ستة سنوات على غياب رزان زيتونة، وائل حمادة، سميرة خليل وناظم حمادي -مقالات تناولت هذا الغياب-
رزان زيتونة في سوق البزورية/ صبحي حديدي
مرّت الذكرى السادسة لغياب رزان زيتونة وسميرة الخليل وناظم حمادي ووائل حمادة، النشطاء السوريين وبعض أنصع النماذج الإنسانية والثورية والحقوقية التي أبرزتها انتفاضة الشعب السوري؛ الذين اختطفهم بغاة من قادة ميليشيات إسلامية سامت الغوطة وأبناءها عسفاً وطغياناً وعربدة وفساداً، ولم تكن سلوكياتها أقلّ شناعة من ممارسات نظام آل الأسد وأجهزته.
وإذْ يُعقد الأمل في أن يصل ذوي المخطوفين الأربعة، ويصلنا، خبر بهيج عنهم، ذات يوم قريب؛ أتوقف، هنا، عند جانب مجهول بعض الشيء في شخصية رزان زيتونة، هو مساهماتها في كتابة تغطيات صحافية مختلفة الاهتمامات، اعتادت نشرها في منابر عربية على سبيل تأمين مقتضيات العيش، قبل أن تتدرّب على المحاماة وتقرّر احترافها كمهنة. وأستعيد، في هذا المضمار، تغطية خاصة الطابع، وجدانية وشخصية بقدر ما هي سياسية وعامة، تخصّ طوراً مؤلماً من حياة العاصمة دمشق، وشجونها البشرية والعمرانية تحديداً: العام 2007، حين جرى إنذار أصحاب عشرات المحالّ في سوق البزورية الدمشقي التاريخي العريق بالإخلاء؛ تمهيداً لأعمال هدم واسعة النطاق، قيل إنّ الهدف منها هو بناء سوق جديد عصري، تتوفّر فيه المنشآت السياحية الضرورية (مرآب سيارات، فندق سياحي، مسبح…).
وسوق البزورية، لعلم الذين لا يعرفون عنه الكثير، أنشأه في سنة 1878 والي دمشق الشهير مدحت باشا، ويبلغ طوله قرابة 1000 متر، ويضمّ نحو 150 محلاً، ويتمتع بموقع متميز تجاري وفولكلوري لدى الدمشقيين والسوريين عامة، ترسّخ عبر عقود طويلة من تقاليد البيع والشراء في جنباته، وكذلك من سمة الورع والأصالة التي طبعت تعاملات تجّاره. كذلك حمل السوق خصوصية بضائعه، التي تشمل الأغذية والسكاكر والحلويات والمكسرات والبهارات والتوابل المختلفة ذات المنشأ المحلي أو القادمة من الهند وشرق آسيا؛ إلى جانب أحد أشهر اختصاصات السوق: الأعشاب والنباتات الطبية، مثل جزر الرباص والحنظل والـ»روزميري»، ثمّ الكمون والعصفر والزهورات المختلفة، والتمر هندي والعرق سوس، والزعتر وحبّة البركة والغار والخروع…
وفي صحيفة «المدينة»، شباط (فبراير) 2007، وتعليقاً على أخبار سوق البزورية المحزنة، كتبت زيتونة: «مَنْ عاش دمشق يحسن نظم الشعر فيها والبكاء عليها، والبحث عبثاً عن تلك المدينة في بقاياها هنا وهناك. ومن لم يعشها، يصنعها في خياله مرّات ومرّات، مستعيناً بقصص الجدّات والأمهات. بغزل شاعر أو قصة راوٍ أو كتاب تاريخ، ناظراً بحسد إلى ذاك الذي تسعفه ذاكرته الزمنية بصور حقيقية غير متخيلة. قد تكون الحقيقة أقلّ سحراً من الخيال، لكنها أكثر حميمية ودفئاً بما لا يُقاس. المعضلة فيمن يأتي لاحقاً. ويتعين عليه بناء دمشق على مخيّلة من تخيلوها قبله. ترى ماذا سيكون شكلها آنذاك؟».
وإذْ تقتبس زيتونة عبارة من نزار قباني («لا أستطيع أن أكتب عن دمشق، دون أن يعرّش الياسمين على أصابعي»)، فإنها تستطرد، مقترحة صورة حاضر نقيض: «أتدركون ما أقصد؟ لا أستطيع أن أكتب عن دمشق، دون أن يعرّش الغبار على أصابعي. يكسوني التعب الذي يلبس المدينة. ويستغرق كلماتي القلق المرتدي وجوه أهلها. تميل السطور سأماً، وتتراكب الصور بغرائبية. يتجاوز الأمر ثقل الهواء المشبع بالدخان ورماد ماض أُحرق. يتجاوز عبثية كلّ ما في المدينة من بناء قبيح وفوضى في المشهد وانعدام في الملامح. مدينتي لا ملامح لها من وراء أقنعة كثيفة. مدينتي غريبة، وهو ذنب جدّتي وذاكرتها اللعينة. ما كان لهم أن يرسموا مدينة من ضوء لأجيال قد لا تعرف إلا العتمة».
ثمة، هنا، الكثير من الذهاب إلى الشعر (غير الغريب عن شخصية زيتونة الأدبية، بالطبع)، لكنه يستبطن طرازاً شفيفاً من شجن يمتزج عضوياً بحسّ الاحتجاج على اغتيال المدينة، والانتصار لها أيضاً؛ خاصة حين تذهب التغطية الصحفية إلى إدانة أجهزة السلطة الموشكة على تخريب عمران دمشق وتاريخها: «اليونسكو ومركز التراث العالمي هددا برفع اسم دمشق نهائياً عن لائحة التراث العالمي إذا ما تواصل التعامل مع الآثار بهذه الطريقة». وأيضاً: «ما هَمّ دمشق إن بقيت على اللائحة إياها أو غادرتها. لقد فقدت اهتمامها باللوائح والمراكز منذ زمن. منذ أن قدّموا إليها هدية الميلاد الجديد. البلدوزر لم يقتلع فقط أحياء قديمة ذات قيمة أثرية. قبل ذلك بكثير، امتص دماء المدينة (بردى يتذكر)، هدم القديم الجميل وبنى الجديد الأقبح. جرَف ملامحها وغيّر حدودها وانتزع هويتها».
وتختم زيتونة تغطيتها على هذا النحو، الصارخ والصاعق، حيث السخرية السوداء تتبادل الدلالة مع النبرة الرثائية: «المدينة في المزاد العلني، العين لها سعرها، والجفن له سعره، الكبد أغلى قليلاً، والروح ليست للبيع، فقد تعرضت للاستملاك. والمدينة أصبحت أقذر من أن تُحتمل، وبحاجة إلى تنظيف. تعمّها الفوضى وبحاجة إلى تنظيم. والعملية يجب أن تبدأ من الجذور. لا أهمية لغسل طريق أو رفع مكبّ قمامة عن زوايا الطرقات. ولا لغرس شجرة في الجلد القاحل. العملية تحتاج إلى تعقيم المدينة برأس المال الاحتكاري. فتنبت شجرة دولار مكان شجيرة ياسمين. الشجرة ليست ملكا للمدينة. المدينة ملك للشجرة».
كانت لدى قتلة الغوطة أسبابهم الكافية لإخراس زيتونة، لأنّ هذا الصوت النبيل الثائر لم يصدح بالحقّ فحسب، بل كان أيضاً كفيلاً بإطلاق الضياء ودحر الظلمات.
القدس العربي
————————-
—————————————–
رسائل إلى سميرة (15)/ ياسين الحاج صالح
الرسالة الخامسة عشرة من سلسلة رسائل يكتبها ياسين الحاج صالح لزوجته سميرة الخليل، المخطوفة في دوما منذ مساء يوم 9/12/2013، يحاول فيها أن يشرح لها ما جرى في غيابها.
«شايفة القمر شو حلو؟» أسألك بينما نعود إلى البيت ليلاً، نقطع المسافة بين موقف السرفيس الأخير وبيتنا في ضاحية قدسيا: إنتِ أحلى من القمر! أُسارع للإجابة على سؤالي قبل أن تسبقيني. في مرات أخرى لا تتركينني أكمل السؤال، تكملينه أنت فوراً، بينما تعضين على شفتك السفلى ضاحكة، وتغمزين. تترفقين بالمواهب الغزلية المتواضعة لشريكك، التي تكاد تنتهي عند هذا الحد.
تقولين: باي حبوووووب! وأنت خارجة؛ وانبسط، حبوب! بينما أتصل بك لأخبرك أني قد أتاخر في العودة إلى البيت ليلاً؛ أو: لا، حبيبي ما يلزم شي! حين أتصل وأنا راجع لأسألك إن كان يلزمك/ يلزمنا شيء. أنت قادرة على بث الحب في كل شيء يا سمور. بكرمٍ تفعلين. تفيضين بالحب، وكم يدفئ قلبي أن هذا الينبوع لم يكف عن التدفق في نحو 13 عاماً قضيناها معاً.
تحبين القهوة من يدي. أُجهّز القهوة، وأمسح ما ينسكب منها كل مرة على الغاز، وأنوح متشكياً بينما أقوم بذلك: الحياة صعبة! تتصنعين الحزن على طريقة الأمهات، وتعلنين التضامن مع المتذمر الشاكي.
نتكلم على بعض يومياتنا، على ما يصادف من أشياء يمكن أن تُحكى، أشياء لا أهمية لكثير منها في الغالب، لكنها تصنع مجالنا الخاص. منها تهكم لا يخلو من لؤم على معارف وأصدقاء. تتذكرين السيدة اكتئاب؟ اللقب الذي أطلقناه على صديقة كانت سيماؤها مكتئبة غالباً. تتذكرين «وينكن»، اللقب الذي أطلقناه على صديق كانت أول كلمة تصدر منه حين يراكِ أو يراني هي: وينكن؟ هذا اللؤم الحميد هو من بين أشياء كثيرة أفتقدها يا سمور. أشياء خاصة، صغيرة، تساعدنا على ترتيب عالمنا المشترك.
كنت تدفعينني كي أخرج من البيت، أرى أصدقاء، «أغير جو»، أتحرك. لم يكن ما تشكين منه زوجاً يقضي معظم وقته خارج البيت، بل الزوج الذي يبحث عن ذرائع كي لا يخرج من البيت. صحيح أنه لا يتكلم كثيراً، لكنه كان يظن أن تعبيره غير الكلامي يصلك. ومما يدخل بعض البهجة على قلبه أنك كنت تقولين إنه كان يصلك.
كنتُ أنا أيضاً أدفعك كي تخرجي، تسافري، ليس إلى حمص وحدها حيث نجاة وفاطمة وإخوتك، ولكن كذلك لزيارة أصدقائنا في حلب أو اللاذقية، أو جماعتي في الرقة. لم تكوني تحبين أن تسافري وحيدة، تريدين أن نسافر معاً. لكن في مرات سفرك القليلة، وأغلبها إلى حمص، كنتُ أستوحش بعد يومين من غيابك. وبعد أن أكون ألححت عليك في السفر، أتصل لأوصيك أن تستمتعي بأيامك هناك، و… متى تعودين؟ تذكرين وقت ذهبتُ مرة لاستقبالك في الكراج وأنت عائدة من حمص؟ أخذتُ «خط سرفيس» آخر بالخطأ ووصلت متأخراً، بعد أن كنتِ غادرتِ إلى البيت في ضاحية قدسيا. وفي طريق عودتي خائباً مررت إلى مكتب الشركة الأهلية لأستلم طرداً مرسلاً إليَّ هناك، ولم أتذكر أن اليوم كان جمعة إلى أن وجدت المكتب مغلقاً. حين قرر شارد الذهن أن يفعل شيئاً طيباً تعب ولم يُفلِح. لكنك كالعادة تُطيِّبين الأمر، فلا يخيب الأخرق أبداً.
في غيابك أترجح بين وحدة أستوحش فيها وبين اختلاط يحدث أن أرغب بالفرار منه عائداً إلى صومعتي. أفكر في أن العائلة هي الحل لهذا الترجح، أنها الجزء الصغير من المجتمع الذي نكون فيها لوحدنا ومعاً في الوقت نفسه، الجزء الذي يحمي الخصوصية ويلبي الحاجة الاجتماعية معاً. كنت أحدّثك عن أشياء أو عن أشخاص، وأدرك أن من حقي في حضورك أن أخطئ وأتجاوز، أن أكون جائراً وأن أتساهل، وأن أتردد وأناقض نفسي. بعد قليل أغير رأيي، أتراجع، كأنما احتجت لأن أقوله لك كي أجرب احتماله قبل أن أتراجع عنه. كنت أقرأ تعابير وجهك: غير راضية عمّا تسمعين، تعترضين، وتجدين دائماً ألطف طريقة لتسهيل تراجعي. العائلة مكان للّوم المحب أيضاً، ضمير إضافي. هل كنت أقوم بدور مماثل لك؟ أرجو ذلك، وأظنه. كنا نساعد بعضنا على التغلب على انفعالاتنا الأولى.
كنتِ عائلتي يا سمور وكنتُ عائلتك، واحة من اثنين، حل للوحشة وللحاجة إلى الخصوصية معاً. ضميرين لبعضنا.
تجرحني وأعاقب نفسي بتذكرها في كل وقت عبارة كان يصادف أن تقوليها للجارة وقت كانت تدق بابنا لتطلب منك أن تنضمي إليها في شرب المتة: ياسين بزيارة عندي! كان هذا تعليقاً على أن المذكور يقضي الوقت بالأيام في غرفته، منشغل الذهن، يعمل ولا يكاد يتكلم.
ولا يكاد يقول كلاماً عاطفياً. أَنحدرُ من قوم لا يجيد الرجال بينهم التعبير عما في قلوبهم. ليس حتماً لأننا قساة يا سمور، أنت تعرفين ذلك جيداً، ولكن لأننا نستر هشاشة دواخلنا بالصمت، لأننا نخاف ما يتضمنه الحب من انكشاف. حتى أننا صرنا نخاف من الحب ومن النساء فعلاً. فهنَّ مطلّعات على ضعفنا الذي لا يمكن إخفاؤه عنهن إلى النهاية، ولا يبدو أنهن يحمين قلوبهن مثلما نفعل. لاحظت مراراً وتكراراً أن النساء، في بيئتنا وغيرها، أشجع من الرجال، وليس في الحب وحده.
في غيابك تتوزع حياتي بين وقت للعمل أكون فيه وحيداً، وحياة اجتماعية بين أصدقاء ومعارف، ثم حياتي معك. هذه حين أكون وحيداً، وهو الغالب، لكنها تختلط بالعمل وحتى بالحياة الاجتماعية والعامة أحياناً. أتدبر أمر مزيج الحب والحزن حين تكونين معي وأنا وحيد. أتدبره بمشقة أكبر حين لا أكون وحيداً، وخاصة حين يحدث أن أتكلم عنك أمام جمع.
ولا تكون الوحدة مُكئِبة أكثر مما حين أتسوّق، أشتري طعاماً ولوازم لبيتي. كأن ما في هذا الفعل من تعلق بالحياة يشحذ شعوري بالذنب في غيابك. أغصُّ مثل أمي حين يكون أحد أبنائها غائباً: كانت لا تستمتع بطعام أو شراب، تغص فعلاً. وأحيانا يفرض الاكتئاب حضوراً ثقيلاً. لكن لا تشغلي بالك يا سمور. لم أَصِر «السيد اكتئاب»، مثل صديقتنا المختفية من سنين. اكتئابي ظل للاستماتة. في غيابك مستميت أكثر من قبل. أفكر في أنه تتلاقى في الاستماتة الشجاعة والحزن، حزن لهول خسائرنا. نقاتل ونحن نبكي. يعرف المستميت أنه لن يتوقف. يجد في داخله، وفي صورتك في خياله، وفي أصدقائه، من الطاقة ما يساعده على الاستمرار.
أرجو لاسمك أن يُحيل إلى كفاح بطولي ومستميت، أن يكون رمزاً لصراع من أجل الحرية والعدالة والكرامة، أن يكون الحزن مجرد لحظة في صراع شجاع وكريم. وأن تكوني غائبة هذا الغياب الأسطوري، فهذا يجعل من قضيتنا قضية معرفة وحقيقة، فوق كونها قضية عدالة وحرية. تعرفين أن ما كنتُ أطلبه لنفسي هو المعرفة أكثر من أي شيء آخر. بعد غيابك صرت أتشكك في حكمة ذلك. ما يُطلَب هو الكرامة والحياة الكريمة وفعل الخير. هذا يُفترض أن يكون غرضَ المعرفة ومعناها كذلك. أن أبحث عنك، أن أعرف عنك، يلبي هذا المعنى، يمنحه الدافع الأقوى، ويجعل المعرفة فعل عدالة وكرامة. فيما مضى، ربما أخذني طلب المعرفة بعيداً، جعلني لا أَقَرُّ على حال. لكن طلب المعرفة نفسه هو ما صرتِ أنتِ اسماً له يا سمور. صار اسمك اسماً لما أريد أن أعرف. أنت الغائبة المجهولة التي تُطلَب معرفتها.
ربما تُخلِّص المعرفة طالبها أو تدمِّره، لكن كابوس من يريد أن يعرف هو ألّا يعرف.
ألّا يعرف أبداً.
موقع الجمهورية
————————————-
منظمات حقوقية تطالب معرفة مصير سميرة خليل ورفاقها المغيبين
طالبت عدة منظمات حقوقية بمعرفة مصير سميرة خليل برفقة ثلاثة زملاء (رزان زيتونة، وائل حمادة وناظم حمادي).
وجاء في البيان الذي أصدرته عدة منظمات حقوقية ومجتمع مدني سوري غير حكومية، الثلاثاء، أنه “منذ ست سنوات تعرض المقر المشترك لمركز توثيق الانتهاكات، مكتب التنمية المحلية ودعم المشاريع الصغيرة ومجلة طلعنا عالحرية في مدينة دوما (في الغوطة الشرقية شمال العاصمة السورية دمشق) للاقتحام من قبل عناصر مسلحة قاموا باختطاف أربعة من المدافعين عن حقوق الإنسان، رزان زيتونة، وائل حمادة، سميرة خليل وناظم حمادي. تغيرت الأطراف المسيطرة وهجر عشرات الآلاف ولايزال مصير زملائنا مجهولا حتى اليوم”.
وطالب البيان المجتمع الدولي والأمم المتحدة الاضطلاع بمسؤولياتهم بالدفاع عن حقوق الإنسان والعمل الجدي للكشف عن مصير المفقودين والمعتقلين في سوريا.
بيان مشترك حول مصير المفقودين والمعتقلين والمغيبين في سوريا وضمان حرية وسلامة المدافعين عن حقوق الإنسان
منذ ست سنوات تعرض المقر المشترك لمركز توثيق الانتهاكات، مكتب التنمية المحلية ودعم المشاريع الصغيرة ومجلة طلعنا عالحرية في مدينة دوما (في الغوطة الشرقية شمال العاصمة السورية دمشق) للاقتحام من قبل عناصر مسلحة قاموا باختطاف أربعة من المدافعين عن حقوق الإنسان، رزان زيتونة، وائل حمادة، سميرة خليل وناظم حمادي. تغيرت الأطراف المسيطرة وهجر عشرات الآلاف ولايزال مصير زملائنا مجهولا حتى اليوم.
لأجلهم ولأجل آلاف المغيبين والمعتقلين في سوريا، نجدد اليوم، نحن المنظمات الموقعة أدناه، التزامنا بالعمل بكافة السبل الممكنة للكشف عن مصيرهم والدفاع عن حقوقهم في العدالة والمحاسبة، ومحاربة الإفلات من العقاب، كشرط ضامن أساسي لبناء دولة ديمقراطية قائمة على فصل السلطات وحماية حقوق الإنسان والمواطنة، يسودها القانون في سوريا.
وبينما تتواصل الجهود سعيا نحو الحقيقة والعدالة ومحاسبة مختطفيهم ومرتكبي كبرى الجرائم ضد الإنسانية في سوريا؛ تواصل سلطات الأمر الواقع على امتداد الأراضي السورية تمسكها بسياسات الخطف والإخفاء القسري والاعتقال التعسفي طريقة اساسية لإخفاء جرائمها بمزيد من الجرائم. ومع استمرار ممارسات التغييب ضد مدافعين عن حقوق الإنسان في سوريا من قبل أطراف الصراع، تتسارع الخطوات نحو الحل السياسي.
إلى هذا، نذكر الجهات والدول الضامنة لمفاوضات الحل السياسي في سوريا أن الكشف عن مصير المفقودين، إطلاق سراح المعتقلين وضمان العدالة ومحاسبة مرتكبي كبرى الجرائم ضد الإنسانية، يمثل الضمان الأمثل لوضع حد لثقافة الإفلات من العقاب، ووضع حجر الأساس الأول لإرساء أي شكل من أشكال الاستقرار والسلام المستقبلي في سوريا والمنطقة.
من هنا، نؤكد نحن المنظمات الموقعة أدناه على التالي:
متابعتنا السعي للدفاع عن حقوق كافة المواطنين السوريين الأساسية والسعي نحو كشف الحقيقة وإرساء العدالة والعمل لمحاسبة المسؤولين عن الجرائم الأكثر خطورة.
متابعتنا السعي لإرساء آلية محاسبة شفافة وعادلة ووطنية بضمانات دولية تنظر في الجرائم وضمان المحاسبة والتعويض، وعدم التكرار، كضامن أساسي لقيام سلام مستدام في سوريا.
مطالبتنا الدول والجهات الضامنة لخطوات بناء الحل في سوريا بتحمل مسؤولياتها تجاه انتاج حل سياسي يؤسس للسلام المستدام من خلال؛ إعطاء الأولوية لخطوات بناء الثقة وعلى رأسها الكشف عن مصير المغيبين والمعتقلين في سوريا، الضغط على كافة أطراف الصراع للالتزام والتعاون.
مطالبتنا المجتمع الدولي والأمم المتحدة الاضطلاع بمسئولياتهم بالدفاع عن حقوق الإنسان والعمل الجدي للكشف عن مصير المفقودين والمعتقلين في سوريا وضمان حرية وسلامة المدافعين عن حقوق الإنسان لضمان إطلاق عملية سياسية تؤسس لقيام الدولة الديمقراطية في سوريا.
وعليه نوقع نحن:
شبكة حراس
حمله من آجل سوريا
“شمل” تحالف منظمات المجتمع المدني السوري
رابطة الصحفيين السوريين
آكتيف واتش
رابطة عائلات قيصر
أورنامو
سوريون من أجل الحقيقة والعدالة
إتحاد المنظمات الألمانية – السورية
شبكة المرأة السورية – نساء شمس
إنترناشيونال ميديا سوبورت
شبكة سوريا القانونية في هولندا
الفيدرالية الدولية لحقوق الإنسان
عدالة “العيادة القانونية”
الجمعية المغربية لحقوق الانسان
لجنة حقوق الأنسان اللاتفية
الرابطة الجزائرية للدفاع عن حقوق الإنسان
مؤسسة الحق للدفاع عن حقوق الانسان
الرابطة السورية المواطنة
مركز الخليج لحقوق الإنسان
الشبكة السورية لحقوق الإنسان
مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان
الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان
مركز الكواكبي للعدالة الانتقالية وحقوق الانسان
العدالة من أجل الحياة
مركز تفعيل الحقوق
الفيدرالية الأورومتوسطية ضد الاختفاء القسري
مركز توثيق الإنتهاكات في سوريا
اللجنة الكردية لحقوق الانسان / راصد
مركز وصول لحقوق الإنسان
المركز السوري للإعلام وحرية التعبير
مساواة
المركز العربي لحقوق الإنسان في الجولان
مع العدالة
المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان
مكتب التنمية المحلية و دعم المشاريع الصغيرة
المركز اللبناني لحقوق الانسان
منَا لحقوق الإنسان
المكتب الدولي الكازاخي لحقوق الإنسان وسيادة القانون
منتدي الشقائق العربي لحقوق الانسان
المنظمة الدولية لمناهضة التعذيب
منظمة العناية بحقوق الإنسان – اريتيريا
المنظمة المغربية لحقوق الإنسان
منظمة باكس للسلام
الميزان
منظمة برجاف
النساء الآن من أجل التنمية
منظمة دولتي
بدائل
منظمة رصد الإفلات من العقاب
بيتنا سوريا
منظمة كش ملك
تجمع المحامين السوريين
نادي حقوق الإنسان
تحالف عائلات المختفين قسرا بالجزائر
نوفوتوزون
جمعية آسو لمناهضة العنف ضد المرأة
وحدة المجالس المحلية
جمعية دعم الإعلام الحر
——————————
الحكاية لمقاومة التغييب/ صادق عبد الرحمن
في التاسع من كانون الأول (ديسمبر) عام 2013، داهمت مجموعة مسلحين ملثمين مكتب مركز توثيق الانتهاكات في مدينة دوما في غوطة دمشق الشرقية، واختطفت رزان زيتونة وسميرة الخليل وناظم حمادة ووائل حمادي. وبعد مرور ست سنوات على هذه الواقعة، لا يزال مصير الأربعة مجهولاً، لا يزالون متروكين في عالم الغيب الرهيب، العالم الذي يلفّ مصير آلاف السوريين والسوريات، والذي اجتهدت في نسج خيوطه ورفع أسواره قوى متنوعة، على رأسها نظام الأبد والإبادة الأسدي، وتنظيمات وجِهات أخرى من بينها جيش الإسلام، المتهم بارتكاب هذه الجريمة فائقة الخسّة والنذالة، وغيرها كثيرٌ من جرائم الاختطاف والتعذيب والقتل.
والمُغيَّبون الأربعة هم من المناضلين السوريين المعروفين، ناضلوا قبل الثورة السورية وبعدها في مواجهة نظام الأسد، وكانوا وقت ارتكاب الجريمة قد اختاروا أن يعملوا من دوما الخارجة عن سيطرة النظام وقتها، يقدمون فيها كل ما يستطيعونه من عون، ويعملون خصوصاً على توثيق الانتهاكات التي يتعرّض لها السوريون، سواء على يد نظام الأسد أو على يد غيره، ولعلّ هذا ما أثار حفيظة الخاطفين الذين كانوا يعملون على بناء سلطتهم وإحكام سيطرتهم على حياة الناس ومصائرهم في دوما.
كانت رزان زيتونة قد تلّقت تهديداً مكتوباً بالقتل من قبل جهة لم تعلن عن نفسها صراحة وقت التهديد، كما أن إطلاق نار تهديدي كان قد وقع أمام المكتب، ولم يكن لدى رزان شكّ في أن المسؤولين عنه هم عناصر في جيش الإسلام؛ كان هذا في أواخر أيلول (سبتمبر) 2013، أي قبل الاختطاف بنحو شهرين ونصف. ولم يكن جيش الإسلام وقتها هو الطرف المسلّح الوحيد الموجود في الغوطة الشرقية، لكنه كان الجهة الأوسع تنظيماً والأكثر سيطرة في مدينة دوما، وكان قد بدأ ببناء سلطته وتعزيزها بجهاز أمني صغير آخذ في التوسع، وبشبكة من السجون العلنية والسرية الآخذة بالتوسع أيضاً، ولهذا بالتحديد كان مستبعداً أن تتمكن أي جماعة مسلحة من تنفيذ عملية اختطاف كهذه في دوما دون علمه إو إذنه أو شراكته، أو دون أن يكون قادراً على المساعدة في كشف تفاصيل الجريمة على الأقل.
هذه كانت بالذات القرينة الأولى على تورطه في الجريمة، فجيش الإسلام لم يقدّم عوناً من أي نوع، ولم يَقُم بإجراء أي تحقيق فعلي أو زيارة للمكتب بعد وقوع الجريمة، وكانت ردوده دائماً تنصبّ على المراوغة ورفض أي اتهام موجه له، ولعلّ من أشهر تلك الردود المُراوِغة، ما كان قد قاله زهران علوش بعد نحو ثمانية أشهر من الاختطاف، عن أن جيش الإسلام أجرى تحقيقات قادته إلى «أطراف خيوط» تتعلق ببعض «الاتجاهات الخارجية»، ليتحوّل بعدها إلى مطالبة الحاضرين بالسؤال عن «نساء المسلمين» في سجون الأسد بقدر أسئلتهم عن رزان زيتونة، في مزاودة رخيصة وتهرّب واضح المسؤولية. طبعاً، لم يعلن جيش الإسلام بعدها أياً من نتائج تحقيقاته و«خيوطه» المزعومة تلك.
لكن هناك قرائن أخرى أكثر أهمية من هذه المراوغات، أبرزها أن شخصاً يدعى حسين الشاذلي اعترف لاحقاً في تحقيقات أجراها القضاء المحلي في الغوطة بأنه هو من كان قد كتب رسالة التهديد لرزان زيتونة، وأنه كان قد كتبها بأمر من أبو عبد الرحمن سمير كعكة، الشرعي في جيش الإسلام. وفوق هذا، قام زهران علوش بإطلاق سراح الشاذلي من سجنه بالقوة لاحقاً، مُعرِقلاً أعمال التحقيق، وقاطعاً بذلك «أطراف الخيوط» التي يمكن أن تقود إلى كشف الجُناة وتحرير المخطوفين.
إذا لم تكن هذه الوقائع المُثبَتَة قرائن على مسؤولية قيادة جيش الإسلام عن الجريمة، فما هي الوقائع التي تصلح أن تكون قرائن على مسؤولية مرتكبي أي جريمة في الدنيا إذن؟
وليست هذه هي القرائن الوحيدة على كل حال، بل هناك قرائن غيرها، كما أن هناك تفصيلاً أوسع بخصوصها في نص حمل عنوان؛ لماذا زهران علوش هو المتهم، كتبه ياسين الحاج صالح، زوج سميرة الخليل وصديق رزان ووائل وناظم. ومع مرور الأشهر والسنوات، ومع استمرار جريمة التغييب، راحت القرائن تصبح أكثر قوة وتماسكاً، وواصل قادةٌ وأشخاصٌ في جيش الإسلام، من بينهم زهران علوش نفسه، الردّ على كل المبادرات والأسئلة والرسائل الموجهة لهم بنفي التهمة أو المراوغة أو التجاهل التام، ومن بينها مبادرة حملت اسم نداء إلى من يهمه العدل، دعت في أيار (مايو) من العام 2015 إلى إطلاق عملية قضائية بخصوص الجريمة، ولم يتم الرد عليها مطلقاً، حالها كحال رسالة تم توجيهها إلى قيادة جيش الإسلام في كانون الثاني (يناير) من العام التالي 2016، بعد مقتل زهران علوش مؤسس جيش الإسلام، وتولّي أبو همام البويضاني قيادة التنظيم خَلَفاً له.
كان علوش قد قُتِلَ أواخر العام 2015، وبعد مقتل زهران كما قبله، واصلت قيادة جيش الإسلام تجاهلها لكل النداءات بخصوص الكشف عن مصير المُغيّبين، لكنها وجدت نفسها على ما يبدو مضطرة لتقديم ردّ ما بخصوص القضية والاتهامات التي تطالها بالمسؤولية عنها. ولم يوجّه جيش الإسلام ردّه هذا إلى عموم السوريين ولا إلى ذوي المخطوفين ورفاقهم، بل قام «المكتب الحقوقي» في جيش الإسلام بإعداد ملفّ عن القضية دون أن يقوم بنشره في أي وقت، وحصل ياسين الحاج صالح على نسخة منه، وقام بنشرها على صفحته في فيسبوك في تشرين الثاني (نوفمبر) من العام 2016. والأرجح أن هدف جيش الإسلام من إعداد الملفّ كان محاولة تبرئة ساحته وتبرير نفسه أمام داعميه، أو أمام جهات دولية يريد التواصل معها، وإلّا ما هو تفسير إعداد ملفّ كهذا دون القيام بنشره للعموم؟!
على أي حال، لم يحمل ملف جيش الإسلام ذاك شيئاً غير مزيد من المراوغة والتضليل، فهو أراد أن يحوّل المسألة من قضية عامة إلى قضية خلافات شخصية وإيديولوجية، كما أنه تناول أشياء كثيرة ليس من بينها القرينة الأساسية المتعلقة بحسين الشاذلي واعترافاته ثم إطلاق صراحه عنوة على يد زهران علوش، وفيه أيضاً خلط متعمد للحقائق بعضها ببعض، على نحو ما يبيّن ياسين الحاج صالح في تفنيده المطول لهذا الملفّ، الذي يتضمن، فضلاً عن التفنيد، إعادة شرح للقضية وأبعادها وظروفها والقرائن المتوافرة بشأنها.
بعد حرب الإبادة الهمجية التي شنّها نظام الأسد بدعم روسي وإيراني على الغوطة الشرقية، تمكنت قوات النظام من فرض سيطرتها على المنطقة، وتهجير عشرات الآلاف من أبنائها إلى الشمال السوري في ربيع العام 2018، ومن بينهم قيادة جيش الإسلام وجزء من مقاتليه، لينتقل التنظيم إلى مناطق سيطرة تركيا وحلفائها في ريف حلب.
وليس ثمة مجال للشك في أن جزءاً من قيادة جيش الإسلام وبعضاً من عناصره يعرفون تفاصيل الجريمة ويعرفون مصير المُغيَّبين، لكن أياً منهم لم يَقُل شيئاً حتى اليوم، في استمرار لسلوكهم الإجرامي بالغ الدناءة. وفوق هذا، لم تَقُم هياكل المعارضة السورية الرسمية طوال هذه السنوات، قبل مقتل زهران وبعده، وقبل الخروج من الغوطة وبعده، بأي ضغط على قيادة جيش الإسلام، بل واصلت احتضانهم في مؤسساتها وهياكلها، رغم سجلّهم الإجرامي الرهيب، الذي يشمل حروباً داخلية ذهب ضحيتها المئات، واغتيالات وأعمال خطف، وإنشاء منظومة قمع وشبكة سجون مروعة في الغوطة الشرقية، وفشلاً ذريعاً على كل صعيد، وأمثولة عن الشبق للسلطة والمال، وعن احتقار كل مبادئ العدالة والحرية والديمقراطية. ومن بين هؤلاء كان محمد علوش، عضو المكتب السياسي في جيش الإسلام، الذي سبق أن تم تعيينه «كبيراً للمفاوضين» في أحد وفود المعارضة، وهو الذي سبَقَ عن أن حرّضَ على رزان زيتونة قبل اختطافها بأسابيع.
لم تَقُم أي جهة ذات سلطة ونفوذ بمساءلة قيادة جيش الإسلام أو الضغط عليها من أجل تحطيم عالم الغيب الذي يحيط بالمخطوفين الأربعة، ولا بخصوص بقية الجرائم المروعة التي ارتكبوها في الغوطة ويبدو أنهم يواصلون ارتكاب مثيل لها في عفرين، بما في ذلك الفصائل التي تزعم أنها استمرارٌ لثورة السوريين ضد نظام الأسد، والسلطات التركية صاحبة اليد الطولى في مناطق تواجد جيش الإسلام الجديدة. وفوق هذا، يتم احتواء جيش الإسلام في مشروع «الجيش الوطني» الذي ترعاه تركيا، فيما تواصل قيادته بناء إمارتها الاقتصادية والعسكرية، وتشارك بحماس في معارك تركيا في الشمال السوري.
لا تسقط قضايا التغييب بالتقادم، ولن نسمح أن يلفّ النسيان هذه القضية وغيرها من جرائم التغييب والاختطاف في سوريا. من أجل العدالة، ومن أجل كرامة السوريين وقضيتهم، سنواصل بإصرار مطالبتنا بالكشف عن مصير رفاقنا، وسنواصل العمل بشكل حثيث على محاسبة المسؤولين عن هذه الجريمة، وعلى تذكيرهم وتذكير العالم بالعار الذي يجلّلهم، عار ارتكاب واحدة من أكثر الجرائم بشاعة، وعار الشراكة مع نظام الأسد في تحطيم حياة السوريين وآمالهم.
لقد راهن المجرمون على أن تضيع جريمتهم وسط زحام القتل والتدمير والتشريد الذي انسكب على سوريا خلال هذه السنوات، وليس صعباً أن نجد بين أنصارهم والمدافعين عنهم من يمتعضون من «التركيز» على قضية المخطوفين الأربعة بالذات، وسط كل هذه الأهوال، أسوةً بالزعيم المؤسس للجماعة المجرمة، زهران علوش، حين أجاب على الأسئلة عن مصير المخطوفين بإبداء امتعاضه من نسيان «نساء المسلمين» في سجون النظام. «جريمةٌ في وجه جريمة، جريمةٌ مقابل أخرى، وطالما أن هناك مجرماً آخر فلنكن كلنا مجرمين إذن»؛ يقول لسان حالهم.
في الواقع، تحمل رمزية قضية رزان وسميرة ووائل وناظم كلّ المعاني المناهضة لهذا المنطق الإجرامي، فهُم ناشطون مديدون ضدّ الطغيان والاستباحة، ومن غيّبهم يُساءَل لا يُسأل. لسوء حظّ الخاطفين، لسنا قليلين نحن الذين لم ولن ننسى، الذين نضع قضية رفاقنا المخطوفين في قلب قضيتنا الكبرى من أجل حريتنا وكرامتنا وذاكرتنا. أجزاءُ من كلٍّ منا مخطوفة مع سميرة ورزان ووائل وناظم، وستبقى أجزاؤنا الناجية مُكرَّسة لملاحقة من غيّبهم، مهما طال الزمن ومهما تبدّلت الأحوال، من أصغر «مُعفِّش» في عفرين، وحتى «كبير المفاوضين» الأسبق.
موقع الجمهورية
===================
حرب الوكالة تُحيي جيش الإسلام/ عروة خليفة
في العاشر من نيسان (أبريل) 2018، وصلت حافلات مُهجَّري الغوطة إلى معبر أبو الزندين قرب مدينة الباب في ريف حلب، ليتفاجأ المُهجَّرون بسيارتي دوشكا تقفان عند بوابة المعبر وترفعان أعلام جيش الإسلام، ليتضح لاحقاً أن جيش الإسلام قد استعار السيارتين لمدة أسبوع من أحد الفصائل بهدف إيقافهما على المعبر ورفع أعلامه عليهما، لتوجيه رسالة للمهجرين؛ «إننا موجودون هنا أيضاً!».
في ذلك العام، وبعد احتلال النظام لكامل الغوطة الشرقية وتهجير الآلاف من سكانها، انتقل قسم كبير من عناصر جيش الإسلام وقياداته نحو الشمال، تحديداً إلى مناطق النفوذ التركي في ريف حلب الشمالي، والتي عادة ما تتم تسميتها بمنطقة «عملية درع الفرات». انتقال التنظيم إلى هذه المنطقة، وليس إلى إدلب، كان نتيجة خلافات وصراعات دامية بين جيش الإسلام وجبهة النصرة في الغوطة، الأمر الذي اعتبره قادة ما تبقى من جيش الإسلام تهديداً على وجودهم في حال انتقلوا إلى مناطق سيطرة عدوهم القديم، لكن يمكن التحقق اليوم من أن الأمر يتجاوز ذلك.
يعود تأسيس تنظيم جيش الإسلام إلى شهر أيلول (سبتمبر) 2011، بعد ستة أشهر من انطلاق الثورة السورية، وبينما كانت الاحتجاجات في سوريا لا زالت بشكل رئيسي ضمن الإطار السلمي. تشكّلت وقتها مجموعة عسكرية من سلفيين في دوما عُرِفَت باسم «سَريّة الإسلام»، وكانت الحلقةُ الأولى التي تكّونت منها هذه المجموعة تضم أشخاصاً ينتمون إلى التيار السلفي الدعوي (العلمي) بشكل رئيسي، وإلى عائلات دومانية اشتهرت بانتماء أبنائها إلى التيار ذاته. كانت الخلفية المتشابهة التي جمعت عناصر تلك المجموعة عاملاً رئيسياً في نمو القشرة الصلبة المحيطة بهذا التنظيم، إذ بغياب أي خلافات فكرية بين مؤسسيه، كانت الخلافات على السلطة والنفوذ واضحةً للغاية بين عناصره، الذين قاموا بتصفية بعضهم بعضاً خلال سنوات عمر هذا التنظيم.
على رأس تلك المجموعة، كان زهران علوش، الخارج منذ قرابة الشهرين من سجن صيدنايا؛ وإلى جانبه شخصيات مثل عصام بويضاني، القائد الحالي للتنظيم، وأبو أنس كناكري (الذي سيترك التنظيم عند الخروج من دوما ويستقر في تركيا)، وسمير كعكة الرجل الثاني في التنظيم حالياً (أو الأول… لا نعرف بدقة). وقد ضمّت هذه المجموعة شخصيات أخرى من عائلتيّ دلوان والأجوة أيضاً، وكانت نواة تنظيم سيجمع أفكار السلفية العلمية التي استقت تعاليمها من أفكار شيوخ سعوديين، مع أفكار تنظيمية تحت مظلة فكرة «الجهاد»، ومع مزيج من الروابط الجهوية بين أبناء عائلات كبيرة ومعروفة في دوما؛ كلّ ذلك ساعد على تشكّل هذا التنظيم بصيغته المصمتة، التي حافظت على بنيته ووجوده طوال تلك السنوات.
طوال العام 2012 وحتى بداية 2013، ومع تحوّل السَرّية إلى «لواء الإسلام»، لم يكن هذا التنظيم القوة العسكرية الأكبر في دوما، إذ كان فصيل «شهداء دوما» بقيادة أبو صبحي طه هو الذي قاد تحرير دوما من قوات النظام، واعتُبر خلال ذلك الوقت الفصيل الدوماني الرئيسي، خاصةً أنه تشكّلَ على أساس الصلات العائلية في المدينة من أبناء كبرى العائلات. لكن ذلك لن يستمر بوجود منافس رئيسي على زعامة دوما والغوطة هو جيش الإسلام. المرة الأولى التي تعرفتُ فيها على «لواء الإسلام» كانت في الشهر الثالث من العام 2013، عبر بروشورات تم توزيعها على كتائب الغوطة باسم التنظيم، تمنع التلفظ بألفاظ «الكفر» وتوضح عقوباته في الفقه الإسلامي، والتي كان من بينها القتل. وقد كان 2013 عاماً جوهرياً في تطور جيش الإسلام، إذ كان قد شهد انهيار الإطار الوطني للصراع في سوريا، ودخول قوات تتبع ميليشيا حزب الله اللبناني وميليشيات إيرانية «شيعية» أخرى، وهو ما كان فرصة مناسبة جداً لجيش الإسلام وتياره، الذي لخَّصَ برنامجه منذ البداية في أنه يقوم على تمثيل «السنّة» في صراع طائفي أوسع، معتبراً هذا الصراع أصل المشكلة في سوريا، وسببها، ومصرحاً بأن «الديموقراطية تحت قدمه» على لسان علوش نفسه. كان ذلك العام حاسماً بالنسبة لنمو وتوسّع جيش الإسلام، وهيمنته لاحقاً، وكان قد شهد ترفيع لواء الإسلام لنفسه إلى «جيش الإسلام» في 29 أيلول (سبتمبر) 2013.
اتّبَعَ التنظيم أسلوبين رئيسيين في إبعاد خصومه؛ الأول هو العمل الأمني عبر الاغتيالات والاختطاف والاعتقالات وتوجيه التهديدات بالقتل، والثاني هو القيام بعمليات العسكرية لتصفية الفصائل المنافسة له على زعامة دوما والغوطة. وقد كان الناشطون السياسيون والمدنيون في الغوطة الهدف الرئيسي لعملياته الأمنية، ولا يمكن حصر جميع تلك العمليات نتيجة عدم كشف العديد منها، إلا أن اختطاف رزان زيتونة وسميرة الخليل ووائل حمادة وناظم حمادي من مكتب مركز توثيق الانتهاكات في دوما، في مثل هذا اليوم من العام 2013، كان أحد أبرز تلك العمليات، التي ظهر تورط جيش الإسلام الواضح فيها نتيجة قرائن عديدة لا يتسع المكان لذكرها، ويمكن قراءة تفاصيلها في النص المطوّل الذي كتبه ياسين الحاج صالح، والمعنون؛ تفنيد ملف «المكتب الحقوقي» التابع لـ «جيش الإسلام» عن جريمة التغييب القسري لسميرة ورزان ووائل وناظم.
كانت تصفية النشاط السياسي والمدني السلمي في الغوطة هدفاً واضحاً لجيش الإسلام، وكانت حادثة تغييب المخطوفين الأربعة ضربة كبيرة لهذا النشاط في دوما والغوطة، أدت لاحقاً إلى تراجعه بشكل كبير نتيجة الخوف من الخطف أو الاغتيال الذي مارسته أذرع التنظيم الأمنية عبر عمليات عدة تم الكشف عن بعضها لاحقاً.
لكن إحكام جيش الإسلام لقبضته على دوما والغوطة ما كان ليكتمل دون القضاء على فصائل الجيش الحر في المنطقة، وعلى رأسها في ذلك الوقت فصيل شهداء دوما، الذي كان قد شَكَّلَ، في خريف العام 2014، فصيل «جيش الأمة» من ائتلاف فصائل محلية في دوما وحرستا ومحيطهما. كان القضاء على جيش الأمة ضرورياً كي يتخلص جيش الإسلام من منافسه المحلي الأبرز، وأدّى الشبق السلطوي عند جيش الإسلام إلى معارك انتهت بحلّ جيش الأمة ولواء شهداء دوما خلال العام 2015، ومقتل أبو علي خبية نائب قائد جيش الأمة، الذي قام جيش الإسلام بإعدامه علناً في ساحة الغنم في دوما، واعتقال قائد جيش الأمة أبو صبحي طه، الذي ظلّ في سجون جيش الإسلام حتى إطلاق سراحه قبيل سقوط الغوطة بقليل عام 2018.
أدّت تلك العملية إلى سيطرة جيش الإسلام بشكل كامل على دوما، لكنها تركت نزاعاً عميقاً لم يُحلّ بين الجيش وفصائل في مناطق أخرى من الغوطة، وخاصة في مدينة حرستا، وهو ما قاد في النهاية إلى توسّع جيش الإسلام في محيطه الشرقي والجنوبي نحو منطقة المرج والنشابية بالإضافة إلى سيطرته على دوما، ثم رسم خطوط تماس بين فصائل الغوطة بعد معارك دامية ضد فيلق الرحمن، الفصيل ذي الخلفية الإسلامية الصوفية، الذي كان مسيطراً على القطاع الأوسط في الغوطة، الذي يضمّ عربين وعين ترما وسقبا وحمورية وبلدات أخرى.
قبيل تلك المرحلة وبالتوازي معها، كانت حرب جيش الإسلام الطائفية واضحة للغاية، فبعد العملية العسكرية التي قام بها التنظيم ضمن تحالف مع جبهة النصرة وفصائل أخرى نحو ضاحية عدرا العمالية، كانت عمليات القتل الجماعي والاختطاف التي مارسها جيش الإسلام تُظهِرُ طاقة إبادية شديدة الوضوح لدى هذا التنظيم، وقد ارتُكِبَت هناك جرائم لم يتم الكشف عن معظمها، وذكرت مصادر متطابقة أنّ من بينها إحراق مدنيين أحياء في الأفران الآلية، في جريمة موصوفة إبادية الطابع، لا تشبه في وحشيتها إلا جرائم ميليشيات النظام الطائفية ومجازرها في الحولة وقرية البيضا في بانياس وغيرها.
لم يتمكن جيش الإسلام من توسيع سيطرته أكثر من ذلك، وهو ما دفعه إلى الاستقرار في دوما ومحيطها، لتبدأ عندها عمليات التصفيات الداخلية، إذ بدأت أصوات منشقة عن جيش الإسلام تتهم قيادات فيه، على رأسهم عصام البويضاني، بارتكاب اغتيالات ضد قيادات أخرى ضمن التنظيم ذاته، من بينها زهران علوش مؤسس التنظيم نفسه، إذ اتّهمَ أبو أنس كناكري تلميحاً وأحياناً تصريحاً قيادات في جيش الإسلام بالوقوف خلف اغتيال زهران علوش، الذي يقول أصحاب هذا الرأي إنه لم يقتل في غارة روسية، بل اغتيِلَ بمسدس ضمن اجتماع، ليتم الإعلان عن موته بغارة جوية، مشيرين إلى أن جثته لا تظهر أي آثار قصف، وأنها كانت بحالة سليمة على نحو لا يتوافق مع قتله بقصف جوي على موقع اجتماع كان يجريه حينها.
تُظهرُ هذه النزاعات والاتهامات أن التصفيات الأمنية أصبحت سمة غالبة على تصرفات جيش الإسلام، وهي التصرفات التي استمرّت حتى قبيل أيام فقط من خروجه من دوما، عندما تم اغتيال كل من محمد الأجوة ونعمان الأجوة، المسؤولين عن الملف الإداري والمالي للتنظيم، وذلك في الثاني من نيسان (أبريل) 2018، أي قبل أسبوع فقط من تهجير دوما.
في الشمال وبعد التهجير، كانت الفرص محدودة أمام التنظيم شبه المفكك، الذي اضطر لاستعارة سيارتي دوشكا في محاولة لفرض بعض الهيبة على باقي المُهجَّرين المدنيين من دوما والغوطة الشرقية، إلا أن انخراطه المباشر في مشروع الجيش الوطني التركي، الذي سبقه عرض جيش الإسلام لنفسه كفصيل مستعد للانخراط في أي مشروع مهما كان، كانت بمثابة إنقاذ للتنظيم، الذي عادت إليه الحياة بعد افتتاح معسكرات له شمال حلب، ومشاركته لاحقاً مع الفصائل المسيطرة على عفرين بدعم تركي، وسيطرته على مساحات منها بشكل مباشر، ما أعطاه القدرة على الاستمرار مع تدفق الدعم التركي إليه باعتباره جزءاً من القوات المحلية التي أصبحت تابعةً بشكل مباشر لأنقرة، وذلك للمشاركة في تنفيذ مهام في سوريا لا يبدو أن آخرها سيكون العملية العسكرية التركية الأخيرة في الجزيرة السورية.
استمر التنظيم بارتكاب الانتهاكات في عفرين وشمال حلب، وقد انخرط دون توقف للحظة واحدة في عمليات تهجير وقتل واعتقال لأهالي عفرين، ويبدو أن بيئة الحرب بالوكالة هذه تناسب هذا الفصيل، الذي كان يتلقى في البداية دعماً سعودياً غير محدود، وهو يعتاش اليوم على الدعم التركي وعلى ثروات قادته التي تم تكوينها في الغوطة، وتتم مضاعفتها الآن على ما يبدو.
يمكن اختصار سيرة تنظيم بالفعل في جرائمه. في الحقيقة، يشكّل القتل والاغتيال والتغييب والارتزاق هوية التنظيم، الذي بدأ من مجموعة سلفيين قرب دوما، وانتهى إلى تنظيم غير واضح الاتجاه الإيديولوجي، يستولي على أراضي سوريين آخرين في عفرين، ويعلن استعداده المستمر للانخراط في أي قتال لصالح أي جهة تضمن له بعض الثروة والنفوذ.
موقع الجمهورية
———————-
الحرية لكل المعتقلين في سجون الطغاة رزان الثائرة../ ريم زيتونة
كم من الصعب أن نكتب عمّن نحب وأن نختصر سنين طويلة عاشوها ضمن صفحة واحدة!!
حروف معدودة تتحول إلى قصة، أو ربما خبر أو مجرد أسطر في تاريخ طويل بدأ ولم ينته، وقد يمتد سنين عديدة دون أن نذكر جميع التفاصيل أو الأحداث وإنما فقط بضعة كلمات تمتد بمشاعرنا إلى ما لا نهاية إلى المستحيل إلى الحلم ..
ولكنّي ها هنا أكتب عن رزان زيتونة.. شقيقتي التي حبست ضمن زجاجة محكمة الإغلاق ورميت بعيداً في المحيطات، لا أحد يعلم أبداً في أي ميناء هي ولا على أي شاطئ رست، قد تكون قريبة جداً منا، وقد تكون بعيدة، ولكن صوتها العالي ما زال يصدح بالحرية التي ستكسر جدار زنزاتها يوماً وستعود من جديد.
لطالما عاشت رزان ما تؤمن به، فنهج رزان كان واضحاً جداً ومحدداً ومكملا لطريقها الذي سلكته لمدة عشر سنوات قبل انطلاق الثورة، لم يكن مفاجئا أو مخططاً له، وإنما هو مسيرة كاملة لكتاب من المبادئ خطته بنفسها ومشت به إلى يوم تم تغييبها.
استطاعت رزان فرض مصداقيتها على الجميع من خلال صدقها في تعاملها الحر والموثوق وإيثار الآخرين على نفسها، بالإضافة إلى قلمها الحر الذي خط قصصاً عديدة وتقارير حقوقية ومشاعر آنية، وتجسيد كامل للمناداة والدفاع عن حقوق المرأة والطفل ومعتقلي الرأي، كما شهدت لها أبواب وقاعات محكمة أمن الدولة مقارعتها لقاضي التحقيق وجرأتها اللامتناهية للنقاش والمجابهة في حين يرتعد الآخرون من مجرد الفكرة.
احتلت القضية الكردية جزءا من همها ووقفت إلى جانب الأكراد الذين سلبت حقوقهم لعدة سنوات على الأراضي السورية وانتزعت منهم بطاقاتهم واثباتاتهم الشخصية وعوملوا معاملة لا تشبه البشر بأي شيء، وعندما هبت انتفاضة الأكراد التي تسببت بهجوم النظام السوري بآلياته الثقيلة في عام 2004 في القامشلي فاعتقل منهم من اعتقل وقتل من قتل، كانت رزان أول من وقف الى جانب قضيتهم المعزولة والمغيبة إعلامياً والمتكتم عنها، ووثقت الانتهاكات الحاصلة ضدهم وكتبت عنهم.
في بداية الحراك الثوري الذي أعقب ثورات الربيع العربي، شاركت في مختلف الاحتجاجات ووقفت في الصفوف الأولى تغني الثورة وتهتف وتصفق مع الثائريين، ثم توجهت بصوتها للوسائل الإعلامية الغربية والعربية لإيصال صوت المدنيين ووقف “بروباغندا” النظام والدعاية المضادة والأخبار المزورة التي كان إعلاميو النظام يروجون لها كنفي صفة العنف والاعتقال ومجابهة المتظاهرين بالرصاص.
في خلال هذه الفترة اضطرت رزان لترك بيتها الذي تساعدت مع زوجها على تأسيسه خطوة بخطوة آملين بناء عائلة أكبر منتظرين اكتمال دفع أقساط منزلهم الصغير قبل التفرغ لأي التزامات مادية أخرى، وبالتالي لم يسعفهم الوقت لتحقيق حلمهم البسيط كباقي الأزواج وخاصة بعد أن بدأت رزان بالظهور على القنوات الإعلامية بصوتها واسمها الكامل وصورتها، مما هدّد أمنها وأمن زوجها مما اضطرهما الى التنقل من منزل الى آخر كلما شعرا بالخطر أو باقتراب إحدى المداهمات من مكان سكنهما الجديد أو اعتقال أحد المقربين الذي يعلم بمكان سكنهما.
كانت تستبدل البيت الذي تقطنه كل شهرين أو شهر أحيانا، لم تعرف معنى الاستقرار أبداً، ولم تتمكن من عيش حياة طبيعية بعد ذلك اليوم، في كثير من الأيام كانت تفتقد لبعض أساسيات الحياة حين لا يتواجد معها أحد في البيت وكانت تبقى دون طعام أو شراب لفترات طويلة، في بعض الأحيان كانت تشتاق دمشق وحاراتها القديمة، بازدحام أسواقها ورائحة عرانيس الذرة على العربات الجوالة والأطفال الذين يلعبون في الشوارع، حينها كانت تتوجه عند حلول المساء ممشطة الأرصفة في بطء متناغم مع روائح الياسمين دون كلل أو تعب، محاولة أن تحتفظ بقدر المستطاع بعبق دمشق ورائحتها كي تمدّها بالصبر وقوة التحمل ما أمكنها لتكملة مشوارها الثوري.
لاحقاً أيقنت رزان أن النشاط الإعلامي لم يكن كافياً وحده، لذلك عمدت لتقديم المساعدات الإغاثية والمادية للمحتاجين، والنازحين الى أماكن جديدة.
بعد الانتقال إلى الغوطة الشرقية، حيث كان الحرمان الأبدي لوالديَ من أي فرصة لرؤيتها خلسة كما في الأيام الأولى لتواريها عن الأنظار، كان عزاؤهما بأنها قد تكون أكثر أمناً في بيئة حُسبت على الثورة، وفي بيئة أمضينا في حاراتها سنين لا بأس بها، أي أنه نوع من الارتباط الفكري والثقة اللامطلقة بأبناء المنطقة التي لم نتوقع يوماً أن تخطف أمام أنظارهم جميعا دون أي حراك من قبل أي مدني على الأرض.
كانت رزان منذ بدايات الثورة تعلم من خلال حنكتها السياسية، أن طريق النصر طويل جداً، خاصة بعد أن لمست بعض الأخطاء التي مرّ بها الحراك الثوري من التّحول إلى العسكرة التي نجح النظام بالدفع له والترويج لوجوده منذ الأيام المبكرة، إلى انقسام الجيش الحر إلى عدة فصائل مالت إلى التّشدد في انتماءاتها، أدت لسيل من الانتهاكات، ما دفع رزان للكتابة عنها وتوثيقها ضمن مركز توثيق الانتهاكات”VDC” ليصبح عرضة للتهديد من قبل العديد من الفصائل الإسلامية، تماما كما كان مهدّداً من قبل النظام .
نشطت فيما بعد بشكل مستمر لإبعاد فكر المقاتلين ضمن الجيش الحر أو الفصائل الأخرى عن أي أجندات خارجية تابعة لأي تمويل خارجي، سواء بتنظيم بعض التدريبات على حقوقهم وحقوق المدنيين أو عن طريق بعض المشاريع الإغاثية وخلق مشروع وطني لهم في الغوطة الشرقية، لتأسيس نظام مدني تعف الفصائل يدها عن الإدارة المدنية وشرطتها واقتصار مهامها في معاركه العسكرية، والتي لم تكتمل بعد خطفها، وعلى ما يبدو أنها كانت واحدة من الأسباب التي دفعت له.
في خضم الحصار على الغوطة الشرقية، وبالفترة التي عانت من نقص الطحين وقلّة الخبز، بدأت رزان تسعى لأي متبرع من شأنه أن يدفع ثمن الطحين للمدنيين، لم تكن المشكلة في إدخال الطحين بقدر ما كانت انعدام وجود متبرع، أذكر جيداً تواصل عدّة أشخاص واقتراح التبرع لها ولكن في آخر المطاف كان الجميع ينسحب خوفاً أو ربما كنوع من استبدال خطته كمتبرع لأماكن أقل صعوبة، ولن أنسى أبداً عرض السيد الأخضر الابراهيمي لها كي تنضم إليه في لجنته النسائية مبدياً استعداده لتأمين إخراجها من الغوطة وحمايتها من النظام السوري، فكان جوابها “بما أنك تستطيع إخراجي من هنا وبهذه البساطة لم لا تدخل بعض الطحين للغوطة الشرقية بدلاً من ذلك؟”.
قررت التوجه بكلمة بمناسبة اليوم العالمي لحقوق الانسان من أجل تسليط الضوء على الحصار وأملا بإيصال صوت الداخل المحاصر إلى العالم والرأي العام، فلربما تحرك أحد ما لنجدتهم، وقد كانت مسبقا قد أسّست مكتب المشاريع التنموية ودعمت مشاريع النساء كوسيلة لمقاومة الحصار إضافة لعملها بتوثيق الانتهاكات الحاصلة من جميع الأطراف.
من لا يعرف رزان لن يفهم أبداً تمسّكها بالعيش هناك، لم يكن قرار العيش في الغوطة الشرقية قراراً سهلاً، فالحصار والقصف لم يكونا أقل رهبة من خوف الاعتقال في العاصمة دمشق، إلا أنّها وبدافع من رغبتها بمشاركة الناس المحاصرين معاناتهم والقرب من المأساة، تمسكت بهدف تسعى إليه، لإيصال أكبر قدر من المصداقية.
في تاريخ 9 أيلول من العام 2013 تعرضت رزان للتهديد عن طريق إطلاق عدة طلقات نارية أمام منزلها وترك رسالة مكتوبة بخط اليد تضمنت التهديد بالقتل في حال عدم مغادرة المنطقة خلال ثلاثة أيام، فقامت الهيئات المدنية العاملة في الغوطة الشرقية بإصدار بيان إدانة لهذا الفعل، وتم التوقيع عليه من الجميع ونشره على وسائل التواصل الاجتماعي .
كان الجميع يعلم مصدر التهديد، كانت أصابع الاتهام تشير إلى عناصر من جيش الاسلام، خاصة اّن التهديد ترافق مع حملة واسعة ضمن وسائل التواصل الاجتماعي لتشويه سمعتها والتشهير بها، كالحملة التي أطلقها أحد التابعين لإعلاميي جيش الاسلام بأن رزان تقوم باصدار التقارير مقابل مبلغ مادي ضخم ولا تقوم بدفعها للمراسلين.
في 9 كانون الاول من العام 2013، أي في ليلة الاحتفال باليوم العالمي لحقوق الانسان، تم خطف رزان مع زوجها وائل الحمادة وزملائها في المكتب: المحامي ناظم الحمادي والسيدة سميرة الخليل، وكان ذلك ليلاً دون شهود ودون وجود أي أحد يدافع عنهم، ودون أن يسمع جيرانهم أصواتهم، وبذلك غّيبت رزان التي تعتبر فعليا آخر رموز الحراك المدني في الساحة التي أصرت على البقاء ضمن سوريا والحلم برؤية وطنها حراً من الاستبداد، ولكنني مازلت وأصدقائها وكل من آمن بثورتها بانتظارها.
—————————
سميرة الخليل، حاضرة في إيطاليا/ سامي حداد
تصدر اليوم الترجمة الإيطالية لكتاب سميرة الخليل، يوميات الحصار في دوما 2013، والذي صدر باللغة العربية في العام 2016. وقد ترجمه إلى الإيطالية جيوفانا دي لوكا وسامي حداد، وفيما يلي مقدّمة الترجمة الإيطالية لسامي حداد، وهو ناشط سياسي سوري إيطالي وخبير لغوي ومترجم، يُدرِّسُ اللغة العربية في جامعة الدراسات الشرقية في نابولي.
*****
يقال إن في بعض الأماكن هناك أناس لم يصل إليهم أحد، ما زالوا في بيوتهم نياماً، رحلوا بلا ضجيج في غفوة أبدية، رحلوا وتركوا للعالم عاراً أبدياً أبدياً.
بهذه الكلمات وصفت سميرة موت الأشخاص المحاصرين في الغوطة وضحايا هجوم الأسلحة الكيماوية. كلمات كشظايا متناثرة، لقطات خاطفة للمأساة السورية التي تعجز الكلمات عن وصفها، كلمات تروي الموت والتغييب لتحولهما إلى حضور أشد حضوراً من الحضور نفسه، لأن هذه المذكرات بحد ذاتها حضور ينفي أي تغييب قسري أو موت. إنها اتهام وإدانة لخاطفيها وللنظام المجرم وللعالم بأسره، ولكل الذين أغمضوا عيونهم أمام الجرائم المروعة المرتكبة في سورية.
نجحت كلمات يوميات سميرة في تحويل تغييبها القسري، وكذلك تغييب الآلاف من السوريين ومصرعهم على يد النظام وحلفائه والجماعات العدمية، إلى حضور طاغٍ يفضح كل الادعاءات التي تنكر موتنا، موت السوريين «وتجهيل الفاعل ونزع صفة الإجرام وتجهيل المجرم» كما تقول سميرة.
فهذه اليوميات حضور ينقُضُ مزاعم من يعتبر غياب المغيبين موتاً قد يكون أشد قسوة من الموت ذاته، وخلف سطورها وفي أعمق أعماقها يكمن أملنا، ومن خلال هذه اليوميات، أيضاً، تتحول كل الآليات التي انتهجها النظام لقتل الأشخاص وإلغاء وجودهم إلى برهان ملموس لحضور من نوع آخر، هو وجوده الإجرامي وإجرامية كل المجموعات العدمية والمتطرفة، ما يجعل سياسة التدمير والإبادة الممنهجة في سوريا من خلال قتل الأشخاص وكتم أصواتهم واغتيال طموحاتهم بالحرية وبحياة كريمة اعتداءً على الإنسانية بأسرها.
لقد جاء اختطاف سميرة ورزان ووائل وناظم ليكمل محاولة إخماد أصواتهم والقضاء على طموحاتهم وعلى طريقتهم في الوجود، وليتمم بذلك محاولة القضاء على سورية حرة. إن غياب سميرة يرمز إلى تغييب الإنسانية جمعاء، فمع اختطافها اختطفت الإنسانية ومعنى الإنسانية.
إن قصة كاتبة اليوميات لها رمزية بحد ذاتها، فقد اختارت سميرة أن تكون مع المحاصرين، لم يكن في نيتها ربما أن تكتب أي كتاب، لكنها أمام الموت والحصار وكل الأعمال الوحشية التي شهدتها شعرت بضرورة تسجيل ما يحصل أمام عيونها.
فجاءت كلماتها لتكشف عن حقيقة المأساة ولتدحض دعايات النظام. لقد أرادت بيومياتها هذه أن تنقل ما يحدث. لم يكن في متناول يدها أي وسيلة للقيام بذلك إلا كلماتها، على العكس من عدسة التصوير الباردة والمنفصلة عن الحدث التي قد يستخدمها المخرج السينمائي أو الصحفي. لقد عاشت سميرة مأساة الناس ووثقت معاناتهم اليومية، وبحساسية بالغة نجحت في التقاط لمحات إنسانية وسط آلام الحصار الذي اعتبرته أقسى من السجون السورية الرهيبة.
لذا لم تكن الصورة التي نقلتها ثابتة وجامدة مصنوعة من ظلال وأضواء، بل متحركة وحيّة بفضل الكلمات التي تعكس تجربتها الشخصية وقصتها الذاتية. قد لا تفسّر يومياتها الأحداث المفجعة، لكنها ببساطتها تصف ما شعرت به وعاشته، فنجحت في تفنيد المقولة المكررة والمشوهة التي تبناها النظام وحلفاؤه وكشفت رياء العالم.
هكذا اكتسبت تفاصيل الحياة اليومية بكل بساطتها وحميميتها، وربما بفضل هذه الصراحة الصارخة العزلاء، قوة مدمرة. إن قيمة هذه اليوميات نابعة من عفويتها في رواية زخم هائل من المشاعر بحساسية أنثوية منقطعة النظير.
وهذا ما يضفي على العمل خصوصية فريدة مقارنة بكتب أخرى منشورة في إيطاليا عن سورية ألّفها باحثون وصحفيون، لأنه يقدم وجهة نظر مختلفة ويعرّف القارئ بملامح من الحياة التي انتزعت من المحاصرين ومن السوريين ومن كل الإنسانية أيضاً، فهو يتحدث عن المعاناة التي نعيشها نحن السوريون منذ تسع سنوات، المعاناة من وحشية النظام وحلفائه في حرب الإبادة التي يشنونها، وحشية العالم الذي اختار الصمت أمام هذه المأساة، ووحشية من ينكر موتنا اليومي، وكذلك وحشية شعورنا بالعجز أمام كل هذا التكالب على القضية السورية.
في الكتاب لقطات وتعابير في منتهى الرقة والعذوبة، تكشف عن خيالية وشاعرية كبيرة. قد لا تكون سميرة تريد أن تصبح كاتبة أصلاً، لكنها وكما يقول جبرا إبراهيم جبرا في روايته السفينة: «من يعرف شيئين اثنين هامين، جمال الطبيعة والمأساة، ومن يجمع بين هذين، لا بد أن يكون شاعراً»، وهي عاشت المأساة بكل أبعادها المدمرة وعرفت الجمال. قد لا يكون المقصود هنا جمال الطبيعة، بل جمال إنسانية الأشخاص البسطاء الذين يناضلون ضد الموت والحصار، ضد المحاولات الوحشية في تغييبهم الذي لن يتحقق أبداً طالما أن هناك من يؤمن بعودتهم، وهناك كثيرون ممن يؤمنون بعودة سميرة ورزان ووائل وناظم، وبعودة الأب باولو دالوليو، وكثيرين غيرهم من المغيبين في سورية، مرددين كلمات أغنية إيطالية لفيوريلا مانويا:
تنهمر أوراق عباد الشمس
على وحشية الغياب
ليس للوحدة رائحة
والشجاعة عبارة عن رقصة قديمة
فتتّبعي خطوات هذا الانتظار
وتتّبعي مشاعر بحثك المضني
فهناك مكان وحيد لترجعي إليه
وهناك قلب وحيد لترسي على ضفافه.
موقع الجمهورية