«عصر العيش المشترك: الإطار المُوحد وتشكل العالم العربي الحديث/ أسامة مقدسي
كتب: أسامة مقدسي، «عصر العيش المشترك: الإطار المُوحد وتشكل العالم العربي الحديث» (دار نشر جامعة كاليفورنيا، 2019).
جدلية: ما الذي دفعك لتأليف هذا الكتاب؟
أسامة مقدسي: أردت أن أكتب تاريخاً لما أراه تقليداً معادياً للطائفية في منطقة غالباً ما اعتبرت حاضنة لمشاعر طائفية مغرقة في القدم. أردت تسليط الضوء على تاريخ من العيش المشترك لا يرى العالم العربي بعيون استشراقية ولا ينظر إليه نظرة رومانسية. كما أوضح في الكتاب، كانت جوانب كثيرة من هذا التعايش، وما تزال، مرتبطة بفهم محافظ للدين والمجتمع والأمة، لكن بعض جوانبه كانت ثورية وجريئة. عموماً، تمثل هذه الجوانب كلها جزءاً من تاريخ المنطقة الحافل، إذ ثمة وقائع متنوعة وضروب من العيش المشترك ينبغي استكشافها والتنقيب عنها، على عكس تلك السردية الكبرى الوحيدة التي تمجد التعايش.
كنت أدرك كذلك حجم التشاؤم الذي سقط فيه العديد من المثقفين العرب – ناهيك عن تعالي المستشرقين الغربيين – الذين استسلموا لليأس وأعلنوا إخفاق المرحلة الحديثة من تاريخ العالم العربي، ربما بسبب الراهنية الطاغية للأحداث الطائفية في الشرق الأوسط. يستنكر العديد من هؤلاء المفكرين واقع “أننا” متخلفون عن الغرب العلماني المؤسطر، بالرغم من وجود أدبيات كثيرة تبرز حجم العنصرية والعنف واللامساواة في الدول والامبراطوريات الغربية.
نتيجةً لذلك، جرى حجب جانب هام من تاريخ المشرق الحديث، أو بالأحرى جرى تشويهه وطمسه، والمقصود هنا ثقافة العيش المشترك التي ازدهرت بين العرب المسلمين وغير المسلمين في نهاية الحكم العثماني وبعده – ما أدعوه هنا الإطار المُوحد. كانت هذه الثقافة مُوحدة إذ أكدت في الوقت عينه الفروق الدينية وتجاوزتها في سبيل الوحدة الوطنية المعادية للطائفية، وطورت تصوراً اعتبر الأديان التوحيدية لبنات متوافقة لأمة مشتركة، وأجازت سياسات طائفية وقوميات علمانية جديدة، وتعهدت بتحقيق مواطنة متساوية بغض النظر عن الانتماءات الدينية وتطبيق قوانين أحوال شخصية تفرق بوضوح بين المسلمين والمسيحيين واليهود. وأشير إلى أن الانتقال من اللامساواة إلى المساواة الشكلية والمواطنة كان موضع نزاع في الشرق الأوسط إبان الحكم العثماني وبعده، مثلما كان عليه الأمر في الولايات المتحدة وجنوب آسيا وأوروبا – وهذا أمر بديهي اليوم. بالدرجة نفسها من الأهمية، أردت أن أوجه اهتمام الباحثين في شؤون العالم العربي الحديث إلى ذلك التراث الحي المعادي للطائفية الذي ينبغي الاعتراف به ودراسته بالموازاة مع التراث المناهض للعنصرية والمعادي للطائفية في الولايات المتحدة وجنوب آسيا.
أردت أيضاً تجاوز المواقف الدفاعية والمنكرة التي ما تزال تعرقل الدراسات التاريخية النقدية عن العالم العربي الحديث. كانت هناك صلات إيجابية وسلبية قوية بين وضع العالم العربي في ظل الحكم العثماني خلال القرن التاسع عشر ووضعه ما بعد الحكم العثماني في القرن العشرين، والتي يشار إليها غالباً لكن دون أن تحظى بدراسة جادة. أعتقد أننا في حاجة إلى دراسة الأضرار التي سببها الاستعمار الغربي بلا مواربة وأشكال مناهضة الاستعمار المختلفة التي ظهرت في العالم غير الغربي. لكنني أعتقد كذلك أن هناك نواح من التاريخ العثماني، الإمبراطوري والإسلامي، كان لها تأثير كبير على قضايا الطائفية والتمييز والعنصرية في المنطقة، وهذه الجوانب بالكاد تدرس بجدية. كنت أرغب في معرفة ما إذا كان هناك إطار تفسيري واحد يمكن أن يشرح مثلاً تزامن النهضة العربية والإبادة الجماعية للأرمن، ويناقش بجدية أسباب ظهور النظام الطائفي في لبنان مع ميشال شيحا في الوقت نفسه الذي ظهرت فيه القومية العربية العراقية مع ساطع الحصري، ويتحرى كذلك التأثير السلبي للصهيونية الاستعمارية على المشهد الديني الدينامي في فلسطين. أردت في المقام الأول أن أؤكد مدى أهمية ومرونة، وكذلك لامساواة وتحيز هذا الإطار المُوحد، وكيف كان في كثير من الأحيان، وما يزال، إطاراً محافظاً.
آمل حقيقة أن يساعد الكتاب في طرْق اتجاهات جديدة في الدراسات النقدية للعيش المشترك، بعيداً عن المحاولات الرامية لكشف زيف الأساطير والصور النمطية المنتجة عن العالم العربي، والشرق الأوسط عموماً. لقد أصبحنا بارعين في انتقاد نفاق وعنصرية الليبرالية والاستعمار الغربيين، ولكننا، من الناحية النظرية، نتردد عندما يتعلق الأمر بكتابة تاريخ للعالم الحديث قادر على احتواء تناقضاتنا الخاصة، دون الوقوع ضحية الفلسفة الاستعمارية والاستشراق والرومانسية والانهزامية.
جدلية: ما الموضوعات والقضايا والدراسات التي يتناولها الكتاب؟
مقدسي: أولاً وقبل كل شيء، يستكشف الكتاب طبيعة العيش المشترك ويسائل شروط الإدماج السياسي في الشرق الأوسط الحديث حيث ظهرت المواطنة العلمانية جنباً إلى جنب مع قوانين الأحوال الشخصية المستندة إلى الدين. أردت أيضا تتبع مختلف بنى الإطار الموحد في أواخر الحكم العثماني، وفي لبنان والعراق بعد الحكم العثماني، وأخيراً خلال الانتداب البريطاني على فلسطين التي أخضعت للصهيونية الاستعمارية. وبهذا يتناول الكتاب بالضرورة المشكلات الحديثة المتصلة بالطائفية والقومية والاستعمار. ارتأيت تحويل النقاش بعيداً عن ما بات انشغالاً أكاديمياً بالطائفية في أعقاب الغزو الأمريكي للعراق في عام 2003، وبعيداً كذلك عما أعتقد أنه أصبح – في نظري على الأقل – على نحو متزايد نقاشاً أكاديمياً عقيماً حول حدود العلمانية والليبرالية في الشرق الأوسط الحديث. بدلاً من ذلك، أردت أن أسرد بأمانة، وقدر الإمكان، كيف أن أفكار المساواة والتضامن الحديث بين المسلمين وغير المسلمين قد انتقلت من كونها أفكار لا يمكن تصورها بداية القرن التاسع عشر إلى أفكار عادية بحلول منتصف القرن العشرين.
جدلية: ما علاقة هذا الكتاب بأعمالك السابقة وكيف يختلف عنها؟
مقدسي: أرخت في كتابي الأول لمشكلة الطائفية في لبنان إبان الحكم العثماني وأبرزت فيه كيفية عملها على المستويين الخطابي والمادي وكيف تشكلت نتيجة فاعلية محلية لبنانية وعثمانية وغربية لا متكافئة. يوسع الكتاب الجديد مجال البحث ليتضمن العالم العربي إبان الحكم العثماني وبعده، ويشدد على الروابط التي يُزعم أنها تجمع بدلاً من تلك التي تفرق – لكن العلاقة بين كتابي السابق وهذا الكتاب واضحة، على الأقل بالنسبة لي: تفكيك الطائفية من أجل تعزيز الإمكانية الراديكالية، التي عادة ما تبدو عابرة، للمساواة وإثراء نوعية العيش المشترك.
جدلية: من تأمل أن يقرأ هذا الكتاب؟ وما الأثر الذي تود أن يخلفه؟
مقدسي: في المقام الأول، الباحثون والطلاب وغير المتخصصون الذين يودون بصدق فهم أحوال العالم العربي والشرق الأوسط. أما بخصوص التأثير، فإني آمل أن يدفع الكتاب طلاب التاريخ العربي الحديث لاستيعاب مدى ثراء تاريخ هذه المنطقة، دون السقوط ضحية لمواقف دفاعية ودوغمائية حيال مشاكلها وتناقضاتها.
جدلية: ما المشاريع الأخرى التي تعمل عليها؟
مقدسي: أعمل حالياً على تاريخ جديد للجنة كينغ كرين في عام 1919.
جدلية: هل لديك أي إضافات أخرى؟
مقدسي: أتساءل إلى أي مدى يمكننا تفهم وتصور التواريخ الموازية للأطر الموحدة المناهضة للعنصرية والمعادية للاستعمار والطائفية؟ أتساءل أيضاً عن مدى قدرتنا على كتابة تواريخ للعالم العربي الحديث تنقل التنوع الذي تتسم به المنطقة؟ لقد حاولت وضع مقدمات إجابتي عن هذه الأسئلة في هذا الكتاب.
مقتطفات من الكتاب:
من المقدمة:
كل تاريخ للطائفية هو أيضاً تاريخ للعيش المشترك. يكشف هذا الكتاب كيفية نشأة ثقافة التعايش الحديثة – ثقافة متشابكة جرى طمسها – في الشرق الأوسط الحديث، الذي يبدو حالياً مجرد مجموعة من البلدان والمجتمعات التي مزقتها الحرب. أسائل بالخصوص سرديتين تقليديتين هيمنتا على فهم الشرق الأوسط. تؤكد السردية الأولى اتصال تاريخ الصراع الطائفي بين جماعات دينية وعرقية يزعم أنها متعارضة، فيما تمجد السردية الثانية العيش المشترك باعتباره انسجاماً طائفياً.
أجادل أساساً ضد منهج كامل في رؤية الشرق الأوسط، والعالم العربي بشكل خاص، يعتبر هذا الأخير مكاناً مضطرباً مصاب بداء الطائفية. إن الطائفية مشكلة حقيقية، ولكنها ليست أكثر حقيقية أو استعصاء على التغيير من مشاكل العنصرية في الغرب والسياسات الطائفية في جنوب آسيا. ثمة فرق جوهري بين النظر إلى الشرق الأوسط بعيون استشراقية (اعتباره مكاناً غريباً وشاذاً ومختلفاً بشكل خطير) وتأريخه (وضعه في سياق وفي حوار مع تجارب مماثلة في مناطق أخرى من العالم). بمجرد أن نفهم هذا، أعتقد أننا سنتمكن من دراسة تاريخ العيش المشترك في الشرق الأوسط دون الحاجة إلى إبداء مواقف دفاعية، ودون اللجوء إلى أبوية لا محل لها كثيراً ما لطخت التقارير عن المنطقة.
الاستخدام التقليدي لمصطلح “العيش المشترك” استخدام محدود، إذ عادةً ما يصف على نحو غامض ما كان أحد أكثر السمات المميزة لفترات طويلة من التاريخ العربي والإسلامي؛ غالباً ما يشير، على نحو نوستالجي، إلى العصر الذهبي للحكم الإسلامي في إسبانيا. خلال الحرب الباردة، كانت عبارة “التعايش السلمي” تشير إلى التسامح بين الأنظمة الشيوعية والرأسمالية غير المتوافقة التي هددت بعضها بالإبادة؛ في لبنان، يشير المصطلح إلى علاقة الانسجام المزعومة بين جماعات منفصلة ويفترض أنها قديمة؛ أما في الولايات المتحدة، فيشير إلى وجود حوار مطمئن بين ديانات توحيدية في جمهورية علمانية. يشير الاستخدام المعاصر لمصطلح “التعايش” إلى مساواة، لا تحتاج إلى تدقيق تاريخي، بين أناس من أديان مختلفة. مع ذلك، يظل هذا المصطلح ذا صلة ويذكرني بعصر محدد ونوع من الألفة السياسية والتضامن الهادف المتجاوز للانتماءات الدينية الإسلامية والمسيحية واليهودية. تظهر هذه الاستخدامات معاً السمة المميزة للتاريخ العربي الحديث.
بدلاً من اعتبار الطائفية والتعايش مسلمات، أو افتراض أنها خصائص قديمة في الشرق الأوسط، ينصب اهتمامي على التأريخ لكلا المفهومين. في أي مرحلة أصبحت “الطائفية” مشكلة سياسية لأول مرة؟ كيف أصبح تقسيم المناصب الحكومية على أسس طائفية تعبيراً عن المساواة؟ لماذا طبق هذا التقسيم في أنحاء من الشرق الأوسط دون غيرها؟ متى بدأ الإشادة بـ “التعايش” كقيمة وطنية؟ وكيف ولماذا انتقل الدين من كونه عنصراً محورياً في سياسات الامبراطورية العثمانية المجحفة، التي ميزت بين المسلمين وغير المسلمين وفضلت المذهب السني على المذاهب الإسلامية الأخرى، إلى عنصر رئيسي في السياسات القومية ما بعد الحكم العثماني التي أقرت المساواة بين جميع المواطنين بغض النظر عن انتمائهم الديني؟ هذه بعض الأسئلة التي يجيب عنها هذا الكتاب.
ينصب اهتمامي بشكل أساسي على توضيح كيف أن التصورات المختلفة عن العلاقة بين التنوع الديني والمساواة والتحرر شرّعت ووحّدت بين أنظمة سياسية متباينة بشكل جذري وتجريبية للغاية في جميع أنحاء المنطقة بين عامي 1860 و 1948 – حقبة عرفت إجراء الامبراطورية العثمانية إصلاحات لأول مرة، ثم شهدت تدمير القوى الأوروبية للامبراطورية وتقسيمها إلى دول عديدة تتمتع بسيادة اسمية فقط. يركز هذا الكتاب تحديداً على المشرق – أي المنطقة التي تضم حالياً لبنان وسوريا والأراضي الفلسطينية المحتلة وإسرائيل والأردن ومصر والعراق، التي كانت كلها تحت الحكم العثماني.
المشرق هو منطقة كانت فيها الجماعات الإسلامية والمسيحية واليهودية الناطقة بالعربية متشابكة بشدة خلال الحكم العثماني وبعد انحساره. هي كذلك تلك المنطقة من الشرق الأوسط التي شهدت محاولات مستمرة لتشكيل ائتلافات سياسية بين رجال ونساء من أديان مختلفة. هو إذن تختلف عن تركيا، حيث تم القضاء على الوجود غير المسلم إلى حد كبير خلال الحرب العالمية الأولى وبعدها، كما أنه يختلف عن شمال أفريقيا والخليج، حيث كان الوجود الأصلي غير المسلم أقل تأثيراً في التطور الثقافي للمنطقة. شهد المشرق مقاومة داخلية وردود فعل مستمرة على التداعيات العلمانية للتضامن الوطني. وأخيراً، كانت المنطقة مسرحاً للتدخل الأوروبي، ومؤخراً الأمريكي، المتواصل، بحيث استغل كلاهما التنوع التاريخي للمنطقة وتحدثا باسمه. تخيل وبناء مجتمعات تتجاوز الفروق الطائفية عملية متناقضة ومتعددة الأوجه. لقد تلقت نصيبها العادل من النكسات، في عصرنا أكثر من غيره، لكن هذه العملية، في نظري، استمرت أيضاً لأكثر من قرن. أنا مهتم على وجه الخصوص بكيفية تحول فكرة التعايش الحديث، باعتباره مساواة بين المسلمين وغير المسلمين، من فكرة لا يمكن تصورها في بداية القرن التاسع عشر إلى فكرة عادية بحلول منتصف القرن العشرين – يستحق هذا التاريخ أن يروى بأمانة.
التصوير الشائع للشرق الأوسط بوصفه غارقاً في الطائفية يضفي باستمرار على المنطقة طابع العصور الوسطى، ويخلط بين الانتماءات السياسية المعاصرة والتضامنات الدينية الأقدم. على سبيل المثال، يصر المؤرخ بروس ماسترز أنه “طالما أن الدين يكمن في قلب نظرة كل فرد إلى العالم، فإن احتمال انقسام المجتمع على أسس طائفية يظل قائماً”. لعل هذا صحيح، لكن التاريخ الذي أرويه يتموضع بين خطر العنف الطائفي وواقعيته، أي كيف نشأت ثقافة سياسية حديثة عظّمت من قدر الدين والعيش المشترك وشيطنت الطائفية. فقط خلال القرن العشرين جرت صياغة المصطلحات العربية المقابلة لـ “الطائفية” و “العيش المشترك” بصفتها جزء أساسي من مخيال جديد قبِل المسلمين والمسيحيين واليهوديين مواطنين متساوين في إطار كيان سياسي ذي سيادة.
في الواقع، ليست “الطائفية” مجرد انعكاس لانقسامات كبيرة في مجتمع متنوع دينياً، إنما هي أيضاً لغة وتهمة وحكم ومخيال وتصور أيديولوجي سخرته دول وجماعات وأفراد من الشرق الأوسط والغرب لخلق أطر سياسية وأيديولوجية حديثة يمكن من خلالها احتواء المشكلات الطائفية المتجذرة المفترضة، ولما لا التغلب عليها. على كل حال، لا توجد منظمة أو حركة تصف نفسها بأنها “طائفية”، تماماً كما لا تدعي أي حكومة حديثة أنها ضد “التعايش”. قد يعكس تصور وجود مشكلة طائفية محاولة مثالية لخلق جماعة سياسية ثورية جديدة تسمو فوق الفروق الدينية. قد تدل الطائفية أيضاً على الكيفية التي يقدّم بها أعضاء جماعات كانت مهمشة لفترة طويلة في دولة ما مطالب سياسية وثقافية واقتصادية للاستفادة من الموارد والامتيازات. باسم الطائفية يمكن كذلك تبرير إرساء نظام حكم قومي استعماري جائر أو رجعي يستغل التنوع الديني والعرقي في منطقة معينة.
ليست الانتماءات السنية والشيعية والمارونية واليهودية والأرمنية والمسيحية الأرثوذكسية منقوشة على نحو متماثل في نسيج الماضي والحاضر. إنها تسميات تاريخية تعرضت معانيها للتغير ومرت بمراحل مد وجزر. قد تبدو الهويات الطائفية حقيقية وملموسة في أي لحظة. قد تكون إيجابية أو سلبية، منفتحة أو منغلقة. لكن، لا يتم استعادة هذه الهويات من حاوية في الماضي حافظت على تصور نقي للذات والآخر، بل يعاد إنتاجها مراراً في أشكال مختلفة ولأسباب مختلفة. تظهر للعيان فقط بعد تمزقها نتيجة انقسامات لا حصر لها وبعد خضوعها لعمليات مطولة ومتكررة من إعادة التعريف.
بطبيعة الحال، فإن أي شخص يعيش في الشرق الأوسط يعلم أن ثمة مشاكل طائفية مستعصية في بلدان مثل لبنان وسوريا ومصر والبحرين والعراق، تماماً مثلما يدرك أي شخص يعيش في الولايات المتحدة وجود مشكلة عرقية واضحة هناك. لنفترض على سبيل المثال أن قوة أجنبية أطاحت بالحكومة الفيدرالية الأمريكية وحلت الجيش الأمريكي وشجعت تقسيم الولايات المتحدة بناء على أسس عرقية – على غرار ما قامت به الولايات المتحدة عقب غزوها للعراق في عام 2003. ستتفاقم مشكلة العرق في أمريكا لا محالة كما أن تبعاتها ستتغير، ليس لأن الهويات العرقية في أمريكا ثابتة و”قديمة”، وإنما لأن معانيها ومسيرة تحولها هي نتاجات ديناميكية لسياقات تاريخية ومادية وجيوسياسية محددة، تماماً مثل الهويات الطائفية.
إن إزالة اللبس عن مشكلة الطائفية الحديثة يعني إدراك أنها تعبر عن توتر عالمي بين السيادة السياسية والتنوع والمواطنة المتساوية أكثر من كونها إحياء للانقسامات الدينية التي تعود للعصور الوسطى. قد يكون من المفيد بحق للقراء أن يفكروا في المواقف والأفعال والأفكار الطائفية في العالم الحديث بوصفها تشبه المواقف والأفعال والأفكار العنصرية في الولايات المتحدة. تشابك أبرز علماء التاريخ الأمريكي مع الأهمية الهائلة للعرق في المجتمع الأمريكي من خلال تأريخه وليس عن طريق اعتباره أمراً مسلّماً. لقد درسوا كيف أُنتج مفهوم العرق في سياق جمهورية الولايات المتحدة التي تبنت الحريات الديمقراطية في الوقت نفسه الذي بررت فيه الاستعباد الدائم. بعبارة أخرى، لا مجال لاستيعاب العنصرية والطائفية الحديثة خارج سياق ظهورها المتشعب، ومع ذلك، دائماً ما يتم الحديث عن كلا الظاهرتين على الرغم من علم المتحدثين الكامل بوجود تيارات قوية وبنّاءة مناهضة للعنصرية ومعادية للطائفية. لا يعني هذا أن الطائفية والعنصرية هما الأمر عينه، ولا أن التجربة التاريخية للسنة والشيعة والمسيحيين واليهود في العالم العربي هي نفس تجربة اللاتينيين والأنغلوسكسونيين والأميركيين الأفارقة في الولايات المتحدة. ما ينطوي عليه هذا التقريب هو إدراك كيف أن مختلف التكوينات الجماعية والعرقية والطائفية – وبنفس القدر من الأهمية، الالتزامات المختلفة المناهضة للعنصرية والمعادية للطائفية – كانت، ومثلما سأوضح بمزيد من التفصيل أدناه، إرثاً مشتركاً لثورة سياسية عالمية شهدها القرن التاسع عشر.
[ترجمة ادريس امجيش. نشر المقال بالانكليزية على جدلية]