فكرة الثقافة ومعانيها… المفهوم في نُسخه المختلفة/ أحمد ليثي
أصدر الشاعر والناقد ت. س. إليوت في أربعينات القرن المنصرم كتابه “ملاحظات نحو تعريف الثقافة”، وفي هذا الكتاب اهتم إليوت بإبداء ملاحظات أولية نحو تعريف الثقافة وتحديد علاقتها بالدين والسياسة، إلا أن هذه الملاحظات لم تقدم الثقافة باعتبارها جزءًا أساسيًا في حركة نهوض المجتمعات وتقدمها الحضاري.
أما الناقد الأدبي ريموند وليامز، فقد تعقب الأصول المعقدة لكلمة الثقافة، وتوصل إلى ثلاثة معاني قام بالتمييز بينها.إذ كانت هذه الكلمة ممتدة في الريف لتكن في البداية أقرب إلى معنى كلمة كياسة، وكلمة كياسة تأتي من الفعل كيّس، وكيسه تعني أدّبه وجعله فطنًا. وغدت الكلمة في القرن الثامن عشر تعني حضارة، بما تشير إلى سيرورة عامة من التقدم الفكرة والروحي والمادي. والحال أن الثقافة كانت مرادفًا لكلمة الحضارة وهي تنتمي إلى الجو الذي أشاعه عصر التنوير في أوروبا، الذي كان يجل التطور العلماني.
بعد صدور كتاب إليوت بثمانين عامًا، تصدى الناقد البريطاني الماركسي الأشهر تيري إيغلتون لوضع كتاب «فكرة الثقافة»، صدر الكتاب عام 2000 عن دار نشر بلاكويل، وصدر في العربية عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات بترجمة ثائر ديب عام 2019.
وإذا كان إليوت قد ركز في كتابه على تحديد علاقة الثقافة بالدين والسياسة، فتيري إيغلتون، على الرغم من ماركسيته، قد استند إلى مجموعة واسعة من المصادر والنظريات والفروع المعرفية “كي يستقصي الطرائق التي تُعرف بها الثقافة وتُستخدم في تأويل العالم المادي والتفاعل معه”.
لعل ما سبق يمثل خير مقدمة للدخول إلى كتاب “فكرة الثقافة”، ذلك أن إيغلتون في الفصل الأول من الكتاب يتتبع أصول الكلمة في المعجم التاريخي للغة. ويقتضي البحث في الأصول التاريخية لكلمة ما استقصاء ما للكلمة من آثار في المعجم وتتبع أصولها وتغير معانيها من معنى لآخر ومن بيئة لأخرى. ولعل القارئ العربي يجد صعوبة في متابعة الأصول التاريخية للكلمة، ذلك أنه فضلاً عن عدم اعتياده على هذا النوع من البحث، فوجود معجم تاريخي عربي يتتبع أصول مفردة ما أمر نادر، اللهم إلا الجهود الحثيثة التي يبذلها معجم الدوحة التاريخي للغة العربية، ومجمع اللغة العربية في مصر.
معنى الثقافة
ما يحاول الكتاب أن يبينه أن للثقافة معنيين، أحدهما أنثروبولوجي ضيق ومحدود، وآخر جمالي واسع وضبابي، ونحن عالقون في هذه اللحظة بين تصورين للثقافة، وما نحتاجه هو أن نتخطى هذين التصورين، ذلك أن مفهوم الثقافة كمفهوم تحليلي قد صار ضعيفًا جدًا من حيث قدرته التحليلية إذا ما قيس بأي من المفاهيم الأساسية في علم الاجتماع. حتى إذا كانت الثقافة بحسب تعريف إ. ب. تايلور في كتابه الثقافة البدائية هي “ذلك الكل المركب الذي يشتمل على المعرفة والفنون والأخلاق والقانون والعرف وغير ذلك من المقدرات”، يتسم بانفتاح يبلغ حد التهور، إذ إن الثقافة هنا هي كل ما لا ينتقل بالوراثة.
كما يرى آخرون، أن الثقافة هي معرفة العالم التي تمكّن البشر من إيجاد طرائق مناسبة للفعل في سياقات محددة، وهذا التعريف يماثل تعريف الحكمة العملية عند أرسطو، إذ تهتم بمعرفة الكيفيات أكثر منها معرفة بالعلل، أي محاولة إيجاد كتيب إرشاد للتعامل مع العالم الذي يدور حول الإنسان، ولا تهتم بكيفية التفاعل معه.
من جهة أخرى، حينما وضع الناقد الأدبي الماركسي ريموند وليامز في تعريف محدد كامل للثقافة في إحدى مقالاته الباكرة، بين التعريفات الكلاسيكية للثقافة، لم يقدمها في معنى واحد وإنما في أربعة معانٍ متميزة للثقافة، فالثقافة بوصفها طبعًا عقليًا فرديًا، والثقافة بوصفها حالة من التطور الفكري الذي يصيب مجتمعًا كاملاً، والثقافة بوصفها الجانب الذي يهتم بالفنون، والثقافة بوصفها طريقة حياة كلية لمجموعة من البشر.
نلاحظ هنا أن تعريف الثقافة قبل وليامز كان يتجه إلى وصفها كحالة فكرية أو جانب يهتم بالفنون، ولكن ما حدث هو أن الدافع السياسي لوليامز باعتباره ماركسيًا عتيدًا، هو الذي دفعه إلى وصفها بأنها حالة فكرية تصيب مجتمعًا كاملاً، ذلك أن حصر تعريف الثقافة بوصفها أداة تهتم بالثقافة والفنون فقط يعني المخاطرة بإقصاء الطبقة العاملة عن أن تكون مثقفة، وهذا آخر ما كان يريده وليامز. لكن مع التعريف الذي أضافه للثقافة، كان بوسع المفهوم أن يضم المؤسسات العمالية، كالنقابات والتعاونيات، وصار بمقدور الطبقة العاملة أن تنتج ما يمكن أن نعتبره منتجًا ثقافيًا.
إذا مددنا الخط على استقامته، سنجد أن هناك بعض النقاد كتيري إيغلتون وغيره يرفضون حجة بعض الدوائر الثقافية الأكاديمية الغربية التي تفترض أن كل ما هو ثقافي يجب أن يكون غربيًا، إلا أن الثقافة باعتبارها العيش الرائق والفنون الجميلة ليست حكرًا على الغرب فقط، كما أنها لا تقتصر على الفن البرجوازي التقليدي، فالكلمة باتت تطول مجالات أشد تنوعًا.
يتساءل إيغلتون في هذا الصدد، إذا ما كان حلف الناتو العسكري ينتمي للثقافة الغربية، أم أن دانتي وجوتة وستندال هم من يجب إدراجهم ضمن الثقافة الغربية، ويتهم من يفترض أن الثقافة غربية بطبيعتها أنهم ينسون أن كثيرًا من هذه الثقافة مما يروق ليسار البنك الدولي، مبينًا أن من ينعتوا أنفسهم بالجذريين لا بد أن يتذمروا من وظيفة هذه الثقافة بالنسبة للعالم ومحتوى هذه الثقافة، مؤكدًا أن الثقافة التي يعرفها هؤلاء هي الثقافة التي تشير إلى الجماعات ذات الثراء والامتيازات.
الأدب لا يدعم احتكار الثقافة
إذا افترضنا ان جميع قيم الأدب المكرّس المعتمد تدعم المؤسسة السياسية القائمة، سنجد أن هوميروس لم يكن إنسانويًا ليبراليًا، وشكسبير صدر عنه كلام طيب بشأن المساواة الجذرية في حين أن صموئيل جونسون حيّا ما جرى في أيامه من عصيان شعبي مسلح في الكاريبي، أما فلوبير فقد كان يحتقر الطبقات الوسطى، ولم نعرف عن تولستوي أن كان لديه وقت يمضيه في الاهتمام بالملكية الخاصة.
الحق أن ما يهم هنا ليس الأعمال التي أنتجها أعظم الأدباء، ولكن في الطريقة التي تؤول بها هذه الأعمال على نحو مجتمعي، ففي النهاية، تُقدم الأعمال الأدبية كدليل على وحدة الروح الإنساني، أو على تفوق التخيلي على الفعلي. إن الأمر الأساسي عندما نتحدث عن الثقافة هو أن قيمها لا تمثل أي شكل حياتي محدد، وإنما هي قيم الإنسانية. وما يحدث تاليًا يظل أمرًا عارضًا تمامًا. وعلى سبيل المثال، صحيح أن هناك ثقافة تاريخية مخصوصة تعرف باسم أوروبا، وقد تجسدت الثقافة على هذه البقعة من الأرض على النحو الأمثل، لكن إذا حاولنا البحث عن أسباب نشأة تلك الثقافة على النحو الأمثل في أوروبا سنجد أنها أسباب عارضة تمامًا، ذلك أن قيم الثقافة كونية وغير مجردة في آن.
لا يبدو الغرب في وضع يؤهله الآن للانتصار في الحروب الثقافية على الأقل. ذلك أن الثقافة الرفيعة أشد ترفعًا وتساميًا من أن تكون قوة سياسية فاعلة، أما الثقافة ما بعد الحديثة فغالبًا ما تكون هشة، وبعيدة عن السياسة. قد يكون من الصحيح القول: إن ما بعد الحداثة، طريقة مفيدة للغرب كي ينفّس عن هويته المزهوة بنفسها، لكن ذلك يتم في إطار جغرافيا محددة، لأنها حين تصل إلى جغرافيا عالم ما بعد الاستعمار في هيئة نزعة استهلاكية مبتذلة، يمكن أن توقع الهويات والجماعات التقليدية هناك في أشكال من الأزمة أبعد ما تكون عن الخلق والإبداع، وحين تكون العلاقة كذلك، بين أوروبا وبين عالم ما بعد الاستعمار، ستغذي الأصولية التي هي آخر ما تريد ما بعد الحداثة ذات العقلية المنفتحة. وهذا ما يحدث ليس فقط في جغرافيا الجنوب وبلاد ما بعد الاستعمار، بل إنها تحدث في مناطق وقطاعات أصولية داخل الغرب ذاته.
هذا يعني أن الأصولية ومناهضة الأصولية ليستا بأي حال ما يظهران عليه من أنهما قطبان متناحران، ذلك أن مناهضة الأصولية تحت شروط ما بعد الحداثة، وفي عالم الرأسمالية قد تنتهي إلى خدمة الأصولية، كما أن انتصار الرأسمالية النهائية – نقصد بهذا رؤيتها الثقافية وهي تصل إلى أبعد مناطق الأرض – قد يثبت أيضًا أن فيه أشد الأخطار على الرأسمالية ذاتها.
الرأسمالية والثقافة
لم يفت الماركسي تيري إيغلتون أن يعرج على آثار الرأسمالية ووبالها على الثقافة، ففي رأيه أن الرأسمالية العابرة للقوميات تولّد العزلة والقلق أيضًا، حيث إنها تقتلع البشر وتحطم روابطهم التقليدية وتوقع أزمة مزمنة في هويتهم، ولذلك فهي تعزز ثقافات التضامن والدفاع في الوقت الذي تدعي فيه أنها ثقافة كوزموبوليتانية جديدة، إذ كلما تعاظمت طليعية العالم زاد انتشار صيحات البدع والهرطقة. فمقابل كل عطر باريسي في طوكيو يمكن أن نجد سفاحًا نازيًا في مقتبل العمر. بعبارة أخرى، ما حدث في أيامنا لا يقتصر على انخراط معنى الثقافة في نزاع عنيف بوصف الثقافة هوية فحسب. بل إن الأمر دخل خريطة بعض أكبر الصراعات السياسية في زماننا بما في ذلك بين شمال العالم وجنوبه، فالثقافة بمعناها الجمالي والأنثروبولوجي لا تشكلان الآن طرفي نزاع أكاديمي وحسب كما كنا شرحنا، ولكنها باتت محورًا جغرافيًا سياسيًا، فقد صارت تمثل ذلك الاختلاف بين الغرب وبين الآخرين. وبصورة أعم صار الاختلاف بين الحضارة الليبرالية الغربية وبين كل الأشكال الاندماجية التي تتعارك مع هذه الحضارة: القومية، المحلية، سياسات الهوية، الفاشية الجديدة، والأصولية الدينية. وذلك على الرغم من أن بعض تلك الأشكال الاندماجية هي من نتاج تلك الحضارة الليبرالية.
بالنسبة إلى الفكر الاشتراكي، كانت الرأسمالية، هي أول نمط عالمي فعلا بين انماط الإنتاج، وقد ولّد هذا بعض الشروط لنوع إيجابي من الكونية. الكونية بالنسبة لماركس كانت ينبغي أن تتحقق على مستوى الخصوصية الفردية، إذ إن الشيوعية، على عكس ذلك، هي علاقة بين الأفراد الأحرار،الموجودين في المجتمع البرجوازي الليبرالي. كانت الاشتراكية تنظر لهذا الوضع على أنه الوضع الأمثل لبناء كونية مخصصة، لا كونية رأسمالية، إذ كانت الكونية الرأسمالية قد أنجزت عملها، وجمعت حشدًا من الثقافات المختلفة، وبقى على الاشتراكية الآن أن تستفيد من هذا الأمر ببناء ثقافة كونية على هذه التباينات التي صنعتها الرأسمالية.
مجلة رمان