نهرٌ في آخر الحي/ قاسم البصري
لطالما تملّكتني رغبةٌ طافحةٌ في الكلام عن نهر الفرات، عن تلك المساحات التي يشغلها في ذاكرتي ووجداني. سابقاً، لم يكن استحضار هذا النهر عصيّاً، ولم يصدف أن تكلمت مرّةً بين أصحابي عن مدينة الميادين، التي ولدتُ فيها، من دون أن أعرّج طويلاً على ذكر الفرات. يبدو الأمر شاقّاً اليوم، فها أنا أعاني منذ أيامٍ عديدة للكتابة عن النهر العظيم من دون أن أصل إلى نتيجةٍ مرضية، رغم أنّ ذاكرتي محشوّةٌ بكثير من التفاصيل التي كان هذا الماء مسرحها. من بين مئات الحكايات والذكريات لا أجد الآن ما أقوله، ولا أدري حقيقة السبب الذي يجعل ذلك النهر عصيّاً على الاستحضار بمقدار ما هو عصيٌّ على الزيارة.
لعلّ الشوق هو المانع، فنحن نشتاق إلى الدرجة التي يصعب معها البوح أو التعبير. أو ربّما يعود سبب ذلك إلى كوني أحاول الكتابة لا الحديث، إذ دائماً ما يكون الحديث ضمن جماعةٍ مسبوقاً بما يجوزُ تسميته مُحفّزات الذاكرة، وهي بضع قصصٍ يرويها المتكلمون من حولنا، ليحيلونا إلى تذكّر ما يشبهها في سياقنا الشخصي. من أجل تخطّي ذلك، تقودني أيام الحجر الصحي التي أعيشها اليوم بعيداَ عن الناس إلى البحث، بشكلٍ فرديٍّ، عن محفّزاتٍ للذاكرة من ذاكرتي نفسها.
أعترف أنّ الأمكنة، لا الشخوص أو الأحداث، هي أبرز محفّزات الذاكرة لدي، كما أنّ لها حضوراً بارزاً في حياتي، فأنا شديد التعلّق بتفاصيلها، وشديد الحنين أيضاً. هنا، أسمح لنفسي أنّ أعرّف حب الوطن تعريفاً قد يبدو قاصراً، وهو أنّه العلاقة التي بنيناها مع المكان حتى صرنا جزءاً منه وصار جزءاً منّا. ومن حيث إنّ المكان هو الذاكرة، فإنّ حبّ الوطن ضربٌ من الرغبة في التشبّث بالذاكرة وجعلها غير قابلةٍ للامّحاء. وبموجب هذا التعريف الشخصي سيكون لأيٍّ منّا أوطاناً عديدةً بتعدّد الأمكنة، وقد كان الفرات أول أوطاني.
*****
عطفاً على كوني أحاول الكتابة عن الفرات وحيداً في غرفتي الصغيرة، حيث لا يوجد صحبٌ يحفّزونني على الكلام، أحاول تقليد الشعراء من أجل تخطي هذا العجز الحائل بيني وبين ذاكرتي. يعني ذلك أنّ أستثير ذاكرتي بنفسي، وأن أُدوزنها بطريقةٍ تجعل منها سهلة النبش. كان الشعراء يستفتحون قصائدهم بالوقوف على الطلل والغزل والتنسيب والفخر قبل أن يخلصوا إلى غرضهم، بمعنى أنّهم كانوا يُدوزنون قرائحهم لتعطي أفضل ما فيها، وهم يقاربون في ذلك دوزنة العازفين للآلات الموسيقية. مظفّر النواب طلب من جمهوره في إحدى أمسيّاته بأن يسمحوا له بدوزنة نفسه بأبيات غزلٍ لا تنتمي إلى موضوعٍ أو قصيدة. بحثت عن هذه الأمسية مراراً ولم أعد أجدها، لعلّ هذه الدوزنة تقسيمٌ لا نظير له في شعر النواب.
وما من طريقةٍ أنسب لدوزنة الذاكرة التي ينطوي في أعماقها الكثير من نهر الفرات سوى عملية بحثٍ رومانسية عن نقاط التشابه بيني وبين هذا النهر، فلعلّ ذلك يكون مدخلاً لتجاوز العجز. معلومٌ أنّ المخلوقات الحية تتأثّر بالطبيعة التي تُخلق فيها، بل يُقال إنّ بمقدور الطبيعة أن تصوغ أيّاً منّا على شاكلتها، وأن تعطيه شيئاً من صفاتها. وفي هذا الإطار تبرز مبالغات الكلام، فنقول إنّ فلاناً يُشبه الجبل ثباتاً أو السماء علوّاً، والشعراء الركيكون، بدورهم، يشبّهون لون العيون بزرقة البحر أو اخضرار الشجر. ولدتُ قرب النهر والبادية، أو بينهما على سبيل الدقة، ولكنّي لا أعرف إن كنت أحمل شيئاً من صفات أيٍّ منهما، إن كان على صعيد الشكل أو الجوهر. كتبتُ مرّةً بأنّ رجال دير الزور من البادية، ونساءها من الفرات. كنتُ أحاول أن أُضفي سحراً على هاتيك النساء، أن أنتصر لهن، أن أقول إننا محضُ غبارٍ تحمله الريح، وإنّهنّ ربّات الخصب وجلّابات الندى.
قد لا أكون شديد التشابه مع نهر الفرات، ولكنّ ذلك لا يمنع من القول إنّ الأنهار شبيهةٌ بالبشر؛ ثمّة نهرٌ سريعٌ وغاضب وآخرٌ بطيءٌ وهادئ؛ نهرٌ ضيّق السرير وآخرٌ يكاد يكون بحراً. تلتقي الأنهار كما يلتقي البشر، غير أنها تتّحد على أرض الواقع لتصير نهراً آخراً، بينما يبقى اتحاد البشر، في أحوال كثيرة، مقتصراً على الشعارات والأساطير وغزل العشاق. ويروي الفيلسوف الإغريقي أرستوفان في حديثه عن نشأة الحب، بأنّ الذكر والأُنثى كانا في الأصل متّحدين في كيانٍ واحد، غير أنّ زيوس اعتبر اتحادهما تهديداً للآلهة، فسخط عليهما وعاقبهما بالانفصال، ولاحقاً بات يولدُ مع الذكر والأنثى شعورهما بالحاجة إلى النصف الآخر، فيقضون وقتاً طويلاً في عملية البحث عن هذا النصف، وهذا ما نسميه الحب.
يدفعني هذا لتخيّل أنّ هنالك نهراً ذكراً ونهراً أنثى، إذ تسير الأنهار طويلاً باحثةً عن شطرٍ ضائعٍ منها إلى حين تلتقيه، بطريقةٍ أشبه ببحث الإنسان عن شطره الضائع وفق أرستوفان. المحزن هنا في شأن الأنهار أنّها ستصبّ نهاية الأمر في البحار. تلتقي روافد نهرية صغيرة وكثيرة مع نهري الفرات ودجلة قبل أنّ يكوّن اتّحاد هذين النهرين الكبيرين شطّ العرب، ثمّ ينتهي بهما المطاف في مياه الخليج. التقاء الروافد بالأنهار أشبه ما يكون بعملية حبٍّ متواصلة، بحثاً أبدياً عن الشطر الآخر، بينما يمكن اعتبار البحار مقابر جماعيةً للأنهار التي تعبت في السير إلى حين التقت، ومن ثمّ ضاعت في المياه المالحة.
لطالما كان البشر في المجتمعات القديمة يقصدون ضفاف الأنهار، حيث والماء والأرض القابلة للزراعة والرعي، لتتطوّر هذه الضفاف وتصبح مدناً عظيمةً؛ كباريس ولندن والقاهرة ودمشق وبغداد وغيرهن. كان النهر أو الأنهار الشرط الأوّل لبناء كثيرٍ من المدن العملاقة في عصرنا هذا، رغم أنّ عدداً من هذه الأنهار قد جفّ اليوم أو يكاد. لم يعد النهر في أيامنا هذه شرطاً أساسياً لبناء المدن الجديدة، فقد تغيّر الأمر مع تنامي قدرة البشر على تطويع الطبيعة واستغلالها لتكون قابلةً للعيش ومصدراً للبقاء.
أما الجزيرة الفراتية، فهي مأهولةٌ بالناس منذ أزمان بعيدة، بل ربّما من أقدم الأماكن المأهولة بالناس على مرّ التاريخ، كما توجد معالم كثيرة لحضاراتٍ شهدتها المنطقة الواقعة اليوم بين سوريا والعراق. وعلى الرغم من أنّ الفرات هو النهر الأعظم طولاً وغزارةً في سوريا، فلا توجد مدينةٌ عملاقةٌ تقوم على طرفيه في سوريا، بل ظلّت ضفافه تجمعاتٍ سكنية متفاوتة الحجم، بعيدة في مجملها عن الطابع المديني الحديث، كما لم يُقدّر للنهر أن يصبح سمةً من سمات البلد، كما هو الحال في العراق، حيث يتغنّى الشعراء والأدباء بالرافد الكبير بوصفه واحداً من نهرين رمزين تأسست بفضلهما البلاد. ظلّ نهر الفرات في سوريا طابعاً لا يحمله سوى أبناء المدن والقرى الواقعة على ضفافه، ويمكن لإعادة الاعتبار إلى نهر الفرات أن تُفضي إلى إعادة الاعتبار لجزءٍ من سوريا يجهل السوريون عنه الكثير. التعرف إلى الفرات فرصةٌ للتعرف أكثر على شطرٍ كبيرٍ من السوريين المجهولين في شرق البلاد، فرصةٌ لغسل الطين عنهم والنفاذ إلى عالمٍ جميلٍ ومليءٍ بالدهشة.
*****
مسافةٌ قصيرةٌ جداً تفصل بيتنا عن نهر الفرات، وتحكي الأجيال السابقة لجيلي أنّ بيوتاً في نهاية حارتنا لم تكن موجودةً في مطلع السبعينات، وهي اليوم مبنيةٌ فوق سرير النهر الآخذ بالتقلّص نتيجة تشييد عددٍ كبيرٍ من السدود على طول مجراه من تركيا إلى سوريا، فضلاً عن أسبابٍ أخرى جلّها من صنع يد الإنسان. يُعزّز دقّة هذا الكلام أن في نهاية حارتنا جرفٌ خفيض، ومستوى البيوت القديمة أعلى منه.
ولكن، بالرغم من أنّ النهر واصل الابتعاد عن بيت أهلي مع مرور السنين، وبالرغم أيضاً من صعود مبانٍ طابقية قبالة بيتنا، إلا أنّه ظلّ واضحاً وقريباً من العين عند صعودنا إلى سطوح البيت. كانت خلفية جوّالي خلال فترة المراهقة صورة التقطتها من سطوح بيتنا بنفسي، بواسطة عدسة موبايل «همر»، وكان في الصورة نخلة تمرٍ عالية ومن خلفها الفرات. للأسف، بسبب رداءة الكاميرا، لم يكن الفرات ظاهراً في الصورة، إنما في أبعادها التي لا تراها سوى عيناي ومخيلتي أنا.
لعلّ هذه الصورة تكون مدخلاً جيداً يمكنني من خلاله أن أشرح جغرافيا بيت أهلي على منحىً شاعري؛ جغرافيّةُ بيتنا بديعة، فهو يطلّ على بيت جدي ونخلته، وجامع حي الوسط ونخلته، وعلى بيت عمتي وتنوّرها، بينما يلوح من بعيد نهر الفرات والخضرة المحيطة به. من سطوح هذه الجغرافيا البديعة يبقى محفوراً في البال مشهدٌ لبقراتٍ كنتُ أراهنّ صباحاً يرعين على الضفة الأخرى من نهر الفرات، التي نسمّيها الجزيرة. يقسم الفرات أراضينا في شرق سوريا إلى شطرين تتوزّع عليهما المدن والقرى الصغيرة، هما ما نُعرّفُ عنه نحنُ بالجزيرة والشامية، وما بات يُسمّى اليوم بالمفاهيم العسكرية لاتفاقيات التموضع الدولي في سوريا؛ شرق وغرب الفرات.
بالعودة إلى البقرات والتموضع العسكري، بات المكان الذي كنت أقف عليه خاضعاً للسيطرة الإيرانية الروسية، بينما آل الموضع الذي كانت ترعى فيه البقرات إلى سيطرة الولايات المتحدة الأميركية. لقد حلّت الجيوش محلنا، وهي ترى بعضها جيداً، لكنّها لا ترانا.
*****
حين كنّا صغاراً، وخلال فصول الصيف، كثيراً ما لعبنا كرة القدم على أرضٍ زراعيةٍ كانت في الأصل جزءاً من النهر، تعبنا كثيراً في تخطيطها لتبدو شبيهةً بالملاعب؛ مرّاتٍ بطباشير الجص التي تُباع في المكتبات، ومرّاتٍ بالجصّ نفسه. في بداية كلّ مباراةٍ كنّا نتّفق على أنّ «الشوط» ممنوع، لأنّ ركل الكرة بقوّة من الفريق المواجه للنهر يعني أنّها ستسبح في الفرات، وربّما نستطيع إخراجها وربّما لا نستطيع. لم يحدث أن التزمنا مرّةً بهذا الشرط العجائبي في لعبة كرة القدم، بيد أنه كان بيننا صغارٌ مختصّون بالسباحة خلف الكرة لإخراجها، وهؤلاء أساسيّون في المباريات حتّى لو كانوا لا يجيدون اللعب، فقد كانوا يُثبتون حضورهم من خلال السباحة، وكان شرط هؤلاء الأساسي هو عدم إخبار أهاليهم بأنّهم سبحوا في النهر لحاقاً بالكرة، فذلك أمرٌ يستحقّ العقاب.
خلال مرحلةٍ عمريةٍ أكبر بقليل، كان أحد رهانات المراهقين في أيام الصيف شديدة الحر هو العبور سباحةً إلى الجزيرة، أي الانتقال إلى الضفة الأخرى من النهر. ولأنّ ذلك لم يكن أمراً صعباً على الكثيرين، فقد كان المراهقون حين عودتهم يُضفون شيئاً من السحر على عبورهم هذا حتى يجعلوا منه حدثاً بارزاً؛ كأن يقولوا، مثلاً، إنهم لم يتوقفوا على الرغم من التقلّص أو الخدر الذي أصاب أحد قدميهم، بل أكملوا السباحة معتمدين على قدمٍ واحدة! أنا لم أعبر إلى الجزيرة أبداً، فلست سبّاحاً جيّداً إلى هذه الدرجة، كنت «أگايش» في النهر فقط، و«التگييش» هو السباحة في الماء القريب من الضفّة، حيث لا يزال القاع قريباً يستطيع الواحد منّا الوقوف عليه. المرّة الوحيدة التي حاولت فيها التمادي في عمق النهر كادت تنتهي بالغرق لولا مساعدة أصدقائي.
من بين الألعاب الفراتية الأخرى التي تجري في النهر، هي أن «يغول» أحدهم الآخر؛ أي أن يحاول إغراقه. غالباً ما كانت تتحوّل هذه اللعبة المؤذية إلى شجارٍ عنيفٍ بين «المُتغاولين» حال خروجهم من الماء، لا سيّما أن نتيجة اللعبة هي واحدٌ بالكاد يتنفّس، وآخرٌ يكاد يُغشى عليه من الضحك. أمّا اللعبة الأبرز فهي «السَّبُّول»، وجمعها «سِبابيل»، حيث يوجد عددٌ من الألسنة الترابية المصنوعة على شطّ الفرات، وتمتدّ حتّى نقطةٍ عميقةٍ من النهر. نسمّي هذا اللسان «بلّانة»، وكان الشباب والأطفال يُلقون بأنفسهم في النهر من فوق هذه الألسنة المرتفعة بحركاتٍ بهلوانية. لقد كانت هذه الألسنة بمثابة رنجات المسابح، غير أنّها ثابتةٌ لا تتحرّك. بعض السبّاحين الماهرين وأولي العزم كانوا «يناحرون» الماء؛ أي أنّهم يسبحون بعكس التيار. آخرون «يسيّسون» في النهر؛ يكتفون بالطفو فوق وجه الماء باسترخاء، ويتركونه يحملهم إلى حيث شاء.
خلال الأعوام القليلة الماضية، ونتيجة قصف الجسور المُشيّدة على نهر الفرات، صار هنالك العديد من الألسنة النهرية التي أحدثها الناس للوصول إلى الزوارق النهرية من أجل العبور إلى الضفّة المقابلة من النهر. صارت هذه النقاط هي المعابر التي يفرّ من خلالها الفراتيّون عند احتدام المعارك واشتداد القصف على مدنهم وقراهم، وقد شهدت عمليات الفرار هذه غرق العديدين في مياه النهر أو إطلاق النار عليهم أو موتهم نتيجة الاستهداف بسلاح الطيران. نفس البلّانة القريبة من بيتنا غدت اليوم «معباراً» يدير شؤونه الأمن العسكري في المدينة.
في ما يخصّ الجسور وألعاب النهر، هناك طقسٌ يشيع بين أبناء مدينة دير الزور، وهو الارتماء في النهر من فوق الجسر المُعلّق. حسناً فعلتُ حين قصدتُ الجسر مراراً لرؤية هذا المشهد، فبعد أن قُصف الجسر وتحطّم، قد لا يتكرّر هذا الأمر من جديد. ويروي لي الرفيق ياسين السويحة أنّ أبناء الرقة يفعلون الأمر نفسه من فوق الجسر العتيق، ولكنّنا، كديرية، لا ندري يقيناً إذا كان ثمّة فرات في الرقة أصلاً.
*****
قررت الحكومة، في مطلع الألفينات، أن تعتني بالشط الذي تُطلّ منه الميادين على نهر الفرات، وأن تجعل منه «كورنيش». نتيجة هذا الاعتناء كان إزالة أكوام كبيرة من القمامة وتشييد رصيف طويل نسبياً ونشر عدد كبير من أعمدة الإنارة على طول الكورنيش. صار الناس يقصدون الكورنيش في أيام نهاية الأسبوع من أماسي الصيف، ولكنّهم كانوا يبحثون عن المناطق التي لم يطلها الاعتناء جيداً، فالأضواء الجديدة كانت الساحة المُفضّلة للبرغش وباقي الحشرات، وهكذا ضاعت ملايين الحكومة تقريباً من دون جدوى، وذلك لأنّها ظلّت تنسى رشّ المبيدات الحشرية بالرغم من مليارات المناشدات التي قدمها أصحاب البيوت المُطلة على النهر.
بدءاً بالعام 2009 توزّع رفاق طفولتي عدداً من المدن التي قصدوها لإكمال دراستهم الجامعية، وكانت العطلة الصيفية فرصةً لنتلاقى جميعاً في الميادين، ولكوننا طلاباً عاطلين عن العمل في فصل الصيف، فقد كنّا نقصد الفرات يومياً، إمّا للعب الورق في أحد المقاهي الموجودة على كورنيش المدينة، أو نحو بقعةٍ مطلةٍ على النهر تسمّى «الحمدانية». كانت مشاويرنا إلى الحمدانية دائماً ليلية، وكانت عامرةً بالمزاح والغناء المستمرَّين حتى طلوع الفجر. كان الفرات بيتاً يلُمّنا جميعاً، بيتاً يحتمل صراخنا ومناكفاتنا وجمر أراكيلنا، غير أنّ هذا البيت بات اليوم قصيّاً وعصيّاً على الجميع.
أمّا نقطة الصيادين وافرة الأسماك في فرات الميادين، فقد كانت منطقة «السَّرب» قريباً من جامع المُفتي، وهي المكان الذي تصبُّ فيه الحكومة جزءاً عظيماً من فضلات المدينة في النهر الذي نشرب من مياهه. السمك وفيرٌ في السّرب، غير أنّ كثيراً من الناس يرفضون ابتياعه من الصيادين لأنّه يتغذّى على القذارات.
بخلاف ذلك، لم يكن لضفّة الفرات في الميادين سمعة جيدة بين الناس، وكان لا يجدر بالأطفال والمراهقين الذهاب إليها، فالمنطقة خطيرةٌ ومرتعٌ للحشاشين والسُّكارى. تسمية الحشاشين كانت تُطلق على أناسٍ ربّما لم يشاهدوا الحشيش يوماً، وهم في الحقيقة مدمنون على تعاطي العقاقير الطبية التي تبيعها الصيدليات. كان أحد هؤلاء «أبو علي سيمو»، الذي اشتُقُّ لقبه من شراب «سيمو» المُضاد للسعال، والذي كان يُدمنه نظراً لدخول نسبةٍ من الكودائين في تركيبته.
*****
تقول إحدى الأساطير السومرية إنّ الإله إنكي هو الذي حفر مجرى نهري دجلة والفرات، ليكونا شبيهين بأنهار الفردوس، ويتّفق ذلك نسبياً مع مروياتٍ إسلامية وردت في كتب الحديث، عن أنّ الفرات واحدٌ من أنهار الجنة الأربعة التي شاهدها الرسول في حادثة المعراج، فيما يورد ابن حجر أنّ الفرات نهرٌ ينبع أصلاً من الجنة، ولكن في هذه الأحاديث تأويلاتٌ كثيرة.
أيضاً، ينقل أبو هريرة حديثاً عن الرسول أُورد في صحيحي مسلم والبخاري، عن أنّ واحدةً من أشراط الساعة هي انكشافُ نهر الفرات عن جبلٍ من ذهب. وقد استغلت الماكينة الترويجية لداعش هذا الحديث معطوفاً على حديث الرايات السود المشهور ليكون مقاتلوها هم الفئة التي تقتل الناس قتلاً لم يشهده قوم، وذلك إيذاناً بخروج المهدي.
أمّا الأسطورة الشعبية الأبرز، والتي حافظ على طقوسها قسمٌ من نساء الفرات حتى هذه الأيام، فهي الشموع التي يطوّفنها ويرسلنها إلى الخضر، الذي يعيش بحسب الأسطورة في مياه الفرات، في استحضارٍ مؤسطر لقصة الخضر مع النبي موسى والحوت، الواردة في القرآن. ويبلغ تطويف الشموع ذروته في ليلة النصف من شعبان، التي تسمّى محلياً «المحيا»، وفيها تذهب النساء إلى نهر الفرات بعد غروب الشمس، وهنّ يحملن شموعاً وقطعة خشبٍ أو فلين، ليشعلن الشموع ويثبّتنها فوق الخشب أو الفلين، ثمّ يتركنها تجري في النهر إلى أن تغيب عن أبصارهن. ويُعتبر انطفاء الشموع قبل غيابها عن النظر بمثابة رسالةٍ من الخضر بأن أمانيهنّ لن تتحقّق. أذكر أنّ ميّة الرحبي قد صوّرت في روايتها فرات مشهداً لامرأةٍ تطوّف الشموع للخضر، معاتبةً إياه لأنّ ابنها أو أخاها مات غرقاً في النهر، إذ تنتشر أسطورةٌ أخرى عن أنّ الخضر يأخذ الشباب الطيبين والجميلين إليه. لا أتذكّر التفاصيل التي أوردتها ميّة في روايتها، فقد قرأتها حين كنت في الإعدادية، ولم أستطع العثور عليها مجدداً رغم محاولاتي الكثيرة.
آخر مرّةٍ سمعت فيها أنّ أحداً قد طوّف شموعاً في الميادين كانت ربّما في العام 2006، وكانت نهاية الأمر مؤلمة، إذ غرق المركب (الطُّرّادة بلهجتنا المحلية) الذي كان يحمل الأسرة في النهر، وقيل إنّ مَن فيه قد ماتوا غرقاً. لتطويف الشموع خصوصيةٌ أكبر في العراق، ومن ذلك أنّ إحدى أغاني ياس خضر تحكي عن ذلك، ويقول فيها:
جيتك يا شط متعنّي أنذر لك نذر
ليلة أربعاء وأعلگ شموع الخضر
خايف على الشمعات يطفن بالهوى
خايف من الرُّوجات تسبح بالضوه
سيّسن شمعاتي ومشن
لرويحتي وياهن خذن
روج وشمع، جرح ودمع
بلكت يعود الغايب العيني على دربه ربيّه
ياس خضر – شموع الخضر
كان يحدث أن ألتقي في الجامعة عدداً من أبناء الفرات من مدن وقرى مختلفة، يُريني بعضهم صوراً لمنظر النهر حيث يعيشون، وكنت بالكاد أنظر إلى الصورة لأقول إنّ الفرات في الميادين أكبر وأجمل. أجمل فراتٍ هو الذي نولد على ضفافه، ولذا سيظلّ فرات الميادين أعظم من أيّ فراتٍ بالنسبة لي.
موقع الجمهورية