الناس

عمر الحقائب/ مصطفى أبو شمس

    لا شيء ينتظر المسافر غير حاضره الحزين.. وحلٌ وطين

    – عبد الوهاب البياتي، قصيدة مسافر بلا حقائب

تختصر الحقائب أعمارنا وتختزن ما استطاعت من ذاكرتنا، تُشعرنا بالخجل أحياناً، وتزيدنا ثقة أحياناً أخرى. تختلف بحسب أشكالها وجودتها وألوانها. ولكل زمن حقائبه أيضاً، وتحمل في تنوعها سمة لاختلافنا نحن وطبقاتنا، ثقافتنا وأمّيتنا، فقرنا وغنانا، لا مبالاتنا وأحزابنا… لعلها تستطيع تنميطنا وحصرنا في قوائم غالباً ما تكون حقيقية، لا يشذ عنها سوى قلة من التائهين بين كل ما سلف.

في ثمانيات القرن الماضي، كان كيس النايلون الشفاف الأبيض، والمأخوذ حكماً من ربطة خبز، حقيبة مدرسية لآلاف الطلبة، تحاول الأم جاهدة أن تطلب من أطفالها مداراته كي لا يتمزق. عبثاً ما كانت تقول، فحجم الكتب وشقاوة الأطفال يحيلونه إلى نتف في دقائق قليلة. في الصف ذاته بعض الطلبة الذين يملكون حقيبة، غالباً ما يكون أحدنا قد ورثها عن إخوته الأكبر سناً، وجرّبت بها الأم مهنة الخياطة والإسكافي. حقيبة بخيوط مختلفة الألوان والأشكال، في وقت سابق كانت تحمل صورة غابت ملامحها، وفي المقدمة يحمل طالبٌ أنيقٌ حقيبة ندعوها «سمسونايت»، كانت تحوي أحياناً أقفالاً رقمية وكان علينا جميعاً احترامها وصاحبها.

الأكبر سناً منا، في المدارس الثانوية والجامعات، كانوا يحصلون على «كلاسور»، وهو مصنّف ورق مقوى مغلف بنايلون، غالباً ما يحمل صوراً لمناظر طبيعية أو صور مطربين أو مشاهير أو مشاهد من أفلام عالمية، كانت رؤيته وحدها تفرح القلب. هذا بالذات لا يمكن توريثه لأنه لا يعيش طويلاً، مقابل الكلاسور كان هناك الطلبة الذين يحملون كتبهم بأيديهم، وهم الفئة الأكبر؛ أو أولئك الذين يربطونها بمطاط عريض جُهِّزَ لذلك. الفتيات كن يخفين صدورهن بالكتب خجلاً من أنوثة طارئة ربما، أو إخفاء لها. أما صاحب «السمسونايت» فقد ظل محافظاً على هدوئه المعهود، يحملها بيده اليمنى مع استقامة في الظهر وحذاء ملمّع وذقن حليقة وبدلة كورية مكوية كحد السيف، وغالباً مع نظارات تُضيف له هيبة الضابط في الطرقات، والطبيب في الصف.

للآباء والأمهات حقائب أيضاً، تخيطها الأم من أكياس الطحين البلاستيكية، ويُحمّلها الأب ما يشتريه من مواد غذائية. يكفي أن تنظر في كف والدك لتعلم صدق ما نقوله، وكيف حزّت الحقيبة خطوطاً على كفيه لا تمحى. وفي صدر الأم جزدان من الخرز صنعه سجين سابق من أقربائها وقدمه هدية لها، أو باعه سجين آخر ليشتري بثمنه دخاناً وبعض الشاي تساعده على إمضاء الوقت.

في المناسبات والطلعات الرسمية النادرة، تحمل الأم حقيبة على كتفها، لها سلسال طويل ذهبي اللون، نادراً ما يغيب اللون الأسود أو البني عنها، بقفل على شكل حلقة، داخلها إسفنج كثيف، ويغطيها جلد من المشمع، تحتفظ بها الأمهات لسنوات، قبل أن تنسّقها لتضع فيها الأوراق المهمة وبعض الصور الخاصة.

حقائب المعلمين، التي اقتصر وجودها عند قلة قليلة منهم، كانت تشبه حقائب اللابتوب اليوم، بأذنين طويلتين وسحابات كثيرة، يمرّ من جانبها الجزء الذي لم يتسع من العصا التي كانت رفيقة دربه، وبعض ألواح الطباشير النايلون التي يشتريها على حسابه، ذلك أن المدرسة لا تقدم سوى ذلك النوع الرديء من الطباشير العادي الذي لا يمحى عن اللوح ولا يكتب، ويتسبب باتساخ لباس المعلم الذي يترك بصماته على الحقيبة واللباس ووجوهنا وكل شيء.

الأطباء يحملون حقيبة تشبه «السمسونايت»، ويضعون في داخلها جهاز الضغط الزئبقي وبعضاً من خافضات اللسان والحقن الإسعافية وميزان الحرارة، ربما يكون ذلك المشهد هو ما أعطى لهذا النوع من الحقائب هيبتها في قلوبنا، وباتت جزءاً لا يتجزأ من حياة أي طبيب.

المسؤولون الذين كنا نشاهدهم على «مرايا» التلفاز كانوا يملكون الحقائب نفسها، إلا أنهم لا يحملونها بأنفسهم، فتلك مهمة السائق والمرافقة. يسود اعتقادٌ بين أبناء جيلنا بأنها فارغة، وتُستخدم فقط لوضع النقود والرشاوى، يفتحها المسؤول على مكتبه ويبدأ المراجعون بملئها قبل أن ينتهي الدوام الرسمي.

التجّار أيضاً يملكون مثل هذه الحقيبة بأعداد كبيرة، فغالباً ما يتناسونها عند أصحاب القرار، ليملؤوا بدلاً منها حقائب كثيرة لمسؤولين آخرين ضمن دورة لا تنتهي.

طلاب الكليات العسكرية لهم حقائب سمسونايت أيضاً. الذين يمرون خلال إجازاتهم بنا، يرتدون ثياباً عسكرية وقبعات وكفوف بيضاء، ويحملون حقيبتهم السوداء التي غالباً ما تحتوي لباساً داخلياً وجوارب متسخة. بعد تخرّجهم لا يحتاجون للحقائب، فهم يمتلكون من الوقاحة أن يملؤوا جيوبهم بالرشى أمام الجميع وعلى عينك يا تاجر. وعندما تكبر رتبتهم يتولى المهمة سائقهم وباكاج السيارة الواسع، فهم لا يكتفون بالنقود، كل ما يمر أمامهم يُسيل لعابهم، حتى وإن لم يستخدموه.

الشرطة العاديون حولوا خوذهم إلى حقائب، حراس المشافي استخدموا علب البسكويت الفارغ لتلك المهمة، جامعو التبرعات حولوا سجادة الصلاة إلى حقيبة، المشايخ استخدموا العمائم، القضاة استخدموا السجّل العقاري، والنصابون حملوا حقائب سمسونايت تحتوي على عطر وحذاء جديد وعدد من علب سجائر المارلبورو.

للعروس قبل زفافها حقيبة سفر مدولبة، تعيد فردها وترتيبها مرات كل يوم، وعند كل زيارة من صديقاتها، تحشوها لتصبح بحجم جمل ويتطلب حملها ثلاثة رجال، بعد أن تكسر دواليبها منذ اليوم الأول. تحتفظ بها العروس بعد زفافها لسنوات كثيرة قادمة على ظهر الخزانة، ثم تنقلها إلى السقيفة، لعل ذلك يشبه مراحل الحياة التي مرت بها، ربما نعم وربما لا، ولكن الأمهات سيقلن لك ذلك إن سألتهن.

في السفر يصبح كيس «الخيش» و«النايلون» حقائب تخاط من الأمام بخيط من النايلون، وتتحول «سحارات» الخضار وكراتين «السمامنة» إلى حقائب أيضاً، أما الإيشاربات والشراشف فتصبح «بقجاً»، والأغطية سنادات لحماية غرفة النوم العزيزة وخشبها، ذلك إن كان السفر طويلاً، وقتها كل شيء يتحول إلى حقيبة.

لا أعرف شكل الحقيبة الدبلوماسية، أتخيلها سمسونايت، وكذلك الحقائب الوزارية، ويدفعني للضحك اصطلاح سياسي عن وزير بلا حقيبة، أقول إنه «وزير سكبة يحمل كيساً من النايلون من ربطة خبز ويضع فيه ما يتحصل عليه من نقود قليلة». كذلك لم ألاحظ يوماً صورة لحقيبة رئيس، أعتقد أنه لا يحملها بنفسه، بل نحملها كلنا عنه ونضعها بين يديه، فقراء بأكياس النايلون وآباء بكفوف محززة وأمهات بجزادين من الخرز، وشرطة وضباط وقضاة ووزراء وتجار وطلاب جامعات.

الحقائب الجديدة تشبه القديمة إلا أنها بمسميات وأشكال وألوان مختلفة، فهنا حقيبة المعفش والشبيح وهي على شكل بيوت وقرى ومدن هجر سكانها، وتلك التي يستخدمها تجار الأزمات في طرفي المعارضة والنظام، وقد تحولت إلى شركات صرافة وحسابات بنكية بالعملة الصعبة، والقضاة والسماسرة للإفراج عن معتقل أو معرفة مكانه، لاستخراج ورقة رسمية أو جواز سفر. الحقيبة تغيرت إلى محافظ جلدية صغيرة تضم الدولارات، ليسهل إخفاؤها ونقلها، خاصة وأن المبلغ بالعملة السورية يحتاج لحقائب سمسونايت كثيرة جداً.

قواد الفصائل صارت حقائبهم على شكل أسلحة للبيع، وأكياس من الرزم توضع تحت أقدام السائق في سيارة الدفع الرباعي، للدلالة على عدم الاكتراث، فالنقود كثيرة ولا يهم ضياع قسم منها. منهم من حوَّلَ حقيبته إلى بئر نفط، بعضهم حولها إلى غنائم، وأعرف منهم من سكّ عملة ذهبية وأعاد للزمن أكياس الدنانير.

لم تعد الأمهات تملك أي حقائب، فأبناؤهنّ في السجون لا وقت لديهم لشغل الخرز، هم يموتون ولا يحتاجون للدخان والشاي. الآباء لا يحتاجون لحقائب تحزّ أكفهم، فكل ما يملكونه في جيوبهم لا يشتري ما يستحق حمله. الأطفال لا يحتاجون للحقائب، فالمدارس أغلقت أبوابها، العرائس أيضاً، فلا صديقات يزرن أحداً اليوم لرؤية جهاز في خيمة. المعلمون والأطباء بلا حقائب، ولا رئيس في قومنا ولا وزير بحقيبة، جميعهم بلا حقائب.

الحقائب التي بقيت على حالها هي تلك التي تحتوي نزوح مئات الآلاف من السكان، أكياس الخيش والنايلون والكراتين وكل ما يمكن أن يشكل فراغاً، هذا إن توفرت رفاهية حمل الأمتعة أو سيارة للنقل أو حتى أجرتها، وحقائب صغيرة لشبّان وعائلات يقطعون الحدود إلى غير رجعة، نادراً ما يصل منهم أحد، وغالباً يُعادون أو يُقتلون. وحقيبة رئيس البلاد التي جمع محتوياتها خلال كل هذه السنوات ليهديها لرئيس آخر، في الوقت الذي يجهز أنيابه لملئها من جديد، وسط تصفيقنا وتهليلاتنا وزغاريد النصر.

موقع الجمهورية

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى