لا أحب الشِّعر ولا يُبكيني/ آنا عكاش
لا أعلم سبب الجفاء بيني وبين هذا النوع الأدبي، فلطالما خجلت من أصدقائي الشُّعراء الذين أهدوا لي دواوينهم فأهملتها وكأنها جريدة محلية يومية. لا “كيمياء” بيني وبين الشِّعر، هكذا.. وبكل بساطة، تماماً كما العلاقات الغرامية.
درويش هو الوحيد الذي أستطيع قراءة شعره، لكنّني لا أحب الاستماع إليه وهو يلقيه.
والعلاقة بيني وبين درويش غريبة بعض الشيء، ربّما لأن مارسيل كان جزءاً من طفولة “ثورية” نوعاً ما فتعرفت إليه من خلال أغانيه، تماماً كعلاقتي بأحمد فؤاد نجم بصوت الشيخ إمام، فأنا أحفظ جزءاً كبيراً من شعر نجم ملحوناً.
لا أحب لدرويش قصائد بأكملها – رغم أنني أحفظ قصيدته “شتاء ريتا الطويل” عن ظهر قلب – لذا سأتحدّث هنا عن بعض المقاطع من “حالة حصار”، ورغم أنها قصيدة معنية بحصار الفلسطيني على أرضه، لكنّني حين أقرأ مقاطع منها لا أستطيع إلا أن أتخيّل بلادي، سورية، وطبعاً أرجو من القارئ أن يحافظ على مسافة من التأويل، أو تحليل لدلالة والقيام بإسقاطات لا فائدة منها. سأتحدّث عن مقاطع القصيدة كما تقفز كلماتها في خيالي أنا، فتبني جغرافية تختلف عن عالم خيال درويش، برغم أن الكلمات هي ذاتها.
“هنا،
عند مُنْحَدَرات التلال،
أمام الغروب وفُوَّهَة الوقت،
قُرْبَ بساتينَ مقطوعةِ الظلِ،
نفعلُ ما يفعلُ السجناءُ،
وما يفعل العاطلون عن العمل:
نُرَبِّي الأملْ”.
أرى التلال التي يتكلّم عنها درويش ناتئة في تضاريس سورية، من شمالها إلى جنوبها، شرقها وغربها.. فقد زرتها كاملة تقريباً على امتداد حدود الجغرافيا التي رسمتها السياسات الاستعمارية بداية القرن الماضي، لكنّني حرمت الآن من زيارة مناطق أحنّ إليها بسبب تقسيمات النفوذ الجيوسياسيّة الجديدة التي استحدثتها الحرب. لا غروب في سورية يشبه آخر تراه من تلّة أخرى، والأشجار فيها مقطوعة الظّل، فكيف يكون لها ظلّ وقد بُتِرت جذوعها لتكشف عن قناص عنيد مختبئ، أو أُحرقت للتدفئ بها شتاء، أو وبكل بساطة لترتفع فوق مناطق نموها أبنية إسمنتية مناسبة للاستثمار ولإعادة الإعمار بعد الحرب. حقول أشجار مثمرة بأكملها مسحت عن ظهر الأرض. أجل نحن سجناء في وطننا، عاطلون عن العمل والأمل.. الذي ذاب مع بداية السنة التاسعة للحرب، وبدأت أسائل نفسي لم بقيت، لِمَ لم أقطع حدودها إلى أوروبا كما فعل الآخرون. قال:
“السماءُ رصاصيّةٌ في الضّحى
بُرْتقاليَّةٌ في الليالي. وأَمَّا القلوبُ
فظلَّتْ حياديَّةً مثلَ ورد السياجْ”.
وأنا رأيتها بعينيّ.. رصاصية من غبار الحرب يغطي الأفق، برتقالية من قذائف وصواريخ تضيئها ليلاً، وقلوبنا حيادية.. نتناول طعامنا ونحن نتفرّج على نشرات الأخبار، لا نغصّ باللقمة ونحن نشاهد أثر الدم على إسفلت الطريق.. أعرف هذا الإحساس تماماً.
“يقيسُ الجنودُ المسافةَ بين الوجود
وبين العَدَمْ
بمنظار دبّابةٍ…
نقيسُ المسافَةَ ما بين أَجسادنا
والقذائفِ بالحاسّة السادسة”.
هكذا.. تماماً.. نسمع صفيرها، نرفع رؤوسنا، نراها قادمة باتجاهنا فننبطح أرضاً لنتجنب شظاياها بعد سقوطها مباشرة، فقد حفظنا تعليمات السلامة عن ظهر قلب، واختبرنا عالمين مختلفين، يقبعان على حدود طرفي السنتيمترات العشر التي تفصل بين منطقة الأمان ونقطة تمركز القنّاص.
“عندما تختفي الطائرات تطير الحمامات،
بيضاء، بيضاء. تغسل خدّ السماء
بأجنحة حرّة، تستعيد البهاء وملكية
الجو واللهو. أعلى وأعلى تطير”.
متأكّدة أن درويش هنا يتكلّم عن حمام دمشق الذي يحط أسراباً أمام الأموي، فأراه في خيالي مع تسرّب الكلمات ولا أرى الحمام الذي كان في خيال درويش حين كتب هذه السطور. أمام باب المسجد الأموي المطل على ساحة باب بريد والمسكية، تملأ أسرابه السماء على اتساعها فتنسينا للحظات الخطوط البيض التي تركتها الطائرات خدوشاً على وجه السماء.
“بلاد على أهبة الفجر،
لن نختلف على حصّة الشهداء من الأرض،
ها هم سواسية
يفرشون لنا العشب
كي نأتلف”!
صحيح.. نحن أيضاً لم نختلف على حصّة الشهداء من الأرض، لكنّنا اختلفنا على مفهوم الشّهيد، من يحقّ له أن يكون شهيداً ومن لا يمتلك هذا الحق.. فللشهادة بمفهومنا كسوريين درجات، شهداؤهم أفضل من شهدائنا وشهداؤنا أشهد من شهدائهم. فحرمنا الأمهات من زلاغيطهن حزناً على ابنهن عريس (الوطن).. وحرمنا الفقراء من ثمن أو تعويض (شَهادة) البالغ مليوناً ومئتا ألف ليرة سورية. أجل.. هذا سعر الشهيد السوري، أي ما يعادل ألفي دولار وفق سعر صرف السوق السوداء.
“الحصار هو الانتظار
هو الانتظار على سلّم مائل وسط العاصفة”
نحن أيضاً محاصرون في بلادنا.. ننتظر نهاية لا تأتي، وإن أتت فلا تبشّر بخير. لا نعرف إن كنّا نريد الخروج أم البقاء، فكلاهما خياران حدّان كنصل السّكين. طوال السنوات التسع الماضية، سافرت كثيراً خارج هذي البلاد، لكن لعنة سورية كانت تطاردني دائماً، لا تسمح لي بالنوم على سرير غير سريري، تُشعرني بالذنب إن تأذّت وأنا بعيدة، لدرجة بدأت أصاب بالفصام، إحساس غريب يراودني.. غريب ألا أحس بالأمان وأنا بعيدة عن الحدث الساخن الدموي، وآمنة تماماً وأنا في قلبه.. فهل أقف فعلاً على سلم مائل وسط العاصفة؟ أظن ذلك.
“والضّحية مجهولة الاسم، عاديّة
والضّحية.. مثل الحقيقة… نسبية”
ما يؤلمني حقاً أننا تحولنا إلى مجرد أرقام على الشريط الإخباري الأحمر العاجل، كانت لنا أسماء وسجلات رسمية؛ أمهات، آباء، أولاد، عشّاق، أخوة.. لكننا تساوينا حين تحولنا إلى مجرد إحصائيات وجُرّدنا من إنسانيتنا، وبات لجثثنا التي تدفن في مقابر جماعية أرقام فقط.
“هدوءاً، هدوءاً، فإن الجنود يريدون
في هذه الساعة الاستماع إلى الأغنيات
التي استمع الشهداء إليها، وظلّت
كرائحة البنّ في دمهم… طازجة”.
حين أسمع هذه الجمل يراودني سؤال.. جميعنا نحفظ الأغنيات ذاتها، فيروز.. أم كلثوم.. وردة.. حسناً.. الجميع يحفظ هذه الأغاني. ما يوحد أجيالنا نحن، المنخرطين في هذه الحرب، هي أغنيات برامج الأطفال التي حضرناها جميعاً.. شارة “الليدي أوسكار” مثلاً.. أو “ساسوكي”.. أو إحدى أغاني برنامج “افتح يا سمسم” التي يحفظها معظم جيلنا “أتراني أين.. بين الوحشين.. تنساب دموعي.. فوق الخدين.. وحش في الجهة اليسرى.. والجهة الأخرى”..
وكلّنا.. رغم هذه الذاكرة قررنا بإرادتنا أن نتحول إلى وحش الجهة اليمنى.. أو وحش الجهة الأخرى.. عصرنا وطننا بيننا، وحملنا أسلحتنا وصوبناها إلى صدور بعضنا البعض.. ولم ننته حتى الآن. كثيراً ما أفكر: زهران علوش قائد جيش الإسلام، وأبو أسامة بطل فلم “عن الآباء والأبناء” كانا طفلين أيضاً، حتى برنامج الطلائع الذي كان يعرض يوم الخميس ولا نطيق صبراً كي ينتهي ونشاهد فيلم الكرتون الذي يليه مباشرة كلنا شاهدناه، ذاكرتنا واحدة لكن.. لم انتهينا إلى ما انتهينا؟ تفصل بيننا مئات من السنوات الضوئية؟ من الملام؟
لا تبكيني القصائد، فأنا لا أحب الشعر رغم أني أحفظ الكثير منه عن ظهر قلب.. وقصائد درويش لا تبكيني، لكنها تشبه المرآة، أقف أمامها فأتفقّد روحي.
عماد فؤاد
والشِّعر إذا أبكى
نافذة نصف شهرية سؤالها بسيط لكن إجابته معقّدة: ما هي القصيدة التي تُبكيك، ولماذا؟ فكرة هذه الزّاوية جاءت من التساؤل: هل ما يزال الشِّعرُ – في زماننا هذا – يُبكي أحداً؟ تكاثرتْ كتبه وتراكمتْ قصائده جيلاً بعد جيل، لكن ما الأثر الباقي منها في النّاس؟
في كلّ حلقة سنلتقي ضيفاً ليشاركنا إجابته على السّؤالين أعلاه، والمؤكّد أنّنا سنقف في هذه الرّدود على ما آن له أن يُكتب، كما أنّها فرصة أخرى لاكتشاف الشِّعر وما عتم منه، أو قل: مداخل مغايرة لقراءة ما يُبكي ضيوفنا من الشِّعر، هذا.. إذا أَبكى.
ضفة ثالثة