قواميس العزلة السورية/ علي سفر
خلال أيام قليلة وبشكل لافت ويستحق الدراسة سرت بين سوريي فيسبوك ظاهرة إنشاء مجموعات القواميس التي تبحث باللهجات المحلية فصار المتصفح يتلقى دعوات للاشتراك والمساهمة في (قاموس الشوايا) و(قاموس الشوام) و(قاموس الحموية) و(قاموس الحماصني حومص) و(قاموس حوران) و(قاموس بني معروف) و(قاموس السلامنة) و(قاموس أهل الساحل) و(كلمات إدلبية قديمة) و(كلمات حلبية أنتيكا) و(قاموس سوريا المفشكل) كما ظهرت مجموعة لتعليم اللغة الكردية لمن يرغب، وغيرها!
لم يشهد السوريون خلال تاريخهم الحديث ميلاً جارفاً نحو تعزيز الانتماء المناطقي المغرق في محليته، لا سيما عبر الإغراق في إظهار اللهجات المحلية والتشديد عليها. فقد كان للسوريين لهجة عامة هي أقرب للهجة الشامية المخففة، وعلى نطاق أضيق كانت لهجات المدن الكبرى لا سيما دمشق وحلب وحمص هي الأكثر بروزاً، ضمن سياق طبيعي لم يحمل اللهجات أي أبعاد خارجة عن منطقها التداولي اليومي!
لكن الأثر المختلف لوقع اللهجات السورية على أسماع مواطنيها بدأ يظهر منذ بداية ستينيات القرن الماضي. وعلى وجه التحديد مع استيلاء البعثيين على السلطة، وتحول سلطتهم التي قادتها اللجنة العسكرية الشهيرة إلى سلطة أقليات طائفية، سماها السوريون سلطة (عدس= اختصار لكلمات علوي ودرزي وإسماعيلي).
تبعاً لهذا صارت لهجات الأقليات (رطانة) بالنسبة للأكثرية من سكان المدن! ومع مرور الوقت واضمحلال مشاركة الدروز والإسماعيليين في السلطة وتفرد حافظ الأسد بحكم سوريا، وبعد أن صارت أجهزة المخابرات سيفاً مصلتاً على رقاب السوريين، بالتماشي مع علونة الجيش والمؤسسة الأمنية، باتت لهجة العلويين ملمحاً من ملامح التسلطية الأمنية السائدة، وكناية عن الانتماء إلى حظيرة السلطة. وقد نبذ السوريون عموماً وجزء كبير من المثقفين العلويين هذا التنميط المقصود للشخصية العلوية، فحاول البعض رفض هذا السياق عبر تعزيز الانتماء للعربية الفصيحة، ورفض اللهجة المحلية المقعرة، فصنعوا في البداية أفلاماً نَحتْ إلى “أنسنة” حضور هذه اللهجة بدلاً من إبقائها أسيرة عناصر الأمن، الذين كلما أرادوا إفزاع سوري قاموا بالقرقرة أمامه! ولتعزيز هذه الأنسنة) أنتجوا مسرحياتٍ ومسلسلاتٍ نطقت بلهجة أهل الساحل.
وقد انسجم هذا الاتجاه بسرعة ضمن سياق صناعة الدراما السورية التي سبق لها أن كرست نوعاً درامياً يخاطب المشاهد عبر عناصر بيئية كانت اللهجة جزءاً منها، اسمه دراما البيئة الشعبية، فصار لدى الجمهور مسلسلات شامية وأخرى حلبية وساحلية ودرزية أيضاً.
إذاً، لا جديد في سياق اللهجات المحلية السورية، سوى أن البعض أراد وفي حيز الحجز المنزلي المفروض حالياً، إثر تفشي فيروس كورونا في العالم أن يسلي نفسه والآخرين معه، عبر خلق منصة تفاعل بمادة مسلية هي اللغة، فانضوى آلاف في هذه المجموعات خفيفة الظل عموماً، وبات الموضوع حاضراً في سياق اليوميات السورية، دون أن نلحظ ميلاً للتعاطي معه من بوابة البحث اللغوي أو الاشتغال اللساني، الذي يقارن بين اللغات واللهجات، بل إن أي اجتهاد في هذا السياق كان يقابل باستغلاظ المتابعين! الذين لا يريدون أن يفسدوا كسلهم “اللذيذ” في معتزلاتهم الإجبارية بأعمال بحثية تتطلب منهم بذل الجهد لكتابة قواميس فعلية! ولكن هل كانت اللهجات المحلية السورية غائبة عن البحث فيما مضى ليأخذ العمل على تذكر مفرداتها هذا الشكل الانفجاري؟
واقعياً، كانت اللهجات المحلية السورية مادة بحثية وذخيرة لقواميس متعددة طيلة قرن من الزمن وربما أكثر، فقد صنع المستشرقون كتباً عديدة عن لهجاتنا المحلية ليس في سوريا فقط بل في كل بلاد المشرق العربي، ومن هؤلاء يمر معنا على سبيل المثال لا الحصر اسم المستشرق الروسي ي. س. فيلتشايك (1902 – 1939) صاحب قاموس اللهجات السورية واللبنانية والفلسطينية.
كما أن أبناء العربية وجدوا أنفسهم في مواجهة الحمولة الهائلة للغة العربية ولهجاتها المحلية، فصنعوا في سبيل ذلك الكثير، ولم يواجه عملهم أي صعوبات على المستوى الرسمي، إذ اعتبر البحث في اللهجات جزءا من عمل مديريات التراث والثقافة الشعبية، وضمن هذا السياق حفلت إصدارات وزارة الثقافة السورية بالعناوين حول هذا المسار، والتي تتصدرها موسوعة العامية السورية للباحث ياسين عبد الرحيم بأجزائها الثلاثة (صدرت في 2003 ثم أعيد طبعها في 2018) إضافة إلى عدد غير قليل من أبحاث دونت تفاصيل اللهجات المحلية هنا وهناك!
وفقاً لما سبق، لا يمكن اعتبار الحديث عن اللهجات المحلية والاستغراق فيها ملمحاً من ملامح التفكك على المستوى الوطني، يجب عدم الانجرار إليه بحسب أولئك الذين هاجموا مجموعات القواميس السورية وحذروا منها على صفحات فيسبوك ، فوضعوها ضمن سياق مؤامرة تهدف إلى إرساء سوريا مقسمة ومبعثرة! إذ إن الاشتغال الراهن غير مؤسس بطريقة منظمة، بل هو مجرد ظاهرة عفوية اجتمع في سياقها سوريون كثر، دون أن ينقسموا وفق المعيار الأشد قسوة حالياً أي معيار الانتماء للثورة أو الموقف من النظام!
وبينما كان هؤلاء يحذرون من ملامح التفكك، كان آخرون يهاجمون ظاهرة “توحد” هؤلاء السوريين! فتساءلوا عن الكيفية أو الأسباب التي تجعل “الثوار” يقبلون الوجود في حيز كهذا يجمعهم مع آخرين، يمكن وصفهم بحسب سياقات حياتهم وأفعالهم بأنهم شبيحة وقتلة!
مهاجمو الظاهرة الذين يقفون في زوايا متقابلة ومتباعدة، لم يروا على ما يبدو أن ما يجري على صفحات الفيسبوك هو سياق خاص، يتم فيه تعميم المعرفة بكافة أشكالها وأحجامها وبكل مضامينها، دون أن يتمكن أحد أو جهة أو مؤسسة بفرض حضوره أو سلطته على تلك الظاهرة.
ما يعزز في الواقع الطابع المنفلت للفعاليات التي تحملها شبكات التواصل الاجتماعي. فإذا كنا نلتمس الإيجابيات التي يحملها هذا الفعل لجهة عدم إمكانية عودة القمع للتحكم بالسوريين، بعد أن باتوا فعلياً من سكان الإنترنت وهذه الشبكات تحديداً، فإن على المعترضين على هذا “التداعي” اللغوي العفوي أن يحاولوا مقاربته وتأمله لعلهم يجدون فيه ما ينفع حقاً! وإذا لم يعجبهم الأمر فليتجاهلوا وجودها، وكأنها تجري في بلد بعيد.
لقد قامت الثورة بتعريف السوريين على بعضهم فعلياً، فصاروا وبحكم ما جرى يعرفون أسماء البلدات والقرى في كل محافظات بلدهم، ويمكن لهذه المساحات التفاعلية التي يغلب على المشاركين فيها من كل السوريين طابع الانتماء للثورة أن تساهم في إعادة صياغة الفضاء العام السوري الذي دمرته الديكتاتورية طيلة عقود، فاللهجات هنا ليست حلقات درامية ساخرة، بل هي مساحة لغوية تكتنز معطيات نفسية واجتماعية واقتصادية هائلة، يخسر كثيراً من لم يطلع عليها، طالما أنها وجه من وجوه سوريا المدنية المتعددة!
تلفزيون سوريا