نازحو الشمال السوري.. ضحايا “بزنس”الإغاثة/ عدنان نعوف
رغم نَفيِ جمعيّة “شام شريف” إصدارها للبيان “الفضيحة” حول حوادث التسمم أخيراً في مخيمات الشمال السوري، فإنّ ذلك لا يُغيّر صورة “العمل الإنساني” هناك، حيث أصبح النازحون بنظر المنظمات وكأنهم “زبائن” لـ”بزنس” إغاثي يستغل غياب الضوابط والقوانين.
وتداولت وسائل إعلام وناشطون بياناً منسوباً للجمعية، عقِبَ وقوع أكثر من 100 حالة تسمم خلال الأيام القليلة الماضية، في مخيمات “معرة حرمة”، و”كلّي” و”رعاية الطفولة” ببلدة دير حسان في ريف إدلب.
وتحدّث البيان عن وجود مخيّم “له يتذمر منذ أيام من تكرار نوع الطعام ويقول بعض سكانه: لماذا طعامكم من أول رمضان يوم فريكة باللحم والمكسرات، ويوم رز باللحم مع بعض الفواكه والماء والعيران والتمر؟، لماذا لا توزعون لنا المشاوي والصفيحة لقد مللنا”.
وأثارَ البيان انتقادات واسعة كونه يتهرب من الموضوع الأساسي (حادثة التسمم) من جهة، ومن جهة ثانية يستخدم أسلوباً مُلتوياً وغير أخلاقي لإلقاء اللوم على النازحين “الذين لا يعجبهم العجب” على حد قول أحد المعلقين الذي شبّه اللّغة المستخدمة بـ “خطاب نظام الأسد حين اتّهم ضحايا ضرباته الكيميائية بأنهم هُم من قاموا بقصف أنفسهم”.
وبعيداً من حقيقة البيان، خصوصاً بالنسبة لجهات غير مُمَأسَسة، وبغضّ النظر عن احتمالات نشره وحذفه بسهولة في عصر السوشال ميديا، فإن اللافت أيضاً هو ما تلا حوادث التسمم من محاولات لتشتيت الأنظار عن “الجريمة” الأساسية عبر تفسيرات وتبريرات لتوزيع المسؤولية على أكثر من طرف، وإخفاء الملابسات.
ولعلّ الأسوأ أنَّ من بينَ المشاركين في تمييع القضية والتشويش عليها، شخصيات من “حكومة الإنقاذ” التابعة لـ “هيئة تحرير الشام”، التي تداركت الأمر لاحقاً – ولو إعلامياً – بالإعلان عن اتخاذ جملة إجراءات، وتعليق عمل المطبخ الرمضاني لجمعيات “شام شريف”، و”ألفة”، و”طوبى”.
ففي تصريح صحافي قال وزير الصحة في “الإنقاذ” أيمن جبس، إن جمعية “شام شريف”؛ الجهة المسؤولة عن توزيع الوجبات، وزّعتْ ذات الوجبات في مخيمات أخرى، ولم تسجل حالات تسمم فيها!. كما حاول جبس تسخيف القضية بقوله إن “جميع حالات التسمم التي وقعت كانت خفيفة وتم إخراجها من المشفى في اليوم ذاته”!.
وليست حالات التسمم تلك هي الأولى من نوعها في مخيمات الشمال السوري، ففي مخيم “حفصة” بمحيط بلدة معصران بريف إدلب، أصيب أكثر من 100 شخص بالتسمم عام 2018 بسبب وجبات إفطار فاسدة.
لكنّ وقْعَ القضية اليوم يتَخذ أبعاداً أكبر من الحدث نفسه، نتيجة تزامُنه مع أشكال أخرى من “بزنس” العمل الإنساني التي كشفت عن وجهها. ففي مقطع فيديو أثار استهجاناً واستياءاً لدى المتابعين، ظَهرَ “فاعل خير” وهو يوزّع “مساعدات” مالية على مجموعة من الطّفلات لتحفيزهن على ارتداء الخِمار و”الحِشمة”.
وتبيّن لاحقاً أن هذا الشخص يدعى إبراهيم رمضان السرحان، ويُعرف باسم “جود أبو أحمد”، وقد عمِلَ في مجال توزيع المساعدات على المحتاجين في المخيمات.
ويتعدّى الأمر هنا إحصاء “حالات فردية” لوقائع توظيف غير مسؤول للمال الإغاثي، إلى الاستخفاف عموماً بإنسانية الإنسان بطرق متعددة، وتحت غطاء “الأعمال الإنسانية”.
والحال أن ظاهرة المنظمات و”فاعلي الخير”رافقت الحدث السوري كأيّ منطقة نزاع أخرى في العالم. وبمرور السنوات تحوّل العمل المؤقت إلى دائم، وراحت تتدفق أموال بشكل شبه منتظم لدعم مشاريع في شمالي سوريا.
لكن بالمقابل لم يواكب ذلك تنظيم لعمل هذه الجهات إلا جزئياً. وبالتالي فقد بقيت نشاطات إغاثية كثيرة متروكة لـ”حسّ المبادرة”، ولصيَغ علاقات شخصانية تغطي ارتكاباتها بمقولات وشعارات “الأخوة” و”المحبة” و”التضامن”، وهو ما أفسح المجال للسمسرة والهدر والفساد، في حين كان يُفترض أن يخضَع صَرف “المال الإغاثي” و”غير الحكومي” إلى ضوابط كما في الكثير من مناطق العالم التي تُعامَل فيها المنظمات معاملة “مؤسسات” يتمّ التعاقد معها وفق شروط تتضمن” طُرق الإنفاق” و”جُودة المنتجات المُقدَّمة للنازحين أو اللاجئين”.
وبالإضافة إلى غياب الضبط والقوننة في النموذج السوري، فإنّ استمرار سيطرة معادلة:” صاحب فَضْل يتكرّم على مُحتاج”، وفق السائد في الذهنية الشعبية، يَترُكُ المجال لاحقاً لاستمرار الفوضى حتى لو حصلت مُتابعة ومُحاسبة من حين لآخر، طالما أن “مُنفِق المال” أو مُوَزّع المساعدات والأطعمة وغيرها يُنظَرُ له كأنه “صاحبها”، وهو من ناحيته يَتوهّم أنه “يَملِك”، بينما هو في الواقع عبارة عن “مُوظّف” بلا جهة يتبع لها بالضرورة، وهو الحلقة الوسيطة بين المانِحين (دُوَل، أشخاص، منظمات غربية، سفارات..) وبينَ المستفيدين أي النازحين.
طبقاً لذلك، يمكن أن نفهم كيف أن الأمور ستكون مرشحة في المستقبل للمزيد من الانتهاكات والاستهتار بالنازحين سواءٌ بأطعمة فاسدة وخدمات سيئة، أو من خلال استغلال حاجة المُحتاج لأدلجته، أو أي شكل آخر من التوجيه السلوكي والفكري والإيديولوجي.
ووسطَ ألوان مختلفة من هذا “الذل”، يجد النازحون أنفسهم بلا أفُق وهم تحت رحمة علاقة زبائنية (تحكمها المحسوبيّة) بنسخة متخلفة مُغلّفة بالعواطف، تجعل منهم الحلقة الأضعف دوماً، بل وتُعزّز “الضعف”، ليصبح الوصف الأدق للنازح في الشمال السوري، وفقاً لواقع المنظمات وأدائها هو زبون مُنتَهَك الحقوق، لِجِهات تدّعي أنها غير رِبحية، يَضيعُ جزءٌ من رأس مالها في قنوات غير رسمية أو مُعلَنة، ولا تحقّق بالنهاية الجدوى أو الخدمة المطلوبة.
وعلى هذا الأساس، يُصبح السؤال مشروعاً عن أهداف النزوح – كملفّ تتم إدارته – واتجاهاته ومآلاته ومداه، حتى وإن كان محرّكه الأساسي مرتبطاً بخروج المدنيين للحفاظ على حياتهم، خوفاً من استهداف السلاح الأسدي والروسي لهم.
وفضلاً عن ذلك، فإن خيارات الجهات والهيئات التي تفرض إدارتها وطريقتها الخاصة لـ “استمرار الثورة” تغدو تحت المجهر، بما أنّ الكثير من المظاهر المؤقتة أصبحت من مفرزات “اقتصاد الحرب” طويلة الأمد في سوريا، ولم يعُد منطقياً تركها للارتجال والمبادرة والأهواء المتقلبة.
المدن