وحوش ألبرتو مانغويل/ صبحي حديدي
في كتابه الجديد «وحوش خرافيون: دراكولا، أليس، سوبرمان، وأصدقاء أدب آخرون»، الذي صدر مؤخراً عن منشورات جامعة ييل، يعيد الأرجنتيني ــ الكندي ألبرتو مانغويل تذكيرنا بأنّ للشخصية الأدبية حياة خاصة بها؛ إذا كانت تخرج أوّلاً من مخيّلة صانعها، بطرائق تخاطب السمع أو البصر أو الكتابة، فإنها تالياً تستقلّ بذاتها وتستقرّ عميقاً في الذائقة الإنسانية، وفي الطيات الأعمق من قواسم الشعور الجَمْعي المشتركة. على سبيل المثال، ما تزال الدروب التي اقتفاها عوليس ودون كيخوتة تتصدّر الكتب السياحية عن اليونان وإسبانيا؛ وهنالك زوّار يقطعون مسافات شاسعة لمشاهدة ما يعتقدون أنه دار ديدمونة في «عطيل»، وشرفة جولييت في «روميو وجولييت»؛ وثمة قرية كولومبية تصرّ على أنها ماكوندو ذاتها، في رواية غابرييل غارسيا ماركيز؛ وأمّا البريد البريطاني فإنه يجاهد في أمر إيصال عشرات المغلفات والطرود، المرسلة إلى… السيد شرلوك هولمز، 221/B، شارع بيكر، لندن!
وحوش مانغويل، وهم خرافيون بمعنى انتمائهم إلى التخريف الفنّي الذي تبتدعه المخيّلة البشرية، لا يواصلون استقرارهم العميق في الذائقة الإنسانية الكونية إلا بسبب «هوياتهم المتضاعفة والمتبدلة»، كما يكتب الرجل. ولأنهم، في يقيني شخصياً، متجذرون أصلاً في تربة محلية، لكنها أنبتتهم على هيئات جديرة بعبور المكان الأمّ إلى فضاءات أخرى قصوى، وكذلك عبور الزمان إلى عصور لا يقيّدها الراهن ولا المؤقت. وثمة الكثير الذي يستوجب هذه الحال، ويسبغ صفة حيوية عالية على تجليات العبور من المخيّلة على الواقع وبالعكس، كما في روايات قوارب اللاجئين التي تاهت في البحار والمحيطات، مذكّرة على الدوام بذلك التيه الأليم المأساوي الذي التقطه هوميروس لا كما فعلت مخيّلة بعده. وإذا كان عوليس قد وصل أخيراً إلى إيثاكا، فإنّ المئات وربما الآلاف من نظراء متاهته المائية المعاصرين، لم يصلوا إلا إلى القيعان.
ويختار مانغويل 37 شخصية، صنعها أمثال غوستاف فلوبير، لويس كارول، كريستوفر مارلو، وليم شكسبير، وكيم مان ــ يونغ، مارك توين، هوميروس، دانييل ديفو، هرمان ملفيل، رامون إنكلان، سيرفانتس، فيكتور هيغو، جورج إليوت، لودوفيغو أريوستو، جول فيرن، ماري شيللي، وو شينغ ــ إين، خوسيه لوباتو، جون روبرت كولومبو، يوهانا سبيري، روبرت لويس ستيفنسون، وناثنييل هوثورن. هذا في صفّ الكتّاب الأفراد، إذْ ثمة في المقابل شخصيات تناوب عليها أكثر من خالق، مثل اليهودي التائه (الذي تقول الحكاية إنه رفض سقاية يسوع في الطريق إلى الجلجلة)؛ أو الشيطان (من دانتي في «الكوميديا الإلهية»، إلى جون ملتون في «الفردوس المفقود» وغوته في «فاوست»، مروراً بالنصّ القرآني)؛ أو دون جوان (عند موليير، وموتسارت، وتيرسو دي مولينا، ولورد بايرون)؛ أو السوبرمان (عند ج. ك. شيسترتون، ثمّ نيتشه في «هكذا تكلم زردشت»)؛ أو ذات الرداء الأحمر/ الجميلة النائمة (عند شارل بيرو، والأخوين غريم).
الفصل الخاص بشخصية سندباد يستهله مانغويل بطريقة مفاجئة وغير مألوفة، إذْ يسوق حكاية رئيس الوزراء الأسترالي جون هوارد الذي قرّر، في سنة 2003، فصل جزيرة ملفيل عن السيادة الأسترالية كي يتجنب تدفق أفواج اللاجئين إليها؛ اقتداءً بحال جزيرة كريسماس، التي فُصلت بدورها كي تتيح للسلطات ترحيل اللاجئين دون الوقوع تحت طائلة القانون. ولكن على نقيض الساسة، يكتب مانغويل، لا يعرف القاصّ أننا نستطيع «فصل الواقع الفكري عن الواقع المادّي: كلّ ما في وسعنا القيام به هو إعادة تخيّل العالم بغرض رؤيته وفهمه على نحو أفضل. ومغامرات البحار سندباد، كما تُروى في ألف ليلة وليلة، هي سبيل لإعادة تخيّل العالم عن طريق إعادة خلط فكرة الأرض (حيث تُحكى أقاصيصه) مقابل البحر (حيث تجري وقائعها)». وبينما يعيش مغامراته البحرية بكلّ زخمها، فإنّ سندباد يدرّب نفسه على البرهة الختامية حين سيصبح من تراب مجدداً، ويعود نهائياً إلى اليابسة؛ ونحن كقرّاء، يتابع مانغويل، «نحدس بأنّ هذه الصفحة الأخيرة تقترب حثيثاً، لأننا إذْ نعود إلى الليلة 537 (حيث سندباد العجوز، الثري والمستقرّ، يبدأ في سرد قصة حياته)، ندرك أنّ هذه الصورة البيتية الهادئة هي توطئة للنهاية الضرورية الوشيكة».
طريــــف، إلى هذا، الفصل الذي يعقــده مانغويل لشخصيتَي كـــركوز وعيواظ (في التسمية التركية: Karagöz and Hacivat)، فيبدأه من وضعهما على قدم المساواة مع عدد من الثنائيات الأشهر في تاريخ الآداب الغربية: دون كيخوته وسانشو بانثا، شرلوك هولمز ودكتور واتسون، هانسل وغريتل (عند الأخوين غريم)، تويدلي وتويدولم (عند لويس كارول). ثمّ ينتقل مانغويل إلى نقطة الجاذبية التي قد تكون الأهمّ كونياً في الشخصيتين: أنّ كركوز هو تجسيد الجسد البشري من الخصر إلى الأسفل، حيث وظائف الأكل والجنس والأطراح؛ وعيواظ هو تجسيد النصف الثاني، أي الدماغ الذكي والقلب المتقلب. وهذا يعني، أيضاً، وقوعهما على طرفَيْ نقيض في المنظور الاجتماعي، حيث يبدو الأوّل أقرب إلى سانشو، لجهة الجهل والعفوية؛ والثاني هو النقيض، المثقف والمتعالم والخاسر غالباً، على غرار الفرسان من أمثال دون كيخوته.
.. أو، ببساطة، على غرار الترميزات الجَمْعية التي تتولى هذه الشخوص تمثيلها، وتخليدها أيضاً؛ بحيث باتت الأكثر رسوخاً في قرارة النفس البشرية، خارج الزمان والمكان وفي إسارهما معاً!
القدس العربي