مقالات

ملف عن ألبرتو مانغويل

المقابلة: ألبرتو مانغويل

(١/٢)

سليم البيك

التقيناه مساءً في بهو فندق “لْوي الثاني” في حيّ دور النّشر والمكتبات في باريس، وكان أوّل ما قاله “نادني مانغيل، بدون مستر”. أجرينا المقابلة التي خرجت بمعظمها عن الأسئلة المعدّة مسبقاً لها، وامتدّت لساعة تناولت فيها القراءة والمكتبات والمنفى وفلسطين ودرويش…

شاركت في إجراء المقابلة وترجمتْها عن الإنكليزية ياسمين حاج. ما يلي هو الجزء الأول…

في كتابك “يوميّات القراءة”، تعيد قراءة كتبك المفضّلة. كيف تختلف إعادة القراءة عن القراءة؟

هو سؤالٌ مهمّ. مع التّقدّم في السّنّ، تكتسب، أو أكتسب أنا، تفضيلات للقراءة. والأمر ذاته بالنّسبة للأمكنة والنّاس. لا أريد اكتشاف أماكن جديدة ولا أريد تكوين صداقاتٍ جديدة. أرغب بالتّواجد في الأمكنة القديمة ورؤية أصدقائي القدامى. أرغب بالسّماح لروتين ما بتأسيس ذاته. الأمر ينطبق على الكتب كذلك. أنا أقرأ أعمالاً أدبيّة جديدة، وأكتشف بالطّبع كتباً جديدة، لكنّني أفضّل العودة إلى الكتب الّتي أحبّ.

تتيح لك إعادة القراءة إدراك كم القراءة هي عملٌ خلّاق. أي لدى قراءتي لكتاب كـ “كيم” لرديارد كيبلينغ أو “مدام بوفاري” لغوستاڤ فلوبير، كلّما أقرأه، أكتشف أموراً جديدة في الكتاب، وأجلب معي للكتاب ذكريات من قراءاتي السّابقة. لكنّ هذه الذّكريات لا تشكّل قراءات توثيقيّة، هي قراءات مبتكرة. ذاكرتنا ترغب بأن تكون كاتبة، وتعيد كتابة فقرات وتضيف الشّخصيّات… أحياناً، أعتقد أنّني أتذكّر كتاباً ما، لكنّني أكتشف لدى معاودة قراءة صفحة ما بأنّه مختلف. لكن مع ذلك، يبقى ما اختلقته أنا، ما أعتقد أنّني أتذكّره، جزءاً من ذلك الكتاب.

كتبك ومكتباتك هذه… هل تعتبر نفسك في منفى، بعيداً عنها؟ وأنت تنقّلت بين مدن عديدة.

كلّا. لقد كنت… أنا لستُ منفيّاً، لأنّني أعرف الكثير من الأشخاص الموجودين في المنفى قسراً. لكنّني لم أُجبَر على المكوث في المنفى. أنا، كيف أصف ذلك؟ أنا منفيّ بالصّدفة. لقد وُلدتُ في الأرجنتين، وعندما كنت أبلغ شهرين من العمر، بُعث أبي حينها ليشغل منصب السّفير الأرجنتيني في إسرائيل. أمضيتُ السّنوات السّبع الأولى من حياتي هناك. عندما بلغتُ التّاسعة عشر، سافرتُ وعشتُ في خمسين مكان مختلف، بما في ذلك في البحار الجنوبيّة. ثمّ عام ١٩٨٢ وصلتُ إلى كندا وأصبحتُ مواطناً كنديّاً، وعشتُ هناك مدّة عشرين عاماً. انتقلتُ بعدها إلى فرنسا حيث عشتُ مدّة خمسة عشر عاماً، وأنا الآن في نيويورك. خلال مكوثي في نيويورك، طُلب منّي أن أدير المكتبة الوطنيّة في الأرجنتين، قانتقلتُ إلى هناك ومكثتُ مدّة ثلاث سنوات، عدتُ بعدها إلى نيويورك. والآن، أعتقد أنّه ستتوجّب عليّ مغادرة نيويورك في حال أعيد انتخاب ترامب، فأنا لا أودّ العيش في ظلّ دكتاتوريّة أخرى.

لديك إذن مكتبات في العديد من هذه الأمكنة.

نعم.

إلى أيّ مدّى تعزّز مكتبتك في كلّ من هذه الأماكن روابطك مع هذه الأماكن وهذه المدن؟

لا أعتقد أنّها تعزّزها. لقد وجدتُ أنّني أخلق في كلّ مكانٍ أعيشه عشّاً ما، وتكون الكتب هي الأغصان والأوراق لذلك العشّ. بالتّأكيد، الكتب تتراكم، ولذلك لم أتمكّن من حمل كتبي معي من مكانٍ إلى آخر، باستثناء فترة استقراري في فرنسا. هناك، اعتقدت أنّني سأعيش هناك للأبد، فمكتبتي، كلّ كتبي كانت هناك، كتب أتت من الأرجنتين، من كندا، من جميع الأنحاء.

لقد ذكرت ذلك في كتابك “المكتبة في اللّيل”.

بالضّبط. وعندها، اعتقدت أنّ تلك هي الجنّة، لكن إحدى الدّلالات على الجنّة هي فقدانها. فقدتُ الجنّة عام ٢٠١٥ لأسباب إداريّة، حيث اضطررتُ إلى مغادرة فرنسا. بعنا المنزل، وعرض عليّ ناشري في كيبيك مساحة للاحتفاظ بصناديق الكتب، وهي هناك حتّى الآن. لذلك، في كلّ مكانٍ عشتُ فيه، كان منزلي هو المكتبة، وتلك المكتبة، التي صدف ووُجدت في عدّة أماكن مختلفة، كانت كالبساط السّحريّ من “ألف ليلة وليلة”، حيث تجد نفسك في مكانٍ مختلف، لكنّ البساط يبقى هو ذاته.

 ذكرتَ أمراً عن الأشخاص في المنفى، وأودّ ربطه مع المكتبة والمدينة. هل يمكن لمكتبة في بيتك أن تشعرك بالاطمئنان أنك فعلاً في مكانك، أن تخفّف من الشعور بالمنفى حيث لا يكون أحدنا في مكانه؟ كحال الفلسطينيين وغيرهم ممن يعيشون قسراً خارج أوطانهم.

لقد كان لي الحظّ أن أتعرّف جيداً إلى -ولا أقول أن أتصادق مع، لأنّ الصّداقة كلمة كبيرة- محمود درويش، وكانت لنا عدّة محادثات. وتلك المحادثات كانت تعود دوماً إلى موضوع المنفى. أنا أعتقد أنّ الجانب الّذي اهتمّ به هو أنّه بينما على المنفيّـ/ة أن يترك مكاناً له في المنفى ليشعر أنّه يخصّه، يُحمَّل المنفيّـ/ة فجأة عبأً اسمه المنفى، وأنّه يحمل ذلك المنفى إلى كلّ تلك الأمكنة المختلفة، تصبح مكتبة الشّخص المنفيّ في الوقت ذاته منزلاً في ذلك المنفى ورمزاً له. إن اطّلعنا على الأعمال الأدبيّة ورأينا كيف بنى المنفيّون مكتباتهم والعلاقة بينهم وبين مكتباتهم، سنرى مجالاً متعدّداً من العلاقات. أحد أشهر المنفيّين السّياسيّين هو بروسبيرو في مسرحيّة “العاصفة” لشكسبير. هناك، لديه كتبه بحوزته، وتمنحه هذه الكتب قوّته. يقول كاليبان للبحّارة “خذوا كتبه منه وبذلك تنزعون قوّته عنه”. لكنّ قصّته مختلفة جدّاً عن مكتبة القبطان نيمو، الّذي هو منفيّ، لكنّه منفيّ طوعاً. هو اختار المنفى لأنّه اختار أن يبني النّوتيلوس (أي الغوّاصة البحريّة)، والفرار من الحضارة. لكنّ الحضارة هي الّتي نفته في الحقيقة، لأنّ عائلته كانت قد قُتلت في حرب تلك الحضارة. وقد أخد مكتبة معه، والّتي تكبر وتزداد حتّى اليوم الّذي يدخل فيه هو إلى الغوّاصة. لذا، لا تشكّل تلك المكتبة رمزاً لقوّته كما في حال بروسبيرو، بل محاولة للاحتفاظ بالعالم كما هو في لحظة مغادرته له. يمكننا التّمعّن في مكتبات أخرى من المنفى، لكنّني أعتقد أنّ مكتبات المنفى الأكثر تأثيراً هي تلك الّتي لا تحوي على كتب ملموسة.

لديّ صديق هو في المنفى في فرنسا، وعندما أراد المغادرة، لم يستطع أخذ أيّ كتب معه، لكن لحسن حظّه أنّه كان قد حفظ العديد من الأشعار والنّصوص عن ظهر قلب، فكانت تلك هي مكتبته. لقد جمّع الآن كتباً في فرنسا، لكن لم يكن أيّها مشابهاً لتلك الّتي كانت بحوزته قبلها. ينطبق الأمر كذلك على بعض الكتّاب الّذين نجحوا في العمل ضمن مكتبة لم تكن مكتبتهم. مثلاً دانتي، الّذي كتب الكوميديا الإلهيّة كاملةً في المنفى. لا يمكنني تخيّل كيف تمكّن من ذلك. لا يمكنني تخيّله حتّى لدى عملك ضمن مكتبتك الخاصّة، حتّى لدى وجود عشرين شخصاً يعملون لديك. كيف تنظم قصيدة متكاملة كهذه مع كلّ ما يتضمّنها من معرفة الثّيولوجيا والتّاريخ والسّيكولوجيا وعلم الحيوان وكلّ ذلك، ضمن أبيات شعريّة بديعة! لذا، مكتبات المنفى هي مختلفة جدّاً، لكن ما من مكتبة تستطيع انتزاع حالة المنفى، حتّى ولو شيّدتَ مكتبةً خارقة، كما في حال بروسبيرو أو القبطان نيمو، تبقى أنت منفيّاً.

أمرٌ آخر أودّ إضافته. شيءٌ ما اكتشفته لدى حديثي مع، ليس مع الكتّاب الفلسطينيّين، بل الكتّاب الإسرائيليّين، هو أنّه في عام ١٩٤٨، العام الّذي وُلدت، وعندما أقيمت دولة إسرائيل، أحد الأمور الّذي قام بها الجيش، عندما شرّدوا الفلسطينيّين كان نهب مكتباتهم، وذلك لم يكن نهباً عاديّاً. حسناً، أنت تعرف القصّة أفضل منّي، حيث يدخل الجيش البيوت ويدمّر الكتب. كلّا، لقد أقرّوا بأنّ “فلان هو صاحب هذا المنزل ونحن أخذنا منزله منه، لكنّه لم يعد لاسترداد الكتب، ولذلك سنضع الكتب في المكتبة الوطنيّة الإسرائيليّة”. وكنتُ قد كتبتُ نصّاً منذ مدّة عن المكتبات حيث ذكرتُ هذه الحقيقة –وعندها أخطأت فقد كتبتُ أنّ هذه القصّة حدثت بعد حرب ١٩٦٧ بدل عام ١٩٤٨، لا يهمّ إن كانت السّرقة قد حصلت في الوقت هذا أم ذاك. لكنّني حينها استلمتُ رسالة مثيرة للاهتمام من أحد أمناء المكتبة في المكتبة الوطنيّة الإسرائيليّة تنصّ على أنّه “صحيح، لدينا هنا كتب لهؤلاء الفلسطينيّين، لكنّنا على استعداد لردّها لهم في حال عاد الفلسطينيّون للمطالبة بها”. حسناً، طبعاً، لكنّ ذلك يشابه الحكومات الّتي تقول الآن إنّها على استعداد لمناقشة إعادة اللّوحات الّتي نهبها النّازيّون والموجودة اليوم في المتاحف الوطنيّة. هنالك أناس استغرقتهم ٢٠ و٣٠ عاماً في المحاولة لاسترداد لوحة واحدة، لكنّ الحياة أقصر من ذلك. ذلك كلّه للقول إن مكتبة المنفى تستمرّ في التّواجد في المنفى.

وحديثاً كذلك، فقد صادرت إسرائيل كتباً عربيّة في السّنة الماضية، وفي عدّة مناسبات أخرى، مانعةً إيّاها من العبور إلى القراء الفلسطينيين. السياسة ذاتها لنهب مكتبات كاملة عام ١٩٤٨، كما سبق وذكرت.

نعم، والأمران مختلفان جدّاً. يختلف كثيراً نهب مكتبة خلال احتلال الأرض عن فرض الرّقابة على الكتب الوافدة عبر حدود دولة يُفتَرَض أن تكون ديموقراطيّة.

ما الفرق؟

حسناً، الفرق هو أنّ الحالة الأولى تدرج ضمن أفعال الحرب، والأخرى هي فعل لفرض الرّقابة خلال حكم يفترض أنّه ديموقراطي. وهذا حصل عدّة مرّات كذلك خلال حكومة ساركوزي في فرنسا: أرادت حينها “الجبهة الوطنيّة” (يمين متطرف) في جنوب فرنسا تطهير المكتبات الحكوميّة من جميع الأعمال، حتّى تلك المكتوبة بالفرنسيّة، الّتي كتبها كتّاب من شمال أفريقيا. لذا، لم يكن ذلك فعلاً حربيّاً بل إرهاباً فكريّاً إن صحّ التّعبير. وبالطّبع، يحدث هذا في عدّة أماكن خلال الحرب. لكنّني أعتقد أنّ الأمر يختلف عمّا حدث في عام ١٩٤٨، حيث كان ذلك استغلال المحتلّ لقوّته. وقد فعل الإسبانيّون الأمر ذاته في المكسيك، حيث حرقوا الكتب.

كذلك النّازيّون في الثّلاثينيّات، حادثة حرق الكتب المعروفة…

نعم، لكن علينا التّفريق بين هذه جميعها، فالنّازيّون في الثّلاثينيّات أحرقوا كتب مواطنين ألمان وكتّاب ألمان، لذلك فهو لونٌ مختلف من الظّلم.

لكن جميعهم يتشاركون الحدث ذاته.

ما يتشاركونه هو عدم احترامهم للحرّيّة الفكريّة. يتشاركون اعتقادهم بأنّ هذا النّوع من الرّقابة يستطيع وقف تبادل الأفكار. لكن منذ زمن جلجامش وهذه الأمور لا تنجح. كلّ حكومة حاولت فرض الرّقابة لم تتمكّن من فرض الرّقابة على الفكر ذاته، حتّى ولو قتلت الكاتب.

لماذا يستمرّون إذاً؟

أعتقد أنّ الحكومات موهومة بالسّلطة المطلقة وبالخوف من التّنازل عن تلك السّلطة. لذلك تعتقد الحكومات أنّها مع قضائها على الشخص أو الشيء المادي ستنجح هي في القضاء على حرّيّة الفكر والأفكار الموجودة في الجوّ. وبالطّبع، أنا وأنت نعلم أنّ الأمر مستحيل. لو كان الأمر ممكناً، لكنتُ حاولتُ القضاء على الجبهة القوميّة في فرنسا أو النّازيّين الجدد أو الفاشيّين في حكومة نتنياهو أو في حكومة ترامب. لكنّ الأمر غير ممكن، وعلينا العيش مع هذا الواقع. أمّا الإشكاليّة الاستراتيجيّة المتجذّرة فهي أنّه بتبنّيك الموقف الإنسانيّ، عليك إتاحة الحوار، لكن من حيث الموقف الفاشيّ، عليك القضاء على الحوار. لذلك، في حال أردت إجراء حوار مع أحد مؤيّدي ترامب، لن يكون الأمر ممكناً، كونه هو لا يشجّع الحوار، كونه يعلم أنّه في حال سمح لأيّ شرخ ولو بسيط يُتاح من خلاله تبادل الأفكار، قد يثبت خطأه. هذه نقطة ذكرها عاموس عوز عن الحوار. قال إنّه قادر على التّحاور مع الفلسطينيّين لكنّه غير قادر على التّحاور مع مؤيّدي نتنياهو.

حسناً، خلال محاضرتك أخيراً في تونس، قلت “لا أحد يعاني كما يعاني الفلسطينيّون”. الآن والفلسطينيّون ناشطون في المجال الثّقافي والأدبي والفنّي وغيره. هل ترى رابطاً بين المعاناة والإبداع؟

طُرح عندها هذا السّؤال. هذه فكرة وُلدت مع نصّ يُنسَب لأرسطو. في رسالة له، نجد قطعة يقول فيها، أو يسأل: “لماذا يولد العقل الخلّاق من الميلانكوليا؟” يطرح السّؤال جوابه، ولا أعتقد أنّ الإجابة صائبة بالضّرورة. في تاريخ الأدب، في تاريخ الفنون، لطالما كانت هناك نزعة للحديث عن المعاناة أو تصوير المعاناة، لأنّها ملفتة كموضوع، على ما أعتقد. فهي تخلق التّعاطف بطريقة قد لا تتمكّن منها القصص السّعيدة. نحن لا نثق بالسّعادة، ونرغب بالتّعاطف مع معاناة قد لا تخصّنا بالضّرورة. ندرك عند الاطّلاع على قصص الرّعب والقصص الدّراميّة والقصص التّراجيديّة أنّها تشكّل جزءاً من الحالة الإنسانيّة.

لكنّني أعتقد أنّه من الخطر اقتراح الفكرة الّتي تنصّ على وجوب المعاناة من أجل الخلق. فذلك يؤدّي إلى عدّة أمور: أحدها هو إذلال الفنّان، أي بموجب هذه الفكرة، على الفنّان أن يكون معدماً أو محروماً، لا يجوز دفع أجرٍ جيّد للفنّان لأنّ ذلك، أي عدم دفع ما يستحقّه، يساعده على خلق فنّه. في ذلك الصّدد، قصّة لا أعرف صحّتها تماماً، لكن يُحكى أنّ ناشراً ما، كان مهتمّاً بكتابات بلزاك الأولى، فذهب لرؤيته لاقتراح كتابٍ عليه لنشره، يدفع هو، أي النّاشر، مستحقّاته. وهنا أنا أختلق العدد تماماً، لكن لنقل أنّه أراد دفع مئة فرنك في حينه. لكن مع تجواله في الحيّ الّذي كان يقطنه بلزاك وإدراكه لفقر ذلك الحيّ في باريس، قال لنفسه أنّه سيعرض عليه خمسين فرنكاً بدل ذلك. أمّا لدى دخوله البناية السّكنيّة المهملة فجعله يقول لنفسه “سيفي خمسة وعشرون فرنكاً بالغرض”. فيصعد الدّرج نحو العلّيّة الّتي كان يقطنها بلزاك، ويقول له: “مسيو بلزاك، أنا معجب بأعمالك وأريدك أن تؤلّف كتاباً لي، أعطيك مقابله عشرة فرنكات”. إذاً الفكرة هنا هي ربط فقر الفنّان بالحسّ الإبداعي. وذلك أمرٌ خطيرٌ جدّاً.

أمّا الأمر الآخر فهو أنّه على الفنّان أن يعاني في سبيل الإبداع. وهنا، نبدأ بالتّشكيك في الكتّاب والفنّانين الّذين لا يعانون. شخص مثل روبرت لويس ستيڤنسون كان رجلاً عانى طول عمره من مرض السّل. أخذُ نفسٍ واحد كان يرهقه. مع ذلك، كان أحد أسعد الأشخاص على قيد الحياة. لذلك، لفترة طويلة من الوقت، كانت كتاباته تُعتبر متدنّية لكونها انبثقت عن شخص لم يجسّد معاناته الخاصّة، بل صرف النّظر عنها.

 (٢/٢)

ما يلي هو الجزء الثاني من المقابلة. يمكن قراءة الجزء الأوّل هنا.

كيف يمكن أن تساعد القراءةُ بالعربيّة ووجود مكتبات عربيّة المجتمع الفلسطيني داخل دولة إسرائيل مثلاً (كأقلية أصلانية) أو في الضّفة وغزة، على الحفاظ على وجودهم الثقافي؟

أوّلاً، أعتقد أنّه علينا وضع فكرة الأقلّيّات جانباً، لأنّه في اللّحظة الّتي تعرّف فيها مجتمعاً ضمن نطاق الأغلبيّة والأقلّيّة، تنسب أنت قوّة معيّنة للأغلبيّة ودونيّة ما للأقلّيّة. سواء كان ذلك المجتمع أصلانيّاً أم مثليّاً أم أيّ مجتمع آخر. أودّ اعتبارهم كجزء من المجتمع نفسه، بينما تتقاطع التّصنيفات الّتي تعرّف المجتمع بدوائرها. لذا، يمكنك أن تجد فلسطينيّاً أسود مثليّاً، حيث تتقاطع عدّة عناصر في الشّخص ذاته. لكنّني أعتقد أنّه على المجتمع، ذلك الّذي نسمّيه مجتمع الكتاب، مجتمع الكلمة المكتوبة، أن يخلق مكتبة بأيّ طريقة ممكنة، لأنّ المكتبات كينونات حيّة تحمل ذكرى قرّائها وتعكس لقرّائها هويّتهم. أعرف من أنا لأنّ المكتبة تمنحني الوثائق لفهم من أكون. صديقٌ لي في مكتبة بودليان في أوكسفورد، قال لي مرّة ضمن حديثٍ عابرٍ لنا: “المكتبة هي المكان للأدلّة”. وأعتبر هذا أفضل تعريف للمكتبة. كون المكتبة مكاناً لحفظ الأدلّة. في حال أردت فحص واقع تاريخيّ ما لمجتمع ما أو فرد ما، ستملك المكتبة تلك الوثائق. لا أدري إن كنت تعرف الصّحافيّ الإسرائيليّ جدعون ليڤي… حسناً، هو واضحٌ جدّاً في هذه النّقطة، وأظنّني ذكرت ذلك خلال حديثي. هو يقول إنّه يمكننا الحديث عن كلّ الأمور، لكنّ هناك أمر واحد لا جدال فيه: على إسرائيل أن تعيد الأراضي المحتلّة. نقطة. لا يوجد ما بعد ذلك.

أمّا المكتبة فستعطيك تلك الأدلّة. لا حاجة بك إلى السّياسيّين للجدال حولها ونقاشها. تذهب إلى المكتبة وتحصل على النّصوص والخرائط والقصص، تجدها كلّها هناك. لذلك باعتقادي أنّ المكتبة أمرٌ ضروريّ. ربّما أخبرتك عن المحاولة الّتي قمت بها في المكتبة الوطنيّة الأرجنتينيّة، لدعم المكتبة الوطنيّة الفلسطينيّة، لكنّها كانت محاولة صعبة جدّاً. لا أريد ذكر الأسماء المعنيّة، لكنّني أستطيع أن أفهم…

يمكننا ذكرها…

حسناً، أعتقد أنّ المجتمعات في المنفى، وأعرف أنّ ذلك ينطبق على المجتمع الأرجنتيني في المنفى خلال فترة الدّكتاتوريّة وما إلى ذلك… أوّلاً، حقيقة أنّك منفيّ لا تجعل منك قدّيساً. هنالك أناسٌ رائعون في المنفى وهنالك محتالون في المنفى. كما أنّ الطّموح إلى تقلّد السّلطة في المنفى لا يموت أبداً. لذلك، عندما تحاول تطبيق مشروع مشترك، تكون لديك عشرون مجموعة ذات مصالح متضاربة، فيفشل المشروع ولا يتحقّق. فيقول شخصٌ ما: “لا كلّا، عليّ الموافقة أوّلاً على…” والثّاني يقول “عليها أن تكون في هذا المكان في رام الله”… لا يهمّ، لكنّني أسترجع الفكرة الأولى: أعتقد أنّه من الضّروريّ أن تكون لفلسطين مكتبة وطنيّة، وستتمتّع بدعم العديد من المكتبات الوطنيّة. لقد سبق وتحدّثت إلى مدير المكتبة الوطنيّة الفرنسيّة، ومدير المكتبة الوطنيّة الإسبانيّة، ومدير المكتبة الوطنيّة الكولومبيّة، حتّى مكتبة الكونغرس، والمكتبة البريطانيّة. جميعها كانت ستكون راعيات للمكتبة الوطنيّة الفلسطينيّة، وكان بإمكانها أن تكون مكتبة افتراضيّة كذلك. العديد من المكتبات، إضافة إلى المكتبة الوطنيّة الأرجنتينيّة، كانت ستمنح مكتباتها الافتراضيّة للمكتبة الوطنيّة الفلسطينيّة. ولم أتوصّل حتّى للحديث مع الدّول العربيّة، الّتي، بين قوسين، أعتقدها جبانة للغاية في عدم مساندتها لفلسطين. أعتقد أنّ الأورغواي تدافع عن فلسطين أكثر من السّعوديّة أو… على أيّة حال، يمكن إتمام الأمر، وأتمنّى أن يتمكّن الأشخاص من وضع طموحاتهم الخاصّة جانباً واستثمار إيمانٍ حقيقيّ بقضايا أهمّ.

عند تحدّثك عن المكتبات في المنفى، خطر لي –بما يخصّ كونها غائبة لكنها حاضرة في الوقت ذاته– سؤال عن المكتبات الشّفويّة (أو التراث الشفوي) في حال كحال الفلسطينيين مثلاً.

طبعاً. حسناً، أقول دوماً عندما أتحدّث عن مجتمع الكتب بأنّنا نحتاج إلى التّذكّر أنّها جميعها مجتمعات قويّة جدّاً وتعمل بشكلٍ جيّد، ولديها مفاهيم مختلفة عن الزّمان والمكان، كما العلاقات بين المستمع والقارئ، وإلخ. المشكلة هي، وهنا عليّ التّطرّق إلى الدّعاية السّياسيّة، أنّ الأمر سيلائم ويريح كثيراً الموجودين في السّلطة في عدّة أماكن. مثلاً، سيريح حكومة نتنياهو القول إن قصص ولقاءات وأحاديث الشّعب تكفيهم… يكفيهم ذلك. بالطّبع، فكريّاً، للشّفويّ ذات القيمة والقوّة المنسوبة للمكتوب، لكن سياسيّاً، الأمر مختلف. فنرى الأمر يتكرّر طول الوقت، في المجتمعات الأصلانيّة في الأمازون -الّتي هي مجتمعات شفويّة- تُصرف قضاياها الّتي تأتي بها للمحكمة في البرازيل: عليكم بوضعها على الورق.

لذلك، استراتيجيّاً، سيكون من الخطأ اتّباع تلك الفكرة. طبعاً، في اللّحظة الّتي تُنشأ فيها المكتبة، يكون على المكتبة الوطنيّة دمج قسم هامّ من التّقليد الشّفويّ. طبعاً، يجب فعل ذلك. لكن لا يمكن اقتراحها كبديل، فسيُحطّ من قدرها.

هي ليست بقوّة المكتوب…

للأسف، لأنّه في الواقع يجب أن تكون بقوّة المكتوب. كان يجب أن تكون كذلك، لكن ثبت أنّها ليس كذلك… لا في أستراليا، ولا في شمال كندا، وما إلى ذلك. لهذه المجتمعات تقليد شفويّ مهمّ. هذه المجتمعات أكثر تعقيداً بكثير ممّا نتصوّر، لكنّها لا تُؤخذ بعين الاعتبار، لا تتواجد على نفس مستوى الملعب العالمي، كمجتمع يتعامل مع الكتب المطبوعة. كما أنّه ما من سبب يمنع فلسطين من الحصول عليها. فهي موجودة لديها. لا نتكلّم هنا عن الحاجة إلى فرض لغة مكتوبة ومطبوعة على مجتمع لا يحتوي عليها، كما في حال قبائل الأمازون، تلك ليست حالة فلسطين. لفلسطين تقليد أدبيّ غني. أنتما أدرى منّي. لذا لن أنصح أبداً بقبول فكرة “يسمح لكم بالحفاظ على تقليدكم الشّفويّ لكنّكم لا تستحقّون المكتوب.”

ماذا عن دمج التراث الشّفويّ في المكتوب؟

طبعاً. يجب فعل ذلك. في أستراليا، المكتبات الوطنيّة حريصة جدّاً على دمج التراث الشّفويّ، ولديها نظام كامل لاستشارة الحضارات الأصلانيّة. لقد حاولت فعل أمرٍ مشابه في الأرجنتين، لكنّني لم أستطع بسبب السّياسة هناك. أردتُ إنشاء مركز للدّراسات الأصلانيّة، فهناك العديد من الأشخاص الأصلانيّين المستبعدين عن التّصوير السّياسيّ. لذلك اتّبعت بعض الأمثلة من كندا، فلكندا محاولات جيّدة جدّاً، لن أقول مثاليّة، لكنّها أفضل من لا شيء. وأستراليا كذلك، لديها أنظمة تتّبعها. لكن مرّة أخرى، ليست تلك الحال بالنّسبة لفلسطين. الفلسطينيّون ليسوا قبيلة صحراويّة صغيرة.

 وحالتها أحدث تاريخيّاً…

هي أحدث ولكن لفلسطين كذلك تقليد أدبيّ وفلسفيّ طويل الأمد. لن أعرّفه لكما، فأنتما تدركانه أفضل منّي.

طبعاً.

هل يحتاج الفلسطينيّون إلى شاعر طروادة؟

آمل ألّا يصل الأمر إلى طروادة. كان على عوليس التّوجّه إلى المنفى لأنّهم أحرقوا المدينة واغتصبوا نساءها وقتلوا رجالها، ولذا، انشالله [يقولها بالعربيّة] لا يحصل ذلك. لكن علينا أن نتذكّر أنّ الشّعراء الإغريق، التّراجيديّين الإغريق، منحوا الطّرواديّين أصواتاً. لذا نجد صوت المهزوم في “نساء طروادة” وفي “أجاكس” وفي غيرها من المسرحيّات. تلك هي عظمة التّراجيديا الإغريقيّة، أنّها لم تهلّل للإغريق. في الواقع، لقد عوقب يوريبيدس لأنّه مدح الفرس في إحدى كتاباته. لذا، صحيح، بالنّسبة لشاعر طروادة، لأنّ الفلسطينيّين لم يعطوا صوتاً من خلال شعراء غير فلسطينيّين. مع العلم بوجود البعض الّذين تكلّموا أو كتبوا عنهم.

هل تعرف شاعرة تدعى روث پاديل؟ شاعرة بريطانيّة؟ إنّها رائعة، ولديها قصيدة بعنوان “تعلّم صنع عود في النّاصرة”. هي قصيدة طويلة، شبه ملحميّة، عن صناعة… هنالك حرفيّ يبني عوداً ويتحطّم العود… هي قصيدة جميلة جدّاً. لكنّ درويش سبق وأصبح شاعر طروادة. دائماً ما يذكرون أدونيس وتقدّمه لجائزة نوبل، حسناً، يتحجّم أدونيس أمام درويش. درويش شاعرٌ هائل، هو شاعرٌ ملحميّ، بذكاء وإدراك عميق، فهو ليس بوقاً للبروباغندا بأيّ معنى للكلمة. هو يقف جنباً  إلى جنب مع دايدو. لديه شعرٌ رائع عن… لا أذكر اسم القصيدة، لكنّه كان يتحدّث إلى صديق والصّديق يمانع الحوار، ودرويش يحاول الضّغط من أجل الحوار.

هل تقصد “سيناريو جاهز”، قصيدة يجد إثنان نفسيهما فيها عالقين في حفرة مع ثعبان؟

نعم، هذه هي.

في الحقيقة، وفي موضوع آخر، لديّ فضول حول ما يجعلك تقتني كتاباً لا تعرف كاتبه؟

[يضحك] الغلاف، العنوان، دار النّشر، الجملة الأولى، الجملة الأخيرة…

قبل بضعة سنوات، اقتنيت ما تحوّل إلى إحدى كتبي المفضّلة. وهي قطعة إنشائيّة قصيرة كتبها فيلسوف هنغرايّ. قرأتها بالإسبانيّة لأوّل مرّة -وقد كلّفت أحدهم بترجمتها للإنكليزيّة بعدها- عنوانها كان “دوستويفسكي يقرأ هيغل في سيبيريا وينفجر بالبكاء”. كيف لك ألّا تقرأ كتاباً كهذا؟

هل القراءة مهنة؟ هل هي هواية؟ كيف تعرّفها؟

هي كلّ تلك الأشياء، لكن قبل أيّ شيء، هي فنّ. نحن مخلوقات قارئة، أي أنّنا طوّرنا، أكثر من أيّ حيوان آخر، حسّاً لقراءة العالم، ولقراءة النّاس حولنا -لذا نقرأ المشهد الطّبيعي حولنا، السّماء، نقرأ وجوه الآخرين، ومن ثمّ طوّرنا المخطوطات في بعض المجتمعات لتدوين وقراءة تجاربنا. هي جزء من تركيبتنا الجينيّة من أجل البقاء. وبنفس الطّريقة الّتي يبني بها الرّياضيّون أجسادهم للتّمكّن من الصّمود في الماراثونات أو رفع الأثقال، يتمكّن القارئ المتمرّس من الغوص أكثر في عمق النّصّ والاستفادة منه بشكلٍ أكبر. لكن مرّة أخرى، نحن نعيش في مجتمعات، وقد أصبحت برمّتها تقريباً، استهلاكيّة لدرجة أنّ المجتمع نفسه لم يعد يريد احتضان القراءة أو تشجيعها. لأنّ القراءة ليست فعلاً مستقلّاً عن الوظائف الفكريّة.

لقد حلّل بعض علماء الأعصاب عمليّة القراءة وقالوا بصددها إنّها “معقّدة جدّاً، ولو نجحنا في فهم ما يحصل في الدّماغ عندما نقرأ، ما يحصل بالضّبط، سنتمكّن من فهم فعل التّفكير”. فالقراءة والتّفكير مرتبطان ببعضهما البعض. لذا، يشكّل المواطن الّذي يقرأ بشكلٍ فعّال مواطناً متأمّلاً مفكّراً ويطرح الأسئلة. أمّا المجتمع الاستهلاكيّ، فلا يريد لذلك أن يحصل. كلّما طرحت المزيد من الأسئلة، كلّما قلّ قبولك للدّعايات. إنّ الدّعاية… لغة الدّعاية مركبّة بطريقة تجعلك تستقبل رسالتها كالمانترا، وأحياناً لا يكون لها أيّ منطق، لكنّها تتردّد في العقل، وتزرع فكرة الاسم أو الشّيء الّذي عليك شرائه. لكن، في ٩٠ بالمئة من الحالات أو أكثر، إن توقّفت للتّفكير بالأمر، فتسأل نفسك، هل أحتاج حقّاً لهذا الشّيء الّذي يكلّف ٢٥ مرّة مبلغ كتاب؟ هنالك الكثير من هذه الأمثلة.

على فكرة، كان كتاب “بدون لوغو” لنعومي كلاين يصلك مع إبرة صغيرة تمكّنك من إزالة العلامات التجارية عن الملابس. لكن في جميع الأحوال، هذه المبادرات الصّغيرة لن تفعل شيئاً لتوقف المجتمع الاستهلاكيّ. تواجه العديد من الأسئلة حول كيفيّة العيش بطريقة أفضل ومحاولة الانخراط نحو مجتمع أكثر عدلاً، تواجه مشكلة فصل نفسها عن السّياق العام. لا تعتبر القضيّة الفلسطينيّة، ومسألة الافتقار إلى القراءة، ومسألة المليون لاجئ على أبواب تركيّا مواضيع منفصلة. لو كانت هذه رواية، كان مؤلّفها سيجعلها متضافرة في كلّ من فصولها -سيكون على تولستوي أن يحكي القصّة– فلا يمكنك فصلها لأنّ المشكلة والحلّ مرتبطة بعدّة جوانب من المجتمع، بحيث لا توجد طريقة لحلّ قضيّة واحدة بدون حلّ جميعها، أو أقلّه قسم كبير منها.

لديّ حفيدتان، إحداهما تبلغ ٨ سنوات من العمر والأخرى ٤. وأنا أحاول أن أكون متفائلاً من أجلهما، لكنّهن لا أعرف كيف، لا أرى ما يشجّع على التّفاؤل بطريقة ذكيّة.

هل تؤمن بفكرة غرامشي ” تشاؤم العقل وتفاؤل الإرادة”؟

بالتّأكيد، ولدينا جميعاً مسؤوليّات فكريّة، لكن تأتي لحظة يكون فيها ضغط المياه كبيراً جدّاً فينفجر السّدّ. يمكنك محاولة تثبيته مكانه، يمكنك محاولة تقليد الولد الهولنديّ الصّغير وإدخال إصبعك في شقّ السّدّ، لكن تأتي لحظة لن تتمكّن أكثر من احتوائه.

في أكثر لحظاتي حلكة، أفكّر بالبشريّة بأنّنا نتمتّع بنزوة انتحاريّة، أنّ تدمير أنفسنا هو جزء من إرادتنا. ولعلّ الأمر سيكون جيّداً للكوكب، فنحن سرطان لهذا الكوكب، وسيكون الكوكب بحالٍ أفضل من دوننا، لحسن الحظّ، أو لسوئه، لحسن حظّ الكوكب ولسوء حظّنا نحن. كلّ ما نفعله الآن هو سامّ لنا لكن ليس للعديد من المخلوقات الأخرى. فالصّراصير ستبقى على قيد الحياة، أعشاب البحر ستبقى… لا تهمّها السّموم، لكن الأمر مختلف بالنّسبة للمخلوقات الأخرى.

هنالك كاتب أرجنتينيّ يدعى ماركو دي نيڤي، ولديه كتاب من النّصوص القصيرة، جميعها مختلقة، ويدعو الكتاب “فالسيفيكاسيونس” [أي “فبركات”]. وفي إحدى القصص المختلقة من الكتاب المقدّس، نجد نوح، الّذي طلب منه بناء الفلك وإحضار اثنين من كلّ أصناف الحيوانات، يقول إن بعض المخلوقات كانت أرقّ بكثير من أن تتمكّن البقاء على قيد الحياة، مخلوقات، يقول، يبدو إلى جانبها الغزال كمخلوق متوحّش. ولذا، هذه المخلوقات آخذة بالاحتضار الآن أو قد سبق واحتضرت. لذلك هي لن تنجو. لكنّ الصّراصير ستنجو. إذاً ربّما كان كافكا على حقّ.

نعم، قد نتمنّى يوماً أن نستيقظ لنجد أنفسها صراصير. كي لا نأخذ المزيد من وقتك، أطرح عليك سؤالاً أخيراً: هل لديك طقوس للكتابة والقراءة.

طاقتي في الصّباح تختلف عن طاقتي في المساء. أصحو في ساعة مبكّرة جدّاً، الخامسة أو السّادسة صباحاً، وأحبّ الكتابة في الصّباح حينما يكون عقلي منتعشاً. كذلك، عندما أخلد إلى النّوم وأعرف أنّني سأكتب في اليوم التّالي، أحاول التّفكير فيه، لأنّه بشكلٍ ما، تعمل الشخصيات الصّغيرة في دماغي خلال اللّيل، وفي الصّباح أستيقظ لأجد فيه بعض الأفكار لوضعها على الصّفحة. لكن بعد الغداء، أكون شبه عاجز عن الكتابة. يمكنني القراءة وأستطيع كتابة الملاحظة وربّما التّرجمة، لكنّ طاقتي المسائيّة تختلف جدّاً عن تلك الصّباحيّة.

لا يوجد مكان معيّن حيث أقوم بالقراءة. أقرأ في جميع الأوقات وجميع الأمكنة. وكنت أعتقد أنّني عاجزٌ عن الكتابة بعيداً عن مكتبي، لكن الآن، مع سفري المستمرّ، أجدني قادراً على الكتابة في الطّائرات والمطارات، الأمر الّذي كان يبدو لي مستحيلاً في السّابق. لقد خطّطت لهذه الرّحلة إلى باريس لأنّه كان عليّ إلقاء محاضرة في كوليج دو فرانس لكنّها ألغيت لأنّ المنظّم كان في مدينة ميلانو، وهو يخضع الآن للحجر الصّحّي لمدّة أسبوعين بسبب الڤايروس. أتدري، نحن نتكلّم عن مشكلات سياسيّة وفكريّة، وها هو ڤايروس صغير يغيّر كلّ شيء.

مجلة رمان

أكَلَة الكتب/ جولان حاجي

المسافر والبرج والدودة

المَجاز اعترافُ اللغة بفشلها في التواصل المباشر. حذّر شيشرون من اللهو بالمجازات، فكما اختُرعت الثياب في البداية لتقينا البرد ثم دخلت لاحقاً باب الزينة والتباهي، فقد انبثقت المجازات من فقر اللغة ثم تعمّم استخدامها من باب التسلية. تولد المجازات من عجز الكلمات عن تسمية تجاربنا على نحو دقيق وملموس.

المسافر

يتقدم القارئ عبر صفحات الكتاب، مثلما يسافر الإنسان عبر رحلة الحياة. قد لا يستهوي المسافر ما يراه، ويعبر لاهياً أو غافياً أو غافلاً عن المناظر التي تمرّ. شعراء اللاتينية القدامى قارنوا صنعة الكتابة بالملاحة. كتب بترارك: “أنا غريب على الأرض، عابرٌ كأجدادي كلّهم، منفيّ، مسافر قلِق في هذه الحياة القصيرة”.

البرج

في العصر الحالي الذي تسوده السرعة والإيجاز، قد يقول المنعزلون في أبراجهم الإلكترونية، متطايرين وسط زوابع النصوص القصيرة، إن “الحرب والسلام” أو “البحث عن الزمن المفقود” ثرثرة عفا عليها الزمان. لنعد إلى الوراء قليلاً. للبرج دلالات شتى في الكتاب المقدس، كالطهارة والعذرية والجمال. نقرأ في “نشيد الأنشاد” إن عنق العروس “برجٌ من العاج”. كانت مريم العذراء برجاً في أيقونات القرون الوسطى. تطوّرت لاحقاً استعارة ذاع صيتها هي البرج العاجي، وساكنه قارئ أو كاتب لا تعنيه سوى كتبه، لا يفكر إلا بها وبنفسه، يحتقر الناس ويهزأ بهم، منقطعاً عن الحياة الاجتماعية ومتعالياً على شؤونها وقضاياها. هذا المجاز تلفه الكآبة، ويناقض مجاز القارئ المسافر. على الأرجح، سان بوف أوّل من استخدم في النقد الأدبي تعبير “البرج العاجي” سنة 1837، حين قارن بين الشعر المجرّد لأفرد دو فيني والشعر السياسي لفكتور هوغو. كانت البداية مديحاً. كان البرج العاجي ملاذاً مترَفاً للتأمّل والتفكير، صامتاً ومليئاً بالكتب حيت تحول العزلةُ العالمَ إلى كلمات. لم يلبث هذا الملاذ أن تحوّل إلى مخبأ يتقوقع فيه الضعفاء والأنانيون، أو قاعة انتظار للإلهام الذي لا يأتي، أو صومعة يحتمي بها الجبناء المتهرّبون من مواجهة العالم، جالسين مترفّعين عن الحياة الحقيقية التي تضجّ بها الشوارع المفتوحة. المعتكف في البرج يتوهّم التميّز ويظنّ العالم كتاباً بين يديه يفتحه ويغلقه أنّى شاء. إنه بعيد عن “الصراعات الطبقية”، يكره “الجماهير” ويسفّه الرعاع، متعالٍ ومدّعٍ زيّفته الكتب وخنقته. في الصفحات الافتتاحية من “فاوست” غوته، يرثي الدكتور فاوست حاله. بعدما قرأ الطب والقانون والفلسفة وتبحّر في عوالم الكتب، تضيق بروحه جدرانُ البرج، فيعتقد أن هذه الأوراق كلها ليست إلا “قمامة الأجداد”، محض صورة عن العالم الذي اخترعته أفكاره: “ما عدتُ أستمتع بأي شيء الآن، لأني أعرف أني لا أعرف شيئاً”.

هاملت النازيّ

لم يرأف شكسبير بالمثقفين الذين ما عادوا يعلّمون الجهلة، لا يسلّون الضجِرين ولا يغيّرون الكسالى. سخر من آكل الورق وشارب الحبر. هاملت “مشلول بإفراطه في التفكير”، والمكتبة التي عاش فيها شبابه وكانت الكون كلّه تحوّلت تالياً إلى سجن؛ وفي “العاصفة”، يحاول كاليبان إقناعَ البحّارة بقتل العالم بروسبيرو: “تذكّروا، اسلبوه كتبه أولاً، لأنه من دونها معتوهٌ مثلي”.

23 أبريل 1940. أرسل الناقد المسرحي الألماني فولفغانغ كيلر خطاباً إلى جمعية شكسبير الألمانية قائلاً إنه لن يسمح للبريطانيين بسرقة شكسبير منهم لأن شكسبير، في حقيقة الأمر، ألمانيّ. يقارن الناقد بين إنكلترا في العصر الإليزابيثي وبين الرايخ الثالث، “كان الإحساس الإليزابيثي بالحياة بطولياً، عسكرياً، شاباً ومتطلعاً إلى التقدم، متعطشاً إلى الأفعال والمغامرات”، ويعزو فشل ألمانيا في خلق شكسبيرها، برغم أن الألمان كانوا أوائل من ترجموه، إلى أن “إنكلترا شكسبير قد خلَتْ من اليهود ثلاثمائة سنة”.

كانت هاملت هي المسرحية الأثيرة لدى نظام الرايخ الثالث، عرضت في مسارح برلين وحدها حوالى 200 مرة بين عامي 1936 و1941. في أشهر هذه العروض يؤديّ دورَ هاملت غوستاف غروندغنس، أحد كبار الممثلين في تاريخ المسرح الألماني الحديث. كانت المفاجأة غياب الصورة المعهودة لشخصية الأمير المتردّدة، فقد حلّ مكانه هاملت آخر مليء بالعزم والتصميم ويتحلّى بروح المسؤولية، “انتقل من القول إلى الفعل، ولا يخاف أن يلعب دور الأحمق”. اقتضى هذا التحوّل الدراماتيكي حذف الكثير من فقرات المسرحية الأصلية. المفارقة أن الممثل النازيّ، أو المتعاطف مع النازية، قد مثّل البطل مقاوماً للاستبداد الذي كان في هذا السياق دانماركياً. انقلب التأمل الفلسفي لدى هاملت إلى وظيفة عملية لا بدّ أن تفضي، رغماً عنها، إلى الأفعال. هكذا حوّل النازيون البرج العاجي إلى برج مراقبة.

الدودة

القرّاء بوصفهم مسافرين أو حجّاجاً ينتهون في خاتمة المطاف، كالمخلوقات الفانية جمعاء، فرائس لديدان الموت، كما تقضم ديدان أخرى أوراق الكتب. فمثلما سيلتهم الدودُ المسافرين حين تنتهي رحلة الحياة، فإن القارئ النهِم يلتهم الكتب ويجترّها أحياناً. لا يعني هذا الالتهام بالضرورة استفادةً حقيقية من الكتب وهضم معانيها. هناك التخمة التي تعكس لنا الموت مرة أخرى، تخمة الكلمات. هكذا تطاول السخرية القارئ في شرنقته- دودةً أو فأراً أو جرذاً لا يرى غذاء حقيقياً في الحياة إلا علف الكتب.

هناك دوماً من سيعنّف القرّاء الحمقى الذين يحسبهم الجاهل حكماء يزدرون الأمور العملية الجدّية في السياسة والاقتصاد، كأن كل قارئ مدمن على القراءة المديدة هو الفارس النبيل دون كيخوته وقد “أيبست الكتب دماغه وأفقدته عقله”. هناك من يشفق على القراء المساكين المنقّبين في بطون الكتب، ويهزأ من ذوي النظّارات البلهاء، الحالمين بالأعماق والقمم، الحمير المحمَّلين بالأسفار والأشعار؛ هناك من يتطيّر منهم ويخشاهم: “كفاك كتباً! اخرجْ وعش حياتك!” ولا ننسى من يطعم النيرانَ هذه المخلوقاتِ المصنوعةَ من القش والحبر. يناهضهم فلوبير مطارد الحماقات والمحتالين في الحياة اليومية والمدافع عن البرج العاجي: “اقرأ لتحيا!”. لا يسري قانون الأقوى على حمقى الكتب وديدانها. القارئ “صنو الله” بتعبير ثربانتس. تنشقّ السماء في رؤيا يوحنا البطمسي، فتظهر يدٌ إلهية تمدُّ إلى القديس كتاباً مفتوحاً: “خُذه وكُله. سيكون حلوا كالعسل في فمك، مُرّاً في بطنك”، يقول الملاك.

القيامة وفقاً لدُورر

ليلة الأربعاء في عيد العنصرة سنة 1525، رأى ألبريشت دورر في حلمٍ سيولاً تنهمر من السماء، ولم تلبث أن غمرت المشهد. استيقظ مرتجفاً صباح الخميس، وراح يرسم بالألوان المائية ذلك المشهد الرهيب: يبدو كل شيء فيه هادئاً منتظراً المياه التي سوف تدمّره، والسيول المعلقة في السماء مثل ظلال مقلوبة لأشجار سرو ضخمة كان قد رآها في إيطاليا أثناء شبابه. كان دورر يألف قصص نهاية العالم. قبل هذا المنام بسبعة وعشرين عاماً، كان قد حفر سلسلة من الأعمال التي ترسم حلم شخصٍ آخر. إنها قيامة يوحنا.

هذه القيامة حلم رواه يوحنا البطمسي في سبع رسائل بعثها إلى سبع كنائس، قبل أن تصل إلينا أيضاً نحن قراءَه المجهولين في المستقبل. تروي هذه الرؤيا موت الأشياء كلها. ليس هذا الموت فناء مطلقاً، وإنما خطوة أخيرة في الصراع بين الخير والشرّ. النص مبني حول رقم غامض هو السبعة”: سبعة ملائكة، سبع رسائل، سبعة أبواق، سبع رؤى، سبع كؤوس، سبع نجوم، سبعة قناديل، تنين أحمر ذو سبعة رؤوس. الأسرار مخبأة في كتاب موصد بسبعة أختام. سيفهم القديس ما يرى حين يأكل الكتاب المفتوح الذي يناوله إياه الملاك. لا ينسى دورر أن يرسم الدواة والريشة والدفتر. الربُّ ابن الإنسان، ولهذا أعطاه الفنّان كتاباً لم يذكره المؤلف أو المؤلّفون في هذه الرؤيا التي يقول بطلها، ولعله المسيح نفسه: “أنا الأول والآخر. الألف والياء. أنا الأبجدية، من أول الحروف إلى الحرف الأخير. بحروف هذه الأبجدية أنا وأنت مكتوبان. في بدايتك نهايتنا، وفي نهايتك بدايتنا. أنت حيّ ما دمتَ تقرؤني”.

غير أنّ كلّ كتاب يحذّر قارئه: “تذكّرْ: لكل قصة نهاية”. عند مدخل كل معظمة كان قدامى الرومان يراكمون فيها عظام موتاهم، حُفرت الكلمات التالية: “الآن، أنتمُ الذين كنّاهم. الآن، نحن الذين ستصيرونهم”. “هذا هو اليقين الوحيد”، فكّر دورر.

*

يجيب كتاب يوحنا البطمسي على السؤال الجوهري: “ماذا سيجري لنا؟” بالكثير من الصور والمجازات حول “هذه الأحداث المشارفة على الوقوع”، ولا يزال يدعو القارئ حتى الآن إلى فك طلاسمها، لأن القيامة كانت دائماً على وشك الوقوع عبر مختلف العصور. سان جيروم فسّر الرؤيا مجازياً. إنها تستعرض سلسلة من الأحداث المتكررة على مدار التاريخ، والبشر يعودون إليها بشكل دوري، قائلين كلّ مرة إن يوم القيامة قريب.

في إحدى محفورات دورر الست عشرة المنجزة عن هذه الرؤيا، نرى يوحنا ملقى في مرجل على النار والجلادون المحيطون به أتراك كفَرة يعتمرون عمامات العثمانيين. لا تحدث القصص في التاريخ دون ضحاياً تنزل المصائب على رؤوسهم، قبل تطويبهم أبطالاً في أحوال استثنائية. قد تصير الضحية شاهداً، تعي الفعل الشنيع وتطبعه بكلماتها أو تحفره في ضمائر رواة الحكاية من بعده. لهذا السبب يُخرِس الجلادون أصواتَ الضحايا ويُغرقونها بالصمت، بارعين في تكميم الأفواه وقطع الألسنة أو كيّها بالنار.

*

كتب ألدوس هكسلي أن “عالمنا مريض ومرهق إلى حد يتصوّر فيه معظم الناس أن الجنة منتجع للنقاهة”. حين تقوم الساعة، وفق التوقيت المعتمَد في رؤيا يوحنا، ينفضّ الختم الخامس ويناول اللهُ الموتى أرديةً بيضاء ويقال لهم: “ارتاحوا وانتظروا قليلاً”، ريثما يكتمل النِّصاب. ثمة قاعات انتظار وإجراءات بيروقراطية معقدة في السموات. حين ينفضّ الختم السادس، يقع زلزال عنيف. تسودّ الشمس ويحمرّ القمر كالدم وتتهاوى النجوم على الأرض. كل جبابرة العالم يختبئون في الكهوف، ومذعورين يخرّون ساجدين على الأرض. تنغلق السماء مثل كتاب فرغ القارئ من قراءته.

في إحدى محفورات دورر الستّ عشرة، يتجمهر العادلون على الأرض التي أهلكها الله ليطهّرها، فيما تلوح وراء جمع الملائكة حمَلةِ السيوف شجرةُ تفاح مزهرة غافلة عن القيامة كلها. تحت عرش الله المطوق بقوس قزح، وسط الغياب المطلق للإنسان، يرسم دورر الجيوشَ الإلهية التي تضع حداً لجنون البشر. إنهم، هذه المرة، ضحايا مذبحة ملائكية.

الله فنان في قيامة دورر. حين تصمت أبواق الملائكة، تظهر يدان عملاقتان من ثنايا غيمة وترميان جبلاً في البحر. تهوي نجمة. تغرق المراكب. الجراد يجتاح الأرض. نسر يصيح بالألمانية: “البلاء، البلاء، البلاء”. نرى في هذا الاستعراض الرهيب أن الخالق حسود كسائر الفنانين. الفشل كامن في صميم الخلق الإلهي، شأنه شأن أي عمل فنّي. ولهذا السبب ينتهي الله الفنان الحقيقي بتدمير عمله. قارئ العمل يتنفس الحياة عبر الثغرات التي تتخلل كل إنجاز. كتبَ مالارميه عن “ملهمة العجز”، الربّة التي تلهم كلَّ مشروع فني درجةً معينة من الفشل تسمح له بالبقاء حياً.

قراءة الصور، تاريخٌ من الحبّ والكراهية

ثمة مسافر فوضوي يحبّ اكتشاف الأماكن عشوائياً، عبر الصور المختلفة التي تتيحها المصادفات: المناظر والمباني، الصور الفوتوغرافية، بطاقات البريد والصروح، التماثيل واللوحات، المتاحف وصالات الفنون. هذا المسافر يعشق قراءة الصور بقدر ما يعشق قراءة الكلمات، مستمتعاً بالعثور على القصص المكشوفة أو المضمرة التي قد تنطوي عليها الأعمال الفنية بأنواعها كافة. هذا المسافر قارئ عادي يحسب أنّ من حقّه قراءة هذه الصور وقصصها، من دون اضطرار إلى التزوّد بعدّة النقد ومصطلحاته، فلا يحاول بتاتاً أن يعتمد أي طريقة منهجية للقراءة. قد لا يكون هذا القارئ، المزاجيّ المشكّك المتردّد، أهلاً لمثل هذه المجازفة، غير أنّ عذره هو الفضول الذي يمنعه من الرجوع إلى أي نظرية من نظريات الفنّ. وإذا استطاع تأليف كتاب ممتع، فسوف يكون بالضرورة مليئاً بالصفحات المفقودة، ولن يدّعي المؤلّف أبداً أي إحاطة بالفن أياً كان شكلها. ستغيب عنه قراءات كثيرة مثل فنون ما قبل التاريخ، والفن المفاهيمي والغرافيتي وملصقات البروباغندا في القرن العشرين وعروض الأزياء والبورنوغرافيا ولافتات الأسواق التي كتب عنها تشسترتن: “أي محظوظ بنعمة الأمّية كان سيراها حديقة ساحرة من الأعاجيب”.

*

ينمو الجسد من عناصر أولى في خلية واحدة تتدحرج داخل ظلمات الأحشاء إلى سقف الرحم. مزايانا وعيوبنا وذاكرتنا مسجّلة في نواتها. حياتنا ومشاعرنا وأفكارنا ترجماتٌ كيميائية لمتواليات تلك العناصر. الصور بنات الضوء الساقط على الشبكية فيحرض وهم الاكتشاف أو وهم الذكريات. بالطبع، هذه التعاريف مدرسية مختزلة، لا تقيم أي دليل على ما يدور في متاهات عقولنا عندما ننظر إلى أي عمل فني.

تقترح فلسفة سامخيا الهندوسية أن ننظر إلى أنفسنا كمتفرّجين على استعراض أبديّ للصور. فمنذ اللحظة الأولى لولادتنا تقع عيوننا على شخصٍ ما يتكلّم ويتصرّف ويفكّر، وربما نتقاسم معه المسرات والهموم والأفكار. يتسلّل الآخرون إلى قرارة نفوسنا ويقيمون فيها. هذه الحميمية التي نتقاسمها معهم، روحاً أو جسداً، تولّد وهماً بأننا أشخاصٌ آخرون. لا نكفّ عن اختلاق الصور لنستمتع ونتعلّم ونلهو، ولعل هذا الوعي الناقص يدفع بنا إلى العبث والظنّ أن حقيقة العالم تكمن في لوحة من لوحات ماغنوس إِنكل أو ماريانا غارتنر أو تمثال من تماثيل أليخادينيو في كنائس البرازيل. تبقى المفارقة المدهشة: برغم الوحشية والطمع والجنون، استطاع الإنسان دائماً أن يخلق جمالاً كثيراً.

شبح بورخيس

وُلِدت الكتب من “أمّهات الكتب” لتفضي إلى كتب أخرى في متواليات وتشعّبات مدوّخة عبر الزمن. كل عمل مطبوع من أعمال ألبرتو مانغويل يحتوي شيئاً من جميع كتبه السابقة. كثيراً ما يقتبس من نفسه فيكرر صفحات كاملة بحذافيرها من أعماله السابقة التي استولد معظمها من بطون قراءاته الهائلة. قد نقول إن انتحالاته مفتوحة على الابتكار والتكرار، ولعله أولاً ينتحل صفه نفسه. لا يختلف في هذه النقطة عن معلمه بورخيس الذي رافقه طيفه منذ تعرّف إليه في مراهقته وبات قارئه. أحسب أن المعلم الأعمى كان مرشداً يهدي تلامذته ويلعنهم في آن معاً.  ظلّت روح التلميذ الألمعي لدى مانغويل شغوفة بالمعرفة. راضياً تقبّل الحضور الدائم لمعلمه الأعمى ولم يصارعه. فعلى سبيل المثال، كانت نسخة من لوحة ألبريشت دورر “الفارس والموت والشيطان” معلقة في غرفة نوم بورخيس في بوينس آيرس. استعادها مانغويل في روايته “أنباء من بلاد أجنبية” حيث يتأملها الضابط الفرنسي المثقف الذي ينقل خبراته في تعذيب الجزائريين خلال الثورة الجزائرية إلى بوينس آيرس، هناك يقوم المثقف الرفيع بتعليم ضباط أرجنتينيين فنون التعذيب وفلسفته خلال سنوات الحكم العسكري المسماة “الحرب القذرة”. نعلم احتقار بورخيس للسياسة، وغيابها التام عن أعماله، وتكراره للنكات نفسها، على غرار ما قاله عن الحرب الإنكليزية-الأرجنتينية على جزر الفوكلاند: “إنها صراع بين أصلعين على مشط”. من جهة أخرى، غابت عنه الفنون البصرية، إذ لم يقترب من الرسم والتصوير، وليس عماه السبب الوحيد. كتب مقالات متفرقة عن السينما قبل أن يفقد بصره تدريجياً، وانتقد أفلام هيتشكوك وأورسون ويلز وتشارلي تشابلين وجوزف فون سترنبرغ.

بخلاف معلمه، لم يبتعد مانغويل عن قضايا السياسة والجنس، ولم يتورع عن خوض نقاشاتها الساخنة، وتابع دائماً الأصوات الجديدة في الأدب. احتفى بالكثير من الأدباء الشبّان. أذكر هنا مثالاً واحداً فحسب هو الكاتب البرتغالي غونسالو م. تافارِس الذي يرفق الكثير من رواياته الصغيرة الممتعة بالرسوم التوضيحية. مانغويل المترجم أيضاً، المتنقّل بين أربع لغات على الأقل، يؤمن بالأهمية الجوهرية للترجمة، ولا يبخل بمساندة الأدباء على مختلف لغاتهم ومشاربهم. لمستُ لديه في مناسبات عديدة انفتاحاً وتواضعاً نادرين صادقين. منذ بضع سنين، أبدى موافقته الفورية لإعدادي كتاب مختارات من الشعر السوري باللغة الإنكليزية ونشرها لدى مطبوعات جامعة ييل الأميركية، بصفته أحد المحرّرين في سلسلة الأدب المترجم هناك، قبل أن أتراجع لاحقاً عن هذا المشروع لأسباب شخصية عديدة. تراجعتُ غير نادم، رغم ما بذلتُ وأهدرتُ من جهد ووقت في إعادة القراءات والمراسلات وترتيب الترجمات الأولية. سأستوحي من مانغويل الموسوعي البشوش هذا التلميح المقتضب إلى واحدٍ من تلك الأسباب، أشير إليه وإن لم يكن الأهمّ، وإن بدا مبهَماً وربما على شيء من الحذلقة:

السوريّ- ما إن تسمّي أحداً أو شيئاً حتى يفقد المعنيُّ براءته. يعلو الاسم فوق المسمَّى فيحجبه أو يسحقه، يلوّثه أو يعدمه، أو يلقي عليه شبكة سامة من الأحكام المسبقة التي حاكها العالم على مرّ السنين والأحقاب.

شريط موبيوس

كتب مانغويل أن الحياة التي لا تنتهي لا تستحقّ أن تُعاش. أشخاص كثيرون، واقعيون وخياليون، دخلوا حياة هذا الرحّالة، سكنوها وغادروها. تجري الأيام وتمرّ السنوات. عبور الزمن يثقل الجسد قبل بلوغه الصفحات الأخيرة من الحكاية. كأنّ الجسد، حين تتقدّم به السن، يحسد العقل الذي تزداد أفكاره وضوحاً وصفاء فيرفض التنازلات مثل طاغية مخلوع لا يقبل أن يستأثر بالانتباه أحدٌ سواه، متعامياً عن اقتراب اليوم الذي سيبقى فيه وحده مثل زائر غير مرغوب فيه.

كل المجازات القديمة التي ساعدتنا عبر العصور على معرفة أنفسنا قائمة على فكرة التحول: جريان النهر، سقوط الأوراق، النار والرماد… هويتنا معلّقة بين الشخص الذي كنّاه والشخص الذي سنصيره، لأنها بطبيعتها محرومة من الحاضر. نميل إلى الظن أن الماضي نبعُ وجودنا. كتب ميغيل ده أونامونو أن الزمان يتدفّق من المستقبل صوب الحاضر ومن ثم بالاتجاه المعاكس. نحن موجودون داخل هذين التيارين، في أحدهما تحملنا الأطياف والأوهام إلى الوراء ويحملنا الآخر إلى الأمام نحو هوياتنا المقبلة. لعلّ رمز هذه التحولات جميعاً هو شريط موبيوس الذي ليس له سوى وجه واحد وتحولاته لانهائية. نحن والعالم كله لسنا سوى ثمار التحولات. ربما استلهمنا هذه الأفكار من مراقبة اليرقات والبيوض وأطوار الحشرات، ولكنّ الموت ليس خطوة نهائية، كما أخبرنا يوحنا. وعي الإنسان مسكون بتناسخ الأرواح والمراحل المتتالية للعقاب أو خلاص النفس. سنبقى غامضين ما دمنا نحيا في لجّة التحولات. نرى كيف تمر الأشياء وكيف تشيخ وتتهاوى وتصير غباراً. وبرغم ذلك نستمتع بالتحولات الجديدة، بذوبان الثلج، بالبراعم الجديدة على غصون الخيزران. نتكلم على التحولات التي تقلقنا، وفي الوقت نفسه نثمّن التجارب التي تغيّرنا. نخشى أن نرى في المرآة وجهاً لا يعرفنا، ولكن يروق لنا النضوج والحكمة التي قد نستمدّها من التجربة أحياناً.

القيامة هي خطوة الختام في نهاية تحوّل مستمرّ. “إني أكشف لكم سراً: نحن جميعاً لن ننام ولن نموت بل سنتحوّل، في لحظة، في طرفة عين، عند النفخ في البوق الأخير، إذ سيُنفخ في البوق، فيقوم الأموات غير فاسدين وسنكون نحن قد تحوّلنا”، يقول بولس الرسول في رسالة كورنثوس الأولى. قبل طردهما إلى الأرض، كان التواصل بين آدم وحواء روحياً من دون أي لغة. ستتلاشى الكتابة والقراءة بعد النفخ في صُوْر القيامة. أما على هذه الأرض، فتبقى الكلمات ميثاقنا الضروري وميراثنا المتواضع.

حاشية

لم أتطرق إلى أعمال ألبرتو مانغويل التي وطّدت مكانته كقارئ فريد في المقام الأول، وأعني بها مؤلفاته حول القراءة وتاريخها والمكتبات، إلى جانب كتبه حول دانتي وهوميروس، كما ابتعدتُ عن أعماله السردية التي ترجمتُ ثلاثة منها إلى العربية. فكرتُ أولاً بالوقوف على قصصه الخيالية مثل “الأب والابن” عن القديس أوغطسين وابنه (ضمن كتابه “قصص كلاسيكية” الصادر باللغة الفرنسية سنة 2010). كما فكرتُ، عطفاً على الرقم “سبعة” في رؤيا يوحنا البطمسي، بالرجوع إلى مساهمة مانغويل في الكتاب الفني “النائمون السبعة”، ذي الأجزاء السبعة التي كتبها سبعة مؤلفين عن رهبان تبحيرين السبعة الذين اغتيلوا وقُطعت رؤوسهم يوم 21 أيار/مايو 1996 في دير سيدة الأطلسي غرب الجزائر. لكنني عدلتُ عن الفكرتين وذهبت في اتجاه آخر. العناوين “المسافر والبرج والدودة” و “القيامة وفقاً لدورر” و “قراءة الصوَر: تاريخ من الحبّ والكراهية” هي عناوين بعض من كتبه التي لم تترجم، على ما أعتقد، إلى العربية. أعددتُ كل نص من هذه النصوص الثلاثة عن واحد من تلك الكتب التي قرأتها مجدّداً قبل كتابة هذا المقال، باستثناء كتابه الضخم “قراءة الصور”. “شريط موبيوس” معدّ أيضاً عن “القيامة وفقاً لدورر”.

منشورة في:

—————————————-

مانغويل قارئاً لبورخيس/ طلال بو خضر

قصّة بجودة الحلم

“ذات يومٍ رأيت كاهناً باسكيّاً معمّراً يعمل وسط سحاباتٍ من النّحل، كان بمقدوره أن يخبر النّحلات بأن تبقى بعيدة أو أن يرشدها إلى خلايا مختلفة، أتذكّر أيضاً حارس الأحراش في سلسلة جبال الرّوكي الكنديّة الذي كان يعرف موقعه بالضّبط من خلال قراءة الطّحالب بأصابعه على جذوع الأشجار. أستطيع الجّزم بحقيقة أنّ ثمّة وشيجة بين هذا الكتبيّ العجوز وبين كتبه ستحكم عليها قواعد الفيزيولوجيا بأنّها ضربٌ من المحال”.

هكذا يقارب ألبرتو مانغويل تلمّس بورخيس لكتبٍ لا يعرفها في متجرٍ أو في مكتبة، بورخيس الذي داخل منزله يعلم أين مسكن كلّ كتاب فيذهب إليه دون أن يخطئه، يجد نفسه مرّاتٍ قرب رفوفٍ غير مألوفة فيمرّر يديه فوق كلّ كتابٍ كما لو أنّه يجسّ سطحاً مجعّداً لخارطةٍ مجسّمة وينتظر من جلد يديه أن يقرأ له الجّغرافيا.

“النّاس يمكنها أن تضيّع حياتها في المكتبة، يجب أن يتمّ تحذيرهم من ذلك”، يقول بورخيس، لكن ومع ذلك، إنّ جوهر الحقيقة لديه يكمن في الكتب، قراءة الكتب، تأليف الكتب، التّحدّث حول الكتب، كان يعي باطنيّاً مسألة متابعة الحوار الذي بدأ قبل آلاف السّنين: “مع الزّمن، كلّ قصيدةٍ تصبح مرثاة”. ربّما هو أيضاً قصد مانغويل ذاته وألمح إلى حواريّةٍ طويلةٍ بينهما عن ولع مانغويل بالكتب والمكتبات، أعود هنا إلى كتاب مانغويل “المكتبات في الليل” (دار الساقي، ٢٠١٦):

“في طيش فتوّتي، حين كان أصدقائي يحلمون بمآثر بطوليّة في حقول الهندسة والقانون والمال والسّياسة كان حلمي أن أصبح أمين مكتبة”.

مكتبة بيغماليون الأنغلو-ألمانيّة كانت واحدةً من ملتقيات المهتمّين بالآداب عموماً هناك في بيونس آيريس خلال منتصف القرن الفائت، مانغويل الشّاب الذي يعمل في المكتبة بعد انتهاء مدرسته سيصغي يوماً إلى عجوزٍ أعمى يطلب منه أن يقرأ له شيئاً ما، ورث بورخيس العمى عن أسرته، في بداية ثلاثينيّات عمره بدأ نظره يتراجع تدريجيّاً حتّى غلبه الظّلام أبديّاً بعد عيد ميلاده الثامن والخمسين. لاحقاً وبدايةً من عام ۱۹٦٤ وحتّى ۱۹٦۸ سيقرأ مانغويل بين عديدين لبورخيس الذي كان زبوناً دائماً في المكتبة، يزورها في طريق عودته من عمله كمديرٍ للمكتبة الوطنيّة، ثمّ سيتحوّل مكان القراءة من المكتبة إلى منزل بورخيس الذي يتقاسمه مع أمّه والخادمة فاني.

“مرآةٌ عملاقةٌ لمتاهة”

لا يكتب مانغويل عن بورخيس فقط كصديقٍ أو كمعلّم لكن أيضاً كندّ وعدوّ شاعريّ مشتهى، كما لو أنّها رغبةٌ هائلةٌ بحياكة زمنٍ بهيئة قصيدةٍ بين كاتبين، عمر مانغويل الصّغير فترة معرفته ببورخيس لم يكن ليجعل منه شريكاً لدوداً حينها بقدر ما جعله مصغياً مسجّلاً لأدقّ تفاصيل شخص بورخيس، بدايةً بالمنديل المعطّر بماء الكولونيا كما تقدّمه له الخادمة والذي يحمله بورخيس دائماً في جيب سترته العلويّ بأطرافٍ مرئيّة، وليس انتهاءً بشخصيّات بورخيس المتخيّلة منها التي أحبّها مانغويل والواقعيّة التي عايشها، “القارئ المثاليّ قادرٌ على الوقوع في غرام إحدى شخصيّات الكاتب”. يعرف مانغويل بورخيس معرفة العالم بمخبره ويصفه كما يصف من يهوى جمع الفراشات بمتعةٍ ألوان جناح فراشةٍ لا يملّ النّظر إليها.

مانغويل إذ يتذكّر زياراته المبكّرة لشقّة بورخيس، يصفها كمكانٍ حميمٍ دافئٍ معطّرٍ بأريجٍ ناعم، ويصف وجوده فيها كأنّه خرج للتوّ من قبضة الزّمن أو أنّه دخل لتوّه زمناً تشكّل من تجارب بورخيس الأدبيّة، من إيقاع عهود إنكلترا الفيكتوريّة والإدوارديّة، من عصر التّعبيريّة الألمانيّة، من فصول الصّيف في مدريد ومايوركا، من الصّحارى ومياه النيل، بورخيس الرّحالة الذي لم يكن ليعنيه أكثر ممّا هو استحضارٌ لقراءاته، سيثبّت كلّ شيءٍ في مخيّلته أو في كتبه وقصائده أو حتّى سيعلّقها حوله في أماكن جلوسه كصفحةٍ من ألف ليلة وليلة وصفحةٍ من الكتاب المقدّس هنا أو صفحةٍ من هوميروس وأخرى من فرجيل هناك.

عالم بورخيس بكليّته كان لفظيّاً، نادراً ما داخلته موسيقى أو لون وشكل، هو ذاته اعترف مرّات عديدة أنّه وبقدر ما كان الفنّ التّصويريّ مبعث اهتمامٍ بالنّسبة له، كان هو فيه دائماً أعمى، حتّى إعجابه بأعمال صديقه خول سولار وأعمال أخته نورا وكذلك دورير وبيرنيسي وبليك ورامبرنت وتيرنر، كان كلّه إعجاباً أدبيّاً وليس أيقونيّاً، أيضاً بدا أصمّاً تجاه الموسيقى، قال أنّه أعجب ببرامز لكنّه قلّما استمع إلى موسيقاه، وبالنسبة للأفلام كان يتذكّر الموسيقى التي رافقت أفلاماً محدّدة، لكنّه كان يوليها اهتماماً أقلّ من اهتمامه بحكاية الفيلم.

علاقة مانغويل ببورخيس تظهر بجانبٍ منها في رمزيّة سرد مانغويل لزيارات صالات السينما التي كانا يقومان بها، بورخيس في الغالب سيكون قد شاهد الفيلم سابقاً أو أنّ أحداً رواه له بالتّفصيل بعد عماه، مانغويل يراقب تفاصيل بورخيس متجاهلاً الفيلم، بين الفينة والأخرى سيتظاهر بورخيس أنّه يستطيع رؤية ما يحدث على الشّاشة وحتّى سيعقّب على مدى إتقان مشاهد المعارك بين العصابات أحياناً كما على تناسق الألوان وجمال نساء الفيلم في أحيانٍ أخرى، مانغويل سيسجّل حياة بورخيس في ذاكرته كفيلمٍ كثيف التّفاصيل، ثمّ سيخرجان للمشي سويّةً نحو البيت وفي داخل كلّ منهما فيلمه الخاص.

بورخيس أيضاً يبدو مرّاتٍ مراهقاً شاعرياً فائض العواطف قرب مانغويل الذي يراقبه بهدوء عشيقٍ سريّ، يحكي مانغويل أنّ بورخيس سأله مرّة إذا كان يستطيع مرافقته لحضور الفيلم الموسيقيّ “قصّة الجّانب الغربيّ” من بطولة ناتالي وود وجورج شاكيريس، كان قد حضره مرّات عديدة ولم يبد أنّه سيملّ منه أبداً، في الطّريق كان بورخيس يدمدم “ماريا” ويقدّم ملاحظةً عن مدى صحّة قول أنّ اسم المعشوق يتحوّل من اسم بسيطٍ إلى منطوقٍ إلهيّ: بياتريس، جولييت، لسبيا، لورا، ثمّ يضيف بعدئذٍ: كلّ شيء يصبح مبقّعاً بذلك الاسم.

مرّةً أجهش بورخيس بالبكاء في نهاية فيلم “ملائكة بوجوهٍ قذرة” عندما يظهر خوف جيمس كاغني أثناء اقتياده إلى الكرسيّ الكهربائيّ وبذلك فإنّ الصّبية الذين ألّهوه لن يرفعوا أنظارهم إليه بعد الآن. ثمّ، واقفاً على حدود البامباس، المشهد الذي قال عنه أنّه أثّر في الأرجنتينيين ما أثّر مشهد البحر في الإنكليز، تدحرجت دمعة على وجنته وتمتم: “Carajo, la patria- بعد الله، يا وطني”. بكى عندما قرأ بيت شعرٍ لكاتب أرجنتيني منسيّ هو مانويل بيرو لأنّه ذكر شارع نيكارغوا، الشارع القريب من المكان الذي ولد فيه بورخيس، وتلذّذ بتلاوة أربعة أبياتٍ لروبين داريو:

البجعة تعوم ثمّ تعوم على البحيرة الهادئة

ذلك أنّ في الأحلام ينتظر أولئك التّعساء

حيث جندول ذهبيّ يرسو منتظراً

عروس لودفيغ البافاريّ.

“كم هو مؤسف أنّك لم تولد نمراً”

مانغويل، الكتبيّ، الطّفل الذي بالصّدفة دخل بيت العملاق، تظهر عاطفته المتوقّدة كقارئ لبورخيس-المتخيّل في رأسه كما الواقعيّ- في التقاطه خيبات الآمال أمام مكتبة بورخيس الفقيرة وهو الذي أسمى الكون مكتبةً بل وتخيّل الفردوس على شكل مكتبة والجّحيم -منتقداً إل غريكو حينها-فردوساً يشبه الفاتيكان مليئاً بالدّوقات والمطارنة، ربّما لأنّه أدرك كما قال مرّةً أنّ اللغة تقلّد الحكمة وحسب.

ماريو فارغاس يوسا اعتاد زيارة بورخيس أواسط الخمسينيّات، علّق مرّةً على المحيط المفروش متسائلًا لماذا لا يسكن هذا المعلّم منزلاً أكثر اتّساعاً وفخامة، ليردّ بورخيس على “أحمق البيرو” حسب وصف مانغويل قائلاً: ربّما كانت تلك الطّريقة التي يتعاملون فيها مع الأمور في ليما، لكنّنا هنا في بيونس آيريس لا نهوى التّفاخر.

ذات مرّة، أثناء وجود مانغويل في بيت بورخيس، أحضر ساعي البريد طرداً كبيراً يحتوي على طبعةٍ فاخرةٍ من قصّة بورخيس “المؤتمر” المنشورة في إيطاليا حينها من قبل فرانكو ماريا ريتشي، الكتاب الضّخم تمّ تجليده بعنايةٍ وتغليفه بعلبةٍ من الحرير الأسود مع أوراق فابريانو زرقاء طبع عليها بالذّهب وامتلأت بالرّسوم التأمليّة المشغولة يدويّاً على طراز فنّ التانتريك في الثقافتين الهندوسيّة والبوذيّة، طلب بورخيس من مانغويل أن يصف له الكتاب، ثمّ بعد أن أصغى بانتباهٍ صرخ بقوّة: هذا ليس كتاباً بل علبة شوكولا!، وأهداه لساعي البريد المرتبك.

بورخيس المشاكس كانت أيضاً شخصيّةً حاضرة قرب ظلّها الشّفيف مانغويل، هو مثلاً وعلى الرّغم من تقدّم سنّه وعمى بصره لم يكن بحاجةٍ إلى نسخٍ من كتبه التي ألّفها والتي كان يتذكّر كلّ شيء بها لا بل يقوم مرّات بسردها وتصحيحها وتعديلها في ذاكرته، النّسيان بالنّسبة له كان أمنيةً طال تكرارها مع إدراكه أنّها أشبه بالمستحيل، أمّا التّناسي فهو التّصنّع الذي يفعله ليراقب ما استطاع من انشداه ونشوة سامعيه، كأن يقول لصحفيّ أنّه لم يعد يتذكّر أعماله الأولى فيستشهد الصّحفي بها محاولاً مداهنته بسطرين من قصائده ليصحّح بورخيس الاستشهاد الخاطئ بهدوءٍ متابعاً قول القصيدة حتّى النهاية.

قصّته “استعارة طويلة للأرق” هي أيضاً حسب قوله استعادةٌ لذاكرته التي لا تلين ككومة القمامة التي يمدّها دائماً بالجّديد ولا ينظّفها أبداً، الذّاكرة كلّها بالنسبة إليه هي إعادة قراءة، إنّه يتذكّر أغاني التانغو، قصائداً قديمةً لشعراء ماتوا منذ زمن بعيد، نتفاً من حواراتٍ وكلماتٍ على صور، أحجيات من سطرٍ وحيدٍ ومطوّلات قصائد إنكليزيّة وألمانيّة وإسبانيّة وبرتغاليّة وإيطاليّة، أبياتاً من ملاحم الشّمال، حكايات عن ناس التقاهم ومقاطع من فرجيل. يقتبس من الأوديسّة كي يفسّر ذلك: “تحوك الآلهة للإنسان المحن كي يكون للأجيال القادمة ما تغنّي عنه”.

معظم روّاد الكتابة بالإسبانيّة أقرّوا أنّهم مدينون لبورخيس، من غابريل غارسيا ماركيز إلى خوليو كورتاثار ومن كارلوس فوينتس إلى سيفيرو سارودي، أيضاً الرّوائي الأرجنتينيّ موخيكا لاينث الذي كتب عنه:

إلى شاعرٍ شاب،

لن يجديك أن تتبنّى فكراً ما يتطلّع إلى الأمام،

لأنّك حتّى لو كتبت كمّاً مهولاً،

سيكون بورخيس قد سبقك إلى كتابتها.

“أكثر واقعيّة بقليل”

الحسّ المرهف لدى مانغويل لعبثيّة بورخيس ودعاباته اللاذعة أيضاً كان رؤيةً واضحةً أنّ بورخيس الذي يهوى النّقاشات جميعها كان نافذ الصّبر تجاه الغباء، وهو الذي قال مرّةً بعد اجتماعٍ خاصّ مع أستاذٍ جامعيّ فارغ حسب وصف مانغويل: أفضّل أن أتحدّث إلى قاطع طريقٍ ذكيّ. في الأرجنتين هنالك على الدوام ميلٌ لدى الناس للنّقاش كأنّهم يترجمون حيواتهم إلى كلماتٍ يتبادلونها، أحبّ بورخيس نقاش كلّ شيءٍ حتّى خلال تناول وجبات الطّعام التي لم تكن لتلهيه بأصنافها وجودتها عن الحديث مع الأشخاص حوله، كان يؤمن أنّ في وسع أيّ إنسانٍ أن يختبر ما اختبره إنسان آخر.

“حياتنا ليست فردانيّة على الإطلاق”، يقول مانغويل، بما أراه تأثّراً شديداً ببورخيس. مانغويل قارئٌ ممتاز لكتب بورخيس وناقدٌ أصيلٌ لها، من مرحلة الغنى الباروكي في واحدٍ من أوائل كتبه وهو إيفارستو كارييغو، إلى النّبرة المقتضبة في قصصٍ مثل الموت والبوصلة والرّجل الميّت، يرى مانغويل أنّ بورخيس شيّد لبيونس آيريس الإيقاع والميثولوجيا اللذين من خلالهما عرفت المدينة بعد أن أوحت لفترةٍ بالالتباس والبهوت رغم كونها مدينةً مرموقةً للفكر والثّقافة، لكنّها احتاجت كغيرها إلى خيالٍ أدبيّ يرقى بها إلى ما يتجاوز الواقع، توحي بيونس آيريس الآن بمزيدٍ من الواقعيّة لأنّها تحافظ على بقائها ضمن صفحات بورخيس وهو ابنها المتجذّر الذي استمدّ من وراء سياج حديقة منزل عائلته في محيط باليرمو قصصاً وقصائداً لما أسماهم المتغطرسون، وهم قطّاع الطّرق المحليّون الذين رأى فيهم الشّعر والكفاح في عالمٍ سفليّ ومن حيواتهم المتواضعة كان يسمع أصداء الإلياذة وملاحم الفايكنغ القديمة، هكذا وحسب وصف مانغويل: بيونس آيريس البورخيسيّة هي المركز الميتافيزيقيّ للعالم.

بورخيس، حسب قارئه وصديقه مانغويل، توجّب دائماً أن يكون فردانياً، لا قوميّاً، بلا جماعةٍ أو مدرسةٍ أو فكر، توّاقاً لأدبٍ كلّ كتاباته مرئيّة كإبداعات الرّوح ذاتها كما كان يقول محتجّاً: في الجامعة لا ندرس الأدب بل تاريخ الأدب. مع ذلك فقد غيّر بورخيس الأدب إلى الأبد، بعد المجاهرة بأنّ القارئ وحده هو من يمنح الحياة للأعمال الأدبيّة، وأنّ الأدب هو فقط إبداع المؤلّف لنظريّةٍ مستحيلة، هكذا فإنّ هناك قراءاتٍ لنصّ واحدٍ بعدد قرّائه، متنوّعة تنوّع ألوان الطاووس، وليس ما فعله بورخيس إلّا أن وضع القوانين لنسق ألوان هذا الطاووس.

تطلّع بورخيس إلى النّهاية، قال أنّه لم يستطع فهم أونامونو الذي كتب أنّه توّاقٌ للخلود: “الشّخص الذي يتوق إلى الخلود لابدّ أن يكون مجنوناً، أليس كذلك؟”، أيضاً أضاف: “لا أريد أن أموت في لغةٍ لا أستطيع فهمها”. مات في الرابع عشر من حزيران عام ۱۹۸٦ في جنيف، المدينة التي اكتشف فيها هايني وفيرجيل وكيبلغ ودي كوينسي، كان آخر كتابٍ قرئ له هو هاينرش أوفتردنغن لنوفاليس، وهو الكتاب الأوّل الذي قرأه في جنيف أيّام مراهقته.

بترجمةٍ ممتازة من أحمد م.أحمد وعن دار الساقي عام ۲۰۱٥ صدر “مع بورخيس”، المذكّرات التي حسب “الرّجل المكتبة مانغويل” هي مذكّرات المذّكرات التي قد تحرّضها وقائعٌ وصورٌ وكلماتٌ بسيطة حتّى يصير هو ذاته مانغويل غير متأكّدٍ حدّ اليقين أنّها حدثت فعلاً كما هي في ذاكرته، ثمّ سيذكر ما كتب بورخيس في شبابه: “تحّرضني حكمٌ صغيرةٌ تضيع أدراج الرّياح مع كلّ موت”.

يمكن للكاتب أن يأمل الرّضا بإيصال امرئٍ واحدٍ على الأقلّ إلى خاتمةٍ لائقة، لا؟

ينهض بورخيس مرافقاً صديقه مانغويل حتّى الباب، يقول دون أن ينتظر ردّاً: “ليلة سعيدة، إلى الغد، أليس كذلك”؟، ثمّ يطبق الباب بهدوء.

مجلة رمان

————————

امنحنا قليلاً من “راحة بالك” يا مانغويل!/ عمار المأمون

عام 1957، في لقاء تلفزيوني مع الكاتب والطبيب الفرنسي المتعاون مع النازيّة لوي فيردينياند سيلين، سأل المذيع سيلين، إن كان يتوقع أن كتابه الأول “رحلة في أقاصي الليل-1932” سيحوله إلى كاتب إشكالي في فرنسا، فيجيب سيلين بأنه دخل عالم تأليف الكتب، دون رغبة بأن يصبح مشهوراً، أراد فقط أن يكسب بعض النقود الإضافيّة كي يشتري شقة صغيرة، فحياته كطبيب فقط أصبحت مستحيلة، وهو دوماً بوجه صعوبات ماديّة، يتضح منطق سيلين “المهنيّ” و”الأنانيّ” لاحقاً، حين نكتشف أنه قام بالتبليغ عن أحد الأطباء اليهود الأجانب، وذلك كي يأخذ منصبه في أحد المستوصفات، وهذا ما حصل، إذ تم ترحيل الطبيب لمعسكر الاعتقال إثر بلاغات سيلين المتتالية.

في كتابه “ذاكرة القراءة: مرثاة وعشرة استطرادات” الصادر عام 2018، عن دار الساقي بترجمة جولان حاجي، يُخبرنا الأرجنتيني ألبيرتو مانغويل في واحدة من “استطراداته” عن صورة الكاتب المُتعب، الفقير، المعذب، اللاجتماعي وكاره الآخرين، ويرى أنها صورة توارثتها المخيّلة الثقافيّة واتفقت عليها دون أن تكون بالضرورة صحيحة.

لكن، لا بدّ من الإشارة إلى وجود شرط طبقيّ يخضع له الكتّاب يرتبط بمرحلة القراءة والكتابة، تلك الساعات الطويلة من الجهد “العدمي” و”المجاني” الذي قد ينتهي بـ”كتاب” أو قد لا ينتهي بشيء، ولا نتحدث هنا عن المتسرعين والمتصفحين والضائعين في صفحات الانترنيت، بل أولئك “القرّاء” حسب مانغويل، الذين فعلاً يحاولون أن يمتهنوا “القراءة”، لا الكتابة.

هذا الاختلاف الطبقيّ يظهر غامضاً في كتاب مانغويل الذي يفصح لنا فيه عن علاقته مع مكتبته الشخصية ذات الـ35 ألف كتاب، وكيفية توضيبه للكتب من أجل الانتقال من فرنسا إلى مانهاتن في الولايات المتحدة، إذ يخبرنا عن علاقته الماديّة مع الكتب/ أصدقائه وما يعيد إليه كل واحد منها من ذكريات، بعكس بورخيس، الذي لم يمتلك سوى بضعة مئات من الكتاب، كونه يعتمد على ذاكرته فيما يكتب، لا على ما يمتلكه من كتب.

نطرح هذه المفارقة لا غيرةً بل غبطةً، فمانغويل، المتأني كما يظهر في الكتاب، سيّد لزمنه ومشرّع لروتين القراءة الذي كانت نتيجته امتلاك مكتبة عملاقة وقراءات موسوعيّة، والاستطرادات العشرة في الكتاب تكشف لنا عن هيمنة مانغويل على زمنه الشخصي، كم هائل من الحكايات والسياقات المختلفة تتراكم ضمن كل استطراد لتكشف لنا عن علاقة مانغويل مع المكتبة ومع الكتابة نفسها، تشبيهات وحكايات قصيرة وحكم وآراء تدفعنا للحاق بكل واحدة منها وقراءة الكتاب الذي حوته، وربما هذا جزء من خدعة يوقعنا بها، إذ يعترف بداية أنه لا يمتلك منهجاً للكتابة عن المكتبات، بل تسوقه الأفكار والاقتباسات بعيداً عن البداية الصلبة المتماسكة، ويتداعى منهج الكتاب الواضح على حساب كل استطراد، وكأنه يقول لنا، إن أعجبك ما قرأت ابحث في مكتبة ما عن الكتاب الذي اقتبست منه هذه الحكاية.

لكن، الخدعة السابقة تنكشف أمامنا حين ننتهي من الكتاب، الذي هو أشبه بفروع شجرة تقودنا نحو جذور لا نهائيّة، فالمكتبة ضد النسيان، ومدرسة للمواطنة، المكتبة علامة عجز البشريّة عن إدراك الكمال، في ذات الوقت، هي مُحرّك استمرارها، وهنا تتضح تقنيّة مانغويل، التي تشبه ما يسمّى الـ”Copia”، فن الكتابة الذي أشتهر به إراسموس الروترادميّ، الذي يمكن وصفه بأنه تمرين إبداعي على إعادة كتابة نصوص مكتوبة مُسبقاً وتقديماً بشكل جديد، لخلق علاقات جديدة بينها وتكوينها بصورة مختلفة، هو فنّ المعلّمين وتمرين الطلاب، وأسلوب لتشكيل الموضوع بصورة جديدة بالاعتماد على تاريخه الأدبيّ والثقافيّ، هو فن الكتابة عن الكتابة.

أن تستطرد، يعني أن تمتلك الزمن الكافي لتترك العنان لأفكارك، وتبحث بعيداً مُحتفلاً بالطريق وما تخفيه الصفحات من اكتشافات، لكن هل سنتابع ونتقصى وراء كل اقتباس وحكاية ذكرها مانغويل؟ ربما. هل يبهرنا أسلوبه وبناءه لاقتباساته من عالم الكتب ؟ نعم. هل نشعر بالغيرة من عدد الكتب التي لديه؟ نعم، لكن راحة البال هي أكثر ما يثير الغيظ، لا تفكير بأجرة المنزل يتخلل حديثه عن مكتبته، لا ذِكر لمصاريف الشحن، لا إشارات واضحة إلى أسعار الكتب، بل استطرادات تثير الغيرة، سببها الوقت الكافي لقراءة معاجم وكتب ومكتبات بأكملها باتزان وهدوء.

لنناكف مانغويل قليلاً، ونستفيد من سرعة الوصول إلى المعلومات التي توفرها الانترنت وننسخ ونلصق الاقتباس التالي الذي لم نتأكّد أنه لجيمس جويس: “الحياة أقصر من أن نقرأ كتاباً سيئاً”، مانغويل يختلف مع هذه الفكرة، الكتب الرديئة مهمة كي نتعلم منها ونقتبس منها لاحقاً مثالاً عن “كتاب رديء”.

نحن “مُستهلكي” مئات الغيغابايتات من ملفات الـPDF، والمحكومين بـ”إيقاع العصر”، لا نكره الكتاب الورقي، لكن نفضل سهولة الوصول إلى ما نريد ببضعة لمسات، لأننا لا نمتلك وقتاً للاستطراد والبحث المضني، لا لأننا كسالى ولا لأننا مستهلكين، بل لأن امتهان “الكتابة” أو “القراءة” بشكل جدّي يعني أننا لن نمتلك أبداً ثمن منزل، سننتظر الجوائز والمنح ومزاجها السياسيّ كيّ “نتفرّغ”، أو ستبتلعنا دوّامة الصحافة الثقافيّة ومفاوضات ثمن “القطعة”، نحن نقرأ الكتب الرديئة في الكثير من الأحيان لا للاستطراد أو تعلم اجتناب أسلوبها، بل لإتمام عدد “القطع” التي يجب أن نكتبها كل شهر.

لا يمكن الاختلاف حول ما يقوله مانغويل، المستكشفين الغزاة حملوا مكاتبهم وتخيلاتهم إلى العالم الجديد ودمّروا تقاليده، الطغاة أحرقوا المكاتب ونفوا الشعراء والكتّاب، لكن، في ظل ديكتاتوريات وطنيّة لم تنهار بعد، العدالة والمواطنة قيم ما زالت بعيدة، لتكون المكتبة “مدرسة للمواطنة” والعيش المشترك، حياتنا اليوميّة المهددة لا يمكن أن تترك للفرد زمناً ليقرأً، أو حتى يكتب، القراء والكتاّب مهددون من قبل غيلان السلطة، مانغويل نفسه اختبر ذلك مع محاولة منعه من دخول تونس، هناك جغرافيات لا راحة للبال فيها، محكومة بشرط اقتصاديّ يهدد الاستطراد، ويحول الكتابة إلى عناء جسدّي. تخبرنا آنا غريغوريغنا زوجة فيودور دوستيوفسكي في مذكراتها -التي لا أمتلك نسخة ورقيّة عنها- أن زوجها الذي تصيبه نوبات صرع ويحب القمار، أملى عليها “المقامر” في 26 يوماً سداداً لديونه التي بقيت تلتهمه حتى موته.

لا نحاول الحديث عن آلام الكتاب، ولا تبنّي الصورة المتخيّلة التي تحدث عنها مانغويل، لكن نكتب ونقتبس و”نستهلك” غيرةً من الوقت، وراحة البال، والرغبة بـ”الاستطراد” التي يمتعنا بها مانغويل. أكتب من رغبة بمطابقة الصورة التي يظهر فيها هو، هادئاً، محاطاً بالكتب، يمتلك الوقت الكافي ليسرح بعيداً بحثاً عما كانت تحويه مكتبة الاسكندريّة من مخطوطات.

——————–

لنفرض على الكاتب مصائر أبطاله… مانغويل يعاقب ستيفنسن بمأساة جيكل وهايد/ أحمد مجدي همام

الهجرة إلى المحيط الهادي

في يونيو من العام 1888 استأجر الكاتب الاسكتلندي روبرت لويس ستيفنسن (1850 – 1894) يختًا ليقله هو وعائلته من سان فرانسيسكو في الولايات المتحدة الأمريكية إلى جزيرة ساموا في جنوب المحيط الهادي، حيث اعتاد الكاتب الاسكتلندي على التطواف في البلاد بحثًا عن الأجواء الدافئة والحارة التي تساعد رئتيه المريضتين بالسل على أداء وظيفتهما. وسبق له زيارة بلجيكا وفرنسا والولايات المتحدة ونشر أكثر من نص في أدب الرحلات، قبل أن يزور 33 جزيرة في سفرته البحرية من سان فرانسيسكو إلى المستعمرة البريطانية ساموا، في رحلة استغرقت 4 شهور كاملة، وانتهت باستقرار ستيفنسن ووالدته وزوجته فاني أوزبورن وولديها في ساموا. حيث لن يغادرها ستيفنسن أبدًا، بعدما وجد فيها ضالته، جنته التي ستعينه على الاستمرار في الحياة والتنفس، والتي ستفتنه بألوانها الزاهية وثقافة أهلها الطيبين وتقديرهم له بوصفه “راوي حكايات” أو “توسيتالا” كما ترد في اللغة المحلية للسامويين.

في العام 2000 نشر الكاتب الكندي أرجنتيني الأصل ألبرتو مانغويل (1948) روايته “ستيفنسن تحت أشجار النخيل”، والتي صدرت ترجمتها العربية عن دار الساقي في بيروت في 2017 بتوقيع المترجم والشاعر السوري جولان حاجي.

عقاب للهائمين تحت أشجار النخيل

تتكئ الرواية القصيرة “ستيفنسن تحت أشجار النخيل” على حالة من التناص، لا مع الرواية الأشهر لستيفنسن: “الحالة الغريبة لدكتور جيكل والسيد هايد” الصادرة في 1886، بل وتقتبس من حياة ستيفنسن ذاته، عبر إحالات وغمزات عدّة، استخدمها مانغويل بين السطور، لإضفاء قدر كبير من المصداقية على روايته عن الروائي الاسكتلندي الذي حدد منفاه الاختياري في ساموا وتشبّث به حتى الموت.

قبل أن يكتب ستيفنسن “الحالة الغريبة لدكتور جيكل والسيد هايد” كان يمر بضائقة مالية، وقد أشار عليه ناشره بتأليف “قصة مرعبة تُباع بشِلِن”، لنشرها في موسم أعياد الميلاد المرتبط بالقصص الخرافية، لتخرج هذه التحفة الفنية الخالدة.

في الرواية التي باتت تُعرف شعبيًا باسم “دكتور جيكل ومستر هايد”، التقط ستيفنسن فكرة إنسانية وفلسفية رهيفة متمثلة في التمازج بين الخير والشر داخل الإنسان، ومن ثم طرح سؤال جدلي حول إمكانية الفصل بين الخير والشر المتمازجين في النفس البشرية عن طريق عقار صنعه دكتور جيكل، ما ينتج عنه خلق شخصية السيد هايد الشرير، الذي سيأخذ في التضخم والتعملق حتى يسيطر على حياة جيكل.

حققت الرواية عند صدورها صدى مذهلًا وصل إلى أن الملكة فيكتوريا (1837 – 1901) ورئيس وزرائها قرآها وأثنيا عليها، وباعت في الأشهر الستة الأولى منذ صدورها قرابة الأربعين ألف نسخة، وباتت جملة مثل “جيكل وهايد” مثلًا شعبيًا للتدليل على الشخص ذي الوجهين الذي يجاهر بالخير ويضمر الشر.

اختار ألبرتو مانغويل توظيف كل هذا الزخم في روايته “ستيفنسن تحت أشجار النخيل”، واستهلها باقتباس من “الأنساب المختارة” للألماني غوته: “ما من أحد يهيم تحت أشجار النخيل ويفلت من العقاب”.

وعقاب ستيفنسن يحدث بعد أن ينبثق قرين لستينفسن نفسه، مثلما انبثق هايد من داخل أغوار الدكتور جيكل. وكان قرين ستيفنسن هنا رجل دين اسكتلندي متعصب اسمه السيد بيكر. كان ستيفنسن يحظى بمكانة كبرى في ساموا، فبين الأهالي هو راوي الحكايات “توسيتالا”، وعند هؤلاء البدائيين الطيبين كانت الحكايات ومعقوليتها وتسلسلها المنطقي وسيلة لاستيعاب أي شيء وتصديقه. أما بين الجالية الأوروبية في الجزيرة فقد كان ستيفنسن أحد الكتّاب المرموقين أصحاب الحظوة. كان الوضع هكذا حتى ظهر السيد بيكر، الشبحي، الذي لا يراه أحد إلا ستيفنسن نفسه، إذ جرت العادة أن يلتقيه صدفة بين الحين والآخر أثناء تنزهه قرب الشاطئ، وعندما استقصى ستيفنسن من سائقه سوسيمو عنه أكد له هذا الأخير عدم وصول أي مبشرين أوروبيين إلى الجزيرة.

جرائم لا إرادية

تتحول حياة الأرخبيل الهانئة التي يحياها ستيفنسن وعائلته إلى جحيم، ويبدأ ذلك عندما تقع سلسلة من الجرائم في الجزيرة الهادئة، تبدأ بمقتل مراهقة محلية شديدة الجمال بعد تعرضها للاغتصاب، بخلاف الحريق الذي يندلع في إحدى الحانات، وكان العامل المشترك بين الجريمتين هو ستيفنسن نفسه، إذ يُعثر على قبعته في مسرح الجريمة الأولى، بينما يُرى أثناء دخوله للحانة التي توهم أنه دخل إليها لمجادلة قرينه السيد بيكر في أفكاره المتطرفة، قبل أن تتضح الحقيقة المستنسخة من “دكتور جيكل والسيد هايد”.. لم يعد هناك ستيفنسن واحد، بل صار اثنين، ستيفنسن وبيكر، مقابل جيكل وهايد، الخير والشر، الإعجاب في العلن والنهش في الخفاء، حياة تحت الأضواء وأخرى في الأغوار السحيقة. إنها النفس البشرية بعد تحليل لونها الرمادي وفصله إلى عنصريه الأوليين: الأبيض والأسود، مع السماح لكل واحد منهما بالنمو في مسار مستقل.

لقد اختار ألبرتو مانغويل، لروبرت لويس ستيفنسن، أن يتجرع من نفس الترياق الذي أعده وخلق به مأساة دكتور جيكل والسيد هايد، فرض عليه مصائر أبطاله – أبطال ستيفنسن نفسه – وحقنه بالترياق الذي شربه دكتور جيكل ليتحول إلى السيد هايد، وهكذا تكاثر الاسكتلندي انشطاريًا وتحول إلى ستيفنسن وبيكر، ستيفنسن الوديع المريض الموهوب والمحب، وبيكر المتزمت القاتل الشهواني اللامنطقي. وفي سبيل تمرير هذه الالتواءة القدرية العجيبة، طعّم مانغويل حكايته بقطع مقتبسة من السيرة الحقيقية لروبرت لويس ستيفنسن، وبالإحالات التناصية التي أشرنا لها سابقًا. فقد اعتمد صاحب “تاريخ القراءة” على الكثير من الوقائع المثبتة في حياة ستيفنسن، ونهل من مراسلاته مع هنري جيمس وأندرو لانغ وغيرها من المراجع المثبتة، ثم جاء إقحامه للجانب الكابوسي الخفي من ستيفنسن والمتمثل في السيد بيكر ليخلط الحقائق ويعجنها في عالم شبحي أثيري ذوّب ركائز الواقع، ليخرج بالنص إلى هذه الحالة البلورية الدخّانية المذهلة.

مجلة رمان

—————————–

ألبرتو مانغويل… الهوية عبر الكلمات/ سومر شحادة

يحدثنا ألبرتو مانغويل عن مدينة متخيلة، ويسعى إلى وصول حدودها، قبل أن نكتشف معه، أن لا حدود لها، فالأسئلة لديه تنتج أسئلة. ينقل لنا تصوراته عن تلك المدينة، لنكتشف أن لا قيود ولا أمداء لموضوع كتابهِ «مدينة الكلمات» الصادر بترجمة يزن الحاج عن دار الساقي. إذ يبحثُ الكتاب في مسائل اللغة والهوية، وفي غمرة تحليله للنصوص، يبرزُ هوية رحبة، تبدو صالحة لكلّ الأزمان، يضعها في وجه العصبيات، ويضع البشر أمامَ حقيقةٍ بسيطة، بعد جهده التركيبي الممتدّ على عشرات السير والآراء، وهي حقيقةُ أنّنا محكومون بالعيش معاً.

ينطوي بحث مانغويل على الإيحاء للبشر بأنّ لهم مصيراً واحداً، ويربط هذا المصير بحتمية أخرى، وهي التآلف بين القوميات والثقافات المختلفة. إنّه يرتب ما هو جوهري في التجربة الإنسانية، ويصل عبر ترتيبه الخاص والموسوعي إلى خلاصة مفادها؛ صلاح الكلمات لأن تكون وطناً للجميع، متغيراً وآمناً في آن. وطنٌ في حالة تشكل دائمة، وفي أطوار تشكله تنبتُ الهويات وتنمو وتزدهر وتنفتح على الآخر. يستند بحثه إلى عددٍ من السرديات منها ألواح جلجامش وبرج بابل ودون كيخوته. إلى جانب العديد من القرائن التي راح المعماري يجمعها في بناء حجته ضد ما يفرّق البشر. يفصل مانغويل بين عمليتي القراءة والكتابة، ويسند لكلّ من القارئ والكاتب دوراً يكون معه، كلّ منهما، أشبه بالساعي صَوبَ الآخر. تبرز العمليتان اللتان يفصل بينهما مانغويل، على نحو تبدو القراءة كتابةً تخصُّ القارئ والكتابة قراءة ينجزها الكاتب؛ عمليتان ثانويتان. بحضور اللغة التي لا تعادل الواقع وحسب، وإنّما تخلقه. تتفوق عليهِ، تسبقه، لا تجاريه، وإنّما تتصدّر ثمّ تنادي عليهِ. إلا أنّ التفاعل الأبرز ضمن التفاعلات العديدة في الدراسة تحدث ما بين اللغة والهوية، إذ يفاضل مانغويل ما بين لغة السياسة التي تعمل على “تجميد الهويات” وبين لغة الشعر التي تمنحنا هويات “ذاتية الإلهام”. الأمر الذي يعيدنا إلى ما يبدو سبباً لكتابه، إذ رصد مانغويل مفارقة شهدها القرن العشرين، يذكرها في مقدمة الكتاب، وهي توحيد البلدان بتشكيل تجمعات سياسية، وتقسيمها داخلياً في الوقت ذاته عبر إنتاج هويات ضيقة. وبسبب جهله بعلوم السياسة والاقتصاد، يشرعُ مانغويل، انطلاقاً من معرفته بالنصوص والكلمات مجموعة من التساؤلات حيال الهوية عبر الكلمات، ودور القصص في إداركنا لأنفسنا وإدراكنا للآخر.

يظهر سعي مانغويل لبرهان أنّ إدراك أنفسنا يتم عبر إدراك الآخر، محصلةً لجملة من أساليب الآخرين في التعاطي مع اللغة. منهم الروائي الألماني ألفرد دوبلن، والذي اعتبر اللغة “صيغة من حبّ الآخرين”. حتى أنّ دوبلن اعتبر اللغة “أداة تصوغ الواقع”، ومضى في اعتقاده بقدرة اللغة على إعادة صياغة الواقع، وبالتالي تغييره، حداً اعتقد معه أنّ غياب العدالة عن الواقع هو إشارة لعالم آخر يعيش فيه العدل، وهو عالم القصص… يقصر مانغويل المبدعين على وظائف يذكرها بوضوح، كما لو أنّه يلزم المبدع بضرورة ألا يركن إلى النظام، إلى جانب تحريض القراء على إعادة تعريف معتقداتهم. تتضح الوظيفة التي ينيط بها مانغويل المبدع، ضمناً، في ما تقدمه القراءة للقراء، إذ على ذلك “العمل الذي يخص الذاكرة” أن يُشعر القارئ بأنّ التجارب التي يطالعها هي تجاربه. ينتظر القارئ من الكلمات لا أن تبني الواقع فقط، وإنّما أن تدافع عن الواقع في مواضع أخرى. من غير أن يلزم الأدب تقديم الإجابات الحاسمة، بهذا تأخذ فكرة مانغويل عن الكتابة مساراً تنويرياً، إذ ينبغي على الكتابة أن تحمل بذور التغيير، لكنه تغيير شفيف وثابت لا انقلابي وطارئ. إنّه تغيير ينظر عبره القارئ إلى الآخر من زاوية تضيء داخله، من غير أن تعتم أناه! في السياق ذاته يذكرُ أنّ القصص “تساعد الأعرج على المشي والأعمى على الإبصار.” وأنّها “تقدم العزاء بشأن المعاناة”. يستخلص الدروس عبر تقاطعات يجريها عقلهِ الشامل، يبدو مهتماً بأن يلقنّا عبراً، ونجاحه في هذا الكتاب، في واحدة من صورهِ، هو نجاح الحكّاء الذي يعظ من غير أن يكون مملاً. يخبرنا في واحدة من خلاصات ألواح جلجامش أنّ الآخر “جزء من الهوية”، وينفي الفردانية عن حياة الإنسان، فجميعنا يتغذى، بدرجات متفاوتة بصورة الآخر. أيضاً يتحدث عن الصلة بين مدينة من الجدران ومدينة من الكلمات، فكلّ منهما، وبحسب قراءة مانغويل، تستلزم وجود الأخرى، الأمر الذي يدركه الملك/ السلطة، إذ تُصان عظمة المدن عبر رواية قصصها.

ضمن المصائر المتشابكة التي صورها مانغويل للكتّاب والقراء، لربما نسمح لأنفسنا أن نصنع من كلماتهِ هو، ذاتها، العبارات الآتية: تمنح اللغة صوتها لحكائين يخبرونا عن ماهيتنا، وتكتسب اللغة القادرة على أن تصوغ إيماننا، فعاليتها، من دفعنا نحو أمرٍ لم يتحقق بعد. بهذا لا يتوقف المبدع عن البناء في المجهول القادم، لا يتوقف عن تشييد ذلك الوطن المتخيل الشاسع، والذي يتساءل سكانه الخارجين من النزاعات والإثنيات، إن كانوا عابرين فيه، حالهم، في الأوطان التي ما لبثت تلفظ مواطنيها.

مجلة رمان

———————

ماذا نقرأ لألبرتو مانغويل بالعربيّة؟

 ————————-

فنّ القراءة

تاريخ الصدور : 2015

عدد الصفحات : 416

————————-

كلُّ الناس كاذبون

تاريخ الصدور : 2016

عدد الصفحات : 240

————————-

مع بورخيس

تاريخ الصدور : 2015

عدد الصفحات : 112

————————-

مدينة الكلمات

تاريخ الصدور : 2016

عدد الصفحات : 176

————————-

تاريخ القراءة

تاريخ الصدور : 2013

عدد الصفحات : 384

————————-

عودة

تاريخ الصدور : 2015

عدد الصفحات : 112

————————-

يوميات القراءة

تاريخ الصدور : 2015

عدد الصفحات : 256

————————-

عاشقٌ مولع بالتفاصيل

تاريخ الصدور : 2015

عدد الصفحات : 96

————————-

شخصيات مذهلة من عالم الأدب

تاريخ الصدور : 2020

عدد الصفحات : 224

————————-

ستيفنسن تحت أشجار النخيل

تاريخ الصدور : 2017

عدد الصفحات : 112

————————-

ذاكرة القراءة

تاريخ الصدور : 2018

عدد الصفحات : 192

————————-

المكتبة في الليل

تاريخ الصدور : 2015

عدد الصفحات : 256

————————-

الفضول

تاريخ الصدور : 2017

عدد الصفحات : 416

————————-

أخبار من بلاد أجنبية

تاريخ الصدور : 2018

عدد الصفحات : 320


ملف من اعداد مجلة رمان

=========================

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى