«لم يصلّ عليهم أحد» من الرواية الحكاية إلى السيناريو/ منار يزبك
■ بين أيدينا نصٌ روائيٌّ للكاتب خالد خليفة، نسج فيه شبكة من العلاقات التي نشأت بين أحداثٍ قدمت الواقع بتفاصيليه، منفتحةً عليه ضمن نطاقٍ سرديّ استوجب نمط الحكاية المفتوحة، التي غالباً ما نراها في النمط الملحمي الذي بدا كقلعة انتظم سردها بأحجارالخطاب الروائي الدرامي، الذي طغى على الجو العام للرواية، منساباً مع زمن المتن الحكائي كالنهر الذي بدأ خليفة روايته بمشهد طوفانه.
فاضت الرواية بالتواتر السردي الذي فرضه خليفة؛ ليصول ويجول في أزمنة السرد، وكأنّه آخيل في ميادين ملاحمه، يوجّه الشخصيات تارةً، وينتقل بالزمن تارةً أخرى، وربما في آحايين متباعدةٍ، يترك كلّ شخصية تسرد بنطاقها اللغوي الذي يحدده لها، إذ بدأ روايته بحبكةٍ كانت بطوفانٍ لم يبقِ على حجر، ولا بشر، ولا شجر، لنهرعفرين في مدينة حلب في آواخرالقرن التاسع عشر، ثم قام بنكوص سردي؛ ليروي لنا حكاية حنّا وزكريا وسعاد.
عندما وقف حنّا أمام صور الجثث، ومنها صورة زوجته وابنه؛ أعادت هذه الصور ذكريات القهر والخوف في الطفولة؛ لترتسم أمامه من جديد مع الاختلاف في مسببات القهر، فالقهر في الطفولة كان وجوده زمن مجزرة ماردين 1876 على يد العثمانيين، وموت كلّ أفراد أسرته ونجاته منها، أما القهر اليوم؛ هو عالمٌ من العنف المفروض من الطبيعة «الطوفان».
والحال أنّ العنف جعله يعيش حقيقةً في عالم الضرورة؛ لأنه فقد بشكلٍ متفاوتٍ السيطرة على مصيره، فهو يجابه اعتباط الطبيعة عندما تقسو، بدون أن يجد وسيلةً لحماية مَنْ يحبّ، فلا سلاح لديه لمواجهة الأخطار، وبالقَدْر نفسه، تنتظم لديه مشاعر القلق والخوف، وهنا مكمن الحبكة والعقدة في الرواية؛ حيث اللامتوقع في تبدّل شخصية حنّا اللاهي الماجن، إلى شخصيةٍ مليئةٍ بالعجز والاستسلام للقدرية؛ رضوخها الأول: كان بسبب سكون الموت الجاثم بعد الطوفان؛ لم تقطعه سوى فقاعات صور الجثث والأبناء والزوجات، مكدّسةً في رأسٍ أحبّ الحياة واللهو والمجون، أمّا رضوخها الثاني: فكان لماريا، وتركه «حوش حنّا»، ورحلة حجّه إلى «بيت لحم» برفقتها، ولكن سرعان ما نفضت الشخصية عنها أسبال ذلك الاستسلام والتبعية، مخالفة المألوف النفسي في تحليل العقل اللاواعي للإنسان المقهور، بتحررها من قيود التبعية؛ لتعود مرّة أخرى إلى نقطة بداية زمان الحكاية «الطوفان» ومكانها «حوش حنّا» لتنتهي الرواية ببعض شخصياتها، ومنها حنّا وزكريا وسعاد، وفي ذواتها ندبةٌ مثّلت أكثر من عقدة في مراحل الحدث وأزمنته.
والواقع أنّ شخصيات الرواية كان لها حيزان أحدهما واع والثاني لاواع: الواعي ما تمّ سرده بوضوحٍ، وعلاقته الجدلية بالواقع الموضوعي للشخصية نفسها، حتى إن كانت متخيلة، إلا أنّ مصائرها مع سير الأحداث حقيقية، من خلال ذكر (الطوفان والطاعون والمجاعة، ومذبحة ماردين وزمن السلطان عبد الحميد).
واللاواعي: قدّم نفسه من خلال إفصاح الشخصية عن الوجه الخفي لتجربتها الوجودية؛ حيث ظهر في حركات الشخصية وردود أفعالها، فساق لها خليفة مثلاً في تلك العلاقة الدمجية مع الأم، التي وضُحت بعلاقة حنّا بشمس الصباح، فتاة القلعة التي رأى فيها أمه، بذكرياته البعيدة عنها حيث فقدها في المجزرة المذكورة آنفاً. «يفكر في لحظاتٍ ماذا لو كانت شمس الصباح تشبه أيّ امرأةٍ، بعد عدّة ليالٍ اعترف بينه وبين نفسه؛ بأنّ رائحتها تشبه رائحة أمّه، وبدأت تتحول من فتاة لذّةٍ إلى أمّ يشتاق إليها حنّا، ويغفو في حضنها كطفلٍ صغيرٍ ويحدّثها لساعاتٍ طويلةٍ عن سعاد».
برز النمط الملحمي للرواية في الأحداث والأزمنة التاريخية والاجتماعية، وحتى الحكائية، فالتاريخية: وثّقت الأحداث في مدينة حلب (الزلزال الطوفان وباء الطاعون المجاعة مجزرة ماردين). والاجتماعية: برزت في التنوع الوفير في الشخصيات (رجل الدين الراهب، الحاخام، الفلاح، التاجر، المثقف، العاشقان: المسيحي وليم عيسى، والمسلمة عائشة، الخادم، موظف البنك، موظف السلطنة وغيرهم). أمّا الحكائية: فهي مُلكيّة خليفة؛ لأنه روى عن حكايات الأجداد والآباء، وصولاً إلى الأبناء؛ لذلك كان السرد لديه يحوي الكثير من مشاهد الوصف وأفعال الحكي، وشخصياته اتّضحت أمامنا من خلال الجمل والأساليب اللفظية، ولكن خليفة بفرادة الكاتب والسينارست حمّل تلك الجمل والأساليب صدىً لتواتراتٍ، وانفعالاتٍ داخليةٍ تتم تفاعلاتها في عمق المعنى الكامن بينها، فلم يعد الأمر السابق ذكره بنيوياً، بل تعدى ذلك إلى جمالية فنية نسج فيها الكاتب المتن الحكائي والخطابي كمادة درامية بتقطيعه السرد، وتحليله حسب الواقع النفسي، فأحال الرواية الحكاية معمارأً درامياً؛ سرده أفعالٌ حركيةٌ، ومشاهده بصريةٌ وسمعيةٌ محققاً بذلك مقولة «بارت»: إن النصوص ليست جميعاً قابلة لإعادة الكتابة، فهناك نوعٌ قابلٌ لإعادة كتابته، وآخرُ قابلٌ للقراءة، وهدف العمل الأدبي؛ هو أن يجعل القارئ منتجاً للنص، لا مجرّد مستهلكٍ» فإذا به ؛ القارئ الذي يُعيد إنتاج وكتابة النص (سينارست)، والكـــــاتب الذي يروي الحكاية بشكلٍ غير منتظم بسرديات عديدة يتنقّل بقصّها بشكلٍ متفاوتٍ ضمن أزمنة متقطعة؛ ما أعطاه حرية التقدّم في الرواية، وهو بدوره منح الشخصيات الإذن بالسرد عن نفسها وتحديد مسارح الحكاية (حلب، وحوش حنا والقلعة إيطاليا ودرعا ولبنان) بلغة سردٍ كانت مكثفةً تقتات على الشخصيات، فكلما تفرع السرد في المبنى الخطابي تآكل جزءٌ من جسد الشخصية وحيويتها، حيث استطاع تمكين ذلك لشخصية سعاد وأخيها زكريا وحنّا في نهاية الرواية، فهناك تكثيفٌ في الأحداث واختصارٌ متوقّعٌ لنهاياتها، ولو أنّ خليفة أطلق الأحداث؛ لأعطى الرواية الملحمة نطاقها الزمني، ومجالها الحَدَثي الموازي لكل شخصية، تاركاً لها الحرية في ردود أفعالها لتؤثر في إطلاق الأحداث.
«حنّا الذي اختفى في الأعماق التي سار إليها قبل الفجر بقليلٍ غاص في أعماق النهر، هناك كان ابنه كابرييل، وجوزفين، وابن زكريا والخوري، وخطيب إيفون، وأبوه صاحب المطحنة، وباقي الغرقى ينهضون من موتهم فرحين، اصطحبوه إلى ملكوتهم، حيث الحياة هناك طريّةٌ، الأسماك لا تموت».
بدت الرواية أشبه بحكايةٍ؛ الحكواتي فيها الكاتب، إن جاز لنا التعبير، إذ أُوكلت إليه مهمة السرد، فنتج عن ذلك خطاباً كشف الحكاية الحقيقية للرواية من خلال تمازج الواقع المادي، والنفسي للحدث الروائي، والواقعة الأساسية للرواية «الطوفان»، لذلك كان الانتقال في فضاءات السرد ضمن تقنيات الاسترجاع الزمني وفقاً للشخصية، وبعدها النفسي والجغرافي في الحدث الروائي، هذا أفضى بنا إلى الوقوع في الشرك المجازي للسرد، الذي نصبه خليفة؛ حقيقته الظاهرة روايةٌ تمرّ بأزمنةٍ متعددة بوجود شخصياتٍ تَرافقَ ظهورها، مساندةَ الشخصيات الأساسية في كشف خباياها من؛ مسلمةٍ ومسيحيةٍ، ويهوديةٍ (حنا سعاد زكريا عازار)، أمّا المجاز المكنون في سطور الحكاية هو: الرفض لوجودٍ عثماني في الماضي، الذي امتدّ إلى وجوده الحالي في الشمال السوري، ربما أوحت الرواية بذلك، أو ربما الهوية التي بحث عنها خليفة، فقد قدّم في أحداث الرواية تنوّع الأديان والقوميات، لشخصياتٍ تجمعها شبكة علاقاتٍ إنسانية راسخةٍ جامعة، فهل كانت الهوية التي أرادها؛ هي هوية الإنسان السوري البعيد عن التعصب الديني والقومي الذي ساد، وسيطر مؤخراً على النسيج السوري؟ أم أنه اغترابٌ ممضٌّ داخل الهوية، أفرز تشوهاتٍ في الانتماء عند الإنسان السوري، أو كليهما معاً. هل نلمح توظّيف خليفة الدلالات والإيحاءات بتوغله؛ أولاً في الماضي المفتوح الأزمنة الُممهَّد له لتعرية الحاضر المُختلَط بأنواع الاحتلالات، ومنها العثماني على أرض سوريا. لم يصلِّ عليهم أحد صلاة الغائب الحاضر؛ دلالاتٌ مثخنةٌ بعذابات الناس المجهولة النهاية، التائهة الهوية.
٭ كاتبة من سوريا
القدس العربي