خليل عبدالقادر… وتغميق الجروح باللون!/ محمد المطرود
المدنُ القرى:
كنا ننحدرُ من العزيزية والصالحية وقرية المفتِي، صوب مركزِ المدينة/ الحسكة الأشبهُ بقرية كبيرة، أبناء قبائل وحمائل وملل ريفية وبدوية، نتحدثُ العربية والكردية، العربي يرمي أحاديثه المبعثرة عن صيد» الطيور الحرّة» والكردي يسهبُ عن الحجل طائرهُ التاريخي، بداياتُ تعرفنا إلى المتنبي وعمر أبي ريشة وسليم بركات وعبدالله كوران وجكرخوين، وأغاني الأعراس، التي لم تترك حشمةً، وكانت باباً موارباً على» إيروتيك» خفيف، نُشغل به رغباتنا نحن الريفيين. الريفيون الذين يمرون بطين أحذيتهم بالحي العسكري، حيث المسيحيات يلتمعنّ كقطعٍ من الزجاج النقي، بتنانيرهن القصيرة، الشاويات الملفوحات بالشمس، السمراوات كخبزٍ هجين من طحين أسمر وآخر أبيض، والكرديات السابحات في الريح كغزالات جفولة، وهنّ يرافقننا في رحلة السوق، منحدراتٍ من «المشفى الوطني» و«مفرقِ كلش» وحارة الرفيق الشيوعي حسين عمرو.
نحملُ كتب المدرسة الإعدادية، وقد نما زغبٌ متفرّق مع ماء الحياء على وجوهنا، الطريق طويلة على ولدٍ شبه حافٍ، يخرّ صوب مدرسة البحتري من الصالحية الغزل، بيوت عشوائية، أزقةٌ تتداخلُ مع فناءات البيوت الوهمية أو المرسومة كمتاهةٍ، حتى تعتقد أنّك في بيت كبير واحد، له نافذة واحدة وباب واحد، ستدخلُ من نقطة ما، وتخرج من نقطة أخرى، بدونَ أن تجرح خصوصية المكان أو أهلهِ، المكان الذي سنجتاز وحلهُ كنعاجٍ هزيلةٍ!
البيت الأحمر القرميدي:
هذا المتخيّل أقرب إلى الحقيقة، ماذا يعني أن يكون هناك بيت دائري قرميدي، تعلوه غرفة واحدة، ماذا تعني هذه الطفرة/ المخالفة؟ كان هذا ثورة في أذهاننا الصغيرة، تفتح خيالنا على مساحات أخرى غير تلك الكتل الطينيةِ، أو مكعبات الإسمنت البلهاء، بالمقدار الذي يدهشنا هذا الغامض غير الحي، يدهشنا الحي الذي يسكنهُ أو الأحياء الذين سنتعرفهم في ما بعد، ونصدّق أنّهم ينتمون إلى ذلك الطمي الأسمر الذي تشكلنا منه. لم تكُ الأيام ذهبية بما يكفي، لكنّ حزننا صغير وقضايانا صغيرة، الحيوانات التي كنا نربيها في دواخلنا أقربُ إلى الحملان منها إلى الضباع، التي تعتاش فينا ومعنا اليوم، لم تكن للبيوت رايات واضحة و«الضيف ضيف الله» والصديق صديق، لا حدود، لا سواتر عالية، ولا حواجز تبرز أمامها هويتك الشخصية أو هويتك المجازية، هويتك قلبك الأبيض، وضوحك الذي يشبهُ لمعة سيفٍ تحت شمس الظهيرة في الجزيرة المنذورة للغبار، وحكايا الجنيّات والسلالات النقية الناجية من الكوارث الطبيعية، والاحتلالات الكثيرة لأرضِ الحضارات.
لاترتفعُ قامتي عن الأرض كثيراً، ولدٌ ربعٌ، يقتلهُ حياؤهُ المفرط، يتلعثمُ، يتلكأ، يتعثرُ، غالباً كنت أحسني أتدحرجُ إلى هدفي كجسم ثقيلٍ يتحدّرُ من شاهقٍ، وخطواتي أقربُ إلى حركةِ دراجة هوائية، دراجةٍ ترتفع من مستوى كونها كومة حديد وكاوتشوك إلى مستوى الحلم والأمنية، الدراجة التي ستحملني في ما بعد وأنا أرافقُ الحلّابات البدويات إلى مربطِ الشياه الحَلوبة.
إزميلُ الجنون:
في هذا السديم المنفرج عن ابتسامةٍ، نمرّ بأشيائنا الصغيرة، أشيائنا المدهشات آنذاك، الشبيهات بالأساطير، نجتمعُ في ساحة (النجمة) متدرجين في الصفوف والطول والعقول، أطولنا أحمد الصالح وأقصرنا أحمد الكطا وأوسمنا بهزاد ملا سعيد عازف الغيتار، ومضيفنا في عيد النوروز قرب النار المشتعلة على قمة كوكب، نرقبُ هناك بعيون ذئاب جائعة، شاباً ملتحياً يطوّعُ حجراً صلباً بأناة صياد، لا يعير أحداً أهمية، بل تخالهُ خارج زمان المحيطين به، وأكبر من أحاديثهم الجانبية عن الشكل الذي سيكونهُ الحجر، وفي ما بعد سيكون معلَماً من معالم مدينةِ الغبار، في الصباح سنمرُ بالتحفة الفنية، الرسمة كما يقولها الشوايا من العرب والكرد، والمنحوتة كما يسميها المثقفون والمتثاقفون، نعلكُ سندويشة الفلافل ونشرب كازوز «سينالكو» السندويشة بنصف ليرة والكازوزة بنصف ليرة ـ هذه هي ميزانية اليوم ـ وعصراً في طريقنا إلى معسكر الطلائع سنمر بالبيت الأحمر الدائري الغريب كصاحبهِ: «هذا بيت خليل عبد القادر»، كنتُ أنظرهُ مليئاً كطفل حالمٍ بشأنٍ كبير، لهُ الحق في أن يشرب شاي العصاري مع فنان مختلف ومجنون، لكنّ المسافة كانت تبدو طويلة، طويلة جداً!
صرتُ أتتبعهُ وعرفتُ أنّه أحبّ الغزالة الأرمنية، وصادها على طريقة أجداده لأيائل الجبال منذ سيامند السليفي وخجو، وسأكبرُ لأحبّ الكرديةَ وأنسى معلمي القادر على الصيد، فأهوي مثل أيّلٍ في مهوى الخسارات، كاسباً ملامحَ مجنونةٍ لشاعرٍ تقتلهُ فصاحتهُ، ويصبح تشكيلهُ، زخرفتهُ جزءاً ملازماً لشخصية الكتابةِ ومدعاة لتذمر بعضهم أو تندرهم.
غيابُ نجمة نادرة:
حزنتُ عندما صرتُ أجيءُ الحسكة فلا أرى الرسمة، منحوتة خليل، أزالوها كما أزالوا معالم كثيرة في الحياة، ليزرعوا صور القائد ولافتات البيعة والمسامير في قلوبنا الطرية، وسأعرفُ أنّ اليد التي رعت ذلك المعلّم بالحنيةِ والصبر إلى أن صار يتنفّس معنا قد غادرت البلاد إلى غير رجعة، سألتهُ في بدء تعارفنا: هل صحيح بعد أن نفذت ديكور مطعم البستان، وأخذت وقتها مبلغاً كبيراً، أعددت وليمة كبيرة في المكان نفسه، دعيت فيه أغلب أصدقائك، خرجتَ مديوناً لأصحابِ المطعم؟»، ردّ عليّ: كثيرات يا محمد!
عرفتهُ حنوناً، بعد أنْ حالَ بيني وبينهُ نزقهُ وفارق العمر والتجربة في الحسكة، هو لم يتغيّر في بلدهِ البديل، غير أننا لم نقرأهُ إلّا بعيون الدهشةِ والخوف من ذلك العالم الذي يطوّعه بيديه، ها هو يضحك معنا اليوم، يعتذر أحياناً من مزحةٍ يطلقها أو كلمة يظنها جرحت متلقيها.
معلمي خليل لم نعد قادرين أن نعود إلى ما كنا، تغيّرت النفوس والأمكنةُ، الحملان التي ربيناها في دواخلنا صارت ضباعاً، لن نبكي حجركَ الذي تركت هناك، سنبكي أرواحنا التي غاصت في الوحلِ مثلَ طليان هزيلة.
جروحنا (غميجة) والأحمر لا يكفي:
صديقي خليل عبد القادر «جروحنا غَميجة» واللون الأحمر، لم يعد لونَ الثورات! فلا تترك نساءك تفرُّ من اللوحة بحجةِ الحرية، نحنُ وأنت الذين طرنا إلى سماءٍ منخفضة صرنا أقربُ إلى عين القناص، الذي تعددت أشكالهُ وأسماؤهُ وأدواتهُ. الإزميل الذي طوّعت فيه حجر ساحة النجمة صار بدائياً، والذين كانوا يختبئون خلفَ آذانهم وأصابعهم صاروا أمراء حرب. لا تمر من هذا الطريق إذا عدتَ إلى البلد إلّا إذا تحفظ سورةَ الكهف، لا تعبر هذا الشارع إذا لم تكن صورة القائد الضرورة على شاشتك، لا تحاول مع هذا الزقاق إلّا إذا كنت قرأت للسروك «المسألة الشخصية».
هامش: في نيسان حيث سيعود تموزُ من معتقلهِ في الجحيم الأرضي وتعمّرُ الحياةُ بالأخضر ثانية، ستحتفي مملكةُ السويد بإقامة سبعة معارض، يعرض فيه القادر خليل ما يقارب أربعمئة لوحةٍ، حصيلة خمسين عامٍ من العلاقة مع التشكيل والجنون.
٭ شاعر وناقد سوري
القدس العربي