رواية “الديوان الإسبرطي” لعبدالوهاب عيساوي تفوز بالبوكر العربية 2020
=============================
————————————-
رواية «الديوان الإسبرطي»… تنبش الماضي وتقصد الحاضر/ موسى إبراهيم أبو رياش
لا يشعر قارئ رواية «ديوان الإسبرطي» للجزائري عبدالوهاب عيساوي، أنه يقرأ رواية تاريخية، مع أنها اتخذت من التاريخ فضاءً لها؛ للطريقة التي تناول فيها عيساوي الحدث، وأخرجه من ملل التاريخ وجفافه، إلى متعة الرواية وشعرية اللغة وحيوية الشخوص، وسينمائية المشاهد والأحداث. فاستوت الرواية على سوقها ناضجة مكتملة عميقة، مُمتلئة ومَليئة وُمملِئة؛ بما ترسله من رسائل، وتثيره من أسئلة، وتنبشه من قضايا ما زال بعضها حيًا حتى اللحظة.
رواية «ديوان الإسبرطي»، دار ميم، 2018، 386 صفحة، الفائزة بجائزة الرواية العربية- البوكر، ليست رواية شخوص، فهي لم تهتم بمصائرهم، وما جرى لهم، وليست رواية أحداث تاريخية، فالتاريخ سلسلة من الأحداث المتتابعة المتدافعة، التي لا تنتهي، وإنما هي رواية رؤية وتبصرة وتفكر، رواية وطن لا يتوقف عند شخص، ولا يزعزعه حدث، رواية هوية تاهت وما زالت تائهة، وإن كانت الرواية اتخذت من الجزائر فضاءً مكانيًا لها، فكل بلداننا العربية جزر وجزائر؛ كانت الجزائر البداية، ولم تسلم غيرها من المصير ذاته، وما زالت تعاني من الويلات وآثار ما حدث، فما حدث طفرة جينية، لن تزول إلا بطفرة جينية أقوى!
عبر خمسة أصوات (شخوص) وخمسة أقسام (جولات) تناولت الرواية نهايات الوجود العثماني في الجزائر، وبدايات الاستعمار الفرنسي، وبالذات في الفترة بين عامي 1816 و1833، وقد اختار عيساوي خمس شخصيات مختلفة، لينير ما حدث من جميع الجوانب، لئلا يكون القارئ أسير رؤية أحادية، وهذا يُسجل للكاتب الذي وظف تقنية تعدد الأصوات على رواية تتناول أحداثًا تاريخية، وفي هذا تأكيد على ضرورة قراءة التاريخ من مصادر مختلفة، وعدم الاقتصار على وجهة نظر واحدة، ومع كل ذلك تبقى هناك زوايا مظلمة، وقد تبقى مظلمة إلى الأبد.
وظفت الرواية ثلاث شخصيات جزائرية، ابن ميّار وحمّة السّلّاوي ودُوجة، وشخصيتين فرنسيتين هما ديبون وكافيار. وكل شخصية تمثل شريحة أو طبقة أو توجها أو فكرا؛ فابن ميّار شيخ كبير من المور أي من الحضر، ومن الأثرياء، ومقرب من الباشا العثماني، ولا يجد بأسًا في الحكم العثماني للجزائر، وعندما يحتل الفرنسيون الجزائر، لا يجد غضاضة أن يكون عضوًا في مجلس المدينة تحت سلطتهم، ويعتمد على الشكوى والعرائض والاحتجاج، فيطرد من المجلس، وعندما يرفع شكواه إلى باريس، تحضر لجنة لتقييم الأوضاع، وتستمع لابن ميّار، فيخرج من عندها مخذولًا يائسًا؛ إذ تبين له ـ بعد فوات الأوان- أن نهجه السلمي والاسترضائي لم يثمر، بل جعله سخرية، وأجهزوا عليه بالنفي، فخرج من المدينة خائبًا، ولم يودعه إلا صديقه الفرنسي ديبون.
حمّة السّلّاوي، كان شابًا متمردًا ثائرًا، عارض الأتراك، وعارض الفرنسيين وحاربهم، وحارب رموز الفساد مثل المزوار مسؤول المبغى، وقتله، واختلف مع صديقه ابن ميّار. السّلّاوي يمثل ضمير الشعب الجزائري وآماله، على الرغم من تجنب الآخرين له، وعدم تجاوبهم لما يقوله، ونعته بالجنون. كان السّلّاوي يعيش حياته كما يريد، حسب قناعاته وما يؤمن به، كان يعارض الأتراك، ويستخدم عرائس الدمى لفضحهم، ولكن لم يتردد في أن يحشد الناس للتصدي للجيش الفرنسي ومحاربته تحت قيادة الأتراك، ولم يجد بأسًا في التقرب من بغي وحمايتها وإيوائها، ومن ثم وعده بالزواج منها. وفي التحاقه بالمقاومة تحت لواء الأمير، تتجدد الآمال، وعدم موت الأمة وركونها إلى الهوان.
دُوجة، فتاة قروية، تمثل الشرائح الفقيرة المهمشة، فقدت أمها وأخاها وأباها على التوالي، ماتت أمها مريضة، وكذلك أخوها الطفل، ومات أبوها قهرًا بعد تعرضه للصفع من الفرنسي كافيار. لجأت إلى المحروسة، وعملت في بعض البيوت، قبل أن تلتحق بفرقة لالة مريم للأفراح، وعندما انتهت مهمتها، أسلمتها للمزوار ليضمها للمبغى، وبعد فترة أنقذها السّلّاوي وأودعها العجوز اليهودية لالة زهرة، ومن ثم بيت صديقه ابن ميّار وزوجته لالة سعدية، ومن ثم عادت إلى لالة زهرة انتظارًا لعودة السّلّاوي كما وعدها. كانت دُوجة جميلة، مطمعًا لكل الرجال، ولكنها رضيت بالسّلّاوي رفيقًا رغم غرابته وغيابه المتكرر وجرأته وتهوره.
ديبون، صحافي فرنسي، رافق الحملة الفرنسية لاحتلال الجزائر، وكان يظن أن هدف الحملة إنقاذ الجزائريين من الظلمة والظلام، وتنويرهم، وحمل رسالة الرب إليهم، وهناك صُدم بما رأى وشاهد. وعاد إلى الجزائر مرة أخرى ليتحقق من تجارة عظام الموتى واستخدامها في تبييض السكر الفرنسي. اعترض، احتج، كتب، بدون جدوى. كان ديبون نموذج الإنسانية والعدالة التي هُزمت أمام الشجع والحقد والانتقام وحب التملك والسيطرة. كان يمثل ظاهر الحملة وهدفها المعلن. تعرف إلى توماس الذي يبشر بدعوة جديدة إلى الإنسانية والإخاء؛ لتكتمل حلقة الأحلام والأوهام، التي تتكسر على صخرة الواقع الذي يمد لسانه ساخرًا. ديبون يمثل صوت الفئة الرافضة لجرائم الفرنسيين في الجزائر، ولكنه يبقى مجرد صوت لا أثر له على الأرض مهما ارتفع وعلا، فالكلمة العليا للقوة والتسلط التي يمثلها كافيار.
كافيار، جامع الشرور، ونافث الأحقاد، وحامل سيف الانتقام، والحقيقة البشعة للحملة الفرنسية، أحد جنود نابليون الذين هزموا في واترلو على يد الإنكليز، عمل صيادًا قبل أن يأسره القراصنة ويأخذوه عبدًا إلى المحروسة، وهناك سجن وشُغّل في الميناء والمقالع، وهرست قدمه من حجر سقط عليه. امتلأ قلبه بالحقد والبغض والكره للأتراك والجزائريين، وأقسم أن ينتقم، وأن يثأر لكل لحظة عاشها ذليلًا مهانًا، وأن يحقق حلم قائده نابليون باحتلال الجزائر. اعتمد على سجلات وخرائط سلفه «بوتان» جاسوس نابليون، الذي رصد فيها كل صغيرة وكبيرة في الجزائر، فأكمل عليها، وسجّل كل شيء عن القبائل والكتائب والقلاع والأسلحة، والأشجار والأعشاب ومنافعها، والمساجد والأحياء والمسافات، والخيول وكل ما يخطر ولا يخطر على البال، تمهيدًا لحلمه باحتلال الجزائر، ونجح في إقناع القيادة الفرنسية بذلك، فكان القائد الفعلي للحملة والموجه لكل حركاتها، وتحديد أماكنها، ونجحت خطته، وأصبح نافذ الكلمة في الجزائر، ينفذ ما عزم عليه من انتقام، فبطش ونكّل ونفى وأبعد، ولم يلتفت إلى أي اعتراض أو احتجاج، ولم يسلم منه رفيق دربه في السفينة ديبون، فطرده من مكتبه، ومنع دخوله ثانية.
أجاد عيساوي هندسة الرواية وبناءها بحرفية ومهارة، وأحكم سيطرته على أحداثها وشخوصها وأزمنتها وأمكنتها، وكان عادلًا في منح فرص متكافئة لجميع الشخوص، لتوضيح وجهة نظرهم، حتى إن اضطروا لتكرار بعض الأحداث، فقد يتكرر الحدث، لكن تختلف زاوية النظر، وهذا ما قصده الكاتب ابتداءً. ووظف اليوميات والمذكرات في نسيج روائي متين بديع. وتميزت لغة الرواية بالشاعرية في كثير من المواطن، والجمال والروعة في جميع أقسامها، ولم يستخدم غير الفصحى، حتى في حوار الشخوص، مع اختـــــلاف المستوى المعــــرفي والإدراكي بالطبع، وهذه ميزة تُسجل أيضًا للكاتب، أن طوع الفصحى، ولم يلجأ للعاميات كما يلجأ كثير من الروائيين بمبررات غير مقنعة، تخرج أعمالهم من حيز الإبداع، إلى فوضى الكتابة. وتميزت جمل الرواية بالســــبك المحكم، والرصانة، ويصلح كثير منها للاقتباس، كجمل مستقلة ذات دلالات وأفكار ورؤى، ولا تخلو من الحكمة.
حفلت الرواية بوجبة معرفية وتاريخية دسمة، تستفز القارئ للرجوع إلى المصادر للتوسع، خاصة أنها تناولت أسماء حقيقية، يمكن الرجوع إليها بسهولة، مثل الباشا حسين، والآغا إبراهيم والآغا يحيى والباي أحمد والقنصل دوفال وقائد الحملة بورمون والأميرال دوبيري والحكام الآخرين كلوزيل وروفيغو وفوارول. أما الشخصيات الأخرى، فإن لم توجد على الأرض بذواتها، فبعضها تمثل نماذج حقيقية يسهل تتبعها، والشخصيات الآخرى لضرورات فنية، ولكنها شخصيات لها وجودها بشكل أو بآخر.
نجحت رواية «ديوان الإسبرطي» في إثارة عاصفة من الأسئلة، ونبش كثير من القضايا، ومنها: قضية التجارة بعظام الموتى لتبييض السكر، القرصنة في المتوسط، الحكم العثماني للجزائر ما له وما عليه، الاستعمار الفرنسي، دور اليهود في الجزائر ودورهم في الحملة الفرنسية، دور الاستشراق في الحملة الفرنسية، العلاقة بين الجزائر وفرنسا قبل الاحتلال، المقاومة والجهاد ضد فرنسا، مواقف المثقفين الفرنسيين من الاحتلال، وغيرها، وكل واحدة من هذه القضايا تصلح فضاء واسعًا وثريًا لرواية منفصلة، حتى إن كتب فيها من قبل.
الرواية، تنبش الماضي، وتقصد الحاضر، وتحذّر من المستقبل، وتوجه دعوة للقارئ، أن إقرأ ومحص تاريخك، لتفهم حاضرك، وما ينتظرك في مستقبلك، وتقول نعم إن التاريخ لا يعيد نفسه، لكننا نعيد حماقات من سبقنا. وأن ظلم الغريب بشع، وأبشع منه ظلم ذوي القربى، وبطش الآخر متوقع، ولكن جبروت الذين من بيننا لا يحتمل ولا يبرر ولا يغفر. وأن الظالم غريب ومرفوض ومدان مهما كان جنسه أو دينه أو وطنه أو عرقه.
وبعد، فالحديث عن الرواية يطول، وحق لها، فهي الأميز والأفضل، والأكثر إبداعًا وإمتاعًا من روايات القائمة القصيرة للبوكر 2020 وأجدرها بالفوز بالجائزة، ولا غرابة، فكل رواية من روايات عيساوي الأربع السابقة فازت بجائزة، دلالة طول باعه، ونبوغ إبداعه، وتمكنه من فنه.
٭ كاتب أردني
القدس العربي
——————————————-
هل كانت “بوكر العربية” مُنصفة هذا العام؟
مر فوز رواية “الديوان الإسبرطي” للكاتب الجزائري عبد الوهاب عيساوي، بالدورة الثالثة عشرة من الجائزة العالمية للرواية العربية 2020، من دون ضجيج، ومن دون تعليقات صاخبة في “فايسبوك”، ومن دون اتهامات، وجرى اختيارها من بين ست روايات في القائمة القصيرة لكتّاب من الجزائر وسوريا والعراق ولبنان ومصر. كتّاب القائمة القصيرة، هم سعيد خطيبي، وجبور الدويهي، وخليل الرز، ويوسف زيدان، وعبد الوهاب عيساوي وعالية ممدوح.
وجرى الاعلان عن الفائز بعد تأخر بسبب كورونا، وكانت القائمة الطويلة شهدت موجة انتقادات وردت في صفحة أحد الكتّاب الجزائريين من باب الغيرة من مواطنيه المرشحين، الى جانب اتهامات من أحد الناشرين السوريين مفادها أن لجنة التحكيم في “بوكر” تختار الروائيين تبعاً للهوية وليس النص… وكان كثيرون ينتظرون أن تكون الجائزة للشاعر والكاتب السوري الكردي سليم بركات، لكنه وصل الى القائمة الطويلة فقط، وإبعاده من القائمة القصيرة اغضب جمهوره…
وفوز عيساوي حظي برضا مواطنيه، وهو يبدو محظوظاً بالجوائز، وسبق أن فاز بجائزة كتارا وجائزة سعاد الصباح وجائزة أسيا جبار… وقال محسن الموسوي، رئيس لجنة تحكيم بوكر، “تتميز رواية الديوان الإسبرطي بجودة أسلوبية عالية وتعددية صوتية تتيح للقارئ أن يتمعن في تاريخ احتلال الجزائر روائياً ومن خلاله تاريخ صراعات منطقة المتوسط كاملة، كل ذلك برؤى متقاطعة ومصالح متباينة تجسدها الشخصيات الروائية، إن الرواية دعوة القارئ إلى فهم ملابسات الاحتلال وكيف تتشكل المقاومة بأشكال مختلفة ومتنامية لمواجهته. هذه الرواية بنظامها السردي التاريخي العميق لا تسكن الماضي بل تجعل القارئ يطل على الراهن القائم ويسائله”.
وترصد “الديوان الإسبرطي” حيوات خمس شخصيات تتشابك في فضاء زمني ما بين العام 1815 إلى 1833، في مدينة المحروسة، الجزائر. أولها الصحافي ديبون الذي جاء في ركاب الحملة على الجزائر كمراسل صحافي، وكافيار الذي كان جندياً في جيش نابليون ليجد نفسه أسيراً في الجزائر، ثم مخططاً للحملة. ثلاث شخصيات جزائرية تتباين مواقفها من الوجود العثماني في الجزائر، كما تختلف في طريقة التعامل مع الفرنسيين. يميل ابن ميار إلى السياسة كوسيلة لبناء العلاقات مع بني عثمان، وحتى الفرنسيين، بينما لحمّة السلّاوي وجهة نظر أخرى، الثورة هي الوسيلة الوحيدة للتغيير. أما الشخصية الخامسة فهي دوجة، المعلقة بين كل هؤلاء، تنظر إلى تحولات المحروسة، لكنها لا تستطيع إلا أن تكون جزءاً منها، مرغمة لأنه من يعيش في المحروسة ليس عليه إلاّ أن يسير وفق شروطها أو عليه الرحيل.
والسؤال هل كانت “بوكر” مُنصفة هذا العام؟ كتب الروائي العراقي سلام ابراهيم في “فايسبوك”: “أتممت قراءة روايات القائمة القصيرة الست، رواية “الديوان الاسبرطي” لعبد الوهاب عيساوي تمتعت بها جداً، فهي رواية غنية مبنية بحذق ودقة تشتغل على ثيم إنسانية عميقة وتكشف حقبة تاريخية غامضة ومهملة لتأسس عالمها الساحر. تليها رواية “الحي الروسي” لخليل الرز الذي صور الوضع البشري في ظروف الحرب الأهلية السورية، من خلال حي مجاور للعاصمة السورية دمشق متينة البنية شجنة في تعاطفها الإنساني مع شخوصها ملاحظتي عنها؛ مدخلها ممل ورمز الزرافة في المدخل والرواية لم يتسق مع بنية النص فأثقل عليها.
تليها رواية الجزائري سعيد الخطيبي “حطب سراييفو” وهي رواية تصور الأثار المدمرة للحروب الأهلية في تسعينات القرن الماضي في كل من الجزائر والبوسنة من خلال تتبع حياة شخصيتين الأولى صحفي جزائري مهدد من القوى الإسلامية والثانية عن كاتبة مسرح بوسنية تحلم بحياة أفضل في وطن بديل مثلما يحلم الصحافي، ويلتقيان في سلوفينيا في مقهى لعم الجزائري المهاجر، دون ان يطور الكاتب العلاقة بينهما فظلت محصورة بالأحلام والرغبات وبعد سلسلة من الأحداث الدرامية يعودان كل إلى بلده. وبالرغم من تصوير الرواية للمأزق البشري لمن يعيش في بلدان الحروب المضطربة ومأزق المنفى، لكن بنية الرواية مشطورة بين مناخين بوسني وجزائري لم يلتحما بالنص فهللا البنية.
أما رواية “فردقان” ليوسف زيدان فهي عن حياة العالم الإسلامي الشهير ابن سينا، والرواية ضعيفة لم تضف شيئاً فبدت كسرد أخباري من السرود العربية القديمة فهي قدمت معلومات معروفة عن سيرة ابن سينا في إطار استعار من قصص ألف وليلة كل شيء، رواية مملة تركيب جملها جاهزة..
أما رواية جبور الدويهي “ملك الهند”، فهي رواية تقليدية خبرية عن سيرة حياة منفي لبناني، يتورط في حياة الليل والتهريب فيعود إلى قريته محبطاً ليموت في ظروف غامضة تحت شجرة خارج البلدة. سيرة عائلة لبنانية قروية تهاجر الجدة البعيدة إلى أميركا لتعود وتبني البيت وتشتري البساتين ثم يتتبع حياة الأولاد والأحفاد لأربعة اجيال يقدمها بشكل ملخص، وكأننا نقرأ ملخصًا لعمل روائي لا رواية، فجاءت البنية مجهضة لا تأثير للشخصيات من حيث بنيتها الداخلية وعالمها، فاقتصرت على توصيف الحركة والفعل وكذلك كان رسم المكان باهتاً.
وأخيراً، رواية الصديقة الروائية عالية ممدوح، “التانكي”، ضعيفة البناء مفككة، موضوعها مشتت متشظٍّ واللغة مصنوعة التراكيب عسيرة القراءة والمتابعة أكملتها بعناء، بالعكس من رواياتها القوية السابقة…
وفي سياق متصل، كان لافتاً ما كتبه الروائي الجزائري سعيد خطيبي، في فايسبوكية، قائلاً: “اليوم أعلن عن جائزة البوكر وفرحت أن فاز بها كاتب جزائري.
اليوم تواصلت حملة جماعات إسلامية في الجزائر ضدّي وتواصل تجاهلي لها.
اليوم اعتقلت الشّرطة أخي بحجّة انتقاده للسّلطة”.
وتلقى عيساوي التهاني من الروائيين الجزائريين، سعيد خطيبي، احلام مستغانمي، الحبيب السائح..
——————————————–
عبدالوهاب عيساوي يحقق انتصار الجزائر بالبوكر العربية… بعد سجال/ عبده وازن
الجائزة تحدت كورونا باليوتيوب… ولكن لا احتفال ولا لفاءات
بدا مشهد إعلان جائزة البوكر للرواية العربية مختلفاً كل الاختلاف هذه السنة: لا احتفال ولا لقاء ولا تصفيق ولا جو حماسياً كما كان يحصل في أحد فنادق أبوظبي. هذا المشهد الذي ألفه الجمهور من كتّاب وصحافيين وإعلاميين عاماً تلو عام، غاب مع انتشار مرض كورونا الخطير في أرجاء العالم، مهدّداً الملايين من البشر ودافعاً إياهم إلى العزلة داخل منازلهم. لكنّ مؤسسة جائزة البوكر العربية بدعم من دائرة الثقافة والسياحة في أبوظبي، عرفت كيف تواجه المرض وسطوته، فلجأت إلى وسائل التواصل الإلكتروني من يوتيوب وفيسبوك، لإعلان اسم الفائز والاحتفال به وبراويته، داعيةً جمهورها الكبير إلى مشاركتها هذه اللحظة الجميلة على الرغم من الحصار الكبير. حتى الأفلام الوثائقية التي يطلّ فيها الفائزون في اللائحة القصيرة لم تَغِب وقد عُرضت عبر اليوتيوب قبل إعلان الجائزة.
هل كان متوقعاً فوز رواية “الديوان الإسبرطي” للجزائري عبد الوهاب عيساوي في الدورة الـ13 لجائز البوكر العربية؟ ربما نعم وربما لا. كانت معظم الأنظار متّجهة إلى روايتين قيل إن المنافسة تمت بينهما، وهما “التانكي” للعراقية المقيمة في باريس عالية ممدوح و”الحي الروسي” للسوري المقيم في بلجيكا خليل الرز. وقيل إن جلسة التحكيم الأخيرة التي تمت أمس عبر السكايب شهدت نقاشاً طويلاً، تم بعده التوصل إلى اختيار الرواية الجزائرية. فالمعطيات كانت واضحة بعد غربلة أسماء المتبارين في اللائحة الطويلة وبقاء أسماء بعضها غير مقنع، بحسب ما كُتب في الصحافة. وكان فاضحاً سقوط اسمين هما السوري خالد خليفة (رواية “لم يصلِّ عليهم أحد”) والسوري الكردي سليم بركات (“ماذا عن السيدة اليهودية راحيل”). وبدا واضحاً أنّ حضور اسمين كبيرين في لجنة التحكيم كان شبه طاغ: رئيس اللجنة الناقد والأكاديمي العراقي محسن جاسم الموسوي، أستاذ الدراسات العربية والمقارنة في جامعة “كولومبيا” الأميركية، والروائي والناقد الأكاديمي الجزائري أمين الزاوي. أما الأعضاء الآخرون، فهم غير معروفين في حقل النقد الروائي، ومنهم المستشرقة الروسية فكتوريا زاريتوفسكايا، التي تبدو كسائر الضيوف الأجانب في لجنة التحكيم، عاجزة عن متابعة الكمّ الهائل من الروايات المتنافسة التي تتطلّب قراءتها جهداً كبيراً.
سنة الجزائر
نافست الرواية الفائزة خمس روايات، منها، إضافةً إلى روايتي عالية ممدوح وخليل الرز، “فوردقان” للباحث المصري الذي تحوّل روائياً، يوسف زيدان، ولكن كان من الصعب أن تدخل روايته المنافسة بعد فوزه بالجائزة سابقاً، “ملك الهند” للبناني جبور الدويهي التي لا تُعدُّ من أهم أعماله، هو الذي ترجمت رواياته إلى لغات عدّة و”حطب سراييفو” للجزائري سعيد خطيبي. وبفوزها استطاعت أن تحقق سنة الجزائر بامتياز: 4 روايات في القائمة الطويلة، روايتان في القائمة القصيرة ثم الجائزة الاولى.
كشف محسن الموسوي عن اسم الرواية الفائزة في الجائزة والصادرة عن دار ميم، فحصل عبد الوهاب عيساوي بموجبها على الجائزة النقدية البالغة قيمتها 50 ألف دولار أميركي، إضافةً إلى ترجمة روايته إلى اللغة الإنجليزية.
عبر السكايب
وفي إعلان اسم الفائز، قال رئيس لجنة التحكيم محسن الموسوي في إطلالة له عبر السكايب من نيويورك حيث يقيم: “تتميز رواية الديوان الإسبرطي بجودة أسلوبية عالية وتعدّدية صوتية تتيح للقارئ أن يتمعّن في تاريخ احتلال الجزائر روائياً ومن خلاله تاريخ صراعات منطقة المتوسط كاملة، كل ذلك برؤى متقاطعة ومصالح متباينة تجسّدها الشخصيات الروائية. إنّ الرواية دعوة للقارئ إلى فهم ملابسات الاحتلال وكيف تتشكّل المقاومة بأشكال مختلفة ومتنامية لمواجهته. هذه الرواية بنظامها السردي التاريخي العميق لا تسكن الماضي، بل تجعل القارئ يطلّ على الراهن القائم ويسائله”.
أما رئيس مجلس أمناء الجائزة الأكاديمي ياسر سليمان، فقال في إطلاته من لندن: “تسحرك رواية الديوان الإسبرطي باستنهاضها للتاريخ بأبعاده السياسية والاجتماعية لخدمة العمل الروائي الذي يتجاوز هذا التاريخ برمزيته، وبتداخل رؤى القص وأصواتها من وجهات نظر متقاطعة تدعو إلى التأمل والتفكّر والمراجعة. وتتابع شخوصها الخمسة بمساراتها المتضاربة. وتسير في شوارع الجزائر المحروسة ومرسيليا وباريس وكأنك تعاينها بنفسك في زمن مضى ولم تنقطع مآلاته. وتحتكّ بالتركي والأوروبي والعربي وغيرهم من الأقوام متعاطفاً وساخطاً في آن واحد. كل ذلك في انسياب روائي أخّاذ، لا يدعك تترك الرواية حتى تصل إلى نهايتها بشغف يطلب المزيد. لقد أبدع عبد الوهاب عيساوي في هذا كله، ويكفي هذا القارئ أنه التقى السلاوي ودوجة في ثنايا الديوان، ولهث في أثرهما في ثنايا تاريخ ينبض بالمعاني”. وكانت لسكريتيرة الجائزة فلور مونتانارو اطلالة تحدثت فيها عن أبعاد الجائزة .
رواية “الديوان الإسبرطي” تنتمي إلى الفن الروائي التاريخي، ويكاد التأريخ فيها يطغى على السردي. في عالمها، تتقاطع خمس شخصيات داخل فضاء زمني ما بين 1815 إلى 1833، في مدينة المحروسة، الجزائر. والشخصيات هي: الصحافي ديبون الذي جاء في ركاب الحملة على الجزائر كمراسل، كافيار الذي كان جندياً في جيش نابليون ووجد نفسه أسيراً في الجزائر، ثم مخططاً للحملة. ثم ثلاث شخصيات جزائرية تتباين مواقفها من الوجود العثماني في الجزائر، وتختلف في طريقة التعامل مع الفرنسيين. يميل ابن ميار إلى السياسة كوسيلة لبناء العلاقات مع بني عثمان، وحتى الفرنسيين، بينما لحمة السلّاوي وجهة نظر أخرى، الثورة هي الوسيلة الوحيدة للتغيير. أما الشخصية الخامسة، فهي دوجة، المعلقة بين كل هؤلاء، تنظر إلى تحولات المحروسة لكنها لا تستطيع إلّا أن تكون جزءًا منها، مرغمة لأن من يعيش في المحروسة ليس عليه إلّا أن يسير وفق شروطها أو عليه الرحيل.
عبد الوهاب عيساوي روائي جزائري من مواليد 1985 في مدينة الجلفة، الجزائر. تخرّج من جامعة زيّان عاشور، ولاية الجلفة، مهندس دولة إلكتروميكانيك ويعمل كمهندس صيانة. فازت روايته الأولى “سينما جاكوب” بالجائزة الأولى للرواية في مسابقة رئيس الجمهورية عام 2012. وفي عام 2015، حصل على جائزة آسيا جبار للرواية التي تُعتبر أكبر جائزة للرواية في الجزائر، عن رواية “سييرا دي مويرتي”، وأبطالها من الشيوعيين الإسبان الذين خسروا الحرب الأهلية وسيقوا إلى معتقلات في شمال أفريقيا. عام 2016، شارك في “ندوة” الجائزة العالمية للرواية العربية (ورشة إبداع للكتّاب الشباب الموهوبين). فازت روايته “الدوائر والأبواب” في جائزة سعاد الصباح للرواية 2017. فاز بجائزة كتارا للرواية غير المنشورة 2017 عن عمله “سفر أعمال المنسيين”.
وبعد ترشيحه للقائمة القصيرة، قال عبد الوهاب عيساوي، في حوار مع الجائزة العالمية للرواية العربية: “الرواية التاريخية بشكل عام لا تعيد بناء الحكاية من أجل الحكاية ذاتها، وإنّما هدفها الأساسي هو البحث عن الأسئلة الراهنة التي نعيشها اليوم داخل فضاءاتها الأولى التي ظهرت فيها أولاً”.
——————————————–
“تسحرك رواية الديوان الإسبرطي”… واليوم تفوز بجائزة البوكر العربي 2020/ رشيد الحسني
تولّت لجنة تحكيم الجائزة العالمية للرواية العربية “البوكر العربي” 2020 مساء اليوم الثلاثاء، الإعلان عن الفائز بالدورة 13 للجائزة، وهو الكاتب الجزائري عبد الوهاب عيساوي عن روايته “الديوان الإسبرطي”. وتقدر القيمة العينية للجائزة بـ 50 ألف دولار أمريكي، كما ستحظى الرواية بعد التتويج مباشرة بترجمة إلى اللغة الإنجليزية من قبل المؤسسة الأمBooker Prize Foundation .
وكانت هذه الرواية الصادرة عن دار ميم للنشر سنة 2018، قد انضمت، منذ شباط الماضي، إلى القائمة القصيرة لجائزة البوكر، جنباً إلى جنب مع روايات “حطب سرايفو” لسعيد خطيبي من الجزائر، “فردقان” ليوسف زيدان من مصر، “ملك الهند” لجبور الدويهي من لبنان، “التانكي” لعالية ممدوح من العراق و”الحي الروسي” لخليل الرز من سوريا.
ولاحظ عدد من النقاد الأدبيين أن الدورة 13 للجائزة قد تميزت بهيمنة جلية للرواية الجزائرية، وذلك منذ الإعلان عن صدور القائمة الطويلة للبوكر، والتي ضمت أربع روايات وهي: “حطب سرايفو” لسعيد خطيبي، “سلالم ترولار” لسمير قسيمي، “اختلاط المواسم” لبشير مفتي، إضافة إلى “الديوان الإسبرطي”.
فما هي أبرز المضامين الأدبية الكامنة في “الديوان الإسبرطي”؟ وما الذي يميز الرواية الجزائرية حتى تنال هذا الاهتمام؟
التاريخ الكولنيالي
تعد رواية “الديوان الإسبرطي” لعبد الوهاب عيساوي عملاً طويل النفس، إذ تمتد على 384 صفحة. وتتكون من خمسة أقسام، يضم كل قسم منها خمسة أبواب، تتكرر عناوينها في كل باب بشكل طريف وملفت وهي: ديبون، كافيار، ابن ميار، حمة السلاوي ودوجة، ويضم كل قسم بشكل طريف.
فالكاتب يجذب قارئه منذ الصفحة الأولى للرواية إلى غواية التاريخ وسطوته، وقد اختار عبد الوهاب عيساوي سرد فترة التاريخ الاستعماري المرير لبلاده، ونعني بذلك تبعات الإرث الثقيل لفترة هيمنة الباب العالي العثماني وفترة الاحتلال الفرنسي. ويحاول الكاتب استقراء جوانب من يوميات الألم لوطنه وشعبه، مركزاً على ما حدث في مدينة الجزائر المحروسة، بين الفترة الممتدة بين عامي 1815 إلى 1833.
“اثنا عشر عاماً انقضت على موت نابليون، وثلاث سنوات بعد سقوط الجزائر، وما زالت هذه الكلمات تضج في رأسي، صديقي القديم لم يشأ أن يغيرها في كل خطاب”. أجوب شوارع مرسيليا، الناس تناسوا ضجيج السنوات الماضية..”. بهذه الجمل المتفجعة يبدأ الفصل الأول، منطلقاً من توتر آت من الماضي يتعلق بموت الإمبراطور الفرنسي وسقوط الجزائر، وليس أشد ثقلاً على الذاكرة من موت الغازي واستباحة الوطن. يبدو الراوي هنا متجذراً في الصحو والاستفاقة، لكأنه ضمير الوطن بأكمله.
تنهض الشخوص، أو أبطال الرواية الخمسة، وهم ديبون وكافيار وابن ميار وحمة السلاوي ودوجة، لاستعادة الإرث الدامي للجزائر المحروسة. إنها استعادة أدبية خالصة لمحو بعض الكدر العالق، ومحاولة لاستخلاص العبرة من الماضي عبر السرد المحموم.
منذ أول تصدير للفصل وللرواية عامة، يفسّر البطل كافيار لصديقه اللدود ديبون مضمون العزاء الموجع، وهو التسليم بسياسة الشيطان للعالم الأرضي، بتوحش كل قادة الكون وباندثار صنف النساء الشبيهات بمريم المجدلية. فحتى يتوقف الرأس عن الدوران لا مناص من نسيان فكرة المخلص والمنقذ للإنسان والعالم من الشرور ومن الكوارث، ومن حسن الحظ، كما يقول الراوي، إن “ذاكرة الناس ضعيفة” وإلا لكان العيش لا يطاق.
تعرية المكر
في حوار أجراه معه الموقع الإلكتروني للبوكر العربي، يتحدث عبد الوهاب عيساوي (من مواليد 1985) محاولاً تقديم إضاءات عن كاتب لا يعرف عنه القارئ العربي الكثير، كما غطت على كتبه أسماء شهيرة نالت حظوتها بما يكفي من التعريف والشرح، ويزيح الكاتب الستار المعتم عن الجهد الكبير الذي بذله لتأثيث بناء روايته التاريخية، باعتباره جنساً أدبياً عصيّاً، يعتمد بالأساس على النبش والتقصّي، تكثيف الرحلات وجمع التقارير العسكرية. فلقد أُجبر مثلاً على قراءة أزيد من سبعين كتاب تتمحور حول موضوعه المعنيّ والمخطط له، كما ركّز أساساً على ما أهملته الروايات الرسمية و”على شخصيات تاريخية لا يعرف عنها المثقف إلا القليل”. أما فيما يتعلق بتبريره لاتباع حبكة سردية معقدة، فيوضح عيساوي قائلاً إنه حاول “تقديم الحكاية من منظور وحيد.. لكنّ البنية البوليفونية تشتغل على مناظير متعددة، تروى الحكاية من زوايا مختلفة، وتتعدد الخطابات المتباينة”.
كافيار وديبون، الشخصيتان الأكثر تعمقاً في فهم علم اللاهوت، وهما يتوسلان بهذه الأحجية المشوشة والغيبية للقيام بدور “المطهر الأرضي”، في مقابل ذلك، تسعى شخصيات السلاوي وابن ميار ودوجة لتخطي أسيجة المستعمر وقهر أقانيمه، كلّ على طريقته. أما شخصية المزوار فتقوم بعملية كشف سحيقة لعجرفة النظم التسلطية، فنرى المزوار في أعماق النسيج السردي وهو يستثمر رتبته كضابط مكلف بحماية مهنة البغاء في المدينة، ففي نسيج المدينة تتكثّف المهن الخسيسة والحيل العنيفة، وتتداخل تحت غطاء التعقيد المعماري للمدينة حتى تتستر.
قبل أن يدخل المستعمر إلى الجزائر، نشر مخبريه في سحنة علماء أنثروبولوجيا، أطباء أبالسة وقساوسة يتدثرون بزيّ العفاف والرحمة، حتى يحققوا مطامعهم الدفينة، وتبدو الصورة هنا متشابهة لحد التطابق في مكرها: صورة المستعمر المتواري في مسوح تاجر دين، أهدى الأسفار المقدسة إلى أصحاب الأرض، فلما استفاقوا وجدوا أن خيرات أرضهم قد اختفت وسرقت كلها، ولذلك لابد من تعرية هذا المكر و”البزنس” المعاصر، أو “سوق الدين” المموّه لأغراض شيطانية.
في الصفحة 346 من الرواية، تظهر بجلاء الصورة القاتمة لصراع العربي مع الآخر، الغربي، الغازي، على لسان البطل ابن ميار، وهو يتحدث عن أبنية المحروسة التي يهدمها الفرنسيون، قائلاً: “نظل نميل إلى الأشكال المنحنية، كالأقواس والدوائر، بينما ترتفع أبنيتهم مثل مربعات ومثلثات، لا يمكن أن يصبح الهلال صليباً. قرون من الحروب والموتى، وما حال هلال إلى صليب، مثلما لم يتحول صليب إلى هلال”.
في توثيق إخلاصي دقيق لأبناء وطنه ولخلانه، يورد الكاتب عبد الوهاب عيساوي أن كتابه مهدى لروح صديقه الشاعر والناقد والجامعي الجزائري حميد ناصر خوجة: “أهدي هذه الرواية ذكرى أحاديث لم تنته”. فحميد ناصر خوجة الذي توفي سنة 2016، هو من ألمع كتاب الجزائر، كان قد خلف إنتاجاً أدبياً غزيراً، لعل أهمه كتاب “البير كامو -جان سيناك أو الابن المتمرد”، بالإضافة إلى “موسوعة الشعر الجزائري الجديد” التي كتبها بمعية الراحلين يوسف سبتي وحميد سكيف وآخرين، أما في ختام نص الرواية فيجذّر عبد الوهاب عيساوي إخلاصه حينما أنه أنهى كتابة عمله بمدينته الجلفة في 5 مارس 2017. فهو واعٍ تمام الوعي بمهمته كراوٍ يتقن أفانين القصّ، وككاتب ضمير لجيل بأكمله في مناطق منسية من الوطن الكبير الذي بدده المستعمر بلا شفقة، ومهمة حملة الأقلام تقتضي رتق هذا الشتات وإعادة الروح إلى أوصاله المترامية.
غزارة السرد وتنوعه
في جواب عن سؤال وجهه له رصيف22، يقول الكاتب الجزائري بشير مفتي، الذي كانت روايته “اختلاط المواسم” ضمن القائمة الطويلة لجائزة البوكر للسنة الحالية: “إن رواية الديوان الإسبرطي تستحق الفوز لكاتب يستحق ذلك”. وقد علل بشير مفتي الحضور الطافح للرواية الجزائرية الحديثة في البوكر بقوله: “هذه هي المرة الأولى التي تصعد فيها أربع روايات للقائمة الطويلة، بينما كان الأمر يقتصر في السابق على رواية أو روايتين، وأحياناً لا تظهر أية رواية.. على العموم، الجزائر أرض الرواية بامتياز، وليس غريباً أن تكون أول رواية كتبت في تاريخ الإنسانية، الحمار الذهبي لأوبلويوس، رواية كاتبها جزائري. وقدمت الجزائر أسماء روائية كبيرة، سواء بالفرنسية أو العربية، من كاتب ياسين إلى مالك حداد ومحمد ديب وآسيا جبار والطاهر وطار وعبد الحميد بن هدوقة. وبالنسبة للروايات الأربع، فهي تعكس تاريخ الجزائر القديم والمعاصر وهموم الجزائريين بأشكال سردية مختلفة بين كاتب وآخر”.
وفي خطاب تصريحه بالجائزة، الذي نشر على “اليوتيوب”، بعد إلغاء الحفل، بسبب المخاوف من عدوى “فيروس كورونا المستجد”، صرّح محسن الموسوي، رئيس لجنة التحكيم، قائلاً: إن رواية الديوان الإسبرطي في استجلائها تاريخ صراعات منطقة المتوسط كاملة، تعدّ بمثابة “دعوة القارئ لفهم ملابسات الاحتلال وكيف تتشكل المقاومة بأشكال مختلفة ومتنامية لمواجهته. هذه الرواية بنظامها السردي التاريخي العميق لا تسكن الماضي بل تجعل القارئ يطل على الراهن القائم ويسائله”.
أما ياسر سليمان، رئيس مجلس أمناء الجائزة العالمية للرواية العربية فقد قال، مشيداً بأحقية العمل الفائز: “تسحرك رواية الديوان الإسبرطي.. وتسير بك في شوارع الجزائر المحروسة ومرسيليا وباريس، وكأنك تعاينها بنفسك في زمن مضى ولم تنقطع مآلاته، وتحتكّ بالتركي والأوروبي والعربي وغيرهم من الأقوام، متعاطفاً وساخطاً في آن واحد”.
وفي الواقع لا يعتبر عبد الوهاب عيساوي غريباً عن عالم الرواية، على الرغم من أنه يعمل مهندس إلكتروميكانيك، فهو لم يخطف جائزة مكرسة للأدباء فقط. لقد أثبت في السنوات المنقضية أن له قائمة طيبة من الأعمال المتوجة، من ذلك فوز باكورة أعماله السردية “سينما جاكوب” بالجائزة الأولى للرواية في مسابقة رئيس الجمهورية في سنتي 2012، و2015. كما خطف جائزة آسيا جبار للرواية، عن رواية “سييرا دي مويرتي”، زد على ذلك تتويجه بجائزة كتارا للرواية غير المنشورة سنة 2017، بكتاب “سفر أعمال المنسيين”، أما رواية “الدوائر والأبواب”، فقد أتاحت له نيل جائزة سعاد الصباح للرواية عام 2017.
ويكشف هذا الفوز المستحق عن جدارة، الرواية الجزائرية بما بلغته من ثراء وغزارة في الإنتاج، بعد أن تمرس أجيال الكتاب بمعارك قاسية سلطت عليهم قسراً من قبل جحافل استعمارية متعددة، أو من قبل أبناء الجلدة المخططين في الظلام، وغيرهم حركات التسفيه والتصفية.
وحتى تثبت قيمتها الفنية، مرت رواية “الديوان الإسبرطي” لعبد الوهاب عيساوي بعدة لجان قراءة، مؤلفة من كتاب ونقاد وأكاديميين متمرسين، مثل الناقد العراقي محسن جاسم الموسوي، الصحافي اللبناني بيار أبي صعب والباحثة والمترجمة الروسية فيكتوريا زاريتوفسكايا، وغيرهم من الوجوه اللامعة في مجال الأدب.
رصيف 22
———————————
“بوكر” تكرّم الرواية الجزائرية/ محمود الرحبي
يمكن اعتبار الجزائر بلد روائيين بامتياز، سواء الذين يكتبون باللغة العربية أم بالفرنسية. ويجب أن تُذكر هنا ملاحظة مهمة، وربما هي من حسنات جوائز الرواية العربية، أننا كنا لا نقرأ الرواية الجزائرية إلا مترجمةً عن الفرنسية، كما روايات رشيد بوجدرة ومولود فرعون وكاتب ياسين وآسيا جبار ورشيد ميموني، والآن تُكتب معظم الروايات الجزائرية بالعربية. وكان الناقد المغربي، عبد الفتاح كيليطو، قد كتب في أحد كتبه، أن الكتاب العرب بالفرنسية لا يقرأهم إلا دائرة ضيقة من أقرانهم، ويعتبرهم الفرنسيون كتاباً من الدرجة الثانية مهما علا شأنهم، على الرغم من أن جل هذه الروايات تمتح مرجعياتها من معطيات اللغة الأم وفضاءاتها. ولذلك لقي فوز رواية الجزائري الشاب عبدالوهاب عيساوي (مواليد 1985) “الديوان الإسبرطي”، الأسبوع الماضي، بالجائزة العالمية للرواية العربية (بوكر) ترحيباً واسعاً من مختلف الأوساط، فبدا أنه فوزٌ جاء بمثابة تتويج للرواية الجزائرية التي تنوع العطاء فيها وتميّز عبر أكثر من جيل. وقد مرّت دوراتٌ عديدةٌ على جائزة بوكر، لم تفز فيها رواية جزائرية، فيما هذه الدورة التي يمكن اعتبارها استثنائية، ليس فقط بسبب تزامن إعلان الفائز الأول فيها مع جائحة كورونا (حالت دون إقامة حفل الختام السنوي المعتاد كل عام في أبوظبي)، وإنما أيضاً لأن القائمة الطويلة ضمت أربع روايات جزائرية، والقصيرة ضمت اثنتين، نالت إحداهما الجائزة العتيدة، وهو ما حدث لأول مرة في تاريخ الجائزة الأشهر عربياً في الرواية.
فوز “الديوان الإسبرطي” هو أيضاً تفوق لروايات الذاكرة السياسية، هذا النموذج الذي عرفت به معظم الروايات في الجزائر، القطر العربي الذي عانى من ويلات استعمار طويل. فقد جاءت هذه الروايات بمثابة مسلك تصحيحي، ومراجعة واقعية لا تقف عند حد زمني، وكثيراً ما تفاجئنا بالمدهش والجديد، عبر روايات تنشد إعادة كتابة الذاكرة السياسية، ليس وفق الخطاب السائد، إنما وفق الإصغاء للصوت الهامشي المغيب، وذلك بإعادة الاعتبار لشخصيات وأحداث ووقائع لم تجد من يعبّر عنها ويعرف بها، وإن تشابهت وتقاطعت المواضيع والأفكار العامة، إلا أن المعالجة تتنوّع بين كاتب وآخر.
تميزت رواية “الديوان الإسبرطي” بحجمها الكبير (384 صفحة)، ما يدل على أن كاتبها، قبل كتابتها، قد استعاد واستعان بمراجع وأرشيف واسع، لكي يستطيع رسم خطوط معمار روايته، وتقويل شخصياته وتمكينها من الحوارية المتعدّدة الظاهرة فيها. كما تميزت الرواية برصدها التحوّل الجزائري في البدايات الأولى للاحتلال الفرنسي، وأواخر أيام الوجود العثماني في القرن التاسع عشر، حيث ترصد مسيرة خمس شخصيات، تتشابك مصائرها في فضاء مدينة المحروسة، والتي ليست سوى أحد المسميات المعروفة بها العاصمة الجزائر.
أول هذه الشخصيات هو المراسل الصحافي ديبون الذي جاء في ركاب الحملة على الجزائر، ومن خلاله يمكن للقارئ التعرف إلى ما ترصده عين الصحافي المحايد، وخصوصاً في ما يتعلق بما كان يفعله المستعمر من تجاوزات فظيعة، من قبيل طحن عظام الموتى واستخدامها في تبيض السكر. تليها شخصية كافيار، وهو جندي فرنسي، شارك نابليون معركة واترلو، ومن خلاله نتعرّف إلى الروح الكولونيالية المتعالية في التعامل مع عامّة الناس. وهناك شخصية ابن ميار، المشغول بتدبيج عرائض الاستجداء، عله يستعيد حظوته وأملاكه المفقودة. وعلى الرغم من ذلك، لم يسلم ما تبقى لديه من أطيان من سطو المستعمر، حين يستولي الجندي كافيار على مزرعته، ويمنعه حتى من الاطمئنان على الأشجار التي زرعها. إلى جانب شخصية حمّة السلاوي الذي يمور في دواخله الحب والثورة، يعيش هارباً متخفياً في نهاية الرواية، بعد قتله العميل المزوار مسؤول المبغى. والشخصية الخامسة هي دوجة التي يمكن أن تمثل طبقة من ذوات الهوان من النساء، والتي يعتبر السلاوي عيونها “كتاباً مفتوحاً، يقرأ منه كل العابرين الذين مرّوا على جسدها”.
كتبت الرواية بضمير المتكلم، حيث يتناوب على السرد الأبطال الخمسة، وبالدور، فحين ينتهي ديبون من الحديث، يستريح ويتسلم الزمام كافيار، وحين يسكت كافيار عن الكلام المباح، يتسلم الزمام ابن ميار، ثم يتبعه السلاوي فدوجة، وهكذا دواليك إلى نهاية الرواية. وهي طريقة “تذويتية” اقترحها المؤلف للتعريف بعوالم روايته. ومن أهم حسنات هذا المسلك السردي أنه يسمح للرواية بأن تجاور الشأن الخاص والحميمي بالعام والمشترك.
العربي الجديد
———————————
==================================