الياس مرقص.. المفكر الماركسي الناصري/ بشير البكر
رحل الياس مرقص في العام 1991 عن 64 عاماً، وترك وراءه الكثير من السجالات التي لم يكملها، وكتباً عديدة وترجمات كانت على جدول أعماله. أخذه السرطان في غفلة، وهو في خضم المواجهات التي فتحها مع أكثر من حزب وتيار سياسي وكاتب. ورغم الانتاج الغزير، من الكتب التي ألفها، أو ترجمها، والمقالات التي كتبها، إلى المجلات التي ساهم في تأسيسها، والسجالات التي خاضها، فإنه غادر وهو يشعر بأنه لم يكمل مشروعه الخاص بالفكر النقدي.
عاد مرقص من بلجيكا العام 1952 حاملاً إجازة في العلوم الاجتماعية، وكان له من العمر 23 عاماً. ولم يكن همه، أو في حسابه أن يذهب إلى وظيفة مرموقة، وكان ذلك سهلاً، بل عاد لينخرط في الحياة السياسية وينتسب الى الحزب الشيوعي العام 1954 “حين عدت من بلجيكا لم يكن أحد في سورية ولبنان يعرف الماركسية كما أعرفها”. وردت هذه الجملة في ثنايا الكتاب الذي أصدره المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات العام 2013، تحت عنوان “الياس مرقص: حورات غير منشورة”. وجاء الكتاب في قسمين. الأول يتناول سيرة الياس مرقص، ويروي محطات حياته في سياق التطوّرات والتغيّرات التي شهدتها سوريا وبعض الدول العربية، ابتداءً من خمسينيَّات القرن العشرين. وأمَّا القسم الثاني فهو مجموعة من المطارحات الفكريَة والنقديَة والسجالية.
جزء مما ورد في الكتاب من آراء ومواقف ومحاكمات وأحكام سقط مع التطورات التي حصلت ما بين إجراء الحوارات العام 1990 وتاريخ اليوم، إلا أن الكتاب يبقى على درجة كبيرة من الأهمية لكل من يريد معرفة كواليس التاريخ السياسي الآخر لسورية، لحوالي أربعين سنة، لا سيما أن هذا التاريخ لم يدوّن، وظل الجزء الأكبر منه شفوياً، وضاع مع رحيل الذين شاركوا في صنعه. وعلى حد علمي، باستثناء قلة كتبوا مذكراتهم، ومنهم أكرم الحوراني، فإن البقية أهملوا هذه المسألة. ويضيء هذا الكتاب مرحلة أساسية من تاريخ الحركة السياسية السورية واللبنانية تبدأ من الخمسينات، وتنتهي مع رحيل هذا المفكر الذي عاش يغرد خارج السرب، ولم يركن إلا إلى صداقات محدودة ظل ياسين الحافظ في مركزها، رغم تحولات مرقص ومعاركه وأسفاره وكثرة مشاريعه. لم تتمكن الأحداث من تخفيف حدة النظرة الثاقبة ومنهج المحاكمة النقدية التي يتحلى بها مرقص. وحين ننظر اليوم إلى تَرِكته نجد حزمة كبيرة من الآراء والخلاصات، لا تزال تصلح، حتى الآن، من أجل إعادة قراءة تاريخنا، والتفكير في مشروع سياسي وثقافي جديد.
ويشكل الكتاب التفاته مهمة من المركز العربي، نحو تراث مرقص الذي واجه معارك شعواء لم تهدأ حتى بعد وفاته. ومن يراجع سيرة هذا المثقف يجد أنه لم يرتح في يوم من الأيام، وبدأ معاركه مبكراً، حين تعرض للطرد من الحزب الشيوعي العام 1957 والمقاطعة وحتى الضرب، وكيل التهم بالعمالة للمخابرات الأميركية. ومن هنا يشكل الكتاب تكريماً لنموذج المفكر الذي أعطى بلا حدود، ولم يحظ بأي اهتمام أو تقدير. ويعود سبب التعتيم على مرقص ومحاولات إقصائه إلى ما تميز به من عقل نقدي حاد غير قابل للمجاملة او المحاباة والمهادنة، وذلك منذ عودته من الدراسة الجامعية في بلجيكا العام 1952، حيث رجع مشبعاً بروح التجدد ومستقبلية التفكير، الأمر الذي قاده إلى الدخول في حرب مفتوحة مع الحزب الشيوعي السوري، الذي كان ملحقاً بسياسات موسكو وخططها. في حين أن مرقص كان يدعو إلى ماركسية عربية، وتبلورت هذه الدعوة لاحقاً حتى أنه اعتبر نفسه ماركسياً ناصرياً.
أكثر من عشرين عاماً تفصل بين تسجيل الحوار ونشره. ولو لم يتبنّ المركز العربي مسألة النشر، لبقي تسجيلاً على الكاسيتات، مثل حوارات أخرى جرت مع شخصيات ثقافية عربية، ولم تجد الاهتمام الكافي من أجل إيصالها للقراء. ويروي المحرر الذي أشرف على العمل، الكاتب صقر أبو فخر، التجربة التي أوصلت الحوار إلى دفتي كتاب: “قبعت أشرطة التسجيل لدى طلال نعمة عشر سنوات إلى أن قيض لها أن تخرج من الأدراج المعتمة إلى بياض الورق”.
لم يكن الياس مرقص مطارداً من النظام فحسب، بل من المعارضة أيضاً، ولم يكن على خلاف مع السياسيين فقط بل مع المثقفين أيضاً. ولم يفتح النار على اليمين فقط، بل على اليسار كذلك، ورحل ولم يكن لديه سوى صداقات على عدد أصابع اليد، في حين أن عدد الذين عادوه كثر. لكن عزاء مرقص هو أنه حظي باحترام الجميع، نظراً لإخلاصه لمنهجه الذي سار عليه منذ رجوعه من بلجيكا. وفوق ذلك، ترك مرقص تأثيراً كبيراً في مسار الحركة الشيوعية السورية، وخاصة لجهة الموقف من الدور السوفياتي، ومن القضايا العربية، وهو ما حكم خلافات الشيوعيين السوريين واللبنانيين منذ نهاية الستينات. وكان اهتمامه بالقضايا العربية له الأولوية، وله آراء متقدمة ولم يكن لديه الوقت لترجمتها الى عمل حزبي، رغم أن حزب العمال الثوري، بقيادة ياسين الحافظ، سار على هذا الخط، وبقي يعتبر الياس مرقص مرجعاً أساسياً.
الأمر الذي ساعد الياس مرقص أن يكون مفكراً موسوعياً وسابقاً لأقرانه، هو دراسته في بلجيكا، وتخرجه في وقت مبكر، وقراءته للأدبيات السياسية باللغات الأخرى، حين كان يتقن الفرنسية والانكليزية والروسية، وبذلك كان الوحيد الذي استطاع الترجمة من دون الوقوع في أخطاء الترجمات الوسيطة. وأول صدام ذي أهمية، وسوف يلقي بتأثيره على مسيرة وسيرة مرقص، وقع بينه وبين الحزب الشوعي العام 1956، وأدى إلى طرده من الحزب لمطالبته بالديموقراطية الحزبية، وبسبب نقد الماركسية السوفياتية (الستالينية). وشكلت قطيعة مرقص مع الحزب الشيوعي، نهاية المناضل الحزبي، وبداية رحلة المفكر المشاكس الذي حرض العقل الساكن لدى اليسار، والذي اشتغلت البكداشية زمناً طويلاً من أجل تدجينه.
يحفل الكتاب بمواقف لافتة، وآراء كثيرة لا تخطر في بال أحد، أو أنها تبدو غريبة وغير مألوفة. ومن المواقف أن تاريخ العرب المعاصر يمكن تقسيمه إلى ثلاثة عصور. عصر النهضة والاستعمار والحركة الوطنية (العصر الليبرالي)، الذي يمتد من أوائل القرن التاسع عشر حتى منتصف القرن العشرين. والثاني، عصر عبد الناصر والقومية العربية التحريرية، والعصر الثالث الانحطاط الذي نعيشه نحن. وموقف آخر سجله مرقص في الحوار: “أنا بعد معرفتي بأحوال الصين وفيتنام وخمس عشرة دولة ماركسية لينية، أريد أن اقول: الحمدلله أن الطبقة العاملة لم تنتصر، ولو انتصرت هذه الطبقة العاملة المزعومة لكانت أحوالنا أسوأ عشر مرات”. وهناك موقف ثالث في غاية الأهمية: “لا أريد أن ألحق بأوروبا، أريد أن أضع الأساسات وأعمّقها وحسب. أنتم تركضون وراء ميشيل فوكو والتوسير وجاك دريدا. أي أنكم تركضون وراء ورقة في غصن الشجرة، وأنا أريد الشجرة”. ومن الشهادات ذات القيمة، “الإشارة الى قضية فلسطين، من الناحية السياسية كان ياسين الحافظ يركز على قضية فلسطين أكثر منا”.
ومن بين ما أدرك الياس مرقص، خطر المزاودة: “كنت أتمنى أن يجعل عبد الناصر في العام 1964، مسألة المزاودة القضية المحورية في الوعي العربي.. من يزاود فهو ضدي، وهو الذي يسير نحو الاستسلام. المزاودة جاءتنا بالخراب. في قضيتي فلسطين والديموقراطية.. وأعتز بأن مؤلفاتي أو معظم مؤلفاتي في الستينات والسبعينات كانت موجهة ضد المزاودة وضد الديماغوجيا وضد اليسارية (اليسراوية كما كان يسميها أحياناً ستالينية مقلوبة)”. وكان مرقص يقصد من ذلك الشطط بكل أبعاده، والذي قوض كل المساعي العربية القومية والديموقراطية. وله قول مهم في هذا المجال عن صراع بعثي العراق في سورية في الستينات: “متفقان على الوحدة والحرية والاشتراكية ومختلفان على النفط والفرات”.
ويرى أننا “بعيدون عن الفلسفة والفكر الفلسفي، وعن الدين ومفردات عصر النهضة، وليس لدين فكر ديني مسيطر.. وإنما المسألة الدينية همشت وحلت محلها المسألة الطائفية”.
ويذهب مرقص نحو قضايا أخرى خارج دوامة العمل السياسي المباشر، ومن ذلك نظرته إلى اللغة. إن “أقرب اللغات إلى لغتنا هي لغة أهل مالطا، ثم اللغة الأمهرية، لغة أثيوبيا”. “اللغة العامية أغنى من الفصحى.. وأرى ضرراً من محاربة العامية”. “اللغة العربية موجودة قبل الحضارة العربية”. ويرى أن “الأقطار العربية الكبرى كيانات حقيقة وقديمة. مصر وسوريا والعراق ولبنان وتونس والمغرب هي كيانات حقيقة. وإذا كان هناك بلدان عربيان متجاوران، لكن التخوم بينهما تغيرت عبر التاريخ، فهذا لا يعني أن الكيانين مصطنعان. وفي هذا المجال أؤيد صيغة عبد الناصر حين كان يردد عبارة شعوب الأمة العربية. أكد وجود أمة وأكد وجود شعوب.. وحين ستندمج اللغة الشعبية المسماة عامية واللغة الأدبية الفصحى، سينجم عن ذلك أمر ثالث هو لغة الأمة”.
ولا يخلو الكتاب من التشنيعات والمناكفات “فاجأني الرفيق يوسف فيصل بأن معرفته بالماركسية اللينينية ضحلة. جميعهم هكذا. خالد بكداش أفضل منهم بكثير مع أنه ضعيف أيضاً”. “في العام 1957 كان ثلاثة أرباع صحافة دمشق موالية لليسار والشيوعيين وربعها محسوب على الأميركيين.. في لبنان وسورية لم يذبح الشيوعيون كان هناك قليلون في السجون”.
ومن الطرائف التي تتردد في الكتاب “حدثني ياسين الحافظ أن الرفيق انطوان(شيوعي لبناني) قال له ان الرفيق خالد بكداش يفضل العطور الشرقية على العطور الغربية، فردّ عليه ياسين ابن دير الزور وابن بادية الشام: هذا يدل على قلة ذوقه. وطرفة أخرى: مسؤول شيوعي من بانياس يقول إن شيوعيين ذهبوا من بانياس إلى منزل خالد بكداش، ولما لم يجدوه أخذوا تراباً من حديقة البيت ووضعوا التراب في الجوارب وأتوا به إلى بانياس. وحكاية أخرى عن بكداش: “كانت مصر وعبد الناصر في الذروة في العام 1956، بعد تأميم قناة السويس. وكتب بكداش أن عبد الناصر أكبر وطني. وقال عنه أنه أكبر اشتراكي، وأن الشيوعيين الموجودين في سجون مصر صهيونيون”.
المدن
لتحميل الكتاب من الرابط التالي