، ضعف في سمع طلبات الأولاد ورجفة اليد عند إخراج المحفظة من الجيب”. ويتهكم آخرون:” أهل الكهف ناموا 300 سنة وعندما استيقظوا تفاجئوا بالأسعار، أما نحن نتفاجأ بالأسعار بعد كل قيلولة”. أما تسأل الشعب السوري عن المناطق السياحية التي يمكن ان يذهبوا إليها بعد زيادة الرواتب الأخيرة فتكاد تسيطر على المجال التهكمي العام.
أما أحدث أجوبة المسؤولين السوريين عن السؤال على السؤال الافتراضي المعروف، من أين لك هذا؟ فهو ” هذا من فضل شعبي “. مثلما يتساءل بعض السوريين: ” محرزة كرمال ساعتين كهربا بالنهار يحطوا وزير”. أما من يقول ” أن كلمة (بحبك) بترد الروح شكلوا لسا ما جرب شعور كلمة (والله ما تدفع).
يعكس حجم السخرية السياسية في كلام السوريين اليوم (ولا سيما الذين يعيشون في مناطق سيطرة النظام) كمية البؤس التي يعيشها هؤلاء في ظل الازمات الاقتصادية المتوالية، مثلما يعكس درجة وعيهم بأسباب المشكلات التي يعانوا منها. يبقى الامر الملفت للانتباه في سخريتهم هو ارتفاع مستوى قرفهم من أوضاعهم المعيشة التي أصبحت خارج نطاق الاحتمال، والتي تسببت بها سياسات النظام على مدى سنوات طويلة.
بروكار برس