حين طلب السجّان منا كأسا ليلة رأس السنة/ وائل السوّاح
في الأيام الأولى بعد الحرية، أخذت أضرب في شوارع دمشق على غير هدى. مشيت في شوارع دمشق القديمة. وتسلّقت الجسور الجديدة والعوالي والمحلقات. وراعني كم تغيّرت هذه المدينة التي عشقتها. رحت أبحث عن المقاهي التي كنت أرتادها والخمارات التي كنت أعرفها، واكتشفت أن معظمها قد زال أو أزيل، وعوضا عن الأماكن الدافئة الحميمة التي عرفتها، انتصبت صروح ضخمة ومطاعم غالية ومحلات مضيئة، تشعرك بأي شيء ما عدا الألفة. وهكذا اختفت خمارة أبو الياس وقهوة العمارة ومطاعم الشعلان. وساءني أنه لكي تشرب زجاجة من البيرة عليك أن تذهب إما إلى مطعم أو إلى بار في فندق خمسة نجوم، فتدفع مبلغا لا تقدر عليه ببساطة.
على أن ما راعني هو التغير الكبير في علاقات البشر بعضهم ببعض. واختفاء مفاهيم قديمة وظهور أخرى بديلة. شعرتُ أن العلاقات الإنسانية قد تبدلت كثيرا، وتغيرت إلى حد بعيد مفاهيم البشر عن العديد من القضايا. هناك أشياء كثير فقدت معناها أو استبدلت به معنى جديدا. الآن، هناك معنى جديد للحب وللصداقة وللوطن. وشعرت أن الحب ما عاد حبا، والوطن ما عاد وطنا، والأصدقاء ما عادوا أصدقاء. ثمّة انحلال روحي كبير وسعي محموم وراء الربح السهل والربح الصعب والربح المستحيل، سببه النمط الجديد للقيم الاستهلاكية المريعة التي انحدرنا إليها.
ومع ذلك، كان هنالك كمّ هائل من الحب والخير والجمال في أشخاص عرفتهم بعد السجن. في جلسة هادئة حول كأس من النبيذ، سألني خالد خليفة: “كيف كنت تعيش بلا خمر؟” كنا نجلس في بيته الصغير الذي يتربّع فوق قمّة تلّة مرتفعة في الجانب الشرقي لبلدة دمّر القديمة. كنت بلا سكن ولا عمل، فآواني في بيته، وسرعان ما احتللتُ البيت الصغير كأنه بيتي. وفي مرّة جاء خالد صباحا فوجد في بيته سبعة غرباء مطروحين أرضا، ينامون كيفما اتفق على الأرض أو الصوفا أو السرير. بعد سنتين سينشر خالد روايته الأولى حارس الخديعة، وبعد عقد ونيّف ستترجم روايته مديح الكراهية إلى أكثر من لغة، وسيصير اسما صعبا في عالم الرواية. ستتطوّر لغته ويرقى أسلوبه وتتعمّق شخصياته. شيء أحد فيه لن يتغيّر أو يتبدّل: كرمه الأصيل.
“خمر؟” سألت.
كنت أول من صنع خمرا في السجن. كنا في المهجع 4 في فرع التحقيق العسكري، في خريف 1984، وقد نقلت وبضعة رفاق آخرين بعد حملة كبيرة أدّت على اعتقال عدد كبير من الرفاق. كان عيد الميلاد يقترب، وكنت أفكر في “ليكور” النعناع الذي كنت أتذوّقه بمتعة إلى جانب حبّة اللوز الملبّس بالسر صبيحة عيد الميلاد حين أمرّ على أسر أصدقائي لأعايدهم. غليت نعناعا بالسكر، وأحكمت إغلاقه في غالون بلاستيكي مدة أحد عشر يوما. لا أدري أين قرأت ذلك، ولكنني عندما فتحت الغالون، وصفيت السائل المصفر، وتذوقته، أحسست بنشوة صغيرة تدغدغ جوفي. وتقاسمنا الخمرة في المهجع. دارت الكأس ودارت الرؤوس، وكان نجاحا باهرا. مدّ أبو عزيز يده نحو الكأس ورشف رشفة صغيرة، ثمّ قال بما يشبه الامتعاض: “خيّي، شو هادا الليكور؟ بدنا شي يعبّبي الراس. بدنا عرق بلدي”. حسن حسن قال لي مشجّعا: “أطيب من أي ليكور ذقتُ في الخارج”، أما فائق حويجة فعوج شفتيه وهو يلفظ كلمة ليكور بالحرف الصوتي الفرنسي، ساخرا بمحبة من لهجتي.
على أن تلك كانت البداية. أعدت التجربة أكثر من مرّة، وفي إحدى المرّات كان التخمير سيئا فتسمّمنا جميعنا، وأمضينا يوما نعاني من التقيؤ والصداع. بعدها خمرنا عنبا وتينا وتمرا وتفاحا وخبزا (!!) وحين نقلنا إلى سجن صيدنايا، أعدنا اختراع “الكركي.” والكركي هو جهاز تقطير الخمر لتحصل على العرق. كان ذلك إنجازا كبيرا: وصلنا قدرا كبيرة من الألومنيوم بخرطوم مياه دقيق مرّرناه من أسطوانة تحتوي ماء باردا، في الحمام كان أبو عزيز يجلس قرب الكركي، يضع العنب المخمّر المخلوط مع اليانسون في وعاء كبير فوق النار، ثم يراقب تبخّره ومروره في الخرطوم البلاستيكي الشفّاف، ثم نزوله في وعاء آخر نقطة، نقطة: طق.. طق.. طق.. وبجانبه كأس صغيرة مملوءة بالعرق الساخن الطازج. ولماذا لا تبرده يا أبو عزيز. لهْ لهْ، لا تغلط. هيك أصول المهنة، ثمّ يقدّم لي الكأس، فأرتشف منه رشفة صغيرة حارقة، تسري في العروق وتصعد إلى الرأس مباشرة، فأجدني في خمّارة فريدي، أراقب الشّرب، وأسرح في اللوحات المعلّقة على الجدار.
ليلة رأس السنة، في صيدنايا، كنا نقيم مأدبة كبيرة، يرتدي ياسر جلبوط ملابس بابا نويل ويبدأ بالتجول بين المهاجع، حاملا جرسا وكيسا مملوءً بالهدايا: قطعة صابون أو حبّة شوكولاتة، وأحيانا علبة فارغة، يتبعه عدد من الرفاق يغنون ويهزجون. ثم تبدأ الوليمة، فتدور الخمرة ويدور الرأس والشِّعر والأصدقاء، وتدور الدموع في المآقي، تنحبس خجلا في عيون البعض وتهرب من أصحابها عن البعض، فإذا فعلت الخمرة فعلها، انخرط بعضنا في بكاء مرير.
ثم يأتي الحرّاس. “بلا ضجة يا شباب”
“طيب. طيب” يقول أحدنا ويناشد البقية: “وطّوا الصوت شوي. نحنا بالحبس يا شباب”.
ثم يأتي سجان لطيف حلو المعشر، فيطلب سرّا كأسا أو كأسين له وللشباب. ويقول أبو عزيز: “أعطوهم يا أخوان. أعطوهم. وحق بيّي هدول فقرا أكثر منا”. نعطيه ونضحك ونسأل أيّنا السجان، إذن، وأيّنا السجين؟
حين علم مدير السجن بالأمر، أمر بمنع اليانسون من الوصول إلينا عبر الزيارة، فاستبدلناه بالشمرة، ليست الشمرة بنفس مستوى اليانسون ونكهته، ولكنها كانت تفي بالغرض جزئيا.
تلفزيون سوريا