انقلابُ منبر الصلاة: نصوص الجهاديين بعيون المؤرخين/ محمد تركي الربيعو
شغلَ موضوعُ الجهاديين وشبكاتهم في السنوات الأخيرة اهتمام قسمٍ كبير من الباحثين، فهذه الجماعات، على تنوّعها، بدت عصيةً على الفهم، ليس على صعيد رؤيتها العقيدية وحسب، بل أيضاً على صعيدِ طرقِ بناء شبكاتها، وكذلك علاقاتها بالجماعات القتالية الأخرى.
ولعلّ الغموض في فهم هذا الجانب كان يعودُ في أحيانٍ عديدة إلى طبيعةِ المناهج المستخدمة في دراستها، فقد فضّلَ العديدُ من الباحثين الاستقرارَ على الرأي ذاته، الذي لا يرى هذه الجماعات سوى جماعات وظيفية ترتبطُ بأجهزة مخابراتٍ عالميةٍ، في حين أنّ هناك من فضّل، السفر في أعماقِ التراث لمحاكمتهِ، وتحميلهِ ذنبَ هذه الجماعات، متناسين أنّ هذه الجماعات ذات طبيعة حداثوية على مستوى رؤيتها للجهادِ، أو للعنفِ وأشكاله، كما يرى رينيه جيرار في سياق تحليله لعنفِ الحادي عشر، الذي لم يستند، برأيه، في إخراجهِ للمشهد على صورٍ تراثيةٍ، بل على صور الإعلامِ وأفلام هوليوود.
بيد أنّ الساحةَ البحثية حول هذه الجماعات، ورغم هذه الرؤية، عرفت انفجاراً معرفياً في السنواتِ الأخيرة على صعيدِ المناهج في فهمهم. فبدلاً من فكرةِ الوظيفية، كانت فكرةُ القرابة والصداقة، التي طرحها سكوت أتران ومضاوي الرشيد، قد أخذت تبيّن لنا كيفية تشكّل هذه الجماعات، ودورَ الوسطِ المحلي والجماعات الأهليّة في تشكيل الأجسامِ الأساسية لهذه الجماعات، كما أنّ هذه الجماعات لم تعد تتشكّل داخل الجوامع أو الأحياء الفقيرة بالضرورة، وإنّما أحياناً في أماكن وفضاءات علمانية. كما أخذنا نتعرّف من خلال دراسات أوليفيه روا، عن الجهادِ والموتِ وغيرهما، على طبيعةِ الشباب الذين قدموا من أوروبا للقتالِ إلى جانب «داعش» وغيرها من التنظيمات الجهادية، إذ لم يمارس هؤلاء البداوة الجهادية، جراء تأثّرهم بأدبيات أبو مصعب السوري كما يرى جيل كيبل، أو لمواجهة بقايا الاستعمار (فرانسوا بورغا) وإنّما ما دفعهم هو ثقافة شبابية وسوق دينية أتاحت لهم فرصة التحوّل والبحث عن مشروعٍ خلاصي.
ساهمت هذه القراءاتُ، بالإضافة إلى عشرات المقاربات الأخرى، في تفكيكِ الغموض والأسطرة عن هذه الجماعات، كما قرّبتنا من فهم تحرّكاتهم وخطابهم، ولعلّ ما ميّزها أنّها قطعت مع فكرة الاقتصار على التحليلِ النصوصي لكتب ابن تيمية وسيّد قطب، والاعتماد بدلاً من ذلك على مخيالٍ سوسيولوجي، يولي أهميةً للأجواءِ المحيطة والدافعة لتكوّنها. مع ذلك، فإنّ ما يُسجّل على المهتمين بها (ومن بينهم كاتب هذه المقال) أنّها أهملت دراسةَ النصوصِ الجهادية، التي تتداولها الجماعاتُ القتاليةُ لصالح التحليل السوسيولوجي، ما أدّى أحياناً إلى عدم إيلاء أهمية تُذكر للجدالِ الفقهي والتنظيري، بين منظّري هذه الجماعات. ولعلّ هذه الزاوية بالذات هي التي ستكون محلّ اهتمام الباحث والمؤرخ الباكستاني البريطاني شيراز ماهر في كتابه «السلفيّة الجهاديّة.. تاريخ فكرة»، المترجم منذ فترة قريبة للعربية.
يرى ماهر أنّ المؤرخين غالباً ما ابتعدوا عن دراسةِ الحركات الجهاديّة المعاصرة، تاركين السعيَ وراءها لعلماء السياسة واللغويين والمتخصّصين في الدراسات الدينية ودراسات المناطق، وبالتالي لا تزال هناك مناطق مظلمة واسعة في معرفتنا بهذه الحركة، ولذلك يصفُ كتابه هذا بوصفه علاجاً لندرة البحث التاريخي في الثقافة الفكرية للسلفية المقاتلة، من خلال استكشافِ الحجم الأوسع من الأدبيات الجهادية، التي تُفسّر عقيدتها ومنهجها وفقهها.
يعتقدُ المؤلف أنّ الحركات السلفية الجهادية، هيمنت على المشهدِ الجهادي في العقدين الأخيرين، ومثّلت تحدياً بالغاً على بُنى السلطة المتجذّرة، ما جعلها «واحدةً من أهم الحركات في عالم السياسة اليوم». مع ذلك، تشهدُ هذه الجماعات توترات داخلية عديدة، من هنا لا بديلَ عن دراسات النقاشات ما بين السلفية. يعتقد المؤلفُ أنّ مثل هذه الخلافات أكثر ما تكون مُلاحظة، عندما يتصادمُ المنظّرون السلفيون الجهاديون مع نظرائهم الناشطين عملياً في الميدان، فبينما يتمتّع المنظّرون برفاهية الوقتِ، التي تسمحُ لهم بتأويل الأفكار المختلفة وهضمِها، فإنّ المقاتلين في الميدانِ يحكمهم الوقتُ، ونمط محدّد من الفقهِ المحمّل بالمكارهِ، وضروراتِ الحرب، فمثلاً نجدُ أنّه في الوقت الذي شرّعَ فيه أبو محمد المقدسي الجهاد من منطلقِ التقاليد الوهابية، فإنّ أبا مصعب السوري أسّس لـ«جهادٍ سياسيٍ معلمنٍ، من دون أدواتٍ دينية وموجّه لقتال العدو، بأكفأ الوسائلِ، وبعبارةٍ أخرى، فإنّ جهاد السوري يمثّلُ اقتراباً أكثرَ علمانية، وأقرب إلى السياسةِ الواقعية أو البراغماتيةِ، كما أنّ هذا واضحٌ في أعمالِ أحد أهم الرموزِ الحركيّة، وهو يوسف العييري، القائدُ السابق لتنظيم «القاعدة في جزيرة العرب»، إذ يلاحظُ ماهر نقلاً عن الباحثِ رويل ماير أنّ الأخيرَ جمع بين جوانب المهبّ السلفي التقليدي، من منطلق تحليلٍ حادٍ صارمٍ للواقع، وموجّه لتطبيق استراتيجية الجهاد، ومن ثمّ انتاج مفهومٍ سلفي حركي يمكن مقارنته مع اللينينيةِ.
الحربُ قاطرةُ الجهاديين
يلاحظُ توماس هيغهامر، في دراسته «سلفيون جهاديون أو ثوريون»، أنّ مصطلحَ السلفية الجهادية ظهرَ لأوّل مرة في الأدبياتِ الأكاديميةِ عام 1998، عندما كتب جيل كيبل وكامل الطويل عن الحربِ الأهلية في الجزائر، مع ذلك فهو يجادل بأنّ أول إشارة معروفة جاءت من قبل أيمن الظواهري.
ويستكمل ماهر قصة هذا المصطلحِ، إذ يرى أنّ صعودَ السلفية الجهادية تبع كفكرة تراجعَ الإسلامِ السياسي مع بداية التسعينيات، فقد بدت الإسلامويةُ كأنها تتقهقرُ عبر شمال افريقيا والشرق الأوسط، وجاء المثالُ الأكثر درامية من خلال اندلاع الحرب الجزائرية والقمع الوحشي للإخوان المسلمين في سوريا، وتحييد قادةِ الصحوة في السعودية. وقد بدا وكأنّ الإسلاميين «غير العنيفين» كانوا عاجزين عن تحقيقِ أي نتائج، وأنّه لا بدّ من ظهور جماعاتٍ أكثر عنفاً. مع ذلك ستنتظرُ هذه الجماعات إلى عام 2003، الذي سيشهدُ غزوِ الولايات الأمريكية للعراق، لتظهر بشكلٍ أوضح إلى العلن. وهنا يرى ماهر أنّ تطوّر الفكر الجهادي يُدين في تلك المرحلة إلى ملاحظةِ تروتسكي التي قال فيها «إنّ الحربَ قاطرةُ التاريخ»، إذ ساهم هذا الغزو بشكلٍ مؤثّر في تشكيل وتعريف ما يُعرف اليوم بالسلفية الجهادية، فهناك فارق كبير بين الجماعات التي تكوّنت خلال هذه الفترة، وتلك التي ظهرت من قبل مثل، الجهاد الإسلامي والجماعة الإسلامية في مصر، وينطبق الأمرُ نفسه على المقاتلين الأجانب الذين ارتحلوا سابقاً إلى أفغانستان والشيشيان والبوسنة. بيد أنّ هذا التطوّر لم يقتصر على ولادةِ بنى تنظيمية وفكرية جديدة، بل تمثّل أيضاً في خلق انقساماتٍ خطيرة بين الجهاديين، خاصة بين المنظّرين والمنخرطين في القتال. ولعلّ هذا الصراع، بالإضافة إلى نقاشاتِهم حول مفاهيمِ الولاء والبراء والحاكمية، وهي نقاشاتٌ معقدةٌ ومتعددةٌ، هو الذي سيحكمُ مسارَ هذا الكتاب الممتع في أفكاره وحفرياته في نصوص الجهاديين.
٭ كاتب من سوريا
القدس العربي