تجربة السجن.. عتبات الألم والقهر لمواصلة الحياة/ فرج بيرقدار
لم يخطر في ذهني، حين طرأت ثيمة العتبات على بالي، أي شيء له صلة بعتبة البيت التي كانت أمي تُجلِسني فيها من أجل استحمام تنكيليّ أخرج منه مكشوط الجلد، أو مصبوغه بلون الأرجوان. ولم تخطر فيه العتبات المقدسة أيضاً. كل ما كان يستحوذ عليّ لحظة التماع الفكرة هو عتبات الألم، وبصيغة أخرى عتبات تحمُّله لدى السجناء في بلدان تحكمها ديكتاتوريات من نمط ديكتاتورية الأسد في سورية.
عتبات التحمُّل لدى السويديين، وربما لدى الأوروبيين عموماً، هي أضيق بما لا يقاس حين نقارنها بعتبات التحمُّل لدى شعوب الشرق. أعني عتبات تحمُّل الألم، أو الحزن، أو القهر، أو الجوع، أو الإهانة. يمكن للبعض أن يسمي تلك العتبات باللياقة الروحية، أو النفسية، أو الجسدية. التسمية ليست مهمة بالنسبة لي. ما يعنيني هو جوهر الفكرة التي أتحدث عنها، وسأعززها إن استطعت بوقائع وتفاصيل وافتراضات.
كثيراً ما تساءلنا، أنا ورفاق تجربة السجن ومِحَنه وامتحاناته، إن كان بقاؤنا على قيد الحياة، وليس الموت، أو الانتحار، هو مؤشر سلامة عقلية ونفسية، أم مؤشر بلادة، و”تمسحة”، ونقص في أوكسجين المشاعر؟
أهي الغرغرينا التي أصابت الكرامة ولجمت ردود الأفعال الطبيعية؟
كيف يمكن لإنسان أن يعيش عاماً، أو عشرة، أو عشرين، ضمن ظروف غير طبيعية، ويبقى
“تساءلنا، أنا ورفاق تجربة السجن ومِحَنه وامتحاناته، إن كان بقاؤنا على قيد الحياة، وليس الموت، أو الانتحار، هو مؤشر سلامة عقلية ونفسية، أم مؤشر بلادة”
طبيعياً، أو قادراً على الاستمرار في الحياة؟
كيف يمكن لإنسان تلقى من السياط والصفعات واللكمات والركل والشتائم ما يزيد على ما تفوَّه به في حياته من كلمات أن يفكِّر في ما سيفعل بعد خروجه من السجن؟
كان بعض الأصدقاء يتحدث عن أن التحدي أمامنا هو أن نحافظ قدر الإمكان على ثلاثة: الصحة العقلية والصحة الجسدية والصحة النفسية، ولكل منها مستلزمات ينبغي أن لا نغفل عنها.
وكان هناك من يتحدث عن أن عضوية الكائن البشري أرقى من غيره من الكائنات، وبالتالي فإن قدرته على التفكير والتعبير والتدبير، ثم التكيُّف والتلاؤم والترميم، أعلى من الكائنات الأخرى.
قد يكون ذلك صحيحاً، فما تعرّضنا له، في فرع فلسطين، وسجن تدمر، ثم في سجن صيدنايا، قد لا تستطيعه حتى الجِمال، ولكن ذلك لا يلغي السؤال، ولا التساؤل، عن كيف يمكن لإنسان سويّ أن يكون تحت وطأة كل ذلك، ولا يضع حداً للحياة، أو إشارة إكس على المستقبل!
مماحكات كثيرة لم تترك في التفاصيل ريشاً، أو زغباً، إلا ونتفته، وربما كنوع من المماحكة سألني أحد الأصدقاء إن كنتُ أعتقد نفسي سويّاً أم لا، فأجبت بملء قناعتي أن الإنسان نتاج شروطه المادية والاجتماعية، فإن كانت شروطنا غير سوية فلا بد أننا غير أسوياء، ولكن من واجبنا الشخصي والعام أن نجعل ما هو ليس سوياً أقل وطأة، وذلك عبر تنشيط ذواكرنا، وعبر
“ما تعرّضنا له، في فرع فلسطين، وسجن تدمر، ثم في سجن صيدنايا، قد لا تستطيعه حتى الجِمال”
القراءة والكتابة، وعبر الدخول في لعبة بوكر الأيام، وأن نقبل بعد خروجنا من السجن أن نُسلِم قيادنا لصديق، أو قريب شابّ، ونرجوه أن يعيد تأهيلنا اجتماعياً على الأقل.
قلتُ مرة إن “أبو أحمد” الغاوي، حين وضعوه في الدولاب، وطلبوا منه أن يحصي عدد ما سينزل عليه من جلدات، عّدَّ أكثر من ثلاثمائة جلدة كافرة قبل أن يلهمه الله الإغماء.
لا أعرف إن كان هو من لقَّب نفسه بالغاوي، أم أحدٌ آخر. كان الرجل زير نساء، مع ما يقتضيه ذلك من كرم و”جخّ” وألبسة وعطور فاخرة. لكنه حين أفاق مما ألهمه الله، هل بقي “غاوياً” ويفكر في النساء، أم تغيَّر الدوزان؟
قراءة مقطع، أو مشهد مصوَّر، يتحدث عن السجن والتعذيب، أو عن القصف والدمار، أو عن الهجرة ومخاطرها، يمكن أن يضع بعض السويديين على حافة انهيار عصبي.
لا تبدو أسباب انتحار كثيرين في السويد مقنعة لنا كشرقيين، وربما اعتبرناها أسباباً بسيطة، وربما ترفاً حياتياً، من قبيل انتهاء علاقة حب، أو عدم رغبة في مواصلة حياة فارغة من
“قد يكون من الحكمة أن لا يكون المرء سوياً في ظروف ليست سوية، وقد يكون ذلك أحد المخارج الملائمة لمواصلة الحياة”
المعنى، أو احتجاجاً على بؤس هذا العالم، أو أي شيء مما لا يخطر على بالنا.
هل هم الأسوياء أم نحن؟
تداولنا كسجناء هذا الأمر مراراً، وكانت قناعتي أننا لو كنا أسوياء لانتحرنا، أو أُصِبنا بالجنون. ولكن قد يكون من الحكمة أن لا يكون المرء سوياً في ظروف ليست سوية، وقد يكون ذلك أحد المخارج الملائمة لمواصلة الحياة.
أحياناً، أفترض أن أحد الفوارق بين مَنْ هُم من الشرق، أمثالي، وبين السويديين، هو المدى التاريخي للألم والحزن والمآسي، وبالتالي اللياقة الناجمة عن هذا المِران التاريخي الطويل بالنسبة لنا، منذ ما قبل حرب البسوس وداحس والغبراء وكربلاء، مروراً بما تصالب في شرقنا من أعراق وسيوف ومنابر وأشجار شيطانية متشابكة الأغصان والأديان، وانتهاءً بالمجازر الكيماوية على أيدي نظامَي البعث الصدامي والأسدي.
ضفة ثالثة