مقالات

عن زوبعة افشاء سليم بركات “سرّ أبوة” محمود درويش هل يستحق الأمر! -مقالات مختارة-

===========================

—————————————-

محمود درويش وأنا/ سليم بركات

البياضُ رائقٌ، راضٍ عن حظوظه؛ بل راضٍ عن مقاديره موزَّعةً بعَدْلِ الميزانِ اللونِ، متقدِّمٌ، بلا إفراطٍ، في الصورة: بياضٌ هدنةٌ، أو صُلحٌ.

سوادٌ راضٍ عن نفْسِه؛ عن حكمةِ الأصلِ في عِظةِ اللون؛ مُدرَّبٌ على نَحْتِ الشكل نافراً بآلاتهِ الرماديةِ، في الصورة: سوادٌ هدنةُ، أو صُلحٌ.

لونان هما تاريخ البرهة جمعتنا معاً، محمود درويش وأنا، في ميثاقٍ سوادٍ وبياضٍ من مُبْتكَرِ العام 1973: صورة كبيرة قليلاً لهيئتين نحيلتين، يدُ الأطول منهما على كتف الأقصر، في بيت الشاعر السوري أدونيس.

بضع مساءات التقيت الشاعر الفلسطيني في بيت الشاعر السوري. آثرتُ، أنا الخجول، ابتعاداً لا أُقحِمُ نفْسي في ما يتكلَّفُه المعجبون بشاعر ولد بملعقةٍ في فمه نِصْفٍ من ذهب الشعر قضيَّةً آسِرَةً، ونصفٍ شهرةٍ مجتاحة. أدونيس، الذي طلب مني، وأنا في الثانية والعشرين، جَمْعَ شِعري في كتابٍ طبعَه على نفقته، أهدى نسخة من كتابي الشعري الأول، بنفْسه، إلى محمود، في بيته. تلك النسخةُ أطلقت عَتباً من فم محمود: “أأنتَ تتجنَّبني؟”. أحسَّ ابتعادي، في ردهة الجلوس، إلى طاولة كتابةِ المضيف البعيدة قليلاً، نُفُوراً.

“هَيَا إلى صورة”، قال صديقٌ صحافي. عبرنا، محمود وأنا، بخطواتٍ لونٍ من الحياةِ حركةً إلى الثباتِ المُذهل بياضاً وسواداً، في صورة لم تجمعنا سواها إلاَّ بعد أكثر من خمس وثلاثين سنة، على أرض السويد، بآلاتِ السِّحْرِ الحديثة استخرجها الجالسون من جيوبهم، في قاعةٍ جمعتْنا بالحاضريْنَ لقاءً شِعراً، ولقاءً حديثاً بَوْحَاً، عن علاقة شاعر بشاعر، أدْمَعَ عينيَّ اعترافاً منه بوجودي في وجوده شاعراً وصديقاً.

الصورةُ البياضُ الصُّلحُ أو الهدنةُ، والسوادُ الصلحُ أو الهدنةُ، لن تطلقني من أسْرِ الرماديِّ في اعتناقِ أحدِ اللونين دِيْنَ اللون الآخر رمادياً. تلك الصورة استعارها أخي الأصغر مني فحملها من بيروت إلى دمشق. اعتُقِلتِ الصورةُ، واختفت حتى يومنا هذا، بلا أثرٍ لبياضٍ صُلْحٍ فيها، أو سوادٍ هدنةٍ.

منذ تلك الصورة أكملتِ المصادفةُ الحياةَ نَحْتاً صداقةً بين محمود وبيني؛ قُرْباً نَحْتاً نافراً من قلبٍ على قلبٍ، حتى اليوم الذي سمعتُ فيه صوته، قبل مغادرة الأردن إلى أمريكا بيومين، أملاً في وضْعِ الحياةِ على سكَّةِ شرايين أخرى، أكثر رأفةً بتوزيع الدم عادلاً على كيانه. كان صوتُه مستسلماً قليلاً، لكن ليس في داعيْهِ ما يستوجب حَمْل حقيبةٍ إضافيةٍ لامتاعٌ فيها؛ لا ثيابٌ أو آلةُ حلاقة، أو عطر، أو حذاء، بل روحُهُ في الرحلة إلى الأبدية.

عوَّدنا قلبُه، باكراً، استبدادَ عضوٍ من الجسد بمجتمع الجسد كاستبداد الشعر بالمعاني في توطيدهِ الحياةَ، ثانيةً، على حافَّة غَمْرِها الأصلِ نظاماً فوضى. محمود ألقى بنفسه، قَبْلاً، على الحافة في الشعر قلبيْنِ ينتقلان من اللوعة فَقْداً للأرض إلى لوعة الوجود احتفالاً، في نشيدٍ من جَمْعِ السماءِ زيتوناً على عباءة حريته. ظلَّ حتى آخر نَفَسٍ للشعر فيه بقدمٍ في مَعْقِل الحرية، وأخرى في مَعْقِلِ اللوعةِ مذ كان سليلَها كتاريخِ بلده. وقد أقمتُ معه في معقل النازع الملوِّعِ من جرحِ بلدٍ سليبٍ مرَّةً، ومرَّةً في معقِلِ تأكيد الحرية للمعاني شعراً حِذْقاً بلا مساومةٍ؛ شعراً يَجْبَهُ نازعَ الفَقْدِ المُبكي. كتبتُ “رباعياته” الأولى على ظهور أغلفة كتبي المدرسية، من غير أن يخطر لي أن هذا الشاعرَ البَذْخَ في اجتماع المصادفةِ على انتخابه قضيَّةً، سيوسِّع لي إقامةً في شعر لن أدوِّنه، بالحروف المجلوَّةِ من لباقةِ الخطِّ، على ظهر أيِّ كتابٍ، بل على ظهر الحياة، وخَثَلَتِها الملتمعة بزيت القُبَلِ أيضاً. حَمَل قصيدتَه “ليس للكرديِّ إلاَّ الريح”، التي بَرَاها بَرْياً بصداقة السنين، من أرضٍ إلى أرضٍ. في سوريا، حيث ألقاها على مسامع الحاضريْنَ، أبلغه وزيرٌ، ومستشارةٌ، أنني “على الرَّحب” إن عدتُ إلى بلدٍ خرجتُ منه منذ نهاية العام 1971 ولم أعُد إليه إلاَّ بقدمَيْ حنيني الحافيتين.

أَجمَعني بمحمود إحساسُ الفَقْدِ من غير ربطٍ؟ لا. كان الشعرُ الجذْرُ، أولاً وأخيراً، بمراتبه حَرْثاً في المفقودِ الخالد.

قصيدته عني “ليس للكردي إلاَّ الريح”، التي حملها من أرضٍ إلى أرض، القاها على مسمعي أيضاً، في السويد ـ اللقاءِ الجديد، الأخير، سنة 2007، بعد آخر لقاء في باريس، مطلع العقد العاشر من القرن الماضي. لم تره عيناي بعد ذا، بل تتبَّعه بصرُ قلبي إلى طُرقات الأبدية مُنعَطفاً بعد مُنعطف، ومحطة بعد محطة، يلقي أشعار المفقوديْنَ في مجاهل السواد الخالد، على مسمع البياض الخالد، كاللونيْنِ في صورتنا الأولى.

كنتُ معه، أبداً، في القصيدة كتبَها عني مختلِساً من ظلال المكان القبرصيِّ ما يفصِّله لخياله بَوْحاً. أثَّث بيتي، في القصيدة، ثانيةً، بالمتشابهات الكبرى بين الإسمنت والغناء، والمتفارِقاتِ الحِيَلِ الجوهرية بين الحروف والغُرَف. وقد أراد في زيارة اللقاء الأخير إلى بيتي في السويد، أن يؤثِّث، ثانيةً، منزلَ البوح، لا في شِعرٍ هذه المرة، بل في يومياتٍ كحديثٍ ممتدٍّ من أول العمر إلى آخره.

“في سكوغوس”، كانت خاطِرةُ كتابه الأخير حيًّا “أثر الفراشة”. لم يصعد بي، من سطورها، إلى سطوةِ الاستعارات في إيقاف الخيال على قدمين مجرَّحتين قرب قدميِّ الشعر، أو إلى نِسَبِ المعقولِ المُنْجَزِ معقولاً في أوزان الأشعار، ونِسَبِ المعقولاتِ المُفترَضة، الأكثرِ شَغَباً في الوجدانِ الصِّورِ، بل استلهمني، في خاطرته من موقع بيتي ـ سكوغوس الجبليِّ، بعد عشائين طويلين، طاهياً أيضاً: “سكوغوس، من ضواحي ستوكهولم. غابة من أشجار البتولا والصنوبر، والحور، والكرز، والسرو. وسليم بركات في عزلته المنتقاة بمهارة المصادفة التي تهبُّ بها الريح على المصائر، لا يخرج منها مذ صار جزءاً من المشهد، محاطاً بطيور الشمال… وقريباً من أُلْفة السناجب، والأرانب، والغزلان، والثعالب، تلقي عليه التحية عبر النافذة، وتهرب، وتلعب خلف تمارينه اللغوية… وهو إذ يهجس الآن فلا يهجس إلاَّ بالطهو: قصيدة نهاره المرئية”. وأنا أعترف أنني أطهو على نحو لا يُقلقُ الطهوَ، أو يَغيظُه، أو يَهينُه. أُبقي الطهوَ كريماً، معافىً بين يديَّ، مُذْ أدركتُ أن لا فرقَ بين مَرَقِ اللحم ورباعيَّةٍ؛ ولا فرقَ بين نشيدٍ ودجاجة محشوَّة أرُزًّا وصنوبراً؛ ولا فرق بين ملحمة وشواءٍ لحمٍ مُنكَّهاً بخيالِ الأفاويْهِ إحدى عشرة ساعة: الحياة قِدْرٌ، أو فحمٌ؛ على أجسادنا توابلُ العَدَم القويَّة.

سيرتُه “ذاكرة للنسيان”، عن حصار بيروت العام 1982، لم تَخْلُ مني أيضاً. دحرجني في السطورِ السوادِ الغاضب عشرين صفحةً، ودحرجني في البياض الغاضب بين السطور عشرين صفحة، بالحرف الأول من أسمي “س”. وواكبتُه بالحروف كاملةً في اسمه أربعَ عشرة صفحة من قصيدتي فيه، قبل ثلاث وعشرين سنة:

“فلا تتأفَّفنَّ أيها الصباحُ إنْ زجَّكَ في الملهاة، لأنَّ البطولةَ، التي تتأبَّطُ برسيمَها، وخُوْصَها، ستحيِّيْكَ من المجازات الأسيرةِ في رئتيه، ومن الشفقِ النازفِ لوعةً لوعةً في الأكيدِ العالي، الذي يدحرجُ الشهداءَ فوقَ حريرهِ خُوَذَ الموتِ المكسورةِ”.

لم يَحملْني خيالُ الشاعر الناقدِ فيَّ إلى مساءلةٍ في إنشائِهِ بيانَ قلبهِ شعراً. هو يعود بالشعر مرةً إلى مَأهُوله من الشعريِّ، ويُبقي الشعرَ مرةً في ثقةِ الآخرين بالقضية وضوحاً صِرْفاً. لربَّما وزَّع نفْسَه، بالحيرة من خطف الواقع إلى موافَقَاتهِ في المعاني، ومطابَقَاتِ وصْفِهِ واقعاً، على قلقِ الرغبةِ ذاتها بولائه للبسيط المُحْكم من وجهٍ، وامتداحه للمتراكِبِ المُحْكَم من وجهٍ، ببعض التردُّدِ، مُذْ رأى في المتراكبِ “دَلاَلاً” تُغْدِقهُ اللغةُ على مجاهلِ مقاصِدها. كان على حَذَرٍ من أن يجعل اللغةَ “حلاًّ” لـ “الجرحِ” المُعْضِلِ ـ الوجودِ؛ بل يريدها توصيفاً للجرحِ كقضيَّةٍ ـ هو الفلسطينيُّ ابنُ الفَقْدِ المُنْهِكِ لا يحتمل “رفاهةَ” اللغويِّ في “طيش” مقاصِد اللغويِّ.

“لقد أوجدتَ حلاًّ لمشكل الحياةِ كلِّه”، قال لي مرةً بإطراءٍ. “حلولُك لغوية”.

“وطنُكَ لغويٌّ”، قلتُ له.

كان علينا، بتواطؤٍ لا يُرَدُّ، أن نضحك. حلولٌ لغوية ـ نعم. حلولٌ لا تعويضَ فيها؛ لا نجاةَ؛ لا حكمةً، لا نصرَ؛ لا مفقودَ مُسْتَعاداً، بل تأسيسٌ آخر للخساراتِ أقوى، وللتيْهِ أقوى، وللَّوعةِ كما لن تعرفها لوعةٌ من “هِبَةِ” المفقودات. نحن كَتَبَةٌ ـ ممكناتٌ لغويةٌ بأصواتٍ في الحروف، وأقدامٍ في الكلمات. نعم. عَسْفاً سمَّينا “الحلولَ” حلولاً. هي فَرَضٌ من تصنيفِ التَّسميةِ. حلولٌ بلا حلولٍ. لغةٌ تعديلٌ في نِسَبِ الوجودِ مقاديرَ تليقُ بالذهولِ ـ أبِ النشأةِ.

لربما لم يوزِّع محمود نفْسَه، بخطفه الواقعَ إلى المطابقات في لغته، على قَلَقٍ، بقَدَمٍ في اللغويِّ البسيط وأخرى في الرغبةِ المتراكبةِ وشهواتها؛ أو بكلِّه على قَلَقٍ في الشعر “بلا وفاءٍ” لمقاصد الوجدانِ المنكوبِ بالواقعيِّ المنكوبِ ـ إرثِ الأرض سليبةً. ابتعد أحياناً عن ذائقةِ “المطلوب”، واقترب منها مراراً، كأنما يوازنُ هِبَاتِ الشكِّ في جدوى القطيعة مع “الجرح المعهود”. ظلَّ على ولاءِ البسيطِ باقتدارٍ في استنطاق الأبعدِ فيهِ رحلةً بعد أخرى من رحلات المعاني، وهجرةً بعد أخرى من هجرات “الواقع”، ونزوحاً بعد نزوحٍ للحنين الأولِ عن أناقةِ الحنينِ وفِتنته.

على أية حال، ليس في اقتدار خيالي عرْضُ محمودٍ على خيالٍ نَقْدٍ فيَّ، مُذْ كان التاريخَ الآخر لي ـ تاريخ الحماسة الأولى إلى قهر الخسارة، وقهر العجز في بلداننا المهزومة. وكان تاريخَ صداقةٍ لم أجد فيها أقرب إليه مني. كان من حولي في هاتفه، بلا انقطاع. كانت عروضُه مبذولةً لي بلا انقطاع، حتى ظننتُ، أحياناً، أنني ابنُه.

في اللقاء الأخير على بوابة الشمال الأخير من أطلس العالم، جَمَعَنا عشاءٌ من حَبَّارٍ ـ صَبِّيدجٍ مقليٍّ دوائرَ كالأفلاك لُتَّتْ ببَيْضٍ وطحينٍ، همس وهو ينظر إلى ابني ـ ابن السابعة عشرة: “كسبتُ صداقةً جديدة ـ صداقةَ Rhan”.  ابتسمتُ. كان أجدى لو قال: “ها التقيتُ حفيدي”.

لقاءان بالجمهور جَمَعانا، معاً، في معرض الكتاب بغوتنبرغ. قرأنا شعراً في الأول، فيما ذهبَ اللقاءُ الثاني مُرْسَلاً في بوحِ صديقين على أسئلةٍ في صداقتنا إنسانيْنِ، وصداقتنا شاعريْنِ. كان محمود مذهِلاً في تلقائيةِ “اعترافه”، بلا تحفُّظ من شاعرٍ كبير مثله، أنه جاهدَ كي لا يتأثر بي، وفي اعترافه أنه لم يعد يعرف أين الحدُّ بين أن يراني صديقاً، أو يراني ابناً له. تزوج مرتين ولم يُنجبْ، بقرارٍ قَصْدٍ في أنْ لا يُنجب. كلُّ شاعر أنجب طفلاً أنجب قصيدةً مُضافة إلى ديوانه. وكل شاعر لم يُنجب طفلاً، أنجب الكونَ معموراً بأطفالِ اللامرئيِّ. أبوَّةٌ تكفي الشاعرَ هنا، وأبوَّةٌ تكفيه هناك. لكنْ، بالقَدْرِ ذاتهِ، المذهلِ في عفويته بلا تحفظ، وهو يُحدِّثُ عني في اللقاء بجمهورٍ يتلقَّف كلماته على سويَّةِ المذهلِ اعترافاً، ألقى عليَّ، في العام 1990، في بيتي بنيقوسيا ـ قبرص، سِرًّا لا يعنيه. كلُّ سِرٍّ يعني صاحبَه، لكن ذلك السرَّ لم يكن يعني محموداً. باح به بتساهُلٍ لا تساهلَ بعده، أمْ كان لا يتكلَّف معي قطُّ “أنا الذي أعرف الكثير عنه مما لا يعرفه سوايَ” حجْبَ شيءٍ يخصُّه؟

“لي طفلة. أنا أبٌ. لكن لا شيء فيَّ يشدُّني إلى أبوَّةٍ”، قال. كنا نتبادل كشتباناتٍ من تدريب اللسان على الأبوَّةِ (مُذْ صارت زوجتي حاملاً) قبل تدريب الوجدان على الأبوَّةِ. ليس الأمر أن يكون المرءُ أباً لسليلٍ من لحمه، بل أن تكون الأبوَّةُ، ذاتُها، على قُرْبٍ لَمْساً من السَّليل. أبوَّةٌ لم تَلْمَسْ بيديِّ الجسدِ سليلَها؛ لم ترَ بعينيِّ الجسدِ سليلَها، أبوَّةٌ فكرةٌ. الغريزةُ قُرْباً، والغريزةُ لَمْساً، والغريزةُ علاقةً، هي أمُّ الأبوَّةِ، وأبوها. محمود، حين كلمني عن أبوَّتهِ المتحقِّقة إنجاباً محسوساً، كلمني عن فكرةٍ في عموم منطقها بلا تخصيصٍ. أنا لم أسأله مَنْ تكون أمُّ طفلته. امرأة متزوجةٌ، اختصاراً، أخذت منه برهة اللحم لذَّةً من لذائذ المفقود المذهل، فاحتوتها كياناً لحماً. هل ستفاتح تلك المرأة ابنتَها، في برهة من برهات نَقْرِ السرِّ بمِنْسَرهِ على اللحم، تحت الجلد، بالدم “الآخر”، فيها؟ لا أعرف إن كان محمود يتفكر في الأمر، الآن، جالساً في استراحة الرحلة إلى الأبدية، على مقعد من برهان الكلمات أنَّ الأبديةَ قصيدتُهُ الأخرى ـ الهدنةُ بلا نهايةٍ.

صارحتْه المرأةُ مرتين، ثلاثاً، في الهاتف بابنته، ثم آثرتْ إبقاءَ ابنتها أملَ زوجها، حيث الحياةُ أكثر احتمالاً بلا فجاءاتٍ؛ أكثر تجانساً بلا فجاءاتٍ. بل الحياةُ، نفْسُها، مفاجأةُ الضرورةِ الصاعقة أسقطتْنا، جميعاً، في الصَّدمة: نحن نسْلُ اليقين الصَّدمات، و”مَصَالح” البلاغة في الترويج للمُحْكم، وتبعيةُ المُطلق للخيال المحدود، وقصاصُ المعاني من نفْسِها بجريرةِ انحراف الكلماتِ عن تسديد الدَّيْنِ للُّغةِ كاملاً، والجرحُ راضياً عن نَفْسِه. نحنُ إِخفاقٌ لونيٌّ.

محمود لم يسأل المرأةَ، حين انحسر اعترافُها، وانحسرتْ مبتعدةً في العلاقة العابرةِ، عن ابنته. أبوَّتُه ظلَّتْ تبليغاً موجَزاً من صوتٍ في الهاتف عن ابنةٍ لم تستطع العبورَ من صوتِ أمها إلى سمع أبيها. لذا محمود بلا أبوَّةٍ، كأنَّ الأمرَ كلَّه اعترافٌ صغيرٌ لصديقِ سنينَ طويلةٍ من عمره، بلا متْنٍ من توضيح في اللغة، أو هوامشَ إضافاتٍ، أو حواشي متجانسةٍ. أنا، نفْسِي، تلقَّفتُ اعترافَه بلا فضولٍ: لكانَ أنبَأَني من تكون المرأةُ لو كنتُ أعرفها. وها الفضولُ، خاملاً، يعبر خاطري بعد اثنتين وعشرين سنة. لابأس. أنا أُلفِّقُ لتلك الأبوَّةِ إقامةً في الكلمات، الآن، مُذْ كُنا إقامةً في الكلماتِ مُلفَّقةً بسطوةِ الشعر وبطشِهِ. لكنه التلفيقُ الأنقى مُذْ كانت الأمكنةُ ناكثةً بوعودِها ـ وعودِ الأمكنة.

بياضٌ هدنةٌ، وسوادٌ صُلحٌ نَحَتا ذاكرةَ العمر صورةً لمحمود ولي. صورةٌ أخرى وصلتني، على الإنترنت، من مشهد لقائنا معاً بجمهورٍ في السويد. صورةٌ ملونةٌ هي الثانيةُ أرانا فيها جنباً إلى جنبٍ. صورةٌ بألوانٍ ليست صُلْحاً أو هدنةً، بل لوعةٌ كالرياضيات، وحنينٌ كالهندسة.

تموز (يوليو) 2012

القدس العربي

——————————————

عن كاتبٍ منعزل… يخرج فجأة إلى العلن!/ سامر مختار

انتهت عزلة الكاتب، وابتعاده عن الحياة العامة. والذي حاول الروائي والشاعر السوري سليم بركات جاهداً رسم صورة مثالية لها. انتهت منذ بداية هذا العام، عندما وصل للقائمة الطويلة للجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر)، و”خرج مع الخارجين”. وصولاً للمقالة الكاشفة للسرّ، المقصود منها على ما يبدو إثارة الجدل حول “أبوَّة” محمود درويش. وفي هاتين العمليتين، انتهى الغموض، وهالة “القداسة” التي يرسمها مريدوه حوله، ولم تعد صورة /شخصية الكاتب “الغامض”، مبهرة للكتبة الناشئين، أما نتاجه الأدبي، فالزمن كفيل في الحكم عليه، وإنصافه

مُذ قرأت مقالة سليم بركات «محمود درويش وأنا»، المنشور في صحيفة «القدس العربي» في  6 من الشهر الجاري، والذي قال فيه إن محمود لديه ابنة من امرأة متزوجة، حتى لاح في خيالي على الفور هذا المشهد: سيدةٌ تبلغُ من العمر الخمسين أو الستين، ولديها إبنة ربما تجاوزت الثلاثين من عمرها اليوم. لا نعرف إن كانت هذه الابنة تعيش حياة طبيعية، ولا تعرف شيئًا عن هذا “السرّ”؛ أي أنها إبنة شاعر فلسطيني مشهور اسمه محمود درويش، أو أن أمها أخبرتها بذلك، وفي حال أخبرتها؛ لا ندري كيف تعاملت نفسياً وعاطفياً مع فكرة أب رفض الاعتراف بها وتخلى عنها. 

ربما الزمن فعل فعلته بالتخفيف من وطأة ما حدث، وانشغلت الأم والإبنة بمشاغل الحياة التي لا تنتهي. أو أن الأم تجازوتْ بالفعل ما حدث، وحاولتْ نسيانه، وانفتحت على حياة جديدة. إذ أن الشاعر المشهور قد مات، وربما اطمأنت أكثر حين مات، لربما مات هذا السرّ معه.

لكن يأتي الشاعر والروائي الصديق سليم بركات، ليكتب مقالاً، المقصود منه؛ الاحتفاء بصداقته مع الشاعر الفلسطيني محمود درويش. لكنه خَتمَ مقالته بإفشاء سرّ “أبوَّة” صديقه، من باب “أنا أُلفِّقُ لتلك الأبوَّةِ إقامةً في الكلمات”.

إذاً لنتخيل معاً، لا بل لنضع أنفسنا، مكان “المرأة /الأم”، السيدة التي في حال كانت على قيد الحياة، فستكون في سن متقدمة. تجاوزت آلام وأخطاء وجراح الماضي. مسترخية على أريكة في صالة بيتها، تتصفح الفيسبوك، وإذ تقع عيناها على رابط مقالة سليم بركات «محمود درويش وأنا»، وقد شاركه أحد الأشخاص من قائمة أصدقائها، وتعليق فوق الرابط: “سليم بركات يُفشي سرَّ أبوَّة محمود درويش!”. لا أستطيع تخيل ردّة فعل هذه السيدة، ولا ردّة فعل ابنتها في حال كانت على علم بما حدث في “الماضي”!

في حوار مع سليم بركات على موقع «ضفة ثالثة» في العام الماضي، أجراه الشاعر العراقي وليد هرمز (الحوار جزء من حوار طويل مع سليم بركات صدر مؤخراً في كتاب تحت عنوان «سليم بركات .. لوعة كالرياضيات وحنين كالهندسة») يسأل وليد هرمز سليم بركات، إن كان مازال يخشى “التعامل مع مبتكرات العصر كالكومبيوتر، الذي أسميته بـ “النشيد الخُرافي”، وكذلك الهاتف النقال، “الموبايل”» ليجيبه الأخير في الفقرة التي يخص بها موضوع التواصل الاجتماعي بقوله: «أما الهاتف، الذي كان أداةَ تواصلٍ للضرورات، أو لبعض الثرثرات العذبة أحياناً، فقد بات وسيلةَ غزوٍ واقتحام، ونهبٍ أيضاً: دلَّالون ببضائعهم السمعية. متطفلون. أصوات غير مرغوب فيها. بدَّلتُ رقمَ الهاتف الأرضيِّ برقمٍ سرِّيٍّ لا يعرفه إلاَّ خمسة (…) لكن الرسائل المكتوبة بخط اليد، أو الآلة، باتت، في أيامنا هذه، تُزَجُّ من فورها في معتقلات الـ Facebook. انتهت الحميمية. انتهت المُسارراتُ، والتناجي. كل شيء للنشر بات منكوباً بمواقع التواصل الهذياني».

هذا الكاتب الذي يعمل جاهداً على حماية حياته الشخصية، وخصوصيتها وحميميّتها وأسرارها، لم يكترث أولاً في فضح سرّ صديقه، وثانياً لم يفكّر بالآثار النفسية التي قد يسببها للمرأة “الأم”، والمرأة “الإبنة”.

ضربة واحدة نالت من ثلاثة أشخاص، شخص ميت، لكنه شخصية عامة، ولا يمكن التنبؤ بتأثيرها على الشخصيتين الأخيرتين، المجهولتين.

عندما أعدت قراءة مقال سليم بركات للمرة الثانية والثالثة، وصلت لفكرة أنه لربما إفشاء السرّ هذا مقصود، لكنه بالمقابل لا يحمل شراً مقصوداً، إنما بالتأكيد يضمر مشكلة ما أو سذاجة ما، دفعته لكشف سرّ صديقه، أو هي رغبة غير معلنة من جهة محمود درويش بأن يفشي صديقه سره بعد مماته؟! إذ أنه وفي الجزء الثاني من الحوار (على موقع ضفة ثالثة أيضاً) يقول سليم بركات في إجابته عن أحد أسئلة وليد هرمز «فقدتُ محمود درويش. كان “من حولي” أبداً، لا يكفُّ عن عروض سخائه. كان “منزله” يجاور منزلي أنَّى انتقلتُ. كان ينقله حيث أحلُّ. أرى غُرف بيته، وجدرانه، في صوته على الهاتف اتصالاتٍ لا تنقطع. جُرِحْتُ إذ رحل. لم أستمع إلى الموسيقى، التي تصاحبني عادة في العمل مساءً، طوال سنتين». أي أن احتمالية أن يضمر سليم بركات كراهية ما، ومباشرة لصديقه مستبعدة. لعلَّ  سليم بركات يريد أن يقول للجميع عبر إفشاء هذا السر، إن علاقة صداقة قوية تربطه بمحمود درويش، لدرجة أن لديه عن صديقه سرٌّ لا يعرفه سواه.

يتصرف سليم بركات مع صديقه محمود درويش، تصرفاً اعتدناه في هذه النوعية من الصداقات. تنشئ صداقةً بين اثنين، ورغم حبهما لبعضهما البعض، وبعد أن تمر هذه الصداقة بفترة زمنية معينة، يأتي صديق ما ويذكرك بحدث ما من الماضي لا تريد أن تتذكره، أو قراراً اتخذته سابقاً وتراجعت عنه، والآخر –إن كان على قيد الحياة– يستغرب من تصرف صديقه الذي يفتح ماضيه الأسود، كمن يفتح قضية ما داخل قاعة محكمة. هذه النوعية من الأصدقاء لا تنشغل بماضيها بقدر ما تنشغل بماضي أصدقائها أو أشخاص من حولها. ونتساءل هل هذا الصديق يحبنا بالفعل أم يكرهنا!

المأزق الذي أقحم فيه سليم بركات نفسه، هو أنه أباح بسرٍ/معلومة ناقصة، أي أنه وحسب كلامه في المقال، لا يعرف من هي هذه “المرأة المتزوجة”، إذ لم يخبره محمود درويش ما جنسية هذه المرأة، وأين تعيش، وما اسمها… فلو كان سليم بركات أفشى سر صديقه، انتصاراً للضحية “الابنة” مثلاً، عليه أن يكون شاهداً في المحاكم -في حال ظهرت ابنة محمود درويش المفترضة- حين تطالب الإبنة بحق بنوتها من محمود درويش، الإبنة وأمها التي لم يرها سليم بركات في حياته. ألم يقل “لكانَ أنبَأَني من تكون المرأةُ لو كنتُ أعرفها”! 

مجلة رمان

—————————

أيتها الأسرار لا تتوقفي/ رشا عمران

سمعتُ يوما عن شاعرةٍ عربيةٍ أنها كانت حبيبة محمود درويش. سمعت هذا بعد رحيله. قال لي صديق، هو من المقرّبين لدرويش، “الموضوع مختلق من أساسه، هو غازلها فقط، كما عادته مع النساء الجميلات، وهي تعاملت مع الغزل بوصفه تصريحا بالحب”. هل من شاعرة عربية أو امرأة مهتمة بالشعر لم تحلم يوما أن ما يكتبه درويش مخصص لها وحدها؟ شاعرة شابة جمعني بها نشاط ثقافي في بلد أوروبي، ذكر المترجم، في تقديمه لها، أنها كانت ملهمة درويش. ترجم لنا أحد الأصدقاء ممن يعرفون لغة البلد المستضيف ما تم ذكره في التقديم، فأصابتنا الدهشة، فالشاعرة شابة صغيرة، وحين كان درويش على قيد الحياة كانت هي بين الطفلة والمراهقة.. هل يعقل أن محمود درويش غازل طفلة؟! ولكن لم لا يمكن لهذا أن يحدث؟ سير الشعراء والمبدعين نادرا ما كانت تسير على الصراط، كما أن كلمة غزل واحدة من شاعر كدرويش يمكنها أن تكون “علامة” في ذاكرة مراهقة تكتب الشعر، وترى في درويش قمر الشعر الذي يوزّع نوره على النجوم حوله. شيءٌ ما في محمود درويش يشبه هذا، يستمد المقرّبون منه ضوءا قويا، حتى بعد رحيله. قلة فقط من استطاعت النجاة من هالته، وتفرّدت بعيدا عنه، غالبا ما كان هذا حال الشعراء الكبار.

التقيت محمود درويش مرتين، وفي كلتيهما كان لقاء سريعا. لم أكن جميلة لألفت نظره ويغازلني. لهذا ربما تساءلت حين رأيته: لماذا تُعجب به النساء اللواتي أعرفهن إلى هذا الحد، فهو ليس وسيما، وفظ ومتعجرف. هل لو كنت جميلة وغازلني، لكنت اليوم أقارن باقي رجال الأرض به، وأحكي عن غرام لم يكتمل؟ كل شيء وارد في سير الشعراء، الشعراء الفحول الذين يلقون على أكتاف الشاعرات كلمتي غزل، نوعا من “الرفق” ويمضون، بينما نحاول نحن أن نزرع كلامهم كشجرة نحملها على أكتافنا ونكمل حياتنا راضيات. ليتني كنت جميلةً يوم قابلت قمر الشعراء.

بالمناسبة، هل ثمة أي تصريح علني لمحمود درويش يمتدح فيه شاعرة عربية، أقصد يمتدح شعرها لا أنوثتها؟ حكت لي أكثر من شاعرة أنه امتدح شعرها حين التقاها، بيد أنه لم يصرّح بهذا المديح علنا، أو دعوني أقول: أنا لم أقرأ أو أسمع له مديحا بشاعرة عربية. وسأصدّق كل ما تقوله الشاعرات عنه، طالما هو ليس على قيد الحياة لينفي أو يؤكد، ولماذا لا أصدّقهن؟ من قال إن الشعراء الكبار ليسوا هوائيين؟

ثمّة ميلٌ لدى العرب إلى أيقنة الشعراء الكبار، الذين التزموا بقضايا وطنية، الذين رحلوا قبل أن يكشف الربيع العربي حقيقة مواقفهم، الأيقنة التي تنزع عن الشاعر إنسانيته. الشاعر كائنٌ هشّ، مهما ادّعى غير ذلك، هشٌّ وضعيفٌ أمام رغباته وشهواته وغرائزه، هذه الهشاشة الجميلة هي ما يخلق الشعر، لماذا نحاول أن نعصم الشاعر من الخطأ؟ لماذا نريده معقّما ومنزها كما الملاك؟ أصل الشعر الغواية، والشاعر مغوي، لا معقّمٌ ولا معصوم، وغاووه مثلُه، والغواية ضعفٌ جميل، حتى لو كانت نتائجها لا تعجب كثيرين. بابلو نيرودا كانت لديه طفلة معاقة رفض الاعتراف بها. هو الشاعر الثوري العظيم. بيكاسو العظيم حطم مودلياني، ودفعه إلى الانتحار. لماذا نستهجن أن يكون لدرويش ابنةٌ من علاقة ما؟ ولماذا نستهجن أيضا أن يكون هذا الكلام اختلاقا؟ لم أقرأ لسليم بركات أيضا مدحا بشاعرة؟ هو أيضا من فئة الشعراء الفحول العظماء، ربما أكثر فحولةً من درويش. لغته تضج بالفحولة، حتى حين يكتب عن صديقٍ حميم. سليم بركات المبتعد عن اللقاءات والحوارات والمشاركات، المكتفي بخوض حجارة اللغة كما يخوض البحر، يعزّز فحولته باللغة، بينما درويش كان يعزّزها بالحضور الشخصي والصوت، تاركا للغته أن تسيل كماء الأنثى في لحظة الذروة.

ثمّة أسرارٌ كثيرة في سير فحول الشعراء، في رغباتهم، في لا وعيهم، في شهواتهم. ثمّة رغبةٌ في الحضور الدائم، يواربونها على شكل كشف سر، في محاولة للتطهّر. لماذا لا يحق لسليم بركات أيضا أن يشعر برغبة “إمامة” شعراء جيله؟ لماذا نستنكر عليه هذا الضعف، إن كان موجودا؟ لماذا نريده معصوما؟ ثم ما معنى كشف سر صغير في ظل عالم مكشوف بالكامل، حتى في أدقّ تفاصيله، حيث أصبحت مفردة “خصوصية” مجرد مفردة في قاموس لغوي، مثلها مثل مفردة “سر”.

لفتني في إطار الدفاع عن درويش وشتم بركات ما كتبه أحدهم: “يبحث بركات عن الشهرة التي طالما ابتعد عنها درويش”.. يا لهذه الأيقنة!

العربي الجديد

————————————–

عن قنبلة سليم بركات الموقوتة/ راسم المدهون

لا تحتمل “قنبلة” سليم بركات الموقوتة فحصا مخبريا يجسُ النوايا ويختبر ما وراء القصد، فتلك مهمة إلهية لسنا من يقررها ولا يستطيع غيرنا. هي قنبلة انفجرت في ضريح درويش الحجري وتراشقت آثارها على محبي شعره الذي لم يزل كما كان في حياته وجدان الفلسطينيين والعرب وضميرهم الحي، الجميل والعبقري في التعبير عن قضيتهم التي طالما نجح الشاعر الراحل في تقديمها للعالم باعتبارها تراجيديا العصر وجريمة القرن العشرين وقرننا الذي نعيشه اليوم.

لا يجوز أيضا أخذ القضية بتبسيط ساذج يمكن أن يحيلها إلى ضرورة فصل حياة الشاعر وسلوكه الواقعي اليومي عن نصه، فالأمر هنا يطال تلويث النبع الأساس الذي تقاطرت منه قصائده والذي ينسف صفاءه ويجعله محل مساءلة عن صدقيته ما يجعلني أنفي بالمطلق وبالتفاصيل الجزئية صحَة الواقعة والتهمة برمتها وأنفي معها حكاية أن المقالة كتبها سليم بركات منذ سنوات طويلة ولم ينشرها عام كتابتها أي عام 2012 بل وأشير إلى غرابة نشرها اليوم.

هل أصدق حقا أن بركات ارتكب “غلطة الشاطر” ففعل ما فعل دون تقدير حصيف لأبعاد ما يترتب على تصديق خبره الصاعق عن محمود درويش؟

بصراحة لست ساذجا حتى أعتقد ذلك ولا أظن محبي درويش وقراءه ونقاده سيفعلون ذلك فلا النوايا الحسنة ولا سوء التقدير هما من دفع إلى تلك “الإرتكابة” الرهيبة، وسأقول هنا بوضوح ناصع إن “التهمة” التي توجَه للراحل محمود درويش تصيب بشكل مباشر صدقية الرواية الوطنية الفلسطينية برمتها، فدرويش الإنسان رحل عن عالمنا وترك لنا وللعالم شهادته الجمالية والفنية والتي تتلطخ كثيرا بذلك السلوك المشين والمناقض للإنسانية؛ إذ كيف لمن يتنكر لأبوّة ابنته المفترضة أن يكون صوت الجراح والعذابات لشعب يرزح تحت ثقل تراجيديا غير مسبوقة في التاريخ.

أنا شخصيا لا أصدق تلك الواقعة ولن أدخل في جدل “جنائي” عن احتمالاتها فقد تعلَمت من كتابة الشعر أن الكاتب يستطيع أن “يكذب” في الكتابة السردية (شبه العقلانية) وأن يهندسها كما يروق له، لكنه لا يستطيع فعل ذلك في الشعر وإن استطاع فلفترة وجيزة توصله بالضرورة إلى طريق مسدود. صوت القلب هو الشعر، وهو أيضا صوت الروح. عرفت محمود درويش منذ البدايات الأولى لخروجه من حيفا معرفة متقطعة وتصادمت معه في حالات كثيرة ومتعددة، بل كنت طيلة حياته لا أميل لمشاركته سهرة طويلة لأنني أعرف مزاجه الحاد وحتى عصابه الذي أوصلنا معه بعض الأحيان إلى “مناكفات” وغضب جعله يصرّ سنوات ليست بالقليلة على رفض نشر قصائدي في “الكرمل” حتى بداية عام 1987 حتى لقائنا في مؤتمر اتحاد الكتاب الفلسطينيين في العاصمة الجزائرية حين فاجأني بطلب تسليم قصائد لسليم بركات لتنشر في أول عدد قادم من هذه المجلة.

أحب محمود درويش الشاعر العظيم وأحب محمود الإنسان حين يصفو لكنني مع ذلك بقيت منذ رحيله “أتوجس” من أولئك الذين تحلَقوا ولا يزالون حول ضريحه والذين أسميهم “جمعية أحباء محمود درويش” والذي يوشكون أن يمنعوا أي أحد غيرهم من حب درويش، فهو “درويشهم”، بل أذكر أنني كتبت “بوستا” ذات يوم من وحي هذه الفكرة قلت فيه إنني أعرف رأي الراحل فيهم وهو رأي يوصلني إلى أن أصدقاء درويش الحقيقيين هم أشخاص لم “يحلبوا” تلك الصداقة ولم يستمطروها على بذارهم المسموم. هو لم يكن له طيف واسع من الأصدقاء وإن كان وظل له بعض من المخلصين للصداقة بالتأكيد ومنهم إلياس خوري وزياد عبد الفتاح الذي قدم لنا مؤخرا كتابه البديع عن درويش “صاقل الماس”.

قال كثر من الأصدقاء والمبدعين آراء وتعليقات عن الواقعة وحولها لفت انتباهي بعضها الذي تمحور حول مصطلحات بنوَة سليم بركات لدرويش، بل إن الشاعر الصديق نوري الجرَاح تحدث عن “نديّة” سليم لدرويش وهو ذاته الذي سبق له – خلال حياة درويش – أن كتب مقالة ضد سليم بركات عنوانها “التابع”.

محمود درويش شاعر آخر لا علاقة لتجربته الشعرية وعالمه الفني بتجربة سليم بركات وعالمه الشعري وفضائه، ففيما نهل درويش من حقول الحياة وينابيع الماء غرق بركات في استنطاق عبثي لحجارة القواميس اللغوية والمعاجم، فكان درويش صوت الحياة بما فيها من حيوية وظلت تجربة بركات مسكونة بتركيب الكلمات حتى عجزنا في مرات لا تحصى عن متابعة نصوصه. أقول هذا عن محمود درويش في مراحله الشعرية كلها، فهو في شعره الأخير فاجأ كثرا من النقاد الذين تمترسوا خلف تجربته الشعرية الأولى بوعي وذائقة جمالية باهرة حلق معها إلى فضاءات أخرى تنتمي لفكرة أن الشاعر إنسان من لحم ودم أو هو بكلمات درويش ذاته “يشعر بالبرد”.

لم يكن محمود درويش ملاكا كي تندفع “قنبلة موقوتة” إلى تقطيع أوصاله وتحويله إلى نقيضه الإنساني فالشعر لا يخون ركائزه ونبعه حتى لو ذهب مبدعه إلى غايات قد لا يدركها البعض إذ أن حنين محمود درويش إلى حقه في الأبوة ظل دائما حاضرا لكنه في الوقت ذاته ظل مكبلا بظروفه الشخصية وبولعه الخاص بالشعر.

دعوا محمود درويش يسكن هانئا في ضريحه، وهانئا في نفوسنا كما عاش خلال حياته، وأنا على ثقة كاملة وإيمان عميق أن الكلمات التي تمشي في سطور قصائده قد انتقلت منذ لحظات نشرها فمشت في نسغ الشجر وندى الصباحات التي أظنه يحلم معنا أن تكون ندية في فلسطيننا يوما.

————————————-

هل أساء سليم بركات إلى درويش حقًا؟/  حسين بن حمزة

كان يمكن لمقال، أو الأصح نصّ، سليم بركات “محمود درويش وأنا” الذي نُشر أخيرًا في جريدة “القدس العربي” أن يمرّ على الكثيرين ممن لا يستهويهم أسلوب هذا الشاعر والروائي السوري الكردي، والذين لا طاقة لهم على لغته التي يجدونها صعبة ومتقعّرة. وربما كثيرون ممن يُقدّرون بركات أيضًا ويعرفون قيمته الأدبية ما كانوا سيكملون المقال/النص لأنه – بطريقة ما – يبدو أقل براعةً وتخيلًا وبلاغةً وذكاءً مما اعتادوه في نصوص وكتابات صاحب “الجندب الحديدي”.  ولكن يبدو أن البعض أكمل المقال ووصل إلى السطور التي تخصُّ سرّ أبوّة درويش.. فوقعت الواقعة التي على أساسها تم نسيان المقال، واكتُفيَ باختصاره وتقزيمه إلى أن سليم بركات “خان” الأمانة، وفضح صديقه (وأيّ صديق) الشاعر الكبير والأيقونة الفلسطينية محمود درويش.

هكذا تحوّل المقال إلى حدثٍ حوَّلَ سليم بركات نفسه فيه إلى هدفٍ سهل بالنسبة لمن لا يستهويهم شعرُه ورواياتُه.. وربما حضورُه كشخص أيضًا!، وأوقع بعضًا ممن يقدّرونه (في البداية على الأقل) في بلبلة وتشوّش. وينبغي الإسراع هنا إلى القول إن من يقدّرونه ليسوا كلهم بالضرورة من عشاق أدبه، بل هم على الأقل قادرون على تمييز ما هو جدير بالتقدير، وقادرون على قراءة مقال بركات (ونقده أيضًا) بطريقة منصفة أو معقولة كحد أدنى، بل إن البعض من هذه القلة سخروا من الاتهامات الأخلاقية المتسرعة والسطحية لبركات ودرويش أيضًا، وجعل “الواقعة” مرئية بوضوح وبعض العقلانية، ويمكن تقييمها من طرفين على الأقل.

ولكن ما هي هذه الواقعة في الحقيقة؟ ولماذا صار عنوانها “بركات يفجّر قنبلة أو فضيحة”؟ ولماذا تحول هو إلى “مجرم قذر” وصار درويش “ضحية بريئة”، ولماذا تمّ هذا الهجوم الكاسح ليس على مقال بركات فقط بل على كل مُنجزه الشعري والروائي والمقالاتي أيضًا!؟.

الأرجح أن لا سبب لكلّ ذلك سوى أننا لا نعرف كيف نقرأ، وإذا قرأنا لا نعرف كيف نحلل، وإذا حللنا لا نعرف كيف نكون عادلين ومنطقيّين وقادرين على رؤية الموضوع من جوانب متعددة، إذْ ماذا يمكن أن يكون أكثر سذاجةً – في هذا السياق – من القول إن بركات “فضح” سرّ صديقه لأن صديقه ميت ولن يستطيع الدفاع عن نفسه!! وأنه فعل ذلك لكي يعود إلى الضوء بعدما عانى طويلًا من النسيان!! وأنه اختار هذا التوقيت لنشر مقاله بحيث يكون مُعفى من أي مواجهة، ومن أي تكذيب (محتمل) ممن استودعه السرَّ الذي تم إفشاؤه!. والغريب أن هذه الفرضيّة الفضائحية احتلت المساحة الأوسع في الجدل الذي أثاره المقال في مواقع التواصل، والمرشّح لمزيد من الجدل والاثارة مع أسئلة من نوع: هل ستؤثّر أبوّة درويش على مكانته الشعرية؟ وهل ستكشف “سَقْطتُه الأخلاقية” الشخصَ السيئ الذي لطالما كان مخفيًا خلف قناع شاعر القضية والمقاومة؟ وهل انفضح درويش، ومعه بركات طبعًا، على حقيقتيهما، الأول كشخص (وضيع وبلا أخلاق وسفيه) يُمكن أن يمارس الجنس مع امرأة متزوجة، وأن تُنجب منه ابنة أيضًا، والثاني كشخص (خسيس ونذل) خان السرّ الذي اؤتِمنَ عليه.

للأسف، هذه هي المنطقة الضيقة، التي لا تقبل سوى ثنائية الخير والشر، التي دارت فيها، وستدور فيها على الأرجح، معظم الأسئلة التي “فجّرها” مقال سليم بركات، ولن ينتبه سوى قلّة إلى أن المسألة أعقد وأوسع من الأحكام الأخلاقية الجاهزة والمتسرّعة التي يجري فيها عادة نسيان أن الشعراء والكتّاب هم بشر يحبون ويمكن أن يمارسوا الجنس مع متزوجات وغير متزوجات، بل يمكن أن يتحرش بعضهم بأي امرأة يجدونها في طريقهم، وقد يكون بعضهم يحتقر المرأة، و(قد) تكون لديهم مشكلة شخصية (كما في حالة درويش) مع الارتباط الدائم والزواج الشرعي.. والأبوّة، وأن في سِيَرهم وحيواتهم، كما في سيرة وحياة أي كائن آخر (لا يكتب الشعر)، تفاصيل وممارسات ومواقف من النوع الذي تراه الأغلبية العمومية خزيًا وسقطات وقلة أخلاق ووضاعةً وخسّة ونذالة (وهذه صفات ألصقها شعراء وكتّاب ببركات ودرويش عقب نشر المقال)!. ولعلّ المشكلة الأكبر في هذه الحادثة أنها كشفت انحياز وانتماء الكثير من الشعراء والشاعرات والكتاب والنقاد إلى هذه “الأغلبية العمومية”، فأعلن بعضهم استياءه من “فعلة” بركات الدنيئة، فقط استياءه (وهم ربما يُحمدون على إبداء الاستياء وعدم فقدانهم لبعض المنطق)، فيما تكفّل الباقون والباقيات (وخصوصا الباقيات) بـ”مسح” الأرض بسليم بركات وبكل كتاباته. ومسح بعض هؤلاء الأرض بدرويش أيضًا الذي خدعهم وجرحهم بانكشاف سُموّه الأيقوني وتعاليه الملائكي عن كائن بشري (يا للهول!) يمارس الجنس غير الشرعي، ويتخلى بكل نذالة عن ابنته المسكينة!

والطريف أن المقال/ النصّ تحوّل بالنسبة لكثيرين إلى مناسبة لـ”تصفية حساب” شخصي قديم ومزمن مع صاحب “الجمهرات”، فقد قال بعض هؤلاء إنهم أصلا لا يحبون كتاباته، ولكنهم لم يعلنوا ذلك لأنهم كانوا مُحرجين من الجهر بآرائهم، ووجدوا في المقال حجة ممتازة لإعلان ذلك بطيب خاطر، وتبرئة ذمتهم من قراءته التي أصلا – كما صرّحوا- عسيرة وغامضة وثقيلة على القلب والذهن، بل إن البعض قال إنه يومًا لم يفهم ما يكتبه بركات!، وها هي الفرصة حانت ليعترف، وهل هناك فرصة أفضل من هذه التي جعلت بركات منبوذًا ومجرمًا، ويمكن التشفّي به وبأدبه بسهولة!. هؤلاء أنفسهم ليس لديهم أي حرج حين يقرأون حوادث و”سقطات” مماثلة في الآداب الأجنبية (ابنة بابلو نيرودا غير الشرعية على سبيل المثال).. بل يجدون فيها نوعا من الفرادة والخصوصية.. ويجدون بسهولة أعذارًا لذلك طالما أن أصحابها ينتمون إلى لغات أخرى ومجتمعات أخرى (منحلّة أخلاقيًا أصلًا!)، والأهم أنهم خارج تقاليدنا ومنظومتنا الأخلاقية التي لا تزال قائمة على الأخلاق الدينية وعلى الحلال والحرام.

ولكن مهلًا! هل هذه كانت نيّة سليم بركات فعلًا؟ أن يفضح درويش ويُسيئ إليه؟ أليس من الأفضل أن نرى الأمر بطريقة متأنية، ونسأل: ولماذا يفعل بركات ذلك حقًا؟ وما حاجته إلى الإساءة لدرويش في سياق مقالٍ يتحدث فيه عن “أبوّة” درويش الشعرية له، ويُثني على صداقتهما الشعرية والشخصية؟

ولعل هذا الطّرح يزداد وجاهةً حين نعلم أن هذا المقال/ النص هو أحد ثلاثة نصوص ستنشر قريبًا في كتاب بعنوان “سليم بركات: لوعة كالرياضيات وحنين كالهندسة” يضمّ حوارًا مطوّلًا مع صاحب “كل داخلٍ سيهتف لأجلي، وكل خارجٍ أيضًا”، يتحدث فيه عن تجربته في الكتابة وضمنها علاقته مع محمود درويش. ويكتسب هذا الطرح جرعة أخرى من الوجاهة في حقيقة أن بركات قد كتب هذا المقال/ النص سنة 2012، ويبدو أن نشره في “القدس العربي” كان بمثابة إعلان أو تمهيد لصدور الكتاب الذي سيضمّ المقال. وإذا صحّ كل هذا، فهو يعني شيئًا واحدًا، وهو أن صاحب “فقهاء الظلام” لم يكن في وارد أن يفضح درويش أو يُسيئ إليه. المسألة بالنسبة إليه أنه كتب عن علاقته بدرويش، وما ذكره عن حوار جرى بينه وبين درويش أخبره فيه الأخير أنه أب لابنة من امرأة متزوجة، يبدو عاديًا في سياق النص، خصوصًا وأن ذكر هذه المعلومة يأتي ضمن سياق حديث عن الأبوة وليس بهدف كشف سرّ أو فضح صاحب السرّ. المعلومة هنا هي تفصيل ضمن علاقة وضمن حوار وليست إعلانًا فضائحيًا، كما أنها (لمن يعرف أن يقرأ جيدًا) تفصيل ضمن مقال ليس مكتوبًا بهدف آخر سوى مديح الكاتب لصداقته مع كاتب آخر. أما هل أخطأ بركات في ذكر المعلومة أم لا؟ وهل ينبغي أن نحاكمه أخلاقيًا أم لا؟ فيبدو أن ذلك لا يعنيه، ولم يكن يعنيه في المقال نفسه، فالمعلومة (لمن يريد العودة والتدقيق في المقال) تُذكر بشكل عادي من دون نبرة نمائمية ومن دون الاكتراث بأنها سرٌّ خطير أيضًا.

إذا وصلنا في هذا الطرح إلى هذه النقطة، وحاولنا أن نصدّق أن بركات لم يكتب ذلك بنيّة الفضح والإساءة، يمكن عندئذٍ أن نسأل مجددًا. هل هي معلومة مفاجئة ويمكن أن تشعل جدلًا حول درويش؟ بالطبع نعم، ولكن ليس هذا الجدل المتسرّع القائم على المحاكمات الأخلاقية العمومية والبسيطة؟ لماذا لا نسحب النقاش والحديث إلى منطقة أخرى أكثر تسامحًا وتفهمًا لمجريات الحياة المليئة بقصص من هذا النوع وغيرها. لماذا لا تكون مناسبة للحديث عن سِيَر شعرائنا وكتّابنا التي لا تتضمن سوى: ولد، ونشر، ومات. لماذا لا نشجّع على أن نعرف أكثر عنهم، ومن خلالهم هم مثلًا، وليس عن طريق أصدقائهم ومعارفهم، أو في جلسات سرية خلف أبواب موصدة. لماذا لا نتذكر أن درويش نفسه أعلن أكثر من مرة عن ضجره من كونه ممثلًا لقضية مقدسة، وعن كونه نجمًا غير بشري. من أين كان يأتي شعره إذًا، خصوصًا في النصف الثاني من تجربته؟ لمن كتب قصيدة “انتظرها” على سبيل المثال. لملاكٍ سماوي أم لامرأة من لحم ودم (وربما كانت والدة الابنة نفسها!). هل تصدقون فعلًا أن شعر درويش أتى من هذا الأبيض والأسود والحلال والحرام الذي تريدون سجنه فيه ومنعه من أن يخالف نظرتنا المسبقة عنه!. لا طبعًا، لقد عاش درويش كإنسان أيضًا، إنسان له “أخطاؤه” ومشكلاته، هشاشته ضعفه، كآبته وغيرته، ويمكن – في النهاية –  أن لا يكون له علمٌ بأن المرأة حملت منه، وأنها حافظت على الجنين. ربما كانت تعشقه (مثل مئات النساء المعجبات الأخريات) وأرادت الحصول على شيء حقيقي منه عبر ابنة، ونجحت في ذلك، أما درويش نفسه، فمن الأفضل إبقاؤه في الصورة التي ظهر فيها في مقال سليم بركات: شخص لا يحب الالتزام بالارتباط الدائم، ولا تُغريه فكرة الأبوّة. وهو ما قاله بركات، ولم يقل شيئًا آخر مسيئًا إلى صاحبه. وأما سليم بركات، فلنجرّب أن نعود، كما كنا سابقًا، إلى الحديث عن تجربته الفريدة وعن صعوبة قراءته وفهمه بالنسبة لكثيرين منا.

هل أخطأ درويش؟ فليكنْ

هل أخطأ بركات؟ فليكن

هل أخطأت المرأة؟ فليكنْ

ثم تعالوا نسأل أخيرًا: هل “فضح” بركات سرّ درويش حقًا؟ لا طبعًا.. كيف يكون فضحه ونحن لا نعرف بعد اسم المرأة.

هيا يا سليم! أكمل لنا الحكاية. اكتب لنا مقالًا إضافيًا وأَشبعْ فضولنا وحشريّتنا. دعنا “نمسح بهذه المرأة الأرض” كما فعلنا بك وبصاحبك درويش!.

ضفة ثالثة

———————————————

تصيُّد؟ محض بلاهة؟”… صديق محمود درويش يكشف “سراً” عنه

“أيّ صداقة هذه”؟ و”هل يحقّ للصديق أن يفشي ‘سراً خطيراً’ كهذا عن صديقه بعد وفاته”؟ و”ما معنى السر إنْ كنّا سنبوح به بعد رحيل أصحابه؟ تصيُّد؟ محض بلاهة؟”.

جاءت هذه الأسئلة عقب ادّعاء الشاعر والروائي السوري الكردي سليم بركات في مقالة له بعنوان “محمود درويش وأنا”، كُتبت في تموز/يوليو 2012، ونُشرت على موقع “القدس العربي” في 6 حزيران/يونيو الجاري، أن للشاعر الفلسطيني الراحل (1941-2008) ابنة من امرأة متزوجة، علماً أن المعروف عنه أنه لم ينجب.

خاض درويش حكايتين قصيرتين مع الزواج، الأولى زواجه الكاتبة والشاعرة والمؤرخة السورية رنا قبّاني، ابنة شقيق الشاعر السوري نزار قبّاني، والثانية زواجه الكاتبة والمترجمة المصرية حياة الهيني.

في مقالته، كتب بركات أن درويش “مذهل في تلقائية اعترافه، بلا تحفُّظ من شاعرٍ كبير مثله”، وأنه قال له إنه “لم يعد يعرف أين الحدُّ بين أن يراه صديقاً، أو يراه ابناً له”.

وكتب أيضاً: “تزوج (درويش) مرتين ولم يُنجبْ، بقرارٍ قَصد في أنْ لا يُنجب… في عام 1990، في بيتي بنيقوسيا، قبرص، ألقى عليّ سرّاً لا يعنيه. كل سر يعني صاحبه، لكن ذلك السرّ لم يكن يعني محموداً. باح به بتساهل لا تساهل بعده، أم كان لا يتكلّف معي قطّ…”.

وذكر قول درويش له: “لي طفلة. أنا أب. لكن لا شيء فيّ يشدّني إلى أبوّة”.

وروى بركات في المقالة نفسها: “صارحتْه المرأة مرتين، ثلاثاً، في الهاتف بابنته، ثم آثرت إبقاء ابنتها أمل زوجها، حيث الحياةُ أكثر احتمالاً بلا فجاءاتٍ؛ أكثر تجانساً بلا فجاءاتٍ… محمود لم يسأل المرأةَ، حين انحسر اعترافُها، وانحسرتْ مبتعدةً في العلاقة العابرة، عن ابنته. أبوّته ظلّت تبليغاً موجَزاً من صوت في الهاتف عن ابنة لم تستطع العبور من صوت أمها إلى سمع أبيها. لذا محمود بلا أبوّة، كأن الأمر كلّه اعتراف صغير لصديق سنين طويلة من عمره، بلا متنٍ من توضيح في اللغة، أو هوامش إضافات، أو حواشٍ متجانسةٍ”.

جاءت هذه المقالة بعد مرور اثنتين وعشرين سنة على الاعتراف لأن “الفضول عبر خاطره”، بحسب قول بركات، فيما تلقى اعتراف درويش “بلا فضول” في السابق لأنه لو كان يعرف السيدة لأخبره درويش من تكون.

“لماذا يخذلنا شعراؤنا حين يتقدّم بهم العمر؟”

تسببت مقالة بركات بغضب في صفوف روّاد التواصل الاجتماعي، وولدت أسئلة عن الوفاء والصداقة والخيانة، ووُصفت بـ”المرعبة” و”البائسة” و”المخيبة”. من المعلقين الشاعرة الفلسطينية أسماء عزايزة التي تساءلت: “لماذا يخذلنا شعراؤنا حين يتقدّم بهم العمر؟”.

وتابعت: “سعدي يوسف خيبة. أدونيس خيبة. الثوريّة الشعريّة أو السياسيّة تتحوّل عند الكبر إلى انبطاح ومجاملات تافهة، هذا يمدح دكتاتوراً مثل الأسد وذاك يمدح ملكاً سفّاحاً. ويأتي علينا الآن، بهدوء شديد ولغة بالغة التزويقات والبلاغة، الشاعر سليم بركات ليفشي أسرار أصدقائه الموتى. أحببت تجربة سليم بركات. لكنّ ماذا يسمّى هذا الشيء؟ ماذا جنى من هذا “السبق”؟ يبدو أنّه ضجر من مشهد الثعالب والأرانب والأشجار الصامتة في السويد!”.

وكتبت الكاتبة الأردنية أمل الحارثي: “لا تفشِ سرّك لأحد… فقد يصبح كنزاً لمن عرفه”.

وغرّد الكاتب والمترجم السوري يزن الحاج: “بمعزل عن الفذلكة اللغويّة الممجوجة المعهودة، لم أفهم سبب بوح سليم بركات (إن صدق) بسرٍّ قاله له محمود درويش عام 1990 عن وجود ابنة لدرويش من امرأة متزوجة. ما معنى السر إنْ كنّا سنبوح به بعد رحيل أصحابه؟ تصيُّد؟ محض بلاهة؟”

وكتب في تغريدة ثانية: “إن كانت الحادثة صحيحة، فهذا أمر يخص ثلاثة غائبين: درويش والأم والبنت؛ وهو لا يخصّنا قطعاً ولا يخصّ سليم بركات”.

في المقابل، رأى فريق من المتابعين أن المقالة لا تستحق الغضب الذي تسببت به. تساءل أحدهم: “لماذا هذا الدفاع المستميت عن حياة درويش الخاصة؟ أليس له عشيقات؟ أليس هذا شأن الأصدقاء وحدهم؟ لماذا نستغرب هذا الفعل مع أنه لا دخل لنا إطلاقًا بذلك”.

واعتبرت المؤلفة والمترجمة الأردنية إيمان سعد أن الموضوع ليس “مرعباً” كما يقول البعض، موضحة: “أين المرعب في الموضوع، علاقة عابرة برضا الطرفين نتجت عنها ابنة نسبت إلى الزوج (ما يوافق الحكم الشرعي)، لو كان اغتصاباً لكان اعترافاً مرعباً، لكن السر ليس سوى كليشيه عتيق يماثل اللغة التي كتب بها، ولا يثير حتى إشكالية العلاقة بين أخلاقية الشاعر في حياته الشخصية وموروثه الأدبي”.

وهذا ما دفع بالكاتب والناقد السعودي محمد العباس للردّ: “الرعب ليس في الشرعي واللاشرعي… الرعب في أفق آخر”، قاصداً خيانة الصديق في إفشاء سرّاً.

“ليس للكردي إلاَّ الريح”

بركات الذي من الممكن أن يكون قد كشف سرّاً حقيقياً هو من أصدقاء درويش المقربين. وكان الأخير قد كتب قصيدة له عنوانها “ليس للكردي إلاَّ الريح” لشدّة إعجابه به. في ما يلي مقطع منها:

يعرفُ ما يريد من المعاني. كُلُّها

عَبَثٌ. وللكلمات حيلَتُها لصيد نقيضها،

عبثاً. يفضّ بكارةَ الكلمات ثم يعيدها

بكراً إلى قاموسه. ويَسُوسُ خَيْلَ

الأبجدية كالخراف إلى مكيدته، ويحلقُ

عانَةَ اُللُغةِ : انتقمتُ من الغياب.

فَعلْتُ ما فعل الضبابُ بإخوتي.

وشَوَيْتُ قلبي كالطريدة.

لن أكون كما أريد. ولن أحبَّ الأرض أكثر

أو أقلَّ من القصيدة. ليس

للكرديِّ إلاّ الريح تسكنُهُ ويسكُنُها.

وتُدْمِنُه ُويُدْمنُها، لينجوَ من

صفات الأرض والأشياء…

رصيف 22

—————————————–

شربل داغر: محمود درويش العاشق الدائم والزوج… المستحيل

كان ذلك، ذات غُروب، في “فندق الرشيد” في بغداد، عندما سمعتُ درويش يقول، بعدما تناول سماعة الهاتف: “… أهلا بكِ”. قمت طالبًا مغادرة جناحه، فقال لي: “لا، أرجوكَ. إبقَ معي… لن يطول الحديث معها”.

بعد قليل، فتحَ درويش الباب من جهة الصالون، حيث كنا نجلس، وإذا بصبية ذات ضفيرة ممتدة على ظهرها، وعينَين تبرقان بأكثر من الكلمات المتعثرة فوق شفتَيها، تقف مقابلنا. ارتبكتْ بمجرد دخولها إلى الغرفة، بمجرد السلام بالأيدي بينها وبين… شاعرها الحبيب. دعاها إلى الجلوس. ترددتْ. تعثرتْ في مشيتها، ثم جلستْ، بعدما سوَّتْ قعدتَها، وشدَّتْ فستانها على ركبتَيها. كان درويش شديد البرودة، بينما كنت أراقب من دون كلام ما يجري أمام ناظري. راحت الصبية الفلسطينية، التي كانت تدرس الهندسة الكهربائية في بغداد، تتقاذف جملًا من بين شفتَيها، بعدما حفظتْها وكررتْها في صدرها، إلا أنها ما إن طلبت استعادتها حتى تعثرت فيها، فكانت تأتي الجملة مقطوعة من طرفها، أو تأتي هذه قبل تلك…

قالت الصبية ما في صدرها، إلا أن التماع عينيها، وارتباك أصابعها، وارتجاف ساعدَيها فوق حضنها، كلها كانت تشي بأكثر مِما تقوله الكلمات والحركات.

قالتْ ما عندها، ما في جعبتها، و… انتظرت. شكرَها درويش على كلامها، من دون أي إضافة مزيدة. ارتبكتْ الصبية، بعدما ران الصمت بينها وبينه. وقفتْ، واستأذنتْ بالخروج. رافقَها درويش في اتجاه باب الصالون. قلتُ في نفسي: المشهد ناقص! قبل أن تخرج الصبية، وتغلق الباب وراءها، عادت على أعقابها، بل استدارت، فيما كان درويش يستعد للاستدارة لكي يعود إلى جلسته السابقة، وبادرتْه بجملة لم تُعدّْ لها قبل الموعد، لكنها أدارتها في صدرها قبل شهور وسنوات، وحدها مع نجمِها: لو كان لي أن أختار زوجًا لي، لاخترتُكَ.

قلتُ في نفسي: اكتملَ المشهد.

كان ذلك في باريس. التقتْ عيناها بعينَيه في بيتي، في عشاء نظمتُه زوجتي وأنا، إثر خروج درويش سالمًا من بيروت غداة الاحتلال الإسرائيلي لها. كانت مدعوة إلى العشاء بحكم كونها جارتنا في بناية مقابلة لبنايتنا في الدائرة الثالثة عشرة في باريس، وبحكم كونها تكتب الشعر بدورها، لكن بالفرنسية. علمتْ بحديث العيون بعد شهور، عندما طالبتْني جارتنا (بدلاً من ذكر اسمها) باللقاء معًا خارج بيتي أو بيتها، وهو ما كان، في مطعم: اختارت – وهي من عائلة تونسية بورجوازية – مِما لها أن ترويه من قصة غرامهما. كانت مرتبكة، ووميض عينَيها لا يتوقف عن اللمعان، وإن تخلله أحيانًا خفوت مريب. تحادثني، فيبدو عليها أحيانًا كما لو أنها تحادث نفسها، كما لو أنها تريد إقناعي بما تقوله، إذ تقوله لي دون غيري، وللمرة الأولى. كانت أكيدة ومترددة في آن. تسعى إلى التقدم، لكنها تطلب التأكد من خطواتها.

كانت رقيقة مثل بطلة رومانسية ملتاعة في رواية لتولستوي.

كنتُ أستمع إلى ما تقوله متقطعًا من دون أن أعلم المقصود من سردها هذه الأخبار المتطايرة على مسامعي عَما جرى لها معه منذ العشاء في بيتنا. لم أعلق. لم أوقفْها. تركتُها تحكي، مدركًا صعوبة ما تقوله إذ تقوله. وإذا بالجملة الصاعقة تُنهي كلامها المتعثر والمتمادي: هل تعتقد أن درويش سيتزوجني؟

راعني ذلك الموقف، وحرتُ جوابًا على ما تطلبُه مني. سألتُها: ما الذي دعاكِ إلى التوجه صوبي؟ فأجابتْ بتصميم مثبتةً نظرها في وجهي – لأول مرة في تلك الجلسة: لأنني عرفتُ، في أحاديثي مع محمود، أنك أعدته إلى رشده، عند تأزم علاقته بزوجته رنا، وتسارعِها صوب الطلاق. كنتُ بين المستمع والمتشكك مِما كانت ترويه. كانت جملتها الأخيرة أقرب إلى إفشاء سر، وهو ما لا يتحدث به درويش لهذا أو لتلك من العابرين والعابرات في حياته.

لم يتكرر هذا الحديث مرة ثانية. لم أستعدْه، أو تستعدْه معي، في جلسة تالية، على الرغم من لقاءاتنا معًا، أو مع درويش. فقد دعاني إلى عشاء معهما، في غمرت، في ضاحية تونس ذات الألق المتوسطي. تنبهتُ، في عشاء المطعم البحري – وكنت أجلس قبالتهما -، أن يده اليسرى كانت تختفي من على الطاولة، في الوقت الذي تختفي فيه يدُها اليمنى بدورها، في حوار لطيف ما كان يخفيه البريق في عيونهما الثابتة في وجهي.

لم يكن الوقت كافيًّا بعد العشاء، وبعد الانتقال إلى الدارة التي استأجرَها درويش في سيدي بو سعيد، لتأمل جمالاتها، إذ وجدتني مضطرًا لمغادرة المكان لأكثر من سبب: بات وجودي عائقًا أمام ما له أن يمتدَّ بينهما في امتداد أصابعهما، عدا أنني كنت أقيم في فندق “أنترناسيونال”، وسط شارع الحبيب بورقيبة، في مدينة تونس، على مسافة تزيد على عشرين كيلومترًا.

وجدتُني في المكان الغلط، ولكن كيف الخروج من الدارة، ولا سيارة أجرة في المدينة الصغيرة، في ذلك الشتاء القارس! ضحكتُ، عندما دعاني درويش للنوم في غرفة الأصدقاء. لم يكن أمام جارتي سوى نقلي بسيارتها الفرنسية الخفيفة إلى المدينة. لم ندرك ليلتَها، هي أو أنا، هول العاصفة الناشبة في طبيعة تونس، ولا في ذلك اللسان البحري الممتد بين الضاحية ووسط العاصمة. هذا ما تحققتُ منه في اليوم التالي، عندما استعدتُ الطريق نفسها، فتنبهتُ إلى الأشجار العالية المنتَزعة من جذورها، والمرمية على أطراف الطريق البحري. لم أكن أدرك ليلتها هولَ العاصفة، لأن نظري الكليل حال دون ذلك، فيما كان المطر يحجب النظر من زجاج السيارة. وهي لم تكن تدرك بدورها لأن عاصفة أخرى كانت تنشب في أطرافها، ولا سيما في كلامها المشبوب عن حبهما.

جارتي لم تتزوج من محمود، لكنها سارعت إلى فيينا للاطمئنان عليه بعد عملية القلب الأولى التي أجراها. هذا ما أبلغتْني به بعد وقت… ذلك أنني لم أكمل حديثي معها عن زواجها المحتمل منه، إذ قلتُ لها بأنه لا ينوي الزواج من أحد، على ما أظن، بعد فشل زواجه من رنا قباني، زوجته الأولى. لم يكن هذا جواب درويش لي، إذ تناولتُ أمامه بشكل غير مباشر الحديث عنها (بعد عشائها معي، وطلب الاستفسار)، فكان أن أجاب جوابًا أظهرً لي بأنه لا يبادلها الغرام عينه.

لم يكن يصلح درويش للزواج، على ما تحققتُ أكثر من مرة معه: في المرة الأولى مع رنا قباني، ابنة السفير السوري صباح قباني، أخ الشاعر نزار قباني. وهي قصة معروفة بتفاصيلها، ولا سيما زواجه منها بعد أمسية شعرية، في النهار عينه، وانتقالها معه إلى بيروت، ثم إلى باريس. التقيتهما معًا أكثر من مرة، في مكاتب مجلة “الوطن العربي”، أو في مقهى أو في مطعم بباريس، من دون أن أعلم مكان سكنهما في تلك الشهور القليلة من سنة 1979 في باريس. كان يبدو عليهما التوتر غالبًا، ولا سيما الصمت من قبلها.

أسرَّ إليَّ درويش، مرة، أنه طلَّقَها ثم تزوجها مرة ثانية، مضيفًا أنني من أعدتُه إلى الزواج منها من جديد. لم أعلم، يومها، سبب كلامه هذا، بعد سنوات على طلاقه القاطع معها؛ وعندما طلبتُ الاستيضاح منه عن ذلك، قال لي: إنها مزحة.

كان درويش شديد التكتم، قليل الإفصاح، في نوع من “الحماية” الأمنية، المستدامة له، فكيف في حياته الزوجية أو الغرامية! كان يروي أحيانًا الحكاية وعكسَها لي، أو يرويها لغيري في حضوري بصيغة أخرى. أهذه من عادات “النجم”؟

غير أن درويش يبدد، في أحوال أخرى، ما كان قد شاع عنه، فكيف إن شارك في تبديد الحكاية نفسها اثنان: درويش نفسه وصديقه سميح القاسم. كان ذلك في جلسة، في أحد المطاعم اللبنانية، في باريس، في دعوة غداء أردتُها لي معهما لإنهاء الخصومة بينهما: “على صحن كبة”، كما كتبتُ الخبر (مرفقًا بالصور) في مجلة “كل العرب”. سألتُ درويش – في لحظة تباسط الأخبار بين صديقين تباعدت المسافات والأخبار بينهما – عن حقيقة غرامه بالمطربة نجاة الصغيرة، فكان أن تعاونا معًا على روايتها.

قال درويش إن الخبر ذاع بعدما دبَّجَه أحد الصحافيين المصريين، مِمن كانوا يعملون في نشر أخبار مدفوعة الثمن عن نجمات ونجوم مصريين، ومن بينهم: نجاة الصغيرة. نشر الصحافي خبرًا، بعد عشاء نظمَه أحمد بهاء الدين (“الراعي” الأول لوجود درويش في القاهرة بعد حلوله فيها قادمًا من موسكو)، أفاد فيه أن “أطراف قصة إعجاب متبادَل نشأت في ذلك العشاء بين الشاعر (الذي فاز بنجوم الشهرة الأولى) والمطربة الشهيرة، التي حلَّتْ إلى جانبه في العشاء. أما تتمة الحكاية فقد استكملَها القاسم: كان درويش، قبل رحيله من إسرائيل، قد طلب من القاسم أن يَبقى على صلة بأمه للعناية بها. فكان أن تبلغَ القاسمَ، في مكاتب الجريدة في حيفا، أن حورية، أم درويش، تطلب منه المجيء على عجل إلى بيتها: انتقلتُ، يومها، على وجه السرعة، فإذا بالوالدة غاضبة، حانقة من تصرفات ابنها محمود الرعناء… بلغ الأمَّ، من إحدى صاحباتها، أن محمودًا مقبلٌ على زواج قريب من… نجاة الصغيرة، السيئة السمعة… لم يكن أمامي (يتابع القاسم)، وأنا ما كنتُ على علم بهذا الخبر أساسًا، سوى التخفيف من صدمتها، فكان أن قلتُ لها: لا، يا عمتي. نجاة الصغيرة ليست سيئة السمعة، وهي ليست مطربة في كباريه… إنها مُنْشِدَة. ارتاحت عمتي حورية لكلامي، وعرفتُ بعد وقت أنها كانت تترك الإذاعة المصرية “شغّالة”، وعندما كانت تستمع إلى أغنية لنجاة، في حضور غيرها، كانت تُنهيهم عن التكلم، صارخة: اسكتوا… اسكتوا.. هادي كنتنا (الكُنَّة) المُنشِدة بتنشد.

يومها، لم نتوقف عن الضحك والتعليق بين خبر وآخر، إلا أن الضحكة الأقوى انطلقت بعدما

سأل درويش القاسم: أقالت أمي فعلًا أن تصرفاتي… رعناء؟

“غراميات” درويش معروفة في بعض أخبارها، ولا سيما غرامه ممن جعل لها اسم: ريتا، التي باتت على كل شفة ولسان مع غناء مارسيل خليفة القصيدة التي حملتْ اسمها. تعرَّف إليها في ريعان شبابها، وهي راقصة في فرقة، في احتفال نظمه حزب “راكاح”، والتي ما لبثنا أن عرفنا اسمها الحقيقي، وصورتها، بعد سنوات وسنوات، وقد باتت تقيم في ألمانيا، في فيلم وثائقي عن درويش.

غراميات عابرة، ،سريعة، أو استدامت لشهور وربما أكثر، وقد عرفتُ بعضها ما لا حاجة لذكره، ومِما يدخل تمامًا في النطاق الحميمي والخاص (حتى بعد وفاته).

لم يكن درويش يحب الكلام عن الزواج، ولا عن الأطفال، على الرغم من أنه ما كان يتأخر، في غير زيارة أو لقاء، عن سؤالي عن ابنتي: هالة، التي عرفَها طفلة تحبو…

سعيتُ، في غير مرة، إلى مفاتحته بالأمر، فكان يتهرب أو يُرفق جوابه بنكتة. لكنه بدَّلَ موقفه، ذات يوم، عندما طَلبَ مني المجيء معه إلى المطبخ، في الجهة الخافية عليَّ في شقته الباريسية (في ساحة “الأمم المتحدة”). هذا لم يحصل في مرة سابقة، كما لو أنه يريد أن يتباسط معي في أمر مفاجئ، ربما في ما يؤلمه أو يزعجه…

بعدما أعدَّ القهوة، انتقلَ معي إلى الشرفة جنب المطبخ، التي تقع في الجهة المقابلة للشرفة التي كنا نجلس فيها تحت أنظار برج إيفل. كان في تصرفه ما هو غير مألوف… ركنتُ إلى الصمت. كنتُ قد انتبهتُ، يومها، إلى غياب زوجته الجديدة. كان حزنٌ شفيف يرشح من عينَيه، ومن كيفية ارتشافه فنجان القهوة. الصمت ثقيل. بادرتُه: أليس من مفاجأة جديدة، اليوم؟ سألني: عمًّ تتحدث؟ فأجبتُه من دون تردد: ألا تذكر أنك، في زيارة سابقة، فاجأتني بزواجك؟

هذا ما حصل فعلًا في تلك الزيارة، إذ انتبهتُ، بمجرد دخولي إلى صالونه المترع بلونه الأبيض، إلى قيام سيدة فارعة الطول، وجميلة للغاية، لاستقبالي. لم أنقطع عن النظر إليها بعد جلوسي: مَن تكون؟ فكان أن بادَرَني: توقف، شربل… إنها زوجتي. لم أصدقْه. أهي مزحة جديدة؟ ثم راح، أمام ابتسامتي غير المبالية بكلامه الأخير، يعرِّفني بها: إنها حياة الهيني… تعمل في اليونسكو، في “الترجمة الفورية”، وهي صديقة صديقك المترجم مصطفى مرجان، المصري…

راح درويش يحادثني من دون أن ينظر إلى وجهي… كانت الجلسة مناسبة لذلك الغروب، الذي كان يتباطأ في النزول علينا. لعله اختار الجلوس في هذه الشرفة غير المشرفة (بعكس الأخرى) إلا على عمارات كالحة اللون، لكي يقوى على البقاء مع نفسه، في جلوسه معي. كان حديثًا متفرقًا، يسألني فيه عن زواجي، عن “غرامياتي”، ليجد في الحديث مناسبة للكلام، فلا يكون اعترافًا أو بوحًا. إلا أن كلامه كان أقل من الإيحاء بالشيء. كما لو أنه يبدي رأيًا في أمر، ولا يعترف بمرارة أو بخيبة، أو بشأن حميمي يخصه ويوجعه في تلك الأيام.

لم يتزوج درويش بعد ذلك، لكنه لم ينقطع عن الغرام.

قلما وجدتُه من دون بدلة – قاتمة اللون، بين رمادية وزرقاء معتمة. وإن ارتدى قميصًا، فهي طويلة الكمين. رسمي، محتشم، من دون ربطة عنق، في غالب الأحوال.

قلما تبينت شعرة بيضاء في شَعره، إذ كان يصبغه من دون توقف…

مع ذلك كانت الفراشات لا تتوانى عن الدوران حول هالته…

كان لحديثه الفَكِه والعذب، ولالتفاتاته اللطيفة إلى المرأة، لهداياه (على ما عرفتُ من حديث رنا قباني عنه)، ما يجذب أكثر من معجبة، أكثر من عشيقة: استقبلتُه في المطار ببيروت، عند حلوله في لبنان بدعوة من جامعتي، وما أن وصلتُ معه، ومع مدير العلاقات العامة في الجامعة إلى فندق “روتانا جوفينور” في الحمراء، حتى وجدتُ معجبة (لم تفارقه عندما كنت ألتقيه في تلك الأيام، بين بيروت والجامعة) تنتظره في بهو الفندق، بينما كانت تستقبلنا باقات زهر حمراء أمام الجناح الذي كان له أن يحلًّ فيه من نجمة غناء مشهورة…

(*) فصل من كتاب: “محمود درويش يتذكر في أوراقي: أكتب لأنني سأعيش” (مؤسسة العويس، دبي، 2019)، نشره المؤلف في صفحته الفايسبوكية

—————————-

محمود درويش: كلما انتهى حُبّ..أدركَ أنه لم يكن حبّاً/ محمد حجيري

ليست هذه المرة الأولى التي تتحول فيها خصوصيات الشاعر الفلسطيني محمود درويش، عنواناً لجدل لا ينتهي في فايسبوك ووسائل الإعلام… بداية من حبه، وهو الفلسطيني الثوري، للفتاة (اليهودية) ريتا، التي تعرَّف إليها في ريعان شبابها، وهي راقصة في فرقة، خلال احتفال نظمه حزب “راكاح” وانفصلا بعد حرب 1967، ثم ما لبثنا أن عرفنا اسمها الحقيقي، وصورتها، بعد سنوات، وقد باتت تقيم في ألمانيا، في فيلم وثائقي عن درويش. إلى زواجه الفاشل من رنا قباني (نجلة صباح قباني شقيق الشاعر نزار قباني)، وقد سردت رنا تفاصيل العلاقة “المراهقة”، من التلاقي في واشنطن في أمسية شعرية، والزواج بطريقة متسرعة وحتى تدخل منظمة التحرير الفلسطينية لحل المشاكل بينهما والطلاق في نهاية المطاف… وكان زواج محمود درويش ورنا قباني، المليء بالهدايا، نموذجاً للزواج الفاشل وأنماط الغيرة والتوتر والقلق… لم يكن درويش، العاشق متعدد الأنوات، “يحب الكلام عن الزواج، ولا عن الأطفال”، بحسب الناقد والشاعر شربل داغر في كتابه “محمود درويش يتذكر في أوراقي: أكتب لأنني سأعيش”. وذات مرة قال درويش: “يقال لي كنت متزوجاً، لكنني لا أتذكر التجربة، لم نصب بأي جراح.. انفصلنا بسلام، ولم أتزوج مرة ثالثة، ولن أتزوج، إنني مدمن على الوحدة.. لم أشأ أبداً أن يكون لي أولاد، وقد أكون خائفًا من المسؤولية”. يعترف درويش بفشله في الحب كثيراً: “أحب أن أقع في الحب، السمكة علامة برجي (الحوت)، عواطفي متقلّبة، حين ينتهي الحب، أدرك أنه لم يكن حباً، الحب لا بد من أن يعاش، لا أن يُتذكر”.

ما يقوله درويش عن نفسه، لا يبتعد عما قاله صديقه سليم بركات عنه في مقاله المثير للجدل “محمود درويش وأنا” وعن هروبه من الأبوة والإبنة… وما قاله بركات بالمختصر قصة “مسلسل تركي فاشل”، او قصة “مسلسل مكسيكي فاشل”. فصاحب القضية، في العالم الآخر، ولا لسان له ليقول فصول الرواية وتفاصيلها، المرأة المعشوقة متوارية، ربما سنسمع الكثير من التكهنات حول هويتها، والحديث عنها الآن يتحول تشهيراً، مع التذكير بأن درويش في حياته الكثير من النساء، بعضهن مُعلن وبعضهن الآخر مجهول…

ومقال بركات، يجعلنا نطرح أسئلة، بغض النظر عن التأويلات التي راجت في فايسبوك، وألقت اللوم على سليم بركات أو استهجنت تصرفات محمود درويش… هل “خان” سليم بركات ثقة صديقه الشاعر فعلاً، أم كان وفياً لقضية إنسانية؟ لماذا يبوح شاعر بسرّ عن قضية عمرها عقود؟ ولماذا لم تلجأ الأم (عشيقة الشاعر) المتزوجة، لإعلان والد ابنتها الحقيقي؟ لماذا استغراب علاقة درويش بامرأة متزوجة، وهو المعروف بعلاقاته النسائية، حتى إنه حين زار بيروت ذات مرة طلب مقابلة هيفا وهبي وهي لم تقبل الطلب، ولم تكتشف من هو إلا بعد وفاته؟ هل كان سليم بركات يهدف للإثارة في مقاله، وهل الإثارة تصلح “مدخلاً للكتابة عن محمود درويش او تذكّره”؟ كما يقول الكاتب الفلسطيني حسن خضر. وهل الأبناء هم أولاد البيولوجيا أم أبناء مَن يربيهم؟ هل نقول مثل جبران خليل جبران “أولادكم أبناء الحياة”، والقضية لا تتعلق باعتراف من هنا أو بمقالة من هناك؟ أحسب أن الأبوة لا تنتج من اعتراف امرأة بأن ليلة الجنس أنتجت بنتاً، وهنا تكمن المعضلة. وهنا يكون السؤال أيضاً، لماذا اتصلت المرأة المتزوجة بمحمود درويش لتخبره عن ابنتها منه؟ هل كانت القضية الأبنة؟ ام أن المرأة أحبته وأرادت خلاصها، أرادت من الابنة بوابة لعلاقة مستدامة؟ هل كان درويش ذكورياً، أم فسرت علاقته بامرأة متزوجة بطريقة ذكورية؟

قصة محمود درويش مع النساء تحتاج سرديات مطولة، بغض النظر عن رمزيته الثورية وعلاقته بفلسطين، وشِعره العظيم. في النهاية محمود درويش من لحم ودم، يعشق ويحب ويخطئ، ويصيب، مثله مثل غسان كنفاني وبابلو ونيرودا وبابلو بيكاسو، مع التذكير أن الأخيرين كُتبت سيرهم مع النساء، وكانت صاخبة وأعقد بكثير من قصص درويش التي تحتاج مَن يكتبها. وسبق أن كتبتْ رنا قباني خطوطاً عريضة عن العلاقة الزوجية التي ربطتها بدرويش، وهي مثيرة للجدل، ربما أكثر من قصة البنت التي تحدث عنها سليم بركات.

لا يختلف وقع خصوصيات محمود درويش وعلاقاته بالنساء، عن وقع خصوصيات الكثير من الشعراء، ومنهم أنسي الحاج، خليل حاوي، سعيد عقل، بدر شاكر السياب وتوفيق صايغ وغيرهم. هو الالتباس بين اللغة وهالة الشاعر وحياة الواقع. أحلام الشاعر وتوهماته، دائماً تصطدم بالواقع، والشاعر دائماً ما يهرب من الواقع. في المقابل، قد يرى بعض المجتمع الشعراء أنصاف آلهة، أو ترى العاشقات في الشاعر “ما فوق إنسان”، كائناً مجبولاً بالخيال والكلام المعسول الناتج عن قاموس العشق ومصطلحات مجنون ليلى، وتأتي الصدمة بعد العيش تحت سقف واحد.

المدن

—————————–

حين يفشي سليم بركات “سرّ أبوة” محمود درويش

فجّر الشاعر الكردي السوري، سليم بركات، جدلاً عبر وسائل التواصل الاجتماعي، بسبب مقالة بعنوان “محمود درويش وأنا” في “القدس العربي”، أورد فيها أن صديقه الشاعر محمود درويش كان قد أسرّ في أذنه بأنه أبٌ وله ابنة اختار عدم التعرف عليها. وهي معلومة صادمة لقراء درويش الذين يعتبرونه أيقونة ويرفضون خدش صورته. كثيرون قالوا إن ما فعله سليم بركات “خيانة” للشاعر، وبعضهم قال إن ما باح به بركات هو أمانة للبنت ويصب في خانة الإنسانية… وكثيرون سألوا لماذا الآن؟ وهل يحق لشاعر أن يبوح بأسرار شاعر آخر أصبح تحت التراب؟ ومن ينطق بلسان محمود درويش ليؤكد أو ينفي الخبر؟! هنا أبرز التعليقات في الفايسبوك عن “البوح الصادم”.

————————-

ريم غنايم

محمود لم يسأل المرأةَ، حين انحسر اعترافُها، وانحسرتْ مبتعدةً في العلاقة العابرةِ، عن ابنته. أبوَّتُه ظلَّتْ تبليغاً موجَزاً من صوتٍ في الهاتف عن ابنةٍ لم تستطع العبورَ من صوتِ أمها إلى سمع أبيها. لذا محمود بلا أبوَّةٍ، كأنَّ الأمرَ كلَّه اعترافٌ صغيرٌ لصديقِ سنينَ طويلةٍ من عمره، بلا متْنٍ من توضيح في اللغة، أو هوامشَ إضافاتٍ، أو حواشي متجانسةٍ. أنا، نفْسِي، تلقَّفتُ اعترافَه بلا فضولٍ: لكانَ أنبَأَني من تكون المرأةُ لو كنتُ أعرفها. وها هو الفضولُ، خاملاً، يعبر خاطري بعد اثنتين وعشرين سنة. لابأس. أنا أُلفِّقُ لتلك الأبوَّةِ إقامةً في الكلمات، الآن، مُذْ كُنا إقامةً في الكلماتِ مُلفَّقةً بسطوةِ الشعر وبطشِهِ. لكنه التلفيقُ الأنقى مُذْ كانت الأمكنةُ ناكثةً بوعودِها ـ وعودِ الأمكنة.

من أجمل الأسرار التي يمكن أن تفشيها قامة عن قامة. استمتعتُ وأنا أقرأ المقالة، واحترمت الثلاثة: سليم ودرويش والمرأة المجهولة. نسينا الخطيئة وأقمنا في أبوّة درويش داخل الكلمات. ولم يتغيّر شيء.

————————-

نوري الجراح

لماذا يا سليم بركات، يا صديقي الذي أحب؟.. ما حاجتك إلى حكاية كهذه؟ لطالما كنت احب صداقتك لمحمود درويش، وكنت في نظري نداً بديعاً في جواره، ولم اعتبرك يوما ابنا له، كما صرت تقدم نفسك! استودعك وهو حي سراً، فلماذا تفشي سر الصديق، والصديق غائب وليس له لسان؟

————————-

محمد العباس

من أراد أن يفهم وقائع مقالة سليم بركات “محمود درويش وأنا” فليقرأ رواية “الخلود” لميلان كونديرا. علاقة غوته مع بيتينا تحديدًا. أجزم أنه سيعي لماذا أسرّ درويش لصديقه الحميم بسر أبوته لبنت من امرأة متزوجة، ولماذا كتب بركات هذا المقال المرعب، وبالتأكيد سيتعرف على عبقرية كونديرا…

————————-

فادي سعد

لغة سليم بركات، في مرحلة زمنية من المراحل، كانت بطريقة ما مدرسة. هكذا كنتُ شخصياً أنظر إليها. مدرسة يمكن للمرء أن يعشقها، أن يكرهها، أن يتفاعل معها، أن يتعلّم منها، أن يحاول تفكيكها، الخ…

مع جريان الزمن وتغيّر المراحل والكتابة، تحوّلتْ المدرسة إلى ما يشبه التحفة التاريخية. غادرها جميع طلاّبها إلّا سليم بركات نفسه، الأستاذ الأول والأخير فيها. ظلّ مصرّاً على الإقامة في المدرسة المهجورة لوحده، كأن المدرسة تحوّلت داخله إلى هوس. هوس بدا كأن بركات سجين فيه. ربّما لا يستطيع الفكاك منه حتى لو أراد. هوس فقد كل بريقه وجماله.

لذلك قراءة بركات أصبحتْ مؤلمة. ليست صعبة فقط لكن مؤلمة. ثم أن مقاله الأخير عن درويش المنشور في “القدس العربي” يثير محتواه الكثير من التساؤلات. لماذا قرّر أن يفشي سرّ أبوة درويش لبنت من امرأة متزوجة؟ هل هذا الكلام صحيح؟ وهل يصحّ أخلاقياً إفشاء أسرار الأصدقاء بعد موتهم؟ ثم لماذا قرّر بركات نشر مقاله الآن؟ بعد ثماني سنوات من كتابته العام 2012؟

————————-

سليم البيك

مقالة سليم بركات عن محمود درويش يجب أن تُوضع في المعاجم كتعريف لمفردة التسلّق.

————————-

رجاء غانم

إن صح ما صرّح به سليم بركات عن الشاعر محمود درويش فسيكون درويش رجلًا نذلًا بامتياز.. شاعر يعيش في عليائه ولا يرغب بالابوّة ولكنه لا يمانع في امتلاك كل جسد لامرأة عابرة شرط أن تتحمل وحدها تبعات هذه العلاقة. ذكورية وتعالٍ مقزّز من شاعر أسكرنا بعشرات القصائد عن الحب والمرأة وانتظرها. اما عن إفشاء سر بهذا الحجم لشخص قد صار تحت التراب وطرفين افترض أنهما ما زالا على قيد الحياة فتلك نذالة من نوع ثانٍ ولا تقل حقارة وخسة عن الأولى.

————————-

فخري صالح

ما كتبه سليم بركات عن علاقته بمحمود درويش صادمٌ ومريب، ويشير، في الوقت الذي يدعي فيه سليم حبَّ درويش وبنوتَه له، إلى رغبة في إلحاق الأذى بالشاعر الراحل، وغيرة مستحكمة وضغينة مضمرة، وادعاء بأهمية شعرية توازي أهمية درويش، في مقالة فيها الكثير من البلاغة الممجوجة والتقعر والإغراب اللغوي، مما يثقل على النفس ويشعر القارئ بالملل والرغبة في الترك وعدم المتابعة. وما يدعيه بشأن السر، الذي استودعه إياه درويش قبل اثنين وعشرين عاماً، بأن له ابنة غير شرعية من علاقة عابرة مع امرأة متزوجة، سقطة أخلاقية غير مغتفرة وإثارة تافهة لا تليق بشاعر يدعي أنه كبير، والأفظع من ذلك أنه يعترف أن درويش عامله كابنٍ، بل ندٍّ، له. فأن يذيع الصديق سر صديقه، الذي رحل عن عالمنا، وليس في مقدوره أن يرد أو يصحح أو ينكر، يدل على انحدار القائل إلى حضيض أخلاقي تأباه الصداقة الرفيعة والمناقبية الأخلاقية. لا ندري صحة ما رواه سليم بركات عن درويش لأن الرجل لم يعد بيننا ليعترف أو ينكر صحة ما رواه لـ”صديقه سليم بركات!”. لكن ما ندريه أن هذه المقالة، التي يدعي بركات أنه كتبها العام 2012، ثم نشرها العام 2020، متأخراً كل هذه السنوات(!)، سقطةٌ كنا نربأ بكاتب وشاعر نحبه ونقدّره، أن ينجرَّ إليها.

————————-

ندى منزلجي

رأي شخصي.. او لا بأس في تسميته اعترافاً..

الحق، أنني تقريبا لا أفهم شيئا من كتابات سليم بركات.. ليس انتقادا ولا انتقاصا، لكنه واقع الأمر.

أشعر بالاختناق من لغته. وبالطبع لا استمتع بها، ولا أستطيع متابعة القراءة. يقول في مقال له في القدس العربي، انه بمثابة الابن الشعري لمحمود درويش.. لا أستطيع نهائيا ان اجد في لغته وأسلوبه برهانا على ذلك… هذا، عدا كشفه سرا خصه به محمود درويش، ولا اعرف لماذا اختار ان يكشف سر صاحبه، خصوصا انه لم يعد قادرا على الرد.

قد أكون البطة السوداء من حيث الذائقة.. او قد يكون فهمي محدودا.. ما باليد حيلة.

————————-

توفيق العيسى

“ليس للكردي إلا الريح”

حين قالها درويش، لم نسأله عن أي كردي تتحدث، وما صفاته أو اسمه، قال كردي وأكمل قصيدته، وقلنا وراءه كردي وتقاسمنا الريح لشعبين وقضيتين وحقين في تقرير المصير.

ما همنا إن كان الكردي شاعراً أو عاملاً، مزارعاً أو رفيقاً مسلحاً في جبال كردستان، قال كردي وأكمل قصيدته، وأكملنا هتافنا في مسيرة.

ملاحظة: لم أفهم ما يريده سليم بركات من نصه “محمود درويش وأنا” اذا كان يريد أن يذكرنا بصداقته لدرويش وشهادة درويش في شعره فكان يكفي سطر واحد لذكر المسألتين، اما عن موضوع أنه يلمح لأبوة درويش لابنة لم يعترف فيها، فأرى ان يغير عنوان النص ليجعله “بلاغ الى النائب العام” أو يقوم برفع دعوى اثبات نسب، أما ان يعتبر ما كتبه كتابة فهذه مهزلة.

————————-

ابراهيم المصري

ليس الأمر فقط، أن سليم بركات كتبَ مقالاً باستعفائه المعتاد على اللغة و”فشخها” كما يقول المصريون، أو كشفَ سراً عن أبوة محمود درويش لطفلة لم يعترف بها، وإنما الأمر كذلك فحص ونقد وتقييم إنتاج هؤلاء الذين يحتلون الواجهة من أقصاها إلى أقصاها، كما لو كانوا معجزات ميتة تأبى الانصراف، إننا لا نقيم حواراً عادلاً مع هؤلاء الكتاب لنا ولهم، وإنما يسد تصنيمهم الأفق، كما لو كانوا الكلمة الأخيرة في الإبداع العربي. وثمة شجاعة نقدية غائبة، في زيف واعتلال الدراسات النقدية التي تناولت ظاهرة الحداثة العربية ككل، سواء في الشعر أو الفكر، أو هو الصمت أمام الأصنام التي لا يجرؤ أحد على تحطيمها، أو على الأقل وضعها تماماً في سياقها الإبداعي والإنساني والزمني.

————————-

يزن الحاج

بمعزل عن الفذلكة اللغويّة الممجوجة المعهودة، لم أفهم سبب بوح سليم بركات (إن صدق) بسرٍّ قاله له محمود درويش العام 1990 عن وجود ابنة لدرويش من امرأة متزوجة. ما معنى السر إنْ كنّا سنبوح به بعد رحيل أصحابه؟ تصيُّد؟ محض بلاهة؟

إن كانت الحادثة صحيحة، فهذا أمر يخص ثلاثة غائبين: درويش والأم والبنت؛ وهو لا يخصّنا قطعًا، ولا يخصّ سليم بركات برغم “اللوعة كالرياضيّات، والحنين كالهندسة” يا هندسة!

————————-

سمير اليوسف

قرأت في مكان ما أن الشاعر السوري سليم بركات أفشى سرَّ محمود درويش بأنه، أي درويش، عنده ابنة.

طبعاً كل من التقى ببركات هذا يعرف بأن الرجل مجرد انسان بذيء ابن شارع لا يؤتمن على سرّ أو أي شيء ذي قيمة.

لكن بعيداً عن الشاعر السوري! ماذا في الأمر أصلاً؟

ليس سرّاً بأن كان لدرويش في أي وقت من الأوقات حبيبة أو صديقة أو عشيقة. ولا بد أن إحداهن لم تلتزم بتناول حبوب منع الحمل، ومن ثم رفضت أن تجهض، على الأرجح حباً منها بأن تكون عندها ابنة من محود درويش.

فلماذا، اذا، ابقى محمود درويش الأمر سرّاً؟

على الأرجح لانه لم يشأ أن يخرب بيت المرأة التي أحبّ. أمر حدث وكثيراً ما يحدث.

فما الذي يعنيه كل ذلك؟

لا شيء! محمود درويش سيبقى أهم شاعر عربي في النصف الثاني من القرن العشرين والأهم من ذلك سنبقى نحبه كما أحببناه دائماً.

————————-

أنور حامد

(في هجاء “الأخلاق” ومديح “البوهيمية”)

المحاكمات الأخلاقية للمبدعين غريبة، لكن طبعاً هذه وجهة نظر تخصني، وأحترم وجهات النظر الأخرى، بس بحب أنكشهم معلش. ربما الخلل عندي في افتراض أن النخبة الثقافية تصوغ “قوانينها الأخلاقية الخاصة” ولا تروج الاعتبارات السائدة. الموضوع يتعلق بـ”سر خطير” كشفه الكاتب سليم بركات عن محمود درويش، أن له ابنة سرية، فاستحقا استهجانات كثيرة في هذا الفضاء، الكاشف والمكشوف. الجميع حاكَم الإثنين بإخلاقيات المجتمع الفاضل الخلوق المتدين بطبعه. في رأيي أن الشاعر كيان بوهيمي، لا يأتمر بالضرورة بأمر الاعتبارات الاجتماعية السائدة. وأنا لا أعتقد أن المرأة العشيقة الأم سعيدة بهذا الغضب، ربما وعلى الأغلب كانت متواطئة في الأمر وسعيدة به، إذ لا أظن أن الشاعر أنجب منها طفلة بالخديعة وهرب بعد أن وعدها بالزواج. ثارت ضجة أخلاقية مشابهة حين نشرت غادة السمان رسائل غسان كنفاني، استهدفت كليهما. تحضرني حالة شاعر مجري عظيم (جورج فالدي) عشق انرأة تصغره بخمسين عاما وعشقته وهي في الثلاثين. وقررا أن يساهما سويا في إنشاء مكتبة عامة في قرية الفتاة، والمشروع مكلف بينما هما فقيران كما يليق بالشعراء. ماذا فعلا ؟ اتفقا مع مجلة تنشر صورا فنية عارية (أكرر: صورا فنية، لا صورا جنسية) ووقفا عاريين أمام الكاميرا في أوضاع جمالية، وتقاضيا مبلغا محترما مقابل مشروع فني مولا منه مشروع المكتبة. لم يتعرضا للرجم، لا لأن المحتمع الأوروبي الشرقي متحرر، وهو كذلك، لكن لأن لا أحد قيم اللفتة تقييما أخلاقيا واعتبر المشروع “تعرياً جنسياً”…

بالمناسبة: قبل شهور قليلة دخلت في نقاش مع شاعرة عربية كانت تهجو بوريس حونسون لأنه تزوج امرأة تصغره بالسن بعشرين عاما أو يزيد، وتعتبره وغداً. بالمناسبة لست معجباً ببوريس السياسي، لكن حياته الشخصية تعجبني من دون أي تحفظ… وكذلك الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وزوجته التي تكبره بسنين كثيرة…

ودمتم.

————————-

أحمد عبد اللطيف

لماذا انتفض العالم العربي من إفشاء سليم بركات لسر محمود درويش؟

لأننا لا نحب أن “نشوه” “الرموز”، لأن شاعر القضية لا يجب أن يلوث، وقامة الشاعر لا يجب أن ينال منها. كيف ينجب درويش سراً؟ كيف ينسب ابنته لرجل آخر؟ المقدس لا يجب ان تدنسه هذه الأفعال، الحل إذن حملة على سليم بركات واتهامه بالنفسنة والخيانة وطعن الموتى.

شخصياً، أحب محمود درويش كواحد من أكبر شعراء العربية، لكن حبي للشاعر لا يجعلني أفترض ملائكيته، درويش إنسان له حياته وأخطاؤه، يمكن أن نحب شعره ونتفهم أخطاءه أو نستنكفها، يمكن أن ننقده، كل ذلك على أرضية بشريته.

منذ فترة كتبت عن “غياب” السيرة الذاتية عربياً، ولعل ذلك أحد أسبابها: أننا نؤله الأفراد، نقدسهم، هذا التقديس يمنعهم من الاعتراف والنظر علنا في حياتهم، ويحرمنا من التعلم من تجاربهم. الكاتب، سرداً وشعراً، بشر يخطئ، مثلنا جميعاً، وربما لو كنا في سياق اخر لأعترف درويش بأبوته.

أصدق سليم بركات، الشاعر الكبير قبل أي شيء، ولا أظنه يفتري على درويش، ولا أرى أ، كشف “السر” يستدعي كل الحملة ضده، ربما الرجل يخلص ضميره من عبء، وربما يرمي بحجر الحقيقة في مياه الأكاذيب.

————————-

المنهجُ السريُّ

… في قراءة ما لم يُقرأ بعد..

أغلب الكتّاب، وأنا منهم، بل التونسيين تحديدا، وأنا منهم تقريبا، لم يقرؤوا سليم بركات قراءةً جديرةً بالكتب التي كتبَ ، وإن كانوا يستعرضونها وصورَه على سبيل الحِلية لا أكثر.

وأغلب أولئك، اكتشفوا فجأةً أن بركات نذلٌ، خان الصّديق الذي ائتمنه على سرٍّ، سرٍّ لم يعد كذلك طالما أنه قيلَ لصديقٍ واحد على الاكثر.

(ولعلّ ذا- بالقياس ذاك – ما يجعل درويش شاعرا أقلّ نذالةً لا غير!)

وأن يظهر فجأةً أن الكتاب أولئك، “على خلُقٍ كريمٍ” أمرٌ لا يعنيني الآن.

ما يفسد أخلاقي،حقّا، هواكتشافهم واكتشافهنّ الخارق أن “بركات كاتبٌ متقعّر اللغة، متكلّف، ثرثارٌ، مكثارٌ، مهوسٌ باصطناع عوالمَ خرافيّة منغلقة على نفسٍ مغلقة”.. إلخ.. إلخ..

لهؤلاء، أسال باختصارِ لا تكلّفَ ولا تقعّرَ فيه:

أيّ “سرٍّ منهجيّ” جعلكم فجاةٌ نقّادا لما لم تستطيعوا أن تقرؤوا بعد؟

هل هو “المنهجُ السريُّ” أيضا، ومرّة أخرى؟

ولا شكرَ.

إن كنت نذلاً يوما ما.

ش. س

Youssef Khdimallah

.

————————-

ماهر الجنيدي

حسناً.. الضجيج قائم، ويبدو أن الأوان قد آن، وسأكشف المستور:

محمود درويش له عدة أبناء وبنات.. ليس واحدةً فحسب.. ولم يُخبر محمود درويش سليم بركات إلا بما أراد أن ينكشف يوماً.

ما دامت السيرة قد انفتحت على صفحات الجرائد، وطالما أن الغسيل كله بات منشوراً على مناشر التواصل الاجتماعي، يبتّ فيه من هبّ ودبّ، فلا بد لي أن أنشر ما عرفته شخصياً.

ينبغي في البداية أن أشير من غير تردد:

أحترم كثيراً مروءة ابن الريح، شاعرنا الكردي الجميل، ونبالته التي دفعته إلى أن يؤجّل نشر نصّه الفجائعي ثماني سنوات كاملة، احتراماً لصديقه المختلف.. مروءة لم نعهدها لدى بعض كتابنا وفلاسفتنا الذين ما فتئوا يسارعون إلى نهش لحم زملائهم الموتى نيئاً، حتى قبل أن تُوارى جثامينهم الثرى..

لعلّه – سليم بركات – رأى بعد ثماني سنوات أن يقتل هذا القديس الذي لم يعجب درويش يوماً، أو ذاك الإله الذي لم يؤمن به درويش يوماً، وأن يرقى به، ويرسّمه إنساناً ذا خطيئة، ينتظر كل مدّعٍ يود أن يرجمه بحجر..

ولكن، ماذا لو علم سليم بركات أن لدرويش أكثر من بنت، بل وأكثر من ولد؟

التقيت بدرويش أربع مرات على الأقل.. اثنتان منها في الإمارات.. واحدة في الشارقة والأخرى في دبي.

جنسياً، يذكّرني محمود درويش بالصورة المقابلة لشخص نكرة يعبق بالذكورة اسمه أبو رفّول.

أبو رفول وسيم. لم ينجب يوماً، ولم يتسنّ له أن ينجب. لكنّه كان يصرّ، بعد كل زيارة طبيب عقم وأمراض تناسلية، أن يجلس ويقول لأصدقائه بكل ثقة: لا أفهم كيف يجرؤ هذا الطبيب أيضاً على الزعم بأنني لا أنجب؟ أراهن. يكفي أن تمرّ امرأة بجواري لتحبل. من رائحتي، فقط!

درويش، الوسيم كذلك، كان يعبق بالذكورة أيضاً.. بيد أنّه كان يحبّل النساء فعلاً، من دون أن يفاخر بذلك في مجالسه.

كان يمكنه أن يتحدث عن فحولاته، أو أن يفبركها، وأن يصدقه الجميع، لكنه لم يفعل، رغم أن لديه أكثر من ولد وأكثر من بنت، من علاقات خارج إطار زوجيته.

أصحيح أنّه لم تحبل امرأة يوماً من مجرّد عبق محمود درويش؟..  تعالوا لنتكاشف:

كم فارس منّا- نحن الذكور- تقمّص محمود درويش وقرأ الأشعار على مسامع فرسه قبل أن يباشرها؟

[وكم  فرسٍ منّا- نحن الإناث- أغمضت عينيها بعد أن أمطرها صديقها بأشعار درويش، فاستهامت أنه فارسها وهو من يباشرها؟]

وقائع، ثمارُها جميعاً أبناءٌ شرعيون لمحمود درويش المغسول بالذنوب.. الرجل الذي آن الأوان لأن ننعيه قديساً أو إلهاً.. ونقرأه إنساناً ذا خطيئة.

ليس لمحمود درويش ابنة واحدة فقط خارج إطار الزوجية.. ذكورته الطافحة شعراً نثرت له عدة أبناء وعدة بنات.

هل أجمل من الخطيئة؟

————————-

خليل عبد القادر

خالو:

موعيب عليك تتحدث عن سليم بركات بهذه الفجاجة وأنت القائل في حوار لك مع الواشنطن بوست ( أنك تحتاج مخيلة تتدرب عليها لمائة عام لتكتب شبيه جملة من كتاباته ويقيناَ أنني لن أفلح) فأزعجت بعض الأصدقاء من المثقفين الكُرد والعرب من مريدين سليم بركات!

– يول ياحمار ابن 16 حمار، محمد رسول الله لم يسلم منّا نحن السوريين حينما لا نقوى على فك طلاسم لغته فنلجأ إلى القرطبي وابن كثير وابن مسعود أو الشوكاني وإذا استصعب الأمر كثيراَ نهاتف ابن تيميه كرّم الله وجهك ووجهه كي نحمل نصوص الوحي إلى بيادر الحقيقة، وأنا في قراءتي لنصه عن محمود دوريش اختلط علي الحابل بالنابل واستعنت حتّى بالغوغل ليرفع الغشاوة عن المفردة في كلماته المرصوفة ببدع اللغة وهي تميل شوقاَ لرصد المعنى  ولم أفلح، تحدثت عن نص بعينه ولم  أشير إلى سيرته الأدبيّة يا أحمق

————————-

حسان عزت

عابرون في كلام عابر

3_ ضجة صفراء وخائبة حول مقال الشاعر سليم بركات الذي يكشف فيه سرا عابرا من اسرار الشاعر محمود درويش ..

وأسال هنا أي إبداع وأي خيانة ..وأي جريمة

تلقى على من كشف جملة من صاحبه

امام حرب إبادة شعوب وامة ..

كل الخيانة تمارس بحق الامة ، وذبح الأوطان لم تجعل هذه القطعان من المثقفين ومدعي الثقافة والحرية والاخلاق يثورون ..وقد تنكشفت اقنعة كبار وكانوا يحسبون كبارا

وهم يخونون ويبخسون حق شعب في الحرية والحياة ويذبح وشرد ويعتقل منه الملايين امام مسمع ومراى العالم.

وهنا يتشفون  بشاعر كشف جملة أو سرّا لصديقه محمود درويش

فلا درويش نزل عن مكانته ولا سليم بركات تغيّر شعره وشخصيته وصداقته من درويش ولا القصيدة لم تعد قصيدة ..

واسأل هنا ..ناذا قدم وآخر اولاد المتنبي لمكانته الشعرية والادبية ..

وماذا حجب عن المعري ومكانته الانسانية والفلسفية العظيمة وهو اتخذ موقفا عجبا

ان لايجني على ولد كما فعل به أبوه :

هذا جناه أبي عليّ

وما جنيت على أحد

إنّ كل هذا الهراء والإفك والبهتان والعفن الفاجر هو هو داء الامة ..ويقولون ابداع ويقولون اخلاق ..ويقولون كلمة.. ومواقف وحرية

ألم يتهموا طه حسين بذلك وجبران ..وحتى درويش ..ألم يتهموا نزار قباني ..ومحمد شحرور وصادق العظم .

وغيرهم ..وغيرهم ..

قطعان من الكتبة والسطحيين والمقولبين واللاطين وراء أخلاق لاتساوي عندهم بصلة.. لكنه الباطل ، والصنمية والغوغاء ..والمرض الذي لاشفاء منه ..

يقرؤون يحللون يبدعون يكتبون ..باطل الاباطيل

باطل الأباطيل

وليس سوى الهرب من مواجهة

إبادة الأوطان ومن يقولون أضغاثا وإبّالا ..

مسألة أخيرة لابد من جلاءها هنا وهي أن العلاقة بين شاعرين كبيرين درويش وبركات كانت معايشة يومية ومشاركة في مشروع تحرر وطني عظيم ومواجهة للخيانات كلها والموت هي اكبر من كل هذا الخوض في جملة عابرة قالها محمود درويش امام الشاعر سليم بركات وكشف فيها وأين في بيت سليم بركات في قبرص وزوجه حامل بابنه

ان لها ابنة من امرإة نام معها ، ولم يعنه يوما ان يتعرف على ابنته ..ليس لانها من علتقة عابرة ..بل لان انجاب الطفل مسؤولية وارتباط وتضحية بكل شيء ومحمود درويش لايقدر على ذلك انسانيا وتفرغا ..

ويمكن هنا لاي مبدع عظيم ان يقول ارادت امراة ان تحمل مني ولدا ورفضت مع اغرائها بآن لاترتبط وان تقدم الملايين من اجل ذلك ..

لماذا ..لإن نطفتي غالية وتعدل الكون وأنا لا ارميها سفاحا ولا بيعا ولا زلفى ..

وأذا اعلن بركات اعتزازه بأبوته والتزامه بأسرة ..فكي يقول : الاسرة وطني المعادل الذي حرمت منه وهو سورية التي حرمتني مواطنتها وارادتني أكون مجند قتل فيها فرفضت

وتلك أعظم المسؤولية والموقف

———————-

فيدال سبيتي

حردت لوركا أختي الشاعرة والمثقفة، حردا كبيرا لأنها لم تفهم كلمة من مقالة سليم بركات عن محمود درويش. وأعتقدت أن السبب حملها وأنجابها وابتعادها عن الأجواء الثقافية 😄. فخفّفتُ عنها وزرها، وقلت لها أن سليم بركات يكتب لنفسه فقط كي لا يفهم أحد ما يقصده. وأن المشكلة في لغته وليست في قدرتها على الفهم، واتفقنا كلانا بعد نقاش قصير استمعت اليه ابنتها غالية مستهجنة، (واضح في الصورة)😄😄 أن المقالة “كان يمكن تلافيها”، بل هي لزوم ما لا يلزم، وبلا اي قيمة نقدي… عرض المزيد

——————–

محمد زادا

رأي شخصي

حول مقال سليم بركات

لن اتدخل في مضمون القصة  التي واجهت نقدآ لاذعآ فهذا اعتبره شأن آخر ويحدث كثيرآ بين الاصدقاء بدوافع كثيرة وأرى أن دافع سليم كان فيه نوع من الإخلاص لصديق قديم حيث اظهر لنا عذابات تلك الأبوة وتضحية محمود درويش وبهذا تضاف صفة أخرى من الصفات الحميدة لشاعر القضية وهي إنسانيته العظيمة في الحفاظ على شرف تلك المرأة الشرقية والتضحية بأبوته.

امّا المقال من الناحية الفنية والذي يعود ل 2012 فهو عال المستوى لغويآ وفيه تكثيف جميل وغامض وغريب بجديده في عالم النثر والمقال بعيدآ عن الشعر والرواية.

ولو أراد سليم أن يكتب هذه القصة في قالب شعري او روائي لما كلّفه الأمر أكثر من فنجان قهوة فهو يجيد ويحترف ادوات الشعر والرواية ولا ننسى بأنه  هو المعلّم اللغوي الذي لا يتكرر .

———————

فخري رطروط

هناك من أخذ النقاش حول درويش وبركات إلى زوايا عنصرية، وهذه حماقة، لم ندافع عند درويش لأنه فلسطيني

وشاعر مقاومة، ومن بتابعني يعرف أنني أكثر من جلد درويش وأرامله، لا أقدس احداً، لم نهاجم بركات لأنه كردي

وليكن واضحاً بأن بركات يظل كاتبا كبيرا، وكلنا قرأنا له وتأثرنا بقاموسه اللغوي، وانا واحد منهم.

أيضا يلاحظ الجميع بأن هناك حملة شرسة لشيطنة الفلسطينيين في كل مكان، وجاءت هذه المقالة في وقت حرج جدا، تجعلك تشك في كل شيء،

أيضا هناك عنصرية طائفية بغيضة لدى الكثيرين من جيل الشباب، والذين لم يقراوا لا درويش ولا بركات، فقط يكرهون درويش لأنه فلسطيني.

الكثيرون أيضا يكرهون درويش لأنه كان جاذب للنساء

ولديه كاريزما، ولديه معجبات، هذا لوحده كفيل بشعور الشعراء الفحول المقاطيع بالغيض والغيرة.

حتى قي خصومتك عليك أن تكون شريفا

————————-

مصطفى والي

مشكلة النص ” المقال” الذي كتبه سليم بركات، واتى به على اخبارنا ان درويش أسر له أبوته لبنت من أمراة متزوجة، اي انها عشقت درويش، او اقامت معه علاقة عابرة، لاتمس بتقديري الجانب القيمي الأخلاقي لدرويش، فالحياة فيها الكثير من هذا النمط من العلاقات، وتبقى في حالة السر.

برايي ان السؤال الواجب البحث عن جواب له من النقاد- الكتاب’  هو: ماهي القيمة الفنية الادبية والابداعية لما كتبه سليم عن درويش؟ واقتحامه سرا ائتمنه عليه صاحبه!

 تتصل من زاوية ما قصة بركات مع درويش، بقصة غادة السمان مع غسان كنفاني، أما الانفصال الحاسم بين القصتين، ان  اوراق كتبت بخط غسان- رسائل عاشق- وقامت غادة بنشرها، وكان استياء النقاد والكتاب والعدد الاكبر من المثقفين، من غادة لأنها كشفت عن تلك الرسائل، وهي بفعلتها تلك هشمت الصورة المالوفة لغسان بين الناس ، وصنعت فضيحة له ولاسرته .و اعلنت غادة ان اتفاقا بين الطرفين ،على حق ،او واجب، نشر الرسائل بعد غياب احد الطرفين عن الحياة.

ويضاف ان الرسائل كانت تحمل معنى ادبي وانساني، تقوم جماليته على تعبيره عن العشق عندما يقع بين امراة اديبة وكاتبة، ورجل كاتب واديب وسياسي.

سليم بركات مافعله هو افشاء سر، وربما يكون مزعوما، عن لحظة من حياة درويش خاصة جدا.

ومن يعثر على قيمة ادبية جمالية  في افشاء بركات لهذا السر فليطلعنا على مالم نستطع رؤيته او التواصل معه او الاحساس به.

——————————

عباس بيضون

من وراء هذا العجيج الصاخب من الأزمات والمشاكل، تردنا مقالة سليم بركات عن صديقه محمود درويش الى زمن بات فجأة ،او  كاد،ذهبيا.كما ان الضجة التي ثارت حوله تكاد تنتمي الى زمن آخر.السر الذي باح به بركات والذي يقول ان لدرويش ابنة غير شرعيًة لم يستفز الا الذين وجدوا فيه فقط زنا او ما يشبهه.لم يجدوا فيه كما لاحظت تنكرا للأبوًة ولم يأخذوا هذا عليه.لا ارى فيما رواه بركات سوى مدخل الى سيرة شاعر  والى حياته الشخصية.بل هو مدخل الى حياة شخصية ،اظن ان الجميع ،ما عدانا، اشتغلوا عليها فيما يتعلق بمشاهير في الفكر والفن.ما بدأه بركات يحعلنا نطالب بإتمامه والسير فيه  ليس فقط بخصوص درويش ولكن بخصوص آخرين في حاضرنا وماضينا.اقول ماضينا وأعني ذلك.تماما

————————–

محمود قرني

لا أظن أن من هاجموا الشاعر سليم بركات بسبب اعترافاته المتأخرة عن الحياة السرية لمحمود درويش ينطلقون من خلفية محافظة تستهف إخفاء المخازي وتعظيم فكرة القيمة التطهرية . فبعض من هاجم بركات يقع في صلب التيارات الطليعية في الكتابة والثقافة . ولم أجد نفسي معنيا ، بأي حال ، بأن درويش له ابنة غير شرعية من عدمه ، فهذا شأن يخصه وحده . من هنا لم يكن لمثل تلك الاعترافات ثمة قيمة حتى لو كانت صحيحة . وقد حافظت مجتمعات كبرى غارقة في منظومات حقوقية وحرياتية متقدمة ومضيئة على سمعة رموزها من السقوط . وأذكر هنا ما أشار إليه الدكتور محمد عناني في ترجمته لسونيتات شكسبيير عندما تناول قضية من هذا النوع . فقد أشار إلى أن انجلترا ظلت حتى العام 1967 تمنع بنص القانون التناول العلني لقضية المثلية الجنسية ، وقد أوقفت عددا لا بأس به من الكتاب الذين اتهموا شكسبير بتلك التهمة رغم صحتها ، لأنهم كانوا يعتبرونه واحدا من زوايا التأسيس الأول لعصر التنوير الأوروبي ، رغم وضوح الميول الشاذة في كتاباته ، إذ تم إحصاء تغزله في فتى يافع في 128 سونيتة من سونيتاته ، ثم إن تلك الميول المثلية تعج بها العديد من مسرحياته . وفي عام 1964 صرح أودن بأن الوقت لم يحن بعد للربط بين المثلية وسونيتات شكسبير وربما كان يخشى هو الآخر المساءلة القانونية التي لم يكن يملك  قدرة على تلافيها . وأظن أن من يقفون في وجه أسرار سليم بركات المتأخرة لم يقصدوا أكثر من أن درويش لم يكن فحسب واحدا من أعمدة الحداثة العربية بل هو رمز لقضية كبيرة كانت قصائده فيها أكثر مضاء من أسلحة جيوش ظلت مهزومة قبل أن تدخل أي ميدان ! رأس درويش لا يجب أن يتدحرج على الدرج ، لأنها لاتقل سموقا عن رأس شكسبير .

————————-

—————–

———————

عدي الزعبي

تذكّر الحملة على سليم بركات بالحملة على أدونيس: فيها تجاهل لعقود من العمل الثقافي، ولإنجازات ضخمة ومحورية في الحياة الثقافية العربية عموماً والسورية خصوصاً. لأسباب متعددة، لا أميل إلى أعمال الرجلين، ولكنني لا أعتقد ان محاكمة أعمال الكاتب بأثر رجعي قضية محقة.

كلا الرجلين تغيرت تجربته مراراً، وبرأيي، وصلت إلى طريق مسدود. في حالة سليم بركات، التجربة اللغوية، في بداياتها، شكلت حالة خاصة، جعلت معظم الشعراء العرب -ربما كلهم- يحسدونه على مقدرة فريدة لا مثيل لها ربما في تاريخ لغتنا كلها. من جهة أخرى، لكتبه الأولى، في السياق الكردي السوري، فضل هائل على إعادة تكريس وجود الكرد الثقافي بثقة وجمال، وهو أمر قد يشرحه بشكل أكبر من عاشوا تلك الفترة، ولا يجوز تناسيها بسبب خربشات عجوز ملول في أقصى الشمال البارد اليوم.

“السيرتان” واحد من أجمل الأعمال النثرية المكتوبة في سوريا، وتستحق الوقوف عندها مطولاً. كذلك، قصيدتي “مهاباد” و”محمود درويش” في “البازيار”. وربما، قصائد أخرى مبكرة، يعرفها أكثر محبّو الرجل.

أتمنى أن يتوقف أدونيس وسليم بركات وسعدي يوسف كلياً عن الكتابة بكل أشكالها، الإبداعية والنقدية والصحفية، كي يتركوا لنا القليل من الوقت، والطاقة، لتقييم إنجازاتهم، ونقدها سلباً وإيجاباً، بدون هذه الثرثرة المسيئة التي يصبونها على الناس.

في سوريا مثل شعبي، أتذكره كثيراً في هذه الحالات :”الله يحسن كبرتنا”!

————————-

إسلام أبو شكير

هل أنتم منزعجون فعلاً مما قاله سليم بركات عن محمود درويش؟

لماذا؟

هل ترون في هذه المعلومة التي ذكرها ما يسيء إلى درويش؟ علاقة حب عاشها مع امرأة خارج مؤسسة الزواج؟ ترون في ذلك فعلاً مشيناً، كان يجب ألا يقترفه درويش؟ وإن اقترفه، لا يجوز لأحد أن يتحدث عنه؟

تعتبرون ذلك أمراً شخصياً ولا يصح الحديث فيه؟ ماذا لو أن سليم بركات باح بسرّ شخصي آخر لكنه يتماشى مع قناعاتكم، ويعزز صورة درويش الملائكية في نظركم؟ هل ستهاجمونه أيضاً؟

طيب.. مشكلتكم أن الموضوع حساس بوجود امرأة متزوجة، وابنة، وما إلى ذلك؟ هل انتبهتم إلى أن سليم بركات لم يذكر أسماء، وكان يقدر حساسية الأمر؟

طيب.. لماذا درويش بالذات، وأنتم يقتلكم الفضول تجاه علاقة المتنبي بأخت سيف الدولة، ومثلية أبي نواس، وإدمان فلان، وبخل علان؟ هذا عربياً.. أما على مستوى الغرب، فلن أذكركم بسلفادور دالي وقصته مع غالا وإيلوار، ولا بيكاسو وعشيقاته وأبنائه اللاشرعيين، ولا بجنون فان كوخ، ولا برامبو ورقيقه.. قصص تستعيدونها، وتستلهمون منها قصائدكم وقصصكم وأفلامكم ولوحاتكم العظيمة..

بصراحة.. لقد أعجبني ما كتبه سليم بركات (لغته موضوع آخر).. على الأقل اطمأنّ قلبي على صحة محمود درويش.. كانت هناك أقاويل كثيرة تشكك فيها..

—————————-

جدل حول «ابنة غير شرعية» لمحمود درويش يسرق الضوء من أزمات العالم الخانقة

سرقت مقالة الشاعر السوري سليم بركات المعنونة بـ «محمود درويش وأنا» («القدس العربي» 6 حزيران/ يونيو/ 2020) الأضواء من كبرى القضايا والأزمات الحارقة التي تشغل العالم والمنطقة، وباتت الشغل الشاغل لسكان مواقع التواصل الاجتماعي، بعد حديث الصديق البارز لدرويش عن ابنةٍ للشاعر الراحل من امرأة متزوجة مجهولة.

«البوح» جاء في سياق سرد بركات لصداقة وصلت حدّ «تبنّي» درويش لسليم، كما جاء في الكتاب النثري «ذاكرة للنسيان»، الذي يوثق يوميات الشاعر الفلسطيني أثناء حصار بيروت عام 1983، والتباس العلاقة بين الصداقة والتبنّي، حيث يقول «لم يعد يعرف أين الحدُّ بين أن يراني صديقاً، أو يراني ابناً له»، هو الذي «تزوج مرتين ولم يُنجبْ، بقرارٍ قَصْدٍ في أنْ لا يُنجب». ومن هنا يدلف بركات لكشف السرّ «ألقى عليّ، في العام 1990، في بيتي بنيقوسيا ـ قبرص، سِرًّا لا يعنيه. كلُّ سِرٍّ يعني صاحبَه، لكن ذلك السرَّ لم يكن يعني محموداً. باح به بتساهُلٍ لا تساهلَ بعده». ثم أضاف قول الشاعر «لي طفلة. أنا أبٌ. لكن لا شيء فيَّ يشدُّني إلى أبوَّةٍ».

ويضيف الشاعر السوري الكردي الذي عمل سنوات إلى جانب درويش في مجلة «الكرمل»: «أنا لم أسأله مَنْ تكون أمُّ طفلته. امرأة متزوجةٌ، صارحتْه المرأةُ مرتين، ثلاثاً، في الهاتف بابنته، ثم آثرتْ إبقاءَ ابنتها أملَ زوجها». ويختم «محمود لم يسأل المرأةَ، حين انحسر اعترافُها، وانحسرتْ مبتعدةً في العلاقة العابرةِ، عن ابنته. أبوَّتُه ظلَّتْ تبليغاً موجَزاً من صوتٍ في الهاتف عن ابنةٍ لم تستطع العبورَ من صوتِ أمها إلى سمع أبيها».

الخبر أحدث صدمة لدى محبي الشاعر الفلسطيني، فانبرت الأقلام على الفور لتكذيب الواقعة، والهجوم على الشاعر السوري باتهامات تقول برغبته تسلّق اسم درويش، أو بمحاولة «قتل الأب»، إن جاء الانتقاد رحيماً، وصولاً إلى الاتهام بالإساءة إلى رمز وقضية. غير أن أغلب الكتابات نالت من المكانة الأدبية للشاعر السوري متخذة من «تقعّره» اللغوي دريئةً لوصفه بالمتكلف والمتصنع، على ما يقول الكاتب شورش درويش «طاول الأمر أدب بركات ونهجه اللغوي وكأنه بدأ يكتب بهذه اللغة المتكلفة منذ ربع ساعة، وبات تعريفه شاعراً كردياً يتصدّر المشهد فيما درويش شاعر القضيّة، فوق الهذر الصحافي في قضية الأبوة الملتبسة تكبّد مجتمع الكتاب والشعراء عناء إتحافنا بالواجبات الأخلاقية للفرد/الصديق» .

وإذا كان الشاعر العراقي سعدي يوسف دخل على خط الجدل مؤكداً «سليم بركات ما افترى على الله كذباً»، فإن الشاعر الفلسطيني حسن خضر يفسّر الواقعة بالقول «لا أتهم سليم بركات بالكذب، أو محاولة التشويه، ولكن أود التذكير بطريقة الذاكرة في الانتخاب والإقصاء، وطريقة محمود في التعبير عن أشياء كثيرة أحياناً بالمجاز، والمبالغة اللفظية، والسخرية الحقيقية، أو المُفتعلة، والاستغراق في لعبة الأضداد، ربما أسهمت أشياء كهذه، في جلسات حرّضته على بوح من نوع ما، في توليد قدر من سوء الفهم. فمن المُحتمل، مثلاً، تأويل اعتراف الأم بالابتزاز العاطفي. وقد واجه، فعلاً، حالات ابتزاز كهذه، وأشهدُ بأنني سمعت عنها منه».

لكن الجدل لم يتوقف عند مصداقية ما جاء في مقال بركات، فالبعض ذهب فوراً إلى البحث في معاناة الابنة المجهولة، إذ يقول الكاتب السوري الكردي هوشنك أوسي «لا أحد فكّر في تلك الفتاة التي أصبحت الآن صبيّة. لا أحد فكّر في استمرار معاناتها، وخوفها من الجهر بحقيقة أبيها. لا أحد فكّر بألم ومعاناة تلك المرأة التي من فرط افتتانها بدرويش نامت معه وهي على ذمّة رجل، وقابل الشاعر الكبير ذلك الكرم من تلك السيّدة، بتجاهله ابنته. بدلاً من الالتفاتة إلى الأمّ وابنتها، الكلّ سارع إلى التكذيب وإنقاذ درويش وكأنّه يشارف على الغرق! وكأنّه مدان أو في خانة قفص الاتهام! الحقّ أنه ليس بركات من وضع صديقه في خانة الاتهام، بل الذين نصّبوا أنفسهم محامي دفاع، وترافعوا عنه، عبر النفي والتنكيل ببركات، بتلك الطريقة الشعبويّة الهزليّة».

وفي وقت كتب الشاعر اللبناني عباس بيضون «السرّ الذي باح به بركات لم يستفز إلا الذين وجدوا فيه فقط زنا أو ما يشبهه. لم يجدوا فيه كما لاحظت تنكراً للأبوة، ولم يأخذوا هذا عليه». واعتبر بيضون أن رواية بركات ليست « سوى مدخل إلى سيرة شاعر وإلى حياته الشخصية. بل هي مدخل إلى حياة شخصية، أظن أن الجميع، ما عدانا، اشتغلوا عليها فيما يتعلق بمشاهير في الفكر والفن».

الشاعر اللبناني طالب أيضاً: «ما بدأه بركات يجعلنا نطالب بإتمامه والسير فيه، ليس فقط بخصوص درويش، ولكن بخصوص آخرين في حاضرنا وماضينا. أقول ماضينا وأعني ذلك تماماً» .

الشاعر والإعلامي اللبناني عبده وازن كتب على صفحته في فيسبوك: «كم أتمنى أن يتحقق كلام سليم بركات، وتطلّ علينا ابنة محمود درويش. ليس أجمل من أن يكون لشاعر في مرتبته ابنة، إنها حياة أخرى له».

——————————–

هل وقع احتلال محمود درويش بعد موته؟/ عبدالدائم السلامي

 يحفل تاريخُ الثقافات البشرية بحالات كثيرة انصبَّ فيها جهد بعض تلك الثقافات على التفكير في ذاتها بدلَ التفكير في العالَم خارجها، وكلّ غايتها أن تُنير عتماتها، وتُجدِّد وعيها بحركتها، وتكشف عن كلّ ما من شأنه أن يُعيق جسدها الإبداعيّ عن التطوّر. ومن صُور ذلك ما جاء في كتاب «السُّكوت» للفرنسية فانيسا سبرينغورا التي كشفت فيه عن أنها عاشت في الرابعة عشرة من عمرها تحرّشا عاطفيا وجسديا من قبل الكاتب غابرييل ماتزنيف الذي كان يبلغ وقتها خمسين عاما. ومن ذلك أيضا الخبر الذي نشرته صحيفة «الغارديان» بتاريخ 28 أيلول/سبتمبر 2017، وجاء فيه أنّ مارسيل بروست كان يرشو الصحافيّين ليكتبوا عنه مقالات تمجيدية، بل وكان هو نفسه يكتب مقالات يمتدح فيها كتاباته وينشرها بأسماء مستعارة. وفي السياق نفسه نذكر تهكّم ميشال أونفري على سيغموند فرويد في كتابه «أفول صنم: الأكاذيب الفرويدية»، واتهامه جون بول سارتر وسيمون دو بوفوار بالتعاون مع موسيليني والنازية في ثلاثينات القرن الماضي في كتابه «كامو، سارتر، ودوبوفوار».

وقليلة هي الحالات التي انشغلت فيها الثقافة العربية بذاتها، وعادت إلى دفاتر أسرارها، ونفضت عنها غبار الطُّهريّة والعِفّة، ولعلّ إحدى تلك الحالات هي مقال الشاعر والروائي السوري سليم بركات بعنوان «محمود درويش وأنا» الذي نشرته مؤخّرا “القدس العربي”. فعلى غير عادة مقالات مثقّفينا العرب المُسالِمة التي تملأ الصحف والمواقع الإلكترونية نجح مقال بركات، على الرغم من لغته التي تتصنّع البلاغة، ونرجسيّته المتضخّمة بلا موجب، في أن يبعث حرارةَ الحياة في جسد الثقافة العربية الذي بدا كما لو أنه دخل مرحلة موت سريري منذ منتصف القرن الماضي وفَقَدَ بذلك بذخَ المجادلات ونِعْمةَ الاختلافات. فإذا هو مقالٌ يرجّ ذاك الجسد الثقافيّ رجًّا انفجرت به مواقف المثقّفين حول «فضيحة» الشاعر محمود درويش الذي اعترف لبركات بأن له ابنةً من امرأة متزوّجة. وزّع مقال سليم بركات المثقّفين العرب على فئتيْن: فئة «أذكروا موتاكم بخير» التي نحا أصحابُها مَنْحًى لاموا فيه سليم بركات على هتكه سرّ الشاعر الأيقونة محمود درويش، وفئة حاولت الانتصار للمقال من جهة ما فيه من تنزيل محمود درويش منزلته «البشريّة».

الغيرة والضغينة

من أنصار الفئة الأولى نجد الشاعر المصري أحمد الشهاوي الذي أكّد أنّ ما قاله سليم بركات لا يعدو أن يكون «نكتة»، بل هو: «كلام مرسل لا دليل عليه، خصوصا مع امرأة متزوجة، حيث يمكن الاختلاط في النسب، إلا إذا كانت المرأة لم تكن تعاشر زوجها وقتذاك ولو كان السر الذي أفشاه سليم بركات صحيحا (وأنا ضد إفشاء السر)، فحتما كان هناك آخرون قريبون من محمود سيعرفونه قبل سليم بركات؛ لأن بعضهم كان أقرب لمحمود من سليم. وكان سيوصيهم خيرا بهذه الابنة المزعومة أو الحقيقية .ولو تأملنا في الأمر سنجده محض نكتة لا طائل من ورائها غير النميمة عن مغامرات شاعر» .واستنكر الشاعر السوري نوري الجراح، بفجائعية كبرى، ما جاء في مقال سليم بركات وتساءل: «لماذا يا سليم بركات، يا صديقي الذي أحب؟.. لطالما كنت أحب صداقتك لمحمود درويش، ولم اعتبرك يوما ابنا له، كما صرتَ تقدم نفسك! استودعَكَ وهو حيٌّ سراً (هل أصدق روايتك عن ابنة من امرأة متزوجة؟!) فلماذا تفشي السر اليوم، والصديق غائب وليس له لسان؟».

واعتبر الناقد فخري صالح أنّ مقال سليم بركات عن محمود درويش إنما هو يتنزّل في خانة الغيرة المستحكمة والضغينة المضمَرة، حيث قال: «ما كتبه سليم بركات عن علاقته بمحمود درويش صادمٌ ومريب، ويشير، في الوقت الذي يدعي فيه سليم حبَّ درويش وبنوتَه له، إلى رغبة في إلحاق الأذى بالشاعر الراحل، وغيرة مستحكمة وضغينة مضمرة، وادعاء بأهمية شعرية توازي أهمية درويش، في مقالة فيها الكثير من البلاغة الممجوجة والتقعر والإغراب اللغوي، مما يثقل على النفس ويشعر القارئ بالملل والرغبة في الترك وعدم المتابعة. وما يدعيه بشأن السر، الذي استودعه إياه درويش قبل اثنين وعشرين عاماً، بأن له ابنة غير شرعية من علاقة عابرة مع امرأة متزوجة، سقطة أخلاقية غير مغتفرة وإثارة تافهة لا تليق بشاعر يدعي أنه كبير، والأفظع من ذلك أنه يعترف أن درويش عامله كابنٍ، بل ندٍّ، له. فأن يذيع الصديق سر صديقه، الذي رحل عن عالمنا، وليس في مقدوره أن يرد أو يصحح أو ينكر، يدل على انحدار القائل إلى حضيض أخلاقي تأباه الصداقة الرفيعة والمناقبية الأخلاقية». وفي السياق ذاته قال الباحث المغربي يوسف الزبيري، وإنْ بشكل ساخر وبأسلوب ذكيّ: «لم أقرأ لسليم بركات «(الأديب الكبير) الذي يثني عليه جمع من القراء المختلفين، غير هذا المقال. والحق يقال فإنه رغم بعض معاني المقال الطريفة، ولغته المغسولة، يشتهي قارئ مثلي، أن يرميه بالحجارة ويرسل عليه عاصفة من الكلاب والقمل». ورأى المثقّف قزحاية ساسين أنه من «العار على صدرِ الصّديق أنْ يبوحَ بسهمٍ في ظهر صديق لم يعُد صالحًا لِلطَّعن. يوم كانت حياة محمود درويش تتّسع لعسلِ الهزائم المُرّ ولأقمار الخيبات المُطفأة، لم يتجرّأ سليم بركات على إهداء قفيرٍ أسود وقمر منقوع بالسُّمّ إلى صديقه محمود درويش. لا يحقّ لأحد أن يقفَ بَينَنا وبين الحياة، ويحرّضَها على اغتيال وجوهنا في المرايا. حياة درويش مِلكٌ له وحدَه. أمّا قصيدتُهُ فساحات عامّة، ومن حقّ كلّ من يقرأها أن يقدّس قوافيها، أو يركّب لها قرون الشياطين. محمود درويش، نحن أصلب من الأرض، ومن الصعب احتلالُنا بعد أن نموت».

ملائكة أم شياطين

بعيدا عن حماسة الدفاع عن محمود درويش دعا الشاعر السعودي عبدالوهاب أبو زيد إلى ضرورة التعقّل والنظر إلى مقال سليم بركات نظرة موضوعية، حيث قال: «ربما لم أحب شاعرًا وأتعلق بشعره أكثر من حبي لمحمود درويش وشعره، ولكن تعالوا لنفكر معًا بهدوء.  ماذا لو تبين أن ما قاله سليم بركات صحيح؟ ماذا لو أن المرأة، التي أنجب منها درويش ابنته المفترضة في هذه الحكاية المفترضة التي لا سبيل لإثباتها أو نفيها حتى الآن، كشفت النقاب عنها؟ أو أن أحدًا ما آخر حدث عن عرف عنها ولم يأتمنه درويش على هذا السر فعل ذلك؟ كيف سيكون موقفنا من درويش حينئذ؟ ما لا يرتقي إليه الشك هو أن درويش كان شاعرًا استثنائيًا وسيظل اسمه في زمرة الشعراء الخالدين لأزمنة طويلة قادمة، وربما إلى الأبد. ولكن هل من الضروري أن يكون الشاعر «الكامل» إنسانًا كاملاً؟ إفشاء السر الذي «أؤتمن» عليه سليم بركات أمر غير مبرر أخلاقيًا وغير مستساغ أبدًا، ويحق لمحبي درويش أن يغضبوا من ذلك ويمتعضوا منه، ولكن ما لا يستساغ أيضًا هو أن نجرد سليم بركات من كل شيء فيتحول فجأة وهو الشاعر والسارد الذي طالما أثنى عليه درويش نفسه في حياته إلى مدع للشعر ومشعوذ ومجرد كاتب قاموسي متحذلق! هكذا بكل بساطة! شيئًا من العقلانية والهدوء، يرحمكم الله!». وفي الشأن ذاته وجّهت الناقدة والأكاديمية الكويتية سعاد العنزي إلى محبّي درويش السؤال التالي: «هل سيتغير تلقيكم لقصائد درويش بعد ما أشيع عنه مؤخرا؟! هل نفترض أن درويش كائن ملائكي نقي تماما، وسليم بركات كائن شيطاني. لقد تم تناول شكسبير بكثير من الطروحات أهمها أنه لم يكن كاتبا لكثير من أعماله ولم يغير ذلك أهميته بالعكس هي في تزايد مستمر». وللتخفيف من حدّة الهجوم على سليم بركات عدّدت المدوّنة إيمان حالات أفشى فيها الأصدقاء أسرار أصدقائهم، وقالت: «أفشى أنجلز سرّ ماركس الخفي: لدى كارل ابنة من خادمته ويرفض الاعتراف بها. وأفشى ميخائيل نعيمة سرّ جبران المضمر: كان يحتقر المرأة في داخله، ولديه ابنة من فقيرة بْشِرِّي أحجم عن الاعتراف بها. وأفشى سليم بركات سرّ درويش الأثير: لدى محمود ابنة من امرأة متزوّجة لم يعترف بها». وفي المنحى ذاته قال المدوّن فراس: «السرّ وديعة ثقيلة الحِمل على من يحفظُه. الكل انزعج من أن سليم بركات وضع سرّه في مقالة (من المرأة؟ من الابنة؟) ولم يستغرب أحد رفض درويش تحمّل مسوؤليته كأب، ولا تركه لامرأة تتخبط في سرّها، ممّا يُعيد درويش الإنسان إلى خانة هو فيها: رجلٌ، رجلٌ شرقيّ جداً، وعلى الأغلب رجل مأزوم في علاقته من المرأة».

—————————

حول ما كتبه سليم بركات عن محمود درويش.

في مقا ل نشر في القدس العربي يتحدث سليم بركات الروائي عن صديقه محمود درويش، ويثرثر اسرارا من بينها انه ( درويس اقام علاقة مع امرأة متزوجة وانجبت منه طفلة-ولم يعترف محمود درويش بالامر….

تعليقي:

سليم بركات هنا يلعب دور ( بوليس الاداب-والاخلاقية) وبصيغة فاقعة التبجح. الكثير جدا من مقاله المنشور في القدس فيه ( رغبة في ان يضع نفسه في مصاف الاسماء الكبيرة اللامعة شعريا، عربيا وعالميا. كمن افتقد بريقا ويريد الان ان يعود الى الساحة-على حساب الميت. الميت لا يدان لانه ليس حاضرا للدفاع عن نفسه. حتى لو كان هناك ابنة غير شرعية، ما الذي يريده الان ( سليم بركات)؟! يريد حقها وارثها من (فلسطين) أم من جبهة التحرير ام 🙂 ؟؟. ان تكتب مقالا كهذا عن شاعر راحل، عليك ان ترفقه بوثيقة وليس جمل شعرية مفتعلة ( تصنع قرقعة) بلا مبرر.

قبل ايام كنت قي حضرة رجل  فقد والده بالسرطان- فقال : لا اريد أن اسمع حديث سلبي عن أبي لانه ليس حاضرا كي يدافع عن نفسه وليس عدلا استغابة الميت) …

جاكلين سلام

—————————-

نسرين طرابلسي

قرأت المقال.. صفنت طويلاً

قساةٌ جداً الأصدقاء الذين تضيق صدورهم بأسرارهم فيودعونها صدور أصدقائهم ويتخففون، تاركين العبء كل العبء على ضمير الآخر وقدرته على الكتمان، وتاركين كل شيء للعبة الزمان.

العقلاء لا يثقون بأحد، يضعون ألف ترباس على شفاههم ويلصقون ألسنتهم بسقوف حلوقهم.

لعل العقلاء لا يرتكبون الكثير من الحماقات أيضاً ويُفسد صدقُهم فرص المتصيدين.

الثرثار يرفع عن كاهله ثقل السر. والمعترف يفسد على كل الأصدقاء لذة إفشاء سره الذي باح لهم به.

فقد حرر أسراره أولا بأول ولم يعد لديه ما يخشاه.

وأصبح حراً.

لقد قمت بملء إرادتي بالاعتراف كرها وطوعا وتحت ضغط القلق والتهديد بكل أسراري، وأفكاري المخجلة، وأفعالي المهزوزة، ونتائج قراراتي النزقة، وأفعالي المترددة. ولم يعد لدى أي منكم ماهو exclusive.

ليس التحرر بخلع الثوب

يكون التحرر بخلع القناع.

فلا تمنحوا صاحب السر امتياز جبنه وثرثرته.

ولا صاحب البوح امتياز ضيقه وعدم أمانته.

اتخيل محمود درويش يستعرض فحولته ومغامراته ولامبالاته وعد تحمله لمسؤولية أفعاله كخائن ولا إنساني،  ككل الذكور الذين يبالغون باستعراض مغامراتهم، أمام اندادهم بغرور وعنجهية.

وأتخيل بركات مفلساً يخرج من جعبته لقلقةً قديمة

ليستعيد شيئاً من انحسار الضوء.

ياعيب الشوم عالتنين

كرهتونا الشعر والقضايا

تعليق ندى منزلجي على نسرين طرابلسي

بغض النظر عن جمال البوست والتقاطاته الذكية التي تفتح بابا لإعادة التفكير بمفهوم السر والصداقة.. لكن بصدق، أجدني اختلف معك.. في جوهره.

اولا، الانسان ضعيف، ومن حقه ان يكون لديه صديق يستقوي به ويفشي له سرا، مؤمنا بأنه سيحفظ له ظهره… والا لتقوض مفهوم الصداقة بأكمله.. الصداقة الحقيقية طبعا.. ضعفا، وليس قسوة. من حق البشر ان يضعفوا بلحظة، وان يزيحوا عن ظهرهم حملا..

ثانيا، الحرية مسؤولية، ووجود الاسرار من ضمن شروط المسؤولية. هناك آخرون، شركاء، ومن حقهم ان يحفظ في الكتمان نصيبهم من السر.. لا توجد حرية مطلقة كاملة مفتوحة على البراري.

ثالثا، اشك في ان يتمكن اي شخص من ضمنهم انت، من فضح كافة اسراره، بالكامل تماما.. لا بد أنه يحتفظ بشيء في زاوية عميقة محروسة في نفسه.. أشك فقط، ولا يمكنني ان أجزم تماما..

ثالثا، لماذا الجزم بأن اعتراف محمود درويش بأن لديه ابنة في إطار التبجح الذكوري بالمغامرات؟… ربما تكون حسرة حقيقية مؤلمة، بعد ان ان مضى ما مضى من العمر، وعملت النزوات والحماقات فعلها، والقرارات ذهبت الى مصائرها غير القابلة للاسترجاع.. كيف يمكن مصادرة مشاعر أي إنسان آخر، بمثل هذا الحكم!

رابعا، وهذا اتفق به معك تماما، افشاء السر نذالة، وبحث عن الضوء، وتسلق على الاكتاف، وتبجح بمعرفة ما لا يعرفه الآخرون..

خامسا، في المقال امر آخر، سوى كشف السر، في المقال لغة مغلقة بشكل خاص، معقدة حيث لا يلزم، وهذا، سبب آخر للحديث عنه..

سادسا، منشورك عمق ايماني الكبير بالكتمان.. وكنت أتمنى له ان يتزعزع ..

——————————

رستم محمود

العزيز سليم بركات..

منذ زمان قديم، كان عليك أن تعرف أن الأدب والثقافة واللغة هي جزء من المعرفة، وليست جزء من النزق.

لا يكفي هذا الكم الهائل من النزق، وفقط النزق، لتكون شاعراً أو أديباً، هل تستطيع مثلاً، أنت والمعجبون بك، هل تستطيعون أن تذكرونا بأربعة أفكار ذات مضامين ومعاني من كل ما انتجته، خلا هذه اللغة المصطنعة والمسطحة!!.

————————–

حسن خضر

في موضوع سليم بركات ومحمود درويش..

لم يُوفّق سليم بركات في الكلام عن ابنة غامضة لمحمود درويش. وأعتقد أن في إنشاء صلة دلالية في نصه القصير (والمُفرط، بصراحة، في بلاغة تبدو فائضة عن الحاجة) بين إحساسه الشبحي بدور الابن، أحياناً، وحتى استدعاء ابنه كحفيد مُحتمل من ناحية، وبين البنت الغامضة من ناحية ثانية، ما يُدخلنا في تأويلات وتجريدات تجرّد “سر” البنت من كل خصوصية، أو دلالة فيزيائية محتملة، لتجعل منه مجرّد قناع لشيء آخر.

لا أتهم سليم بركات بالكذب، أو محاولة التشويه، ولكن أود التذكير بطريقة الذاكرة في الانتخاب والإقصاء، وطريقة محمود في التعبير عن أشياء كثيرة أحياناً بالمجاز، والمبالغة اللفظية، والسخرية الحقيقية، أو المُفتعلة، والاستغراق في لعبة الأضداد، ربما أسهمت أشياء كهذه، في جلسات حرّضته على بوح من نوع ما، في توليد قدر من سوء الفهم. فمن المُحتمل، مثلاً، تأويل اعتراف الأم بالابتزاز العاطفي. وقد واجه، فعلاً، حالات ابتزاز كهذه، وأشهدُ بأنني سمعت عنها منه.

ويبقى أن المجالس أمانات، حتى في حياة شاعر من وزنه “يجري ولا يُجرى معه”، فلم يكن محمود بوهيمياً، ولم يكن متصنّعاً، ومُخادعاً، وغريب الأطوار. ولم تكن في حياته أسرار كثيرة. أما رفضه للإنجاب فمصدره شقاء النكبة وتجربتها التكوينية (في حياة لاعب النرد). وقد ورث كلاهما. لم يرد توريث أحد، وتوريطه، في تجربة وشقاء أن تكون فلسطينياً.

————————————-

نبيل البقيلي

كان من الممكن ان لا تحمل اطلالة سليم بركات عبر «القدس العربي» ، والتي جاءت متأخرة ثماني سنوات عن موعدها، الاثارة المطلوبة لو حذف منها الجزء المتعلق بخصوصية محمود درويش ولكن الأمر سيان لان المطلوب رأس الشاعر الفلسطيني والشاعر الكردي سليم بركات… معا!

كان قدومه الى بيروت اشبه بحضور مخلوق غريب يحمل تضاريس لغته القاسية، وذاكرة لم تعتدها العاصمة التي تتدعي الحداثة وتتبنى لغة اكثر بساطة من خلال التيارات الادبية والشعرية المتنوعة التي اجتمعت فيها ، في تلك الأيام قادمة، من عواصم القهر العربي الى واحة الحداثة حيث اقام روادها ونشروا اعمالهم بحرية الى العالم.

جاء سليم بركات بضيافة ادونيس واقام تحت جناحي الشاعر الكبير الذي كان يعاني بدوره من صعوبة تقبل لغته وافكارة الممعنة في الحداثة الى ابعد الحدود.

جاء سليم الى بيروت ليضيف نكهة لغوية قد تكون جافة وقاسية بالنسبة للكثيرين حينها، ولكنها لغة عربية بحاجة الى الكثير من الجهد لتقبلها مما خلق اشكالية كبيرة في تقبل هذا الكردي الذي يحمل في مخيلته مخزوناً كبيراً من التمرد والقساوة المتوحشة.

خرج سليم من ادونيس ليقيم في احضان الثورة الفلسطينية، التي عاش في كنفها معظم المثقفين المطردين من اوطانهم. واقام في غرفة ريفية ضمن بيت بيروتي الطراز استحوذت عليه فيما بعد النحاتة والفنانة منى السعودي.

بقي سليم وفياً لهذه الثورة ولبيروت حتى لحظة خروجه على متن البواخر الى الشتات والمنفى الكبير.

كنت في استقباله في مطار لارنكا قادماً من تونس برفقة السفير الفلسطيني في قبرص فؤاد البيطار وبطلب من محمود درويش لترتيب اعادة اصدار مجلة الكرمل من قبرص.

ربما كانت المرة الاولى التي عرف فيها سليم ركوب الطائرة، فقد عاش في بيروت ضمن نظام وروتين قاتل.. من العمل الى مطعم «علاء الدين» الملاصق لبيته لاحتساء بعض زجاجات البيرة، الى شقته المتواضعة جداً في بناية «القصر».

بقي سليم من الاوفياء القلائل للشاعر محمود درويش وحتى اللحظة الاخيرة احتمل وقاتل بشراسة حملات التشويه التي تعرضت لها «الكرمل» من التيارات السياسية المتعددة داخل الثورة، لما شكلته من واحة ديمقراطية لم تلتزم بالافكار «المريضة» داخل الثورة وفصائلها متعددة الاتجاهات.

لم يبذل سليم اي جهد في «تدجين» لغته سوى في الاعمال التي فرضت عليه بعض «التبسيط» ليس من اجل فض «بكارة» لغته الاصلية. انما هوية الكتابة او الحدث فرض هذا الشكل الجمالي في الكتابة، وهي اعمال اشبه بالسيرة ذات الخصوصية العالية والمتفردة.

لم يكن سليم بركات اجتماعياً بالقدر الكافي في مدينة مثل بيروت فشكل لغزاً اضافياً في ما يكتبه من شعر نخبوي قلة استطاعت التجاوب معه ، وحملت رواياته الغموض السريالي في اقصى درجاته فخلقت عالماً مغلقاً باحكام يتطلب الجهد الهائل والثقافة الخاصة للدخول اليه وفهمه..

عالم سليم يخلو من الرقة والمجاملة .

عالم تسيطر عليه وحشية اللغة وانانيتها .

عالم لا يمكن فصل لغته عن طفولة الكاتب ووحشية المكان الذي ينتمي اليه، والحضارة الدموية التي عاشت فيها سلالته.

انه شاعر ينتمي الى سلالة عميقة ومتجذرة في النبل والتاريخ.

نقول هذا الكلام لان البعض لم يتسن له الدخول الى هذا العالم المليء بالاحاجي والطقوس… ولا يملك مفاتيح او «كودات» هذا الكهف، فشكل سليم اشكالية اخرى في مدينة تبحث عن السهولة في انتاجها الادبي.

ولم تكن هذه الصعوبة في البلدان الاخرى كالعراق والمغرب العربي.

اما موقف البعض من اعمال سليم بركات فهو ينبع من الموقف السياسي الذي يمثله، وهو هويته الفلسطينية الكردية. وكان هذا الموقف نفسه من الشاعر محمود درويش في الثمانينات عشية الاجتياح الاسرائيلي للبنان والذي اصطف فيه البعض، ومن غالبية الطوائف ضد الثورة الفلسطينية. ولا بد من العودة الى مقال محمود درويش في مجلة الكرمل في عددها الاخير الذي صدر من بيروت ويحمل عنوان «جزء لا جزيرة» كي نستذكر تلك المرحلة.

نذكٌر بتلك المرحلة فقط لقساوتها وما عاناه محمود درويش من عزلة في بيروت الى درجة انه لم يجد مكاناً يأوي اليه من الجيش الاسرائيلي حين دخل العاصمة اللبنانية.

اما اليوم وبعد مقال سليم بركات (وهو نادراً ما كتب في الصحافة، او اجرى مقابلات صحافية).. يحتار البعض من اين يبدأ في نهش ادب سليم بركات وسمعة محمود درويش وخرج هؤلاء وهم يتحدثون عن العفة والاخلاق في الوقت الذي يفوح تاريخهم بروائح الخيانات واللا اخلاق.. من خيانة اوطانهم الى خيانة الثقافة التي يدعونها.

هذه الاصوات نفسها اصبحت اكثر”نضوجاً”، و”حذرا” عبر مواقع التواصل الأجتماعي، ولم يتغير في مواقفهم سوى انهم اصبحوا ينتمون الى تيارات تستتر خلف الحداثة او ما بعد بعد الحداثة.

انطلقت التعليقات الخاوية السطحية التي تحمل في طياتها حقدا سياسيا، قبل النقد الثقافي، بقيادة «فصائل» النقد الغبي المسطح الخالي من اي بعد اخلاقي او ثقافي مستهدفة الشاعر الكبير والروائي والشاعر الذي اعتكف في كافة المنافي التي عاشها داخل عالمه المحكم يصارع ابطاله بسرية مطلقة.

ومنهم، من اشك أنه قرأ لسليم بركات شعراً او رواية، يطلق مواقفه الحمقاء في تقييم اعماله تحت شعار انه ينتمي الى مدرسة الحداثة وما بعدها.

هؤلاء المثقفون بالذاكرة. ابناء النصوص “الشفهية”. جهلة اللغة والمخيلة. «شبيحة» التيارات السياسية والثقافية يتطاولون على قمم الإبداع من خلال تعليقات مريضة او سوقية.

من يعرف مستوى علاقة محمود درويش وسليم بركات يدرك صدق وشفافية ما حمله المقال من معان ونبل.

محاولة القول ان سليم «خان» اعتراف صديقة هو امر لا يقل سخافة عن ادعاء الفضيلة لدى البعض في محاولة لتهشيم صورة الشاعر الايقونة والمقدسة لدى جمهوره.

ولا شك بأن سليم بركات اراد بدوره ازاحة اعتراف محمود درويش عن كاهله من خلال اعلانه، وهذا الأمر يعطي شرعية لمضمون الاعتراف.

مقال قد يكون تأخر سنوات كي يبصر النور، واعتراف من الشاعر الكبير، وكأنه اراد توقيته وحاملا توقيع سليم بركات.

———————————

ماهر الجنيدي

حسناً.. الضجيج قائم، ويبدو أن الأوان قد آن، وسأكشف المستور:

محمود درويش له أبناء وبنات كثر.. ليس واحدةً فحسب.. ولم يُخبر محمود درويش سليم بركات إلا بما أراد أن ينكشف يوماً.

ما دامت السيرة قد انفتحت على صفحات الجرائد، وطالما أن الغسيل كله بات منشوراً على مناشر التواصل الاجتماعي، يبتّ فيه من هبّ ودبّ، فلا بد لي أن أنشر ما عرفته شخصياً.

ينبغي في البداية أن أشير من غير تردد:

أحترم كثيراً مروءة ابن الريح، شاعرنا الكردي الجميل، ونبالته التي دفعته إلى أن يؤجّل نشر نصّه الفجائعي ثماني سنوات كاملة، احتراماً لصديقه المختلف.. مروءة لم نعهدها لدى بعض كتابنا وفلاسفتنا الذين ما فتئوا يسارعون إلى نهش لحم زملائهم الموتى نيئاً، حتى قبل أن تُوارى جثامينهم الثرى..

لعلّه – سليم بركات – رأى بعد ثماني سنوات أن يقتل هذا القديس الذي لم يعجب درويش يوماً، أو ذاك الإله الذي لم يؤمن به درويش يوماً، وأن يرقى به، ويرسّمه إنساناً ذا خطيئة، ينتظر كل مدّعٍ يود أن يرجمه بحجر..

ولكن، ماذا لو علم سليم بركات أن لدرويش أكثر من بنت، بل وأكثر من ولد؟

التقيت بدرويش أربع مرات على الأقل.. اثنتان منها في الإمارات.. واحدة في الشارقة والأخرى في دبي.

جنسياً، يذكّرني محمود درويش بالصورة المقابلة لشخص نكرة يعبق بالذكورة اسمه أبو رفّول.

أبو رفول وسيم. لم ينجب يوماً، ولم يتسنّ له أن ينجب. لكنّه كان يصرّ، بعد كل زيارة طبيب عقم وأمراض تناسلية، أن يجلس ويقول لأصدقائه بكل ثقة: لا أفهم كيف يجرؤ هذا الطبيب أيضاً على الزعم بأنني لا أنجب؟ أراهن. يكفي أن تمرّ امرأة بجواري لتحبل. من رائحتي، فقط!

درويش، الوسيم كذلك، كان يعبق بالذكورة أيضاً.. بيد أنّه كان يحبّل النساء فعلاً، من دون أن يفاخر بذلك في مجالسه.

كان يمكنه أن يتحدث عن فحولاته، أو أن يفبركها، وأن يصدقه الجميع، لكنه لم يفعل، رغم أن لديه أكثر من ولد وأكثر من بنت، من علاقات خارج إطار زوجيته.

أصحيح أنّه لم تحبل امرأة يوماً من مجرّد عبق محمود درويش؟.. تعالوا لنتكاشف:

كم فارس منّا- نحن الذكور- تقمّص محمود درويش وقرأ الأشعار على مسامع فرسه قبل أن يباشرها؟

[وكم فرسٍ منّا- نحن الإناث- أغمضت عينيها بعدما أمطرها صديقها بأشعار درويش، فاستهامت أنه فارسها وهو من يباشرها؟]

وقائع، ثمارُها جميعاً أبناءٌ شرعيون لمحمود درويش المغسول بالذنوب.. الرجل الذي آن الأوان لأن ننعيه قديساً أو إلهاً.. ونقرأه إنساناً ذا خطيئة.

ليس لمحمود درويش ابنة واحدة فقط خارج إطار الزوجية.. ذكورته الطافحة شعراً نثرت له عدة أبناء وعدة بنات.

هل أجمل من الخطيئة؟

———————————

عادل الأسطة

في الضجيج الذي أثاره مقال سليم بركات عن علاقته بمحمود درويش وزعمه أن للشاعر ابنة، تذكرت نوفيلا للكاتب الألماني اشتيفان زفايغ عنوانها “رسالة من امرأة مجهولة”.

المرأة التي حملت من الكاتب الشهير لم تخبره أن العلاقة أسفرت عن طفلة، وعندما مرضت الطفلة وشارفت على الموت كتبت المرأة المجهولة رسالتها للكاتب .

وسائل التواصل الاجتماعي ستنشغل بما كتبه سليم بركات عن طفلة محمود درويش أكثر من انشغالها بالكورونا وبضم إسرائيل أجزاء من الضفة الغربية، وليس لكم إلا أن تقرأوا قصيدة محمود درويش التي عنوانها “رأيت الوداع الأخير” من ديوان “ورد أقل”.

ثمة مثل عربي يقول “الكذب ملح الرجال”، وأما ما ألاحظه فهو أن النميمة هي تسالي الشعوب.

هل الحكاية أولها كذب وآخرها كذب؟

ينبغي لي شخصياً ألا أخوض في الأمر، فقلبي “من الحامض لاوي” كما يقول المثل.

الطريف أن محمود درويش في قصيدته “بيروت” كتب سطراً شعرياً عميقاً هو:

“قد ولدنا كيفما اتفق وانتشرنا كالنمال على الحصير”.

ضبوا السيرة .

ايهاب بسيسو

أن تعيد قراءة محمود درويش قد يكون الرد الأكثر بلاغة على المقال الذي كتبه سليم بركات.

فتلك الحكاية التي أرادها الكاتب مبتورة ومقتضبة وقد تكون مختلقة وملتبسة لم تكن بريئة وهي تأتي في سياق الكتابة عن محمود درويش بعد كل تلك السنوات من الغياب.

وقد لا يكون من المجدي البحث عن مقصد خفي للكاتب من وراء مقاله الأخير والذي كتبه في العام 2012 ليتم نشره في العام 2020، فحكايات كهذه عندما تظهر بالشكل الذي ظهرت عليه في مقال سليم بركات تكون قد أفصحت عن قصدها بشكل لا يحتاج إلى المزيد من التأويل أو التحليل.

ولكن يبقى السؤال الذي يحمل في طياته بعضاً من إجابة، خصوصاً مع معرفة الكثيرين كم كانت صداقة الرجلين مميزة، لو كان محمود درويش ما زال على قيد الحياة وكان سليم بركات الذي سبقه إلى الأبدية. أكان درويش سيكتب عن بركات بالطريقة ذاتها التي كتب فيها بركات المقال عن درويش بعد كل السنوات على رحيل الجسد؟

يحزنك تحول الصداقات إلى ذاكرة مشوشة يطوقها الضباب فترتبك وتتقلص وقد تتحول إلى حكايات غامضة عابرة …

بعد مقال سليم بركات الأخير عن محمود درويش يدفعك الفضول أن تعيد قراءة قصيدة “ليس للكردي إلا الريح” والتي كتبها محمود درويش عن سليم بركات …

وتتوقف عند نهاية القصيدة …

“باللغة انتصرتَ على الهوية

قلتُ للكردي، باللغة انتقمتَ

من الغياب

فقال : لن أمضي الى الصحراء

قلت ولا أنا..

ونظرتُ نحو الريح/

– عمتَ مساء

– عم مساء!”

عمت مساء محمود درويش …

——————————-

واسيني الأعرج

في تحطيم أيقونة درويش وشنق سليم بركات؟

في تمجيد سيرفانتس وهنري ميلر والبير كامو…

واسيني

ما هذا الذي يحدث؟ من أين جاءوا؟

يشهد العالم اليوم غضبا شديدا ضد العنصرية، وتحطيما شاملا لتماثيل العار التي تمجد رواد العبودية. فجأة اكتشفنا مع سكان هذه المعمورة أن المدن الجميلة التي نسعد بها سياحيا وثقافيا، مليئة برموز الموت والعنصرية، في أوروبا وأمريكا وآسيا، في عصر حقوق الإنسان. في اللحظة نفسها، في الزمن نفسه، نغمض أعيننا ونحمل معاولنا لتحطيم أيقوناتنا ومنها درويش. السبب، أن الشاعر والروائي السوري الكردي الكبير، الذي اختار العربية وطنا له، سليم بركات، الابن الجميل لدرويش كما يصف نفسه بنفسه، كشف السر المخبوء؟ ما هو هذا السر العظيم الذي هز العالم العربي إعلاميا؟ درويش انجب بنوتة خارج علاقة الزواج من سيدة، لا احد يعرف من هي، وترك لها حرية الإفصاح. “محمود لم يسأل المرأةَ، حين انحسر اعترافُها، وانحسرتْ مبتعدةً في العلاقة العابرةِ، عن ابنته. أبوَّتُه ظلَّتْ تبليغاً موجَزاً من صوتٍ في الهاتف عن ابنةٍ لم تستطع العبورَ من صوتِ أمها إلى سمع أبيها. لذا محمود بلا أبوَّةٍ، كأنَّ الأمرَ كلَّه اعترافٌ صغيرٌ لصديقِ سنينَ طويلةٍ من عمره، بلا متْنٍ من توضيح في اللغة، أو هوامشَ إضافاتٍ، أو حواشي متجانسةٍ. أنا، نفْسِي، تلقَّفتُ اعترافَه بلا فضولٍ: لكانَ أنبَأَني من تكون المرأةُ لو كنتُ أعرفها. وها الفضولُ، خاملاً، يعبر خاطري بعد اثنتين وعشرين سنة. لابأس. أنا أُلفِّقُ لتلك الأبوَّةِ إقامةً في الكلمات، الآن، مُذْ كُنا إقامةً في الكلماتِ مُلفَّقةً بسطوةِ الشعر وبطشِهِ. لكنه التلفيقُ الأنقى مُذْ كانت الأمكنةُ ناكثةً بوعودِها ـ وعودِ الأمكنة.” فجأة أصبح درويش غير مرغوب فيه، ووشاية سليم مصدر لعنة لم يبق بعدها إلا الشنق في ساحة من الساحات العامة. درويش/ سليم هما موضوع الساعة، إذ غطت قضيتهما على العنصرية العالمية، والظلم الإنساني، وكورونا فيروس. ألهذا الحد يهم فراش درويش، وعاطفته، وحياته الجنسية الأمة كلها؟ درويش إنسان كما جميع البشر، يحب ويكره، يصيب ويخطئ؟ ومثله سليم الذي لا أعتقد مطلقا أنه قصد الإساءة لوالده. في النهاية هل يؤثر ذلك كله على كون درويش شاعرا عظيما؟ أبدا. ماذا نقول عن آرثر ميلر إذن الذي نقرأه بمتعة؟ عن أناييس نين التي نمجدها فنيا ونقديا؟ كيف سيكون حكمنا على سيرفانتس إذا عرفنا أنه كانت له ابنة من غير زوجته ؟ بل ماذا نقول عن كاتب الغريب وماريا كازاريس؟ اتركوا الناس وشأنهم واهتموا بأدبهم فهو الأبقى والأجمل. سيظل درويش كما كل عظماء العصر، كبيرا، وكلما قرأناه، أصبنا بدهشة جديدة. سيرة حياته ربما ستكتب يوما عندما يقبل المثقف العربي ليس فقط بالاختلاف، ولكن أيضا بالحياة الخاصة للكاتب. ربما يكون سليم ب”زلته” الوجدانية العامرة حبا لدرويش، قد فتح صفحة أخرى في كتابة السير الخفية في عالمنا الأدبي المغلق.

انتبهوا. في بلداننا توجد أيضا عنصرية رخيصة، علينا أن نتنبه لها.

———————————-

حسن خضر

في موضوع سليم بركات ومحمود درويش..

لم يُوفّق سليم بركات في الكلام عن ابنة غامضة لمحمود درويش. وأعتقد أن في إنشاء صلة دلالية في نصه القصير (والمُفرط، بصراحة، في بلاغة تبدو فائضة عن الحاجة) بين إحساسه الشبحي بدور الابن، أحياناً، وحتى استدعاء ابنه كحفيد مُحتمل من ناحية، وبين البنت الغامضة من ناحية ثانية، ما يُدخلنا في تأويلات وتجريدات تجرّد “سر” البنت من كل خصوصية، أو دلالة فيزيائية محتملة، لتجعل منه مجرّد قناع لشيء آخر.

لا أتهم سليم بركات بالكذب، أو محاولة التشويه، ولكن أود التذكير بطريقة الذاكرة في الانتخاب والإقصاء، وطريقة محمود في التعبير عن أشياء كثيرة أحياناً بالمجاز، والمبالغة اللفظية، والسخرية الحقيقية، أو المُفتعلة، والاستغراق في لعبة الأضداد، ربما أسهمت أشياء كهذه، في جلسات حرّضته على بوح من نوع ما، في توليد قدر من سوء الفهم. فمن المُحتمل، مثلاً، تأويل اعتراف الأم بالابتزاز العاطفي. وقد واجه، فعلاً، حالات ابتزاز كهذه، وأشهدُ بأنني سمعت عنها منه.

ويبقى أن المجالس أمانات، حتى في حياة شاعر من وزنه “يجري ولا يُجرى معه”، فلم يكن محمود بوهيمياً، ولم يكن متصنّعاً، ومُخادعاً، وغريب الأطوار. ولم تكن في حياته أسرار كثيرة. أما رفضه للإنجاب فمصدره شقاء النكبة وتجربتها التكوينية (في حياة لاعب النرد). وقد ورث كلاهما. لم يرد توريث أحد، وتوريطه، في تجربة وشقاء أن تكون فلسطينياً.

————————-

جمانا مصطفى

نال سليم بركات من الشتائم والأحكام الأخلاقية والمقارنات القاتلة ما يستحقه وأكثر بسبب إفشائه لسر محمود درويش.

السر الذي لن نعرف صدقه من كذبه.

كانت “كتابة الغدر” حجة مواتية لكل كارهي أسلوب بركات في الكتابة للإشارة إليه كصاحب كتابة صعبة مستعصية متمنعة ولعلها عسيرة على فهم حتى القارئ المحترف.

وكانت فرصة مواتية ربما لن تتكرر للقلة الذين عرفوه بشكل شخصي للإشارة إلى غروره وشعوره بالاستعلاء.

هناك من دافع عنه أيضا ربما بنسبة واحد إلى ألف من المدافعين عن درويش، معللاً إفشاء السر بأنه “ربما” كان وصية درويش لبركات قبل وفاته.

والبعض الآخر رأى فيما كتبه الرجل انسيابا طبيعيا لا غاية من ورائه إلا الاستسلام لتداعيات الكتابة.

أنا أظن أن بركات قصد إفشاء السر، فللرجل أسلوب غريب لا يأبه بتحميل المعنى وتنزيله، وهو يرسم بالكلمات رسما أقرب إلى التجريدي منه إلى التصويري، لذا حين تأتي قصة وجود ابنة غير شرعية لدرويش بهذا الوضوح، وتصبح مقروءة ومفهومة حتى للقارئ غير المحترف، سأفترض أن بركات غيّر أسلوبه على نحو مفاجئ ليرفع أي لبس عن الوشاية وكي لا يتركها عرضة للتأويل ومن ثم النفي.

الأمر أشبه بأن ترى وجه الملكة إليزابيث كما هو دون تحريف داخل لوجه لبيكاسو، وبركات لا يكتب بهذه المباشَرة.

ومع هذا، ومع أنها حركة نذالة صرفة من بركات تجاه الشاعر الميت، لا أعتقد أن قيمة سليم بركات قد نقصت كصاحب مدرسة جديدة في الكتابة الحديثة، ولا أعتقد أن قيمة درويش قد نقصت كصاحب أهم تجربة شعرية في جيله.

ما أظنه أن القارئ العربي غير مستعد لمواجهة حقيقة كاتبه أو حتى المس بصورته، وأن كتابة السيرة ما لم تكن بقلم صاحبها وتحت إشرافه وتحريره ورقابته ومقصه فهي غير مقبولة، والأفضل في هذه الحال أن تُنتج التجارب الشخصية المستمدة من السير على شكل رواية “بايخة” وأن ينكر صاحبها أو صاحبتها كونها سيرة ويُصر أنها رواية لا تمت للواقع بصلة.

لذا من بين كل الدفاع عن درويش أحببت ذلك الذي يشير إلى عدم أخلاقية إفشاء سر الميت، لا ذلك الذي يشير إلى أن درويش لا يفعلها.

نرفض المقدمات ونقبل النتائج، نقبل قصائد من نوع كاماسوترا من درويش ونتلذذ بها مرارا ومرارا مع أنغام الثلاثي جبران ونرفض أن نصدق احتمال أن يكون الرجل مارس الجنس مع امرأة متزوجة. 

وهي رواية لن نعرف صدقها من كذبها، لكن ليس لنا أن نخوض في منطقيتها.

أظننا دافعنا عن درويش كرجل في حضرة الغياب لا في حضرة الموت، وهو ليس غائبا هو ميت وسيظل كذلك، وليس للميت أن يتأثر بفضيحة أو أن تحزنه، لكن شعره باق ويتأثر.

كان الأولى بنا أن نوجه هذا السخط والغضب نحو إلياس خوري الذي تطاول على قصائد درويش وسمح لنفسه بأن يحل محله حين حررها ونشرها بعد موته.

كشاعرة أرى أن تطاول خوري كان أسوأ بألف مرة، وأنا على يقين أن درويش كان ليشاطرني الرأي، لأن درويش كرّس حياته لفكرة الشعر لا لفكرة العائلة. 

لكن ما علاقة الشعر بكل ما سبق؟

لا شيء

——————————

عن سليم بركات ومحمود درويش / علي بدر

زار سليم بركات بغداد في العام 1986 مدعوّاً لمهرجان المربد الشعري والذي يعدّ الأهمّ والأشهر ذلك الوقت. جاء برفقة محمود درويش، حيث كان يعمل معه محرراً في فصلية الكرمل، المجلة التي أطلقها محمود درويش في العام 1981، وعمل فيها بركات سواء في بيروت منذ انطلاقها في العام 1981 أو عند انتقالها إلى قبرص بعد أن خرجت المقاومة الفلسطينية من بيروت في العام 1982، وحتى العام 1993 حيث انتقلت المجلة إلى رام الله بعد اتفاق أوسلو بينما انتقل سليم بركات لاجئاً سياسياً إلى السويد.

ورحلة درويش إلى بغداد في زمن صدام حسين، والحرب العراقية الإيرانية، ومذبحة الشيوعيين واليسار في العراق أثارت زوبعة هائلة من قبل الشعراء العراقيين وبعض اليسار العربي ومن الماركسيين تحديداً، والذين كانوا معارضين ويعيشون في المنافي ذلك الوقت، اشهرها الرسالة المفتوحة التي كتبها هادي العلوي لمحمود درويش واتهمه فيها اتهامات أخلاقية واضحة، والنقد الذي وجهه له كنعان مكية في كتابه القسوة والصمت الذي صدر بالانكليزية في العام 1993 عن دار بانتيون، حيث ركز مكية على جملة وردت في كلمة درويش في المهرجان “شكراً لقمر بغداد الليموني”، والتي فسرت على أن المقصود فيها هو صدام حسين، والردود التي وجهت الى كنعان مكية من إدوارد سعيد، فواز طرابلسي، صبحي حديدي وغيرهم.

من حمل الدعوة، في ظني، إلى سليم بركات في قبرص ذلك الوقت، روائي عراقي كبير، ويقال أن سليم بركات اعتذر في البداية متعلّلاً بأنه غير معروف في بغداد وأن كتبه ممنوعة هناك، فأخرج له الروائي العراقي من جيبه مقالة صغيرة كان قد كتبها نصيف الناصري وهو أشهر شاعر سوريالي ذلك الوقت عن سليم بركات وأثره في شعراء جيله من الثمانينات، وكان الشعراء العراقيون الشباب ذلك الوقت قد قرءوا ديوانيه ” الجمهرات” الذي صدر آخر العقد السبعيني، و” أبعثر موسيسانا” الذي صدر في بدايته، وكانا متوفرين في بغداد في الثمانينات حسب ما سمعت، فسرعان ما قبل سليم الدعوة وجاء إلى بغداد.

كان المزاج الشعري في الثمانينات يرتكز على اللغة والغموض والتعمية والارتكاز على معجم قديم وبائد، وشعر آدونيس في المقدمة حيث أثر بطائفة كبيرة من شعراء السبعينيات والثمانيات شعريّاً وفكريّاً، وكتابه الثابت والمتحوّل مقدس الأجيال اللاحقة ولا سيما في الثمانيات. وأسبابه عديدة، كانت نوعاً من الهروب عن التصريح بموقف واضح من الحرب من جهة، ومن جهة أخرى من سلطة استبدادية في أعتى قوتها، ولديها ايديولجية سياسية وثقافية راسخة.

 فعلى خلاف السلطات الاستبداية في العالم العربي التي كانت تعير الاهتمام فقط للمواقف السياسية وتهمل الموقف أو النص الأدبي، كانت السلطة في العراق ممثلة بشعراء وكتاب مهمين أيضاً تتدخل في شكل الكتابة، وتحاسب على النوع أو الجنس الأدبي كموقف سياسي فكان من غير الممكن في ذلك الوقت إبراز هوية سياسية أو ثقافية أو شعرية مخالفة للسائد إلا عبر لغة غامضة، واستعارية، وترميزية وبالتالي كتابة نصوص من الصعب استنطاقها وهكذا انتعش في العراق شعر بركات المتأثر أصلاً بشعر آدونيس مثل أغلب شعراء السبعينيات “قاسم حداد، زاهر الجيزاني، خزعل الماجدي، محمد بنيس”. وكان آدونيس هو الذي نشر له ديوانه الأول ” كل داخل سيهتف لأجلي وكل خارج أيضا” والذي صدر في العام 1973 عن مجلة مواقف. وهي المجلة التي أطلقها آدونيس بعد أن توقفت مجلة شعر التي أطلقها يوسف الخال في الستينيات وكانت أهم مجلة ثقافية وشعرية حينذاك.

كما أن أغلب الشعراء الذين روجوا لشعر بركات هم من الشعراء الجنود الذي كانوا يخدمون في جبهة الحرب في الثمانينات. لذلك انتعشت كتابات سليم بركات بقوة في الجيل الذي كان يسمى المرحلة الأخيرة من جيل الثمانينات، وأغلبهم نشروا قصائدهم في مجلة الطليعة الأدبية، ومن ثم جمعت قصائدهم في كتاب انطلوجيا الموجة الجديدة الذي نشر في العام 1986 أيضاً بأشراف عرابيّ الجيل، زاهر الجيزاني وخزعل الماجدي.

حين وصل بركات إلى بغداد، كان أغلب الشعراء الشباب في الجبهة، من لم يحصل على إجازة أو دعوة هرب ذلك الوقت ووصل إلى بغداد للقاء سليم بركات، بالرغم من أن عقوبة الهروب هي الإعدام والسلطة في العراق لا تمزح، لكن المغامرة واللعب مع الموت يستحقان لقاء شاعر أحدسوا أنه سيحدث زوبعة. فبركات لم تكن له الأهمية الشعرية ذاتها التي لمحمود درويش أو الفيتوري أو سركون بولص أو حسب الشيخ جعفر ممن حضر المربد ذلك العام، ولكنه قادر على إحداث مشكلة، بدفع من الشعراء المهمشين ذلك الوقت من السلطة السياسية والذين أحاطوا به كرمز أقلياتي كردي أمام سلطة قومية عربية شوفينية، وشعري يستخدم اللغة العربية استخداماً سياسيّاً مضاداً، وهو من جانبه قدّر هذه المناسبة بطريقة بالغة الذكاء، فقرأ قصيدة مهداة إلى سعدي يوسف، وما أن لفظ اسم سعدي يوسف حتى تجمدت القاعة ذعراً، فقد كان اسم سعدي يوسف من المحظورات في سلطة صدام حسين، وقد أزيل تماماً لمحو ذاكرة ثقافية كاملة. وكما أنه سيعرّض منظّمي المربد لمسائلة قاسيّة، والسؤال هو من دعا سليم بركات إلى المربد؟ فتهجم عليه بعض الشعراء والنقاد المرتبطين بالسلطة والذين ارتبكوا أمام هذا الحدث غير المتوقع، (لا أريد ذكر الأسماء)، لكن هذا جعل سليم بركات يسير وهو محاط بمريديه أشبه بالملك، كما أنه قدر ربما متأخراً ما أقدم عليه، فخشي على نفسه، فقطع الزيارة وعاد إلى قبرص، وكان عدد الكرمل الذي صدر بعد هذه الزيارة ضمّ القصائد الأشهر لنصيف الناصري، مع شعراء آخرين هم الأهمّ من جيل الثمانيات العربي مثل أمجد ناصر وغسان زقطان وغيرهم. 

خرج سليم بركات من دمشق في العام 1971 إلى بيروت كان قد نشر بعض القصائد في مجلة الطليعة من بينها نقابة الأنساب التي ضمها إلى ديوانه الأول ” كلّ داخلٍ سيهتف لأجلي وكلّ خارج أيضاً” والذي نشره له آدونيس في العام 1973، ومن ثم نشر له الكثير من قصائد ديوانه الثاني أبعثر موسيسانا صدر في العام 1975، ومن ثم ديوانه الثالث الأشهر “للغبار، لشمدين، لأدوار الفريسة وأدوار الممالك” الذي صدر في بيروت في العام 1977، وكانت فرادة كتابات سليم بركات حينها بعودته إلى المعجم العربي القديم في الوقت الذي أخذ فيه الشعر العربي يتجه إلى لغة يومية واضحة، مأخوذاً بشعر الماغوظ وفي ديوانه الأشهر ” الفرح ليس مهنتي” والذي دفع الشعر العربي إلى منطقة جديدة تماماً. وكذلك باحتفاء سليم بركات بفضاءات الحياة اليومية الكردية التي كانت غريبة على الشعر العربي كما في قصيدته “دينوكا بريفا” التي نشرتها مواقف في العام 1972، وديلانا وديرام وغيرها من القصائد، وكان هذا النوع من الكتابة قد دشنه سركون بولص بقوّة في قصائده حيث أحيا الفضاءات الآشورية في شعره بطريقة سرديّة وقد نشرت له مجلة مواقف الكثير من هذا النوع من القصائد، وآثارها على شعر سليم بركات واضحة.

ما ورد في مقالة سليم بركات الأخيرة ليس مستغرباً، فهو شاعر اعتاد إثارة الزوبعة، وهو يدرك ان حدثاً شخصياً تافهاً “البنت المزعومة لمحمود درويش” بكل المقاييس قادر على إثارة رأي عام عربي ضده، وليس ضد درويش مطلقاً، فدرويش تحول إلى أيقونة عند جيل لا يعرف تاريخ الأدب العربي ولا يفهم فيه، وربما هذه هي واحدة من الأسباب التي جعلت سليم بركات يثير هذه الزوبعة، مع أسباب عديدة، ففي الزمن الذي كان يحيا فيه درويش لم يكن هو الأهم شعرياً لا عند الشعراء ولا عند المثقفين، كانت شهرته جماهيرية فقط، كان هنالك آدونيس، عبدالصبور، سعدي يوسف، الماغوط، أنسي الحاج، وغيرهم، ولكن بعد وفاته تحول إلى أيقونة وخصوصا عند الجيل الجديد فأثار حساسية الكثير من الشعراء. من يعرف محمود درويش يعرف جيداً أنه يجيد اختراع قصص من هذا النوع للتسلية، لا أظن أن سليم بركات صدقه حينها، على الأرجح أراد تصديقها مؤخراً، فكتب مقالته وبالطريقة التي يجيد فيها أن يثير حساسية العرب أمام جهلهم بلغة بائدة وحساسيتهم الأخلاقية التي لم تتحرر من كل شيء قديم وبائد. 

سأتكلم لاحقاً عن علاقتي بمحمود درويش الذي تعرفت عليه قبل وفاته بعامين في سيئول في كوريا الجنوبية، وقد دخلت معه بحوارات طويلة وممتعة.

——————————

بوح سليم بركات ذاكرة للنسيان أم تأسيس لسيرة أخرى للشاعر الغائب؟/ راشد عيسى

وصلَنَا سليم بركات، نحن بعض فلسطينيي المخيمات، فيما نتهجّى قراءاتنا الأدبية الأولى، محمولاً على سيرة محمود درويش، تلك التي كنا نلمّها أصلاً بأهداب العيون من مقابلات صحافية هنا وهناك، ومن بين سطور القصائد، أو من أبحاث ومقالات كتبت عنه، وأحياناً شهادات شخصية وأقاويل. ذهلنا بما عرفناه عن الشاعر الفتى الذي سحر درويش إلى حدّ التبني، ترى من يكون! كيف استحق أن يحتل هذه المساحة من “ذاكرة للنسيان”، الكتاب الذي روى يوميات حصار بيروت وفيه أشار الشاعر الراحل مراراً إلى “سين”، “ديك الحي الفصيح”! من هو هذا الشاعر المفتون بلعبة اللغة والعضلات والمسدسات؟

في خطوة تالية قرأنا “الجندب الحديدي- السيرة الناقصة لطفلٍ لم يرَ إلا أرضاً هاربةً فصاح: هذه فخاخي أيها القطا”، و”سيرة الصبا- هاته عالياً، هات النفيرَ على آخره”، (يمكن اختصار الأمر بالطبع إلى ما صدر لاحقاً تحت عنوان “السيرتان”، لكن تلك العناوين الطويلة كانت جزءاً من الفتنة). سرعان ما باتت السيرتان جزءاً من مفرداتنا ويومياتنا وسيَرنا، كنا نركض ونصرخ في الشوارع بأسماء وأمكنة شخصيات سليم بركات. الغريب أنها جاءت، هي البعيدة عنّا مسافة نحو ألف ميل إلى الشمال، مطابقة لمفردات حياتنا، ربما أكثر من مفردات درويش نفسه، حيث مخيمات الوحل والغبار والبنّائين والعتّالين.

حين يعيد سليم بركات اليوم، في مقالته المبنية كنص إبداعيّ “محمود درويش وأنا” (“القدس العربي-الأسبوعي” 06 حزيران 2020)، سرد سيرتهما التي تقع تقريباً بين صورتين، واحدة بالأبيض والأسود تعود إلى العام 1973 استعارها أخوه الأصغر “فحملها من بيروت إلى دمشق. اعتُقِلتِ الصورةُ، واختفت حتى يومنا هذا”، وصورة ملونة أخرى وصلتْه على الانترنت، من مشهد لقاء جمع الشاعرين “بجمهورٍ في السويد. صورةٌ ملونةٌ هي الثانيةُ أرانا فيها جنباً إلى جنبٍ”، فهو لا يقول سوى ما يعرفه القارئ المتابع، على الأقل لتجربة درويش وسيرته، وسيرة بركات جزء منها، حيث “ذاكرة للنسيان” وحصار بيروت، وتجربة العمل الصحافي-الثقافي، القصائد المتبادلة، قصيدة محمود درويش المهداة إلى بركات “ليس للكردي إلا الريح”، وتلك التي تصف بيته في السويد “في سكوغوس”، والقصيدة المقابلة “محمود درويش: مجازفة تصويرية”. النافر الوحيد في المقال هو حكاية الابنة المزعومة، إذ يقول بركات “ألقى عليّ، في العام 1990، في بيتي بنيقوسيا ـ قبرص، سِرًّا لا يعنيه. كلُّ سِرٍّ يعني صاحبَه، لكن ذلك السرَّ لم يكن يعني محموداً. باح به بتساهُلٍ لا تساهلَ بعده”. ثم أضاف قول الشاعر “لي طفلة. أنا أبٌ. لكن لا شيء فيَّ يشدُّني إلى أبوَّةٍ”. أقصى ما يبوح به الشاعر السوري من الحكاية قوله: “محمود لم يسأل المرأةَ، حين انحسر اعترافُها، وانحسرتْ مبتعدةً في العلاقة العابرةِ، عن ابنته. أبوَّتُه ظلَّتْ تبليغاً موجَزاً من صوتٍ في الهاتف عن ابنةٍ لم تستطع العبورَ من صوتِ أمها إلى سمع أبيها”.

يضيف الشاعر السوري الكردي، الذي عمل سنوات إلى جانب درويش في مجلة “الكرمل”: “أنا لم أسأله مَنْ تكون أمُّ طفلته. امرأة متزوجةٌ، صارحتْه المرأةُ مرتين، ثلاثاً، في الهاتف بابنته، ثم آثرتْ إبقاءَ ابنتها أملَ زوجها”. ويختم “محمود لم يسأل المرأةَ، حين انحسر اعترافُها، وانحسرتْ مبتعدةً في العلاقة العابرةِ، عن ابنته. أبوَّتُه ظلَّتْ تبليغاً موجَزاً من صوتٍ في الهاتف عن ابنةٍ لم تستطع العبورَ من صوتِ أمها إلى سمع أبيها”.

واضح أن مسوّغ بركات لحكاية الابنة المزعومة هو حديث الأبوة، أبوّة درويش الممنوحة لسليم، ومن ثم لقاء درويش مع ابن الأخير: “في اللقاء الأخير على بوابة الشمال الأخير من أطلس العالم، جَمَعَنا عشاءٌ،.. همس وهو ينظر إلى ابني ـ ابن السابعة عشرة: كسبتُ صداقةً جديدة. ابتسمتُ. كان أجدى لو قال: ها التقيتُ حفيدي”.

هنا، عند الحكاية/ السرّ، كان بإمكان الجميع أن يتغافلوا عن الأمر، إذ ما الذي يعنيهم الآن من اكتشاف ابنةٍ للشاعر؟ هل يبدّل ذلك من قيمة نصوصه الشعرية التي لطالما تغنينا بها جميعاً؟ هل يخفف من نضاليته في سبيل القضية التي بات أحد رموزها؟ ثم أليس من الشائع أن للشاعر معجبات وعاشقات أكثر مما يحتمل قلب شاعر، جميلات تمتلئ بهن القصائد؟ هل لدى أي منّا أمل بأن يرث نجل الشاعر، إن وجد، مكانته الأدبية ورمزيته؟ إذاً بإمكان القارئ أن يقفز عن الحكاية ليقول وما شأني أنا، ما شأننا جميعاً بذلك! أم أنه الفضول للصورة التي يمكن أن تكون عليها ابنة شاعرنا الأحب! قد يفيد أيضاً تذكّر جواب الشاعر في مقابلات صحافية بخصوص الإنجاب، ما معناه “ماذا لو أنجبت ولداً فظاً!”، ولعلّه كان يحاول بذلك دفع الفضول والإلحاح الصحافي.

كان بالإمكان التسامح مع الحكاية الفائضة في نص بركات لو كانت من دون أي مفاعيل على الأرض، لكن على الفور ظهر من يدفع إلى تصوّر حال البنت، إذ يقول الكاتب السوري الكردي هوشنك أوسي: “لا أحد فكّر في تلك الفتاة التي أصبحت الآن صبيّة. لا أحد فكّر في استمرار معاناتها، وخوفها من الجهر بحقيقة أبيها. لا أحد فكّر بألم ومعاناة تلك المرأة التي من فرط افتتانها بدرويش نامت معه وهي على ذمّة رجل، وقابل الشاعر الكبير ذلك الكرم من تلك السيّدة، بتجاهله ابنته. بدلاً من الالتفاتة إلى الأمّ وابنتها، الكلّ سارع إلى التكذيب وإنقاذ درويش وكأنّه يشارف على الغرق! وكأنّه مدان أو في خانة قفص الاتهام! الحقّ أنه ليس بركات من وضع صديقه في خانة الاتهام، بل الذين نصّبوا أنفسهم محامي دفاع، وترافعوا عنه، عبر النفي والتنكيل ببركات، بتلك الطريقة الشعبويّة الهزليّة”.

كذلك تكتب الإعلامية اللبنانية ديانا مقلد “عند الغيارى على درويش “القضية”/ القصة هي إثارة السرّ وكشف الخصوصية، ولا بأس في أن تحصل هذه القصة ومثيلات لها لكن لتكن بالسرّ! قلّة تكاد تكون معدومة توقفت عند الحقيقة المفجعة الوحيدة في هذه الحكاية، وهي الفتاة التي تملّص درويش من أبوتها (بحسب رواية الصديق)، والمرأة التي عليها أن تدفع بصمت ثمن علاقة يظهر فيها “الشاعر” موضع الرومانسي فيما تبدو المرأة (الأم والابنة معا) في موضع الملوث لتاريخ الأيقونة”.

الناشر السوري فايز علام يستعيد حكاية الابنة التي تخلّى عنها الشاعر الشهير بابلو نيرودا، كما وردت في رواية “مالفا”، إذ يكتفي الناشر الشاب بعبارة على لسان الابنة: “كل لحظة من وقته ينفقها من أجل إنقاذ حياتي هي لحظة ضائعة من الأدب والخلود”. كأن العبارة المريرة تريد أن تكون جواباً يقول بأهمية حياة الناس إزاء كل ما سواها من قضايا.

إذاً فإن الحكاية ومتاعبها لا تنفع لتزجية الوقت، ولا يجب الانصياع إلى مشجعي نشر السير الذاتية كنصوص موازية للنص الأدبي، والقائلين إن بإمكانها أن تضيء وتفسر وتحسم مقاصد النص، على صحة وضرورة كل ذلك. فهناك ما سيبنى على الحكاية في حال صحتها. من أبسطها مسائل الإرث الشائكة. إننا نعيش اليوم في زمن الكلّ ينبش فيه القبور، والكلّ يريد أن يحاكِم الكلّ بمفعول رجعي، ولا أدلّ على ذلك حين نشاهد تحطيم تماثيل مشاهير بسبب اكتشاف أقوال عنصرية في سيرهم الذاتية.

رغم مصداقية سليم بركات، وقربه وحبه للشاعر الراحل، لا نستطيع أن نسلّم بروايته، هذه التي تحتاج، حتى مع وجود أطراف القضية، إلى جهد قضائي كبير لإثباتها. كما حدث في حكاية الفنان التشكيلي المصري البارز عادل السيوي، وفي إنكار الفنان اللبناني زياد رحباني لولد يحمل اسم أبيه بعد أن بلغ سنّ الشباب. وفي الحالتين لم يكن من السهل إثبات الادعاءات أو نفيها إلا أمام المحاكم مع إجراءات عسيرة، رغم وجود مختلف الأطراف على قيد الحياة. فما بالك هنا أمام “أب” غائب، وأم وابنة مجهولتين أو مخترعتين للتو!

كما أن قولاً بهذه الخطورة، مع انعدام التوثيق، لا يسوّغ لصحيفة كبرى أن تضع مانشيتاً عريضاً يقول “فضيحة ابنة محمود درويش هل تشوه صورته لدى جمهوره؟”. هو أسوأ عنوان صحافي على الإطلاق بخصوص المقال، ومن المؤسف، فوق ذلك، أن من وضعه شاعر، أولاً لأن كلمة “فضيحة” تستجدي قراء الصحافة الصفراء، وثانياً لأن عبارة “ابنة محمود درويش” تحسم جدلاً بدأ للتوّ في ما يحتاج توثيقاً دقيقاً، ثم هل هي فضيحة “ابنة” محمود درويش فعلاً؟! وصولاً إلى السؤال الإيحائي، الذي يطمح، على ما يبدو، إلى تحريض القراء لاتخاذ اللازم: “هل تشوه صورته لدى جمهوره؟”. ومع أن المانشيت يعكس لسان حال الكثيرين ممن تعاطوا على هذا النحو مع الخبر، إلا أن التبني “المطبوع” يحوّل الخبر إلى ما يشبه الحقيقة (معلوم أن بعض الأخبار لا يمكن اعتباره خبراً إلا إذا نشر في جريدة، بل إن هناك من يعرّف الخبر الصحافي بأنه ما ينشر في الجريدة، سوى ذلك سيظل مجرد ثرثرة مهما بلغ من القوة).

زلّة سليم بركات لم تورّط الشاعر الراحل ومحبيه فحسب، بل ورّطته هو بمواقف وآراء تجرأت على شخصيته قبل كتابته وموهبته. فأول وأبسط ردود الفعل جاء يكذّب حكاية الاعتراف الدرويشي من أساسه، ورغم أن بركات كتب نصاً مشغولاً في كل حرف ونَفَس فيه بحب صديقه الراحل، فقد كان سهلاً على البعض أخذه على محمل الانتقام (من دون أن يقول ممَ)، وفي معادل لطيف ومثقف للعبارة تحدث البعض عن محاولة لـ “قتل الأب”، وفي حالات كثيرة جرى الحديث عن تسلّق لاسم الشاعر الفلسطيني، كيف؟! والأخير نفسه قال كلاماً في صديقه الكردي لا يمكن أن تعثر على مديح مثله لشاعر: “كان محمود مذهِلاً في تلقائيةِ اعترافه، بلا تحفُّظ من شاعرٍ كبير مثله، أنه جاهدَ كي لا يتأثر بي”. وفي سيرة الشاعرين ما يثبت صحة العبارة.

ثم جاءت ردود الفعل التي وجدت فرصتها في الانقضاض على لغة الشاعر وأسلوبه “المتكلف”، و”الثقيل”، بل و”الركيك”..! إن كنتم تثقون بمحمود درويش، رمزاً وشاعراً كبيراً، فكيف لا تثقون بذائقته التي انتخبت قصيدة سليم بركات ووضعتْها في مكانة رفيعة. لا شك أن نصوص الشاعر السوري ذي الأسلوبية الفريدة ليست سهلة المنال، قد تستهوي ذائقتنا أو لا، قد تطلق مخيلتنا أو لا، ولعلها لا تنسجم مع ميلنا لقراءة شعر سهل ناعس يستدرج النوم، لكن لا يمكن بأي حال القول بخوائها وانعدام موهبتها. بعض الآراء المجحفة لا تعكس نقصاً في الذائقة وحسب، إنما لا يمكن إطلاقها من دون قلّة ضمير.

لم يكن ينقص قضايانا وأزماتنا المستعصية الحارقة، على ما يقول كتاب جادّون، إلا خبر من هذا النوع اهتزّ له الجميع تقريباً، هم المشغولون بمصير الكوكب وأوطانهم على الأقل. كان بالإمكان حذف الخبر، تجاهله، الاستخفاف به، لكن ما دام بلغ هذا الحدّ من التناول والذيوع فلم يعد ممكناً عدم الخوض فيه. كتب الكثير، واستعيدت سير وحكايات شخصية وسياسية غابت عن البال، ومن المتوقع بطبيعة الحال أن تفرّخ القصص قصصاً وأساطير.

القدس العربي-الأسبوعي”

—————————–

الشاعر الفلسطيني والشاعر الكوردي والريح بينهما/ نصري حجاج

قبل الدخول إلى أسرار الهجومات على مقالة سليم بركات في الفزعة القبلية العشائرية الأخلاقية الصادمة في كتابات شعراء ونقاد وروائيين ووطنيين فلسطينيين وقوميين عروبيين وقراء شعر ورواد وسائل التواصل الاجتماعي من محبي محمود درويش ومريديه، من المثير أن نسأل لم كل هذا الهجوم ….

وجدت نفسي نافراً في هذه الموقعة التي امتد غبارها في كل أرجاء البلاد العربية وفي ساحات التواصل الاجتماعي، ولم أسمع سوى ضجيج وصراخ وشتائم وتخوين أخلاقي واتهامات بالتسلق والوصولية وحب الشهرة والمؤامرات الكونية على القضية الفلسطينية ورموزها وإشارات عنصرية، إضافة إلى استنفار قبلي وعشائري مقيت في بعض وجوهه.

عندما قرأت مقالة الشاعر السوري الكوردي سليم بركات عن الشاعر الفلسطيني محمود درويش، رحت من ساعتي وشاركت المقالة على صفحتي في “فايسبوك” وطرزتها بعنوان “نشيد الأناشيد في الحب بين شاعرين”. هذا ما وصلني من مقالة بركات، وصف حميم لحبه الشاعر الفلسطيني الذي بادله الحب وأحب شعره ونثره، وإن كان أحب نثره أكثر من شعره.

ألم يلتفت محمود درويش يوماً وهو الشاعر والناثر المسكون باللغة إلى لغة سليم بركات التي تعرضت في هذين اليومين إلى حملات شرسة من الشتائم والأوصاف البشعة لوعورتها ورعويتها وتكلفها وتحجرها وصخريتها ومخاتلتها واحتيالاتها على المعنى واستعبادها في خدمة ما سمّي الغيرة والكراهية والرغبة المضمرة في قتل الأب محمود درويش.

نفور وامتعاض من لغة سليم بركات غير المفهومة، عن قصد، برأي البعض، مع أن هذه هي اللغة التي كتب بها بركات منذ بداياته في الكتابة ومذ عرفه الشاعر الفلسطيني. صحيح أن لغة سليم بركات ليست مألوفة في الأدب العربي الحديث، إلاّ ما ندر وذلك لانشغال بركات العميق والدؤوب بأسرارها الدفينة وبمغامراته لتطويعها وجعلها تنفض عن كاهلها غبار الضجر والتكرار والرتابة السائدة. وقد تذكرنا تجربة انشغال سليم بركات باللغة إلى حد ما بتجربة الانشغال باللغة لدى الكاتبين اللبنانيين وضّاح شرارة وأحمد بيضون والكاتبة رشا الأمير والكاتب التونسي محمود المسعدي، في استنادهم إلى ما جاء في تراث اللغة العربية القديم ومحاولة تقديمه بصورة حديثة قريبة من اللغة المكتوبة اليوم، في حين أن بركات ثابر منذ بداياته عكس تجربة هؤلاء، ونجح في نحت حديث في استخدامات العربية وجعلها تتخلص من شوائب الإطالة والعطف والمداورة، كما على اللغة أن تكون حيّة وحيوية وقابلة للتطور والتجدد.

قبل الدخول إلى أسرار الهجومات على مقالة بركات في الفزعة القبلية العشائرية الأخلاقية الصادمة في كتابات شعراء ونقاد وروائيين ووطنيين فلسطينيين وقوميين عروبيين وقراء شعر ورواد وسائل التواصل الاجتماعي من محبي محمود درويش ومريديه، من المثير أن نسأل لم كل هذا الهجوم والتبرم والتقزز من لغة بركات العربية التي لا تختلف عن كتاباته الشعرية والنثرية منذ نحو خمسين عاماً.

لماذا بدأت مقالات النقد التي تناولت مقالة بركات بالإشارة إلى لغته وغموضها؟ ليس الآن الوقت للدخول في استعراض نقدي سوسيولجي وسيكولوجي وثقافي، لماذا من بين كتاب العربية تبرز لغة سليم بركات نافرة وواضحة في صعوبتها وعمقها وهي اللغة نفسها التي يتداول مفرداتها الناس في حياتهم العادية. لقد شهد تاريخ الأدب الحديث هذا النوع من الكتاب الذين أوغلوا في نحت لغة كتابتهم حين يكتبون بلغة غير لغتهم الأم. لقد تناول المثقف الفلسطيني إدوارد سعيد هذه المسألة في أطروحته المهمة عن جوزيف كونراد الكاتب البولندي الأصل الذي كتب بالفرنسية أولاً ثم كتب رواياته بالإنكليزية. لقد أحب ادوارد سعيد كونراد التشابه في مصيريهما فالكاتبان تركا وطنيهما وصارا كاتبين في المنفى وكرسا حياتيهما في تفسير، لنفسيهما وللقراء، معنى أن تكون منتزعاً من جذورك ومنفصلاً عن ماضيك وأنت تشهد تقلص هويتك والخدوش التي تصيبها في كل لحظة. كتب كونراد بالإنكليزية وكتب سعيد بالإنكليزية بأسلوب وتركيب لغوي لم يكن سهلاً بل حفرا في منعرجات اللغة لأنهما تعلما من التجربة المعاشة في المنفى وبسرعة هائلة أن الإحساس بالهوية مرتبط باللغة.

عندما نشر الكاتب البريطاني من أصول هندية سلمان رشدي في نهايات الثمانينات روايته “آيات شيطانية” صاحبت نشر الرواية ضجة غير تلك التي أثارتها فتوى آية الله الخميني، بهدر دم رشدي لتجديفه ضد الدين الإسلامي وأعني الضجة التي قادها كتاب بريطانيون معروفون ضد رشدي بسبب لغته الإنكليزية، “المقعرة والصخرية الباردة والوعرة والمتكلفة في أرستقراطيتها”. يحيلنا ذلك إلى ما جاء في الأوصاف التي شهدناها حيال لغة سليم بركات. ونتذكر أيضاً تلك الكتابات الإسرائيلية حول رواية “أرابيسك” للكاتب العربي الفلسطيني أنطون شماس المكتوبة بلغة عبرية متينة فاقت في تركيباتها اللغوية وكشوفاتها البنيوية للغة العبرية ما كتبه أهم الكتاب العبريين الحديثين.

يمكن القول إن بركات الكاتب السوري الكوردي منفيّ داخل اللغة العربية، اللغة الوحيدة التي استطاع أن يعبر بها عما يريد وصفه من تشظي الهوية واختناق المكان مثلما فعل إدوارد سعيد وجوزيف كونراد وسلمان رشدي وأنطون شماس. فالتجربة الخاصة جعلتهم يعترفون بالرابط بين الثقافة والعنف واللغة والسلطة والسردية والهيمنة ويصفونه بكل تعقيداته وتأثيراته.

كل ما قيل من أوصاف حيال لغة هذه المقالة البوحية للكاتب والشاعر سليم بركات لم يكن غير وصف لحالة العجز في متابعة اللغة ورفض القراء الدخول في مغامرة بركات في غابات اللغة الغنية القادرة على منحه القدرة على مواجهة تشظي الهوية منطلقاً من أصول هوياتية مختلفة عن تلك التي اعتمد عليها صديقه درويش الذي فهم بعمق تجربة بركات، فكتب له في قصيدته “ليس لكردي إلاّ الريح”:

هُوِيَّتي لُغتي. أنا… وأنا.

أنا لغتي. أنا المنفيّ في لغتي.

الرفض والقسوة في التعاطي مع بركات ومقالته التي صدرت في كتاب، تمحورا حول قضايا أخلاقية قابلة للنقاش ولتعدد وجهات النظر التي قد تكون محقة جميعها. هل من المسموح للصديق بأن يكشف سرّ صديقه بعد موته؟ وهنا المسألة تتعلق بالأخلاق والتركيب السيكولوجي للفرد، والأخلاق والتراكيب السيكولوجية كما نعرف تختلف مقاييسها باختلاف الثقافة وباختلاف الأفراد، وليس أحرص على حفظ الأسرار من الثقافة العربية وليس أكثر من الثقافة العربية انفلاشاً في كشف الأسرار. لو حاكمنا كشف سرّ محمود درويش في مقالة بركات بمقياس بسيط وتبسيطي قد نقول إن بركات ارتكب خطأ في كشف سر صديقه الذي عندما أباح له به لم يكن يكترث للسر كما جاء في مقالة بركات الذي لا أعتقد أنه يكذب، وخصوصاً في أمر يتعلق بمحمود درويش. بحسب ما جاء في وصف بركات هذه الحكاية لم يكن حتى محمود درويش يعتبرها سرّاً تجب المحافظة عليه أو حكاية كان يمكن أن يحكيها علناً قبل رحيله. نحن لا نعرف ظروف علاقة درويش بهذه المرأة ومدى صدق المرأة نفسها في أن محمود هو أب لابنتها حقاً. في العالم الكثير من الحكايات حول أبناء وبنات “لا شرعيين” لمشاهير ثبتت صحتها كما ثبت عدم صحتها في بعض الأحوال.

لا أشك أولاً بصدق سليم بركات وبأن درويش أخبره بالحكاية ولن أطرح هذا السؤال الذي أعتبره بصراحة سؤالاً بوليسياً ساذجاً ولا معنى له: لماذا كشف بركات السرّ الآن وهو الذي يعرفه من عام 1990، أي أن الطفلة صارت اليوم امرأة في بداية الثلاثين من عمرها. عندما هبّ المعلقون وطرحوا السؤال لماذا الآن كانوا يضمرون من وراء السؤال مؤامرة كونية عقلها المدبر والمنفذ سليم بركات وربما حلفها الإمبريالية العالمية والصهيونية كما جاء في تعليق لكاتبة.

تكتظ مكتبة علم النفس الإكلينيكي بالأبحاث والكتب والدراسات الميدانية حول سيكولوجية الأسرار الشخصية وحملها وإفشائها للآخرين. أسرار نقلها لنا أصحابها أحياءً وأمواتاً وأفشيناها لدائرة ضيقة أو للعلن عبر الميديا. تحلل هذه الدراسات ثقل السرّ على صاحبه وحين يخبر به أحداً، بحسب التحليل النفسي، تكون لديه رغبة لا واعية في إزاحة الثقل عن قلبه وعقله بمشاركته مع الآخر. ويذهب التحليل النفسي إلى مدى أبعد من ذلك في أن صاحب السر يرمي من وراء بوحه إلى رغبة لا واعية أيضاً في أن يكشف الشخص المودع السر عنده ليريحه من وجع أحياناً في الضمير. هذا التحليل ليس نموذجاً في كل الحالات ولكن علم النفس لا يغفله أبداً. قد يقول كثيرون، لماذا أودع محمود سره لدى سليم بركات وليس غيره ممن كان يعتقد الناس أنهم أصدقاؤه المقربون أو ممن ادعوا أنهم أصدقاء الشاعر؟ هنا تكمن مسألة أخرى جديرة بالتفكر والتحليل. لأن سليم بركات صديقه الأقرب على ما أعتقد وليس، بحسب بركات نفسه، لأن الشاعر اعتبره ابناً له، وهذا تفسير سيكولوجي آخر. هو أحب بركات باختلافه عنه وبإبداعه الأدبي الساطع وبإعجابه بلغة بركات وكيفية قبضه على دواخلها وربما هذا ما أراده محمود درويش، كشف السرّ الثقيل على روحه على هودج  الشعر أو على السارية العالية للكلمات التي تستطيع أن تقدم سرّه واضحاً كما الحقيقة، فيراه القريب والبعيد وليس من طريق لغة النميمة التالفة في دواوين القبيلة وهو يستحق ذلك. يستحق الشاعر أن يكشف سرّه شاعر يوازيه شاعريةً أو ارتباطاً باللغة، هوية للروح.

الذين تعاملوا مع هذه “الفضيحة” اعتبروا بركات خائناً للأمانة ومتسلقاً على أكتاف الشاعر، واعتبروا أن يكون لمحمود ابنة عاراً وإهانة لصورته وذبحاً للشاعر كما قال أحدهم أو إعداماً علنياً له كما كتب آخر، وكأن الشاعر لا يرتكب سقطة “أخلاقية”. أين المشكلة في أن يكون لمحمود درويش ابنة من عشيقة متزوجة من رجل آخر أو غير متزوجة. لم ينتبه أحد من الناطقين باسم القبيلة إلى المرأة والى السقطة “الأخلاقية” التي ارتكبتها أو إلى المأساة التي أصابتها وأصابت ابنتها وزوجها في هذه الحكاية التي تلفها درامية بائسة، أو إلى زوجها المخدوع إذا كان لا يعلم بأن البنت ليست ابنته وإلى شهامته وكرمه إذا كان يعلم بالحكاية. ثم لم يتحدث أحد عن مصير البنت، المرأة التي صارت في الثلاثينات الآن، وهل تعرف أن أباها البيولوجي هو درويش أم لا تعلم. هناك فروع كثيرة للحكاية لكن الفزعة القبلية لم تر غير صورة محمود درويش وخيانة صديقه والمؤامرة ضد القضية الفلسطينية والنقاء الذي لا يضاهيه نقاء للشاعر الفلسطيني الكبير.

ليس من المأساة أن يرتكب شاعر ما، محمود درويش أو غيره خطأً لا يمكن إرجاعه إلا لخلل في التعامل الإنساني الذي يكتنف العلاقات العاطفية بين البشر بين رجل وامرأة أو أب وأطفاله أو أم وزوجها، ومهما كانت الظروف المحيطة بالحكاية أي أن لا تكون الأم زوجته وتكون متزوجة من رجل آخر وأن يكون كشاعر وكمحمود درويش لا يكترث لأن يكون أباً وهو دورٌ ذكر أكثر من مرة أنه لا يصلح له أو لا يريده أصلاً وهو حق إنساني له أيضاً. إن ما كان لمحمود درويش وما بقي له ومنه هو إرثه الشعري وقيمته الأدبية ورمزيته كمبدع فلسطيني أخذ بلاده وهويته على أجنحة الشعر إلى الكون.

عندما فكّر أحد السينمائيين الفلسطينيين مرة قبل نحو عشر سنوات أن يقدّم فيلماً روائياً عن محمود درويش واتصلت بي من فلسطين باحثة فلسطينية تعمل معه على الحصول على معلومات، بهدف كتابة السيناريو قلت لها إنني لست مع أي فيلم روائي عن محمود درويش. وهذا كان رأيي أيضاً عندما اتصل بي عام 2009 المنتج والممثل السوري فراس ابراهيم يعرض عليّ إخراج مسلسله التافه عن محمود درويش والتقيته مع كاتب السيناريو حسن م.يوسف، لأنني كنت بالمصادفة في دمشق مع صديقي الراحل محمد شمس الدين، وقلت إنني ضد أي عمل روائي أو درامي عن الشاعر.

وجهة نظري هي ماذا ستكتب عن محمود درويش وكيف تقدمه في عمل روائي غير وثائقي؟ هل ستكذب وتضيف من خيالك أم سوف تكون صادقاً؟ وليس محمود درويش منزهاً عن الأخطاء والمثالب فلنترك محموداً يرقد بسلام ويكفينا منه ما قدمه لنا، فلسطينيين وعرباً من الشعر وهذا يكفي من الشاعر.

ربما يكون هذا السر واحداً من أسرار كثيرة في حياة درويش الذي عرف عنه علاقاته النسائية المتعددة في البلاد التي عاش فيها أو زارها، منها ما هو معروف لأصدقائه القريبين ومنها ما هو غير معروف. ولكن ليس كل من قال إنه يعرف أسراراً كثيرة عن محمود درويش صادقاً وليس كل من عرف سرّاً وأذاعه بالضرورة كاذباً.

درج

————————————-

الدرويشية كنظام شعري … و”خطيئة” سليم بركات/ إيلي عبدو

ما يروى عن لسان “الشاعر الرمز”، يصبح “إفشاء سر” ويرقى إلى “الخطيئة”، و “الخيانة”، والأولى إذ تحيل درويش إلى “الإله”، فالثانية تحيله إلى “البطل القومي”، والبطولة والألوهة، يغذيان بعضهما بعضاً

محمود درويش أوسع من شعريته، من خارج شروطها، تأسست له، صورة جعلت من الشعرية، أداة لصوغ ذائقة تتلقى القصيدة بواحدية لا يشوبها أي تعدد، ما يحول القارئ إلى متلقٍ، يصغي إلى ما اعتاده واستقر عليه، ويحوّل القراء في مجموعهم، إلى جمهور، إذ استمع إلى الشاعر الأوحد، صرخ إعجاباً، وكأنه يهتف شعارات صيغت من قبل جهاز دعاية أيديولوجية.

توحيد الإعجاب الشعري وتعميمه جماهيرياً، يستند إلى القضية الفلسطينية التي اعتمدها درويش موضوعاً له، قبل أن تتدرج الجماليات والتقنيات الأسلوبية في نصه، مخففة، وأحياناً ماحية، ما تجذر من نضالية وتعبئة. فما صيغ من وعي عربي متحور حول القضية، في السياسة والثقافة، تبدى حاملاً لعلاقة الشاعر مع محبيه، الذين كانوا أوفياء لصورته أكثر من وفائهم لشعره، وهو ما يظهر بوضوح، بعدم قبول الجمهور تحولات القصيدة الدرويشية البعيدة من مباشرية القضية، والالتصاق بما ألفه هذا الجمهور من نصوص غنائية تعيد إنتاج الشعارات في قوالب شعرية.  فالشاعر بقي مستلباً من بداياته، لا يستطيع تغيير صورة ضاق بها، شعرياً واستفاد منها جماهيرياً. هكذا، تمت صناعة الدرويشية بالضد من درويش نفسه الذي انحاز إلى الإنساني والبسيط والعادي، من دون التنازل عن غنائية تدرجت بمستواها من العلو إلى الخفوت.

ودرويش في بلوغه صورته كشاعر أوحد، ثابت عند قصائده الأولى، مهما طوّر من شعريته، ليس سوى معادل لـ”أبطال” تصدروا حقب أوهام البطولة والخلاص واستعادة الأمجاد الغابرة. وكأنه امتداد لجمال عبد العناصر ومعمر القذافي وصدام حسين وحافظ الأسد، حيث الحقب الأولى لهؤلاء، مؤسسة على الحامل ذاته الذي صعد عليه درويش ولم يفلح في مغادرته، بالمعنى الجماهيري العريض. “القائد” يوازي “الشاعر” وبينهما الكثير من الواحديات “المفكر” و”الرسام” و”الرياضي”، كلها نماذج مطلقة، ضمن مناخ نابذ للتعدد، مصاغ ليدور حول جوهر واحد، ويبدّل في الصور والوجوه، بتكرر مضجر، دون معنى أو أفكار.

والأحادية، إذ تصدّر نماذج هنا وهناك، تلغي السياسة والكتابة والشعر والرسم، فنغدو حيال عدد من الأفراد “الخارقين” الذين يبتلعون الحياة برمتها. الدرويشية بهذا المعنى ابتلعت الشعر، وصهرت أذواق الناس في ذوق واحد، وجعلته تقليداً قومياً، على غرار الظواهر الأخرى في بلادنا حيث أنظمة الانقلابات المعرفية، الرافعة دعوة فلسطين، تحدد المعايير وتفرضها.

وترابط الدرويشية مع حاملها القومي، رتباً صنمية، جعلت من الشاعر وثناً وإلهاً، تحوطه هالات تحميه من التلوث بالبشر، فالأمسيات غدت ظهورات، والكتابات النقدية أشبه بالكلام الديني عن الأنبياء والقديسين، والمواقف أقوال حاسمة يتم رفعها إلى مقام الحكم.

هكذا صارت الدرويشية، نظاماً شعرياً معرفياً له امتدادات في النقد والصحافة والإعلام وله جمهور عريض، يعتمد القصائد الدرويشية معياراً لما هو شعر أو لا. والحال، فإن الشخصي ضمن هذه النظام المؤسِس لمحمود درويش، يصبح مضبوطاً على إيقاع الصورة نفسها، يفيدها ولا يعكر نقاءها، وإن صدف أن تم طرحه بالضد من ذلك، كما فعل الشاعر سليم بركات قبل أيام، كاشفاً أن درويش قال له قبل ثلاثين عاماً: “لي طفلة، (من امراة متزوجة) أنا أب، لكن لا شيء فيّ يشدني إلى الأبوة”، فإن ذلك يرتب تصديعاً للنظام الصنمي وهتكاً لأساساته. فالإنساني الذي يحتمل الحدود القصوى من الشرور والأخطاء، مستوعب شعرياً، ولا يجوز إخراجه من القصائد، وتعريض صاحبه المؤسس كصورة ونموذج ووثن، إلى ما هو بشري وعارض وموقت.

وما يروى عن لسان “الشاعر الرمز”، يصبح “إفشاء سر” ويرقى  إلى “الخطيئة”، و “الخيانة”، والأولى إذ تحيل درويش إلى “الإله”، فالثانية تحيله إلى “البطل القومي”، والبطولة والألوهة، يغذيان بعضهما بعضاً، ليكون درويش نفسه بكل ما كتب من شعر ضحيتهما الأساسية. ذاك أن الشاعر سُجن ولا يزال داخل صورته التي تشعبت وتطورت إلى نظام متكامل، سعى في البداية للاستفادة منها، لكنها سرعان ما ابتلعته، فالقضايا بترسانتها الأيديولوجية أقوى من الأفراد مهما امتلك هؤلاء من قدرات إبداعية.

ربما، نحتاج إلى إفشاء المزيد من “الأسرار” عن حياة محمود درويش لتحريره من صورته، والاكتفاء بشعره.

درجاته

————————–

استغلال محمود درويش/ سوسن الأبطح

غريبة في أسلوبها وفي توقيت نشرها، رغم أنها مكتوبة منذ عام 2012، تلك المقالة التي نشرها سليم بركات عن محمود درويش، ضمن كتابه الجديد «لوعة كالرياضيات، وحنين كالهندسة» الصادر عن «المؤسسة العربية للدراسات والنشر».

ومع الاعتراف بموهبة الشاعر والأديب سليم بركات، وهو بالتأكيد ما حمل فذاً بمستوى محمود درويش على الاهتمام به، فإن تصوير نفسه قرين الشاعر الكبير، وتوأم روحه ومكمن أسراره واعترافاته، مستفيداً من غيابه، أمر آخر.

جميعنا يعرف من كان يحيط بدرويش، ومن هم المقربون منه، ومن لازمه ورافقه، والأجدر بالتحدث عن خفاياه الحميمة، ومع ذلك لا يفعلون. أما بركات الذي سمحت له الفرصة بأن يلتقيه بانقطاع سنوات على مائدة من الأسماك وثمار البحر، أو حول أمسية شعرية، ولو كانت الاتصالات بينهما لم تنقطع حسب ما يقول، فهذا كله لا يعطي الشاعر السوري الحق في أن يصف نفسه بأنه كان بمثابة الابن لصاحب «لا تعتذر عما فعلت». فتلك مكانة يحددها درويش، وطالما أنه لم يفعل، فالأمر ينتهي هنا.

الادعاءات في المقالة يجرُّ بعضها بعضاً، فالشعراء يحدث أن يكتبوا القصائد في شجرة أو مدينة أو في مديح بعضهم، وهي دلالة كرم ورحابة. و«ليس للكردي إلا الريح» التي نظمها درويش وقرأها في أمسيات بسليم بركات، لا تعطيه الحق في وصف خلجات نبض قائلها، أو أن يحصي نبضات قلبه.

كان لشاعر فلسطين صداقات كثيرة. ومنذ وفاته، كثر ممن كانوا يلتقونه، باتوا يعتبرون أنفسهم حفظة أسراره، وهذا كلام صار ممجوجاً، حتى أن الخلَّص يخجلون اليوم، ويدارون ما يعرفون، كي لا يُتَّهموا بمشاركتهم في حفل التسلق القبيح.

سليم بركات تفوَّق بأشواط على من راهنوا على استغلال تركة الشاعر الأدبية بعد موته. يثير سخرية حين يكتب: «أنا الذي أعرف الكثير عنه مما لا يعرفه سوايَ». لم يعلمنا كيف تحقق من الأمر، مع أنه يعرف أن عدد من يدَّعون صداقة الراحل يفوق ما يحتمله أي إنسان عادي عاطل عن العمل.

بركات له مكانته الأدبية، لهذا فجَّر غضباً، وأثار ردود فعل. أحد العارفين الحقيقيين الصامتين بدرويش علَّق بأسف: «لولا درويش لما كان سليم».

من تلميذ يحلم بأن يبلغ قامة شاعر فلسطين، ويكتب رباعياته على أغلفة كتبه المدرسية، ولا يخطر له أنه سيلتقيه يوماً، وحين يصادفه يصاب بحرج لشدة تأثره، يتحول بركات إلى حامل سرٍّ عظيم بحجم أبوة الشاعر الكبير لابنة غير شرعية. هكذا بعفوية أخبره على ما يروي، من دون أن يحدد له من هي المرأة المتزوجة. لمزيد من إثارة الفضول، تعلمنا المقالة أنه لم يلتقِ الابنة، وليس متحمساً لهذه الأبوة.

من يريد أن يعرف شيئاً عن محمود درويش، ما عليه سوى العودة إلى دواوينه، وليس إلى الباحثين عن ضوضاء. درويش شاعر كشف. اعترافي في قصائده حدَّ سؤالك، إذا ما كان الشعر يتسع لكل هذه التفاصيل بالفعل. ولولا عبقرية استثنائية، لما أمكن له أن يطوّع الوزن، ويصقل الموسيقى، ويجعل النغم يتسع لسيرته الحياتية بأدق حميمياتها، تقرأها وكأنما أنت تتابع حياة دفّاقة؛ لكنها ببعد هلامي، تطير ولا تمشي على الأرض.

قصيدة «لاعب النرد» وحدها، تريك كم كان صاحبها شفافاً في شعره. تعود إليها فتعرف تاريخ عائلته، وأنه ولد إلى جانب بئر و«شجرات ثلاث وحيدات كالراهبات» بلا زَفّة وبلا قابلة، وسمي باسمه مصادفة، وورث خللاً في الشرايين وضغط الدم، وكذلك الخجل، وتقليد شرب البابونج الساخن، وقلة الكلام كسلاً، والفشل في الغناء، إلى أن يفاجئك بأنه ورث «شامة في أشد مواضع جسدي سرّية». يحدثك عن أخته التي صرخت وماتت، وعن أنه بقي حياً صدفة، بعد أن تأخر عن باص المدرسة الذي تعرض لحادث مميت.

هل تريد أن تعرف أكثر؟ اذهب إلى «الجدارية» واقرأ كيف رسم صورة لقبره، وأعطاك مقاييس قامته: «مِتْرانِ من هذا التراب سيكفيان الآن. لي متر و75 سنتيمتراً، والباقي لزهر فوضوي اللون». وله أيضاً علامة أخرى فارقة: «جرح طفيف في ذراع الحاضر العبثي». هل تريد أن تعرف ما هي طريقته الخاصة في «البصبصة» على النساء؟ فتش عنها «في حضرة الغياب» ستذهل أكثر، وهو يصف كيف ينظر من طرف عينه، وكيف تطير أخيلته. هناك كذلك وصف دقيق لطريقته الخاصة في تلييف جسده في «البانيو». طرائف صاحب «الجدارية» مذهلة.

ما كتبه بركات عن ابنة مجهولة للشاعر ليس مستحيلاً. وهو أمر يحدث؛ لكنه فجّر القنبلة في سياق نصي لا يطمئن إلى اتزان، وحيادية. فثمة نزعة علوية، وادعاءات شخصية، ونرجسية مقلقة، تستدعي السؤال إن كان الشاعر السوري في مغتربه السويدي الهادئ والمنعزل، أكثر مما ينبغي، قد أغرته إثارة زوابع للتسلية وتزجية الوقت.

أعترف بأن بركات رغم أنه أورد معلوماته بطريقة تدعو إلى الشك أكثر مما تحض على التصديق، دفعني لأنْ أعيد قراءة درويش من جديد بحثاً عن قرينة؛ لكنني لم أعثر أبداً على أي تلميح أو رائحة أبوة. فحين يكتب تلميذ مثله عن أستاذه بأنه «جاهدَ كي لا يتأثر» به (ويقصد درويش طبعاً)، فعندها عليك أن تضع ألف علامة استفهام، على بقية ما ورد في المقال.

قليل من التواضع ينعش المصداقية يا سليم.

الشرق الأوسط

——————————

فضيحة ابنة محمود درويش هل تشوه صورته لدى جمهوره؟/ عبده وازن

سليم بركات افشى السر بعد 30 عاما وحملة استنكار على وسائل التواصل والبحث عن الابنة والام يبدأ منذ الآن

السر الذي كشف عنه الشاعر الكردي السوري سليم بركات عن “أبوّة” محمود درويش السرية في مقال كان كتبه عام 2012 ونشره حديثاً في كتابه الذي صدر أخيراً عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر بعنوان “لوعة كالرياضيات وحنين كالهندسة” ويضم حواراً طويلاً أجراه معه وليد هرمز، ليس مجرد إفشاء لسرّ كان بركات مؤتمناً عليه أو خيانة لصديقه ورفيقه لسنوات غير قصيرة، بل هو يتعدّى المبدأ الاخلاقي ليفتح صفحة مجهولة من حياة صاحب “جدارية” ويطرح مسألة شائكة جداً قد تكون حافزاً على قراءة جديدة لشخصية درويش. والمقال هذا الذي نشره بركات بعد 8 سنوات على كتابته وبعد 30 عاماً على معرفته بالسرّ أو بوح درويش له به عام 1990 أيام إقامته في نيقوسيا،  يورد فيه ما قاله له درويش: “لي طفلة، أنا أب، لكن لا شيء فيّ يشدني إلى الابوة”. وتناقلت المقال صحف ومواقع عربية، وسرعان ما أثار ردود فعل سلبية ومباشرة حملت على بركات وكالت له تهماً، أولاها تهمة الخيانة.

خيانة وعد

كان مقدّراً أن يكون لهذا الإفشاء وقع رهيب، وهذا حتماً ما كان يدركه بركات، الذي لم يخلُ كلامه أصلاً عن علاقته بصديقه، من نبرة متعالية، إلى حدّ أنه استعاد اعترافاً رهيباً أدلى به درويش في لقاء جمعهما معاً في ندوة  خلال معرض غوتنبرغ، مفاده بأنّ درويش جاهد كي لا يتأثر ببركات، الذي يضيف: “وفي اعترافه هذا، لم يَعُد يعرف أين الحدّ بين أن يراني صديقاً أو يراني ابناً له”. قد يحقّ لبركات أن يستعيد شهادة درويش به، وإن كانت غيرمقنعة نقدياً ولا منطقياً، وهي شهادة يُعتدّ بها كثيراً وتمنح بركات مرتبة شعرية عالية. وكان درويش كتب عن بركات شهادة هي بمثابة مقالة يمتدح بها شعرية صاحب “الجمهرات” ونشرها بركات على غلاف ديوان أعماله الشعرية (المؤسسة العربية)، وكتب عنه أو له، قصيدة جميلة عنوانها “ليس للكردي إلّا الريح” ويقول فيها ما يختصر تجربة بركات في لمحة: “يعرف ما يريد من المعاني. كلها/ عبث. وللكلمات حيلتها لصيد نقيضها/ عبثاً. يفضّ بكارة الكلمات ثم يعيدها/ بكراً إلى قاموسه”. أما في شأن قول درويش كما يزعم بركات نفسه، إنه جاهد لئلّا يتأثر ببركات، فيمكن تأويلها تأويلات عدّة، سواء في سياق المدح أو التبرؤ ولن أقول القدح أو الذم.

كان درويش يؤثر كثيراً شعر سليم بركات، ويحبّ وحشيته وقوته الهادرة، لكنه كان يستحيل عليه أن يتأثر فيه، فالتأثر فيه يعني خيانة لقضيته الشعرية الرحبة، وجمالياته الفريدة ولغته المنسابة وغنائتيه. ولستُ أقصد هنا فقط القضية الفلسطينية التي جعلت من درويش، لا سيما في مساره الأول، شاعراً ذا جمهور و”شعب”، بل القضية في بعدها التراجيدي التي تخطّت التخوم الجغرافية والتاريخية لتصبح قضية الشعوب المقهورة والمضطهدة، عطفاً على القضية الشعرية الصرفة التي انصرف إليها درويش في دواوينه الأخيرة بصفته شاعراً فقط، شاعراً يحلّق في سماء الشعر العالمي. ولعلّ قارئ الشعر العادي وليس الناقد أو الباحث، يدرك للفور عندما يقارن بين درويش وبركات، أن لا علاقة تجمع بينهما، لا رؤية ولا لغة ولا في المفهوم الشعري. وقد يكون مستبعداً أنّ درويش وجد في بركات “ابناً” له أو ندّاً أو قريناً، ولم يتمنَّ البتّة أن يكون ما كانه بركات، شاعراً يحفر في أعماق اللغة الوعرة، التي لا تبالي بقارئها كثيراً.

ردود فعل

أما إفشاء بركات سرّ أبوّة محمود درويش المجهولة والسرية والملغزة، فيمكن عدم وسمه بالخيانة، ولو أن بركات شاء قصداً أن يفجّر هذه القضية، وفي يقينه أنها ستنال من صورة درويش ورمزيته وحالته “الأيقونية” والشعبية. أفشى بركات السرّ في عزلته السويدية البعيدة، وأضحى اسمه بين ليلة وضحاها في متناول الإعلام ووسائل التواصل، وأصبحت شهادته مثار سجال ونقد شخصي واتّهام واستنكار وتشكيك. نادراً ما هوجم بركات في ما نُشر من ردود فعل، كشاعر أو روائي، فالجميع يعترفون بفرادته الإبداعية ومقدراته اللغوية وموهبته النادرة، حتى الذين لا يستطيعون إنجاز قراءة أعماله ، شعراً وسرداً. كتب مثلاً الشاعر عبدالله ثابت: “مقالة مخيبة، مخيبة، مخيبة، من سليم بركات عن محمود بعد صداقة عمر وهو حيّ، يفشي سرّه وهو ميت. أي صداقة هذه”. وعلّق الناقد فخري صالح، قائلاً:” ما كتبه سليم بركات عن علاقته بمحمود درويش صادمٌ ومريب، ويشير، في الوقت الذي يدّعي سليم حبَّ درويش وبنوّتَه له، إلى رغبة في إلحاق الأذى بالشاعر الراحل، وغيرة مستحكمة وضغينة مُضمرة، وادّعاء بأهمية شعرية توازي أهمية درويش، في مقالة فيها الكثير من البلاغة الممجوجة والتقعر والإغراب اللغوي، ما يثقل على النفس ويشعر القارئ بالملل والرغبة في عدم المتابعة. وما يدّعيه في شأن السرّ، الذي استودعه إياه درويش قبل اثنين وعشرين عاماً، بأنّ له ابنة غير شرعية من علاقة عابرة مع امرأة متزوجة، سقطة أخلاقية غير مغتَفَرة وإثارة تافهة لا تليق بشاعر يدّعي أنه كبير. والأفظع من ذلك أنه يعترف بأن درويش عامله كابنٍ، بل ندٍّ، له. فأن يذيع الصديق سرّ صديقه، الذي رحل عن عالمنا، وليس في مقدوره أن يردّ أو يصحّح أو ينكر، يدلّ على انحدار القائل إلى حضيض أخلاقي تأباه الصداقة الرفيعة والمناقبية الأخلاقية. لا ندري صحة ما رواه سليم بركات عن درويش، لأن الرجل لم يَعُد بيننا ليعترف أو ينكر صحة ما رواه لـ”صديقه سليم بركات!”. لكن ما ندريه أن هذه المقالة، التي يدّعي بركات أنه كتبها عام 2012، ثم نشرها عام 2020، متأخراً كل هذه السنوات، سقطةٌ كنّا نربأ بكاتب وشاعر نحبّه ونقدّره أن ينجرَّ إليها”.

وكتب الروائي الياس فركونح “ليس هذا سليم بركات الذي أكنّ له ولإبداعه التقدير. هذه صدمة”. وكتب الشاعر نوري الجراح: “لماذا يا سليم بركات، يا صديقي الذي أحبّ؟ ما حاجتك إلى حكاية كهذه؟ لطالما كنتُ أحبّ صداقتك لمحمود درويش، وكنتَ في نظري ندّاً بديعاً في جواره، ولم أعتبرك يوماً ابناً له، كما صرتَ تقدّم نفسك! استودعك وهو حيّ سرّاً، فلماذا تفشي سرّ الصديق، والصديق غائب وليس له لسان؟”. هذه بضعة من ردود فعل كثيرة ستزداد حتماً بعد قراءة الكتاب. طبعاً المقال معقّد ومقعروتصعب قراءته براحة، كما أشار فخري صالح، بل هو مركّب ومصطنع وخال من السلاسة، على خلاف نثر محمود درويش، المشبع طلاوةً وانسياباً.

أذى الجمهور

لعلّ الأذى الذي ألحقه سليم بركات بصديقه محمود درويش لن يطاول سيرته ولا مساره ولا شعره ولا مكانته العالية، بل قد يؤثر سلباً في نظرة الجمهور الفلسطيني والعربي، والقراء الكثر إلى شاعرهم، شاعر القضية والمأساة والأرض السليب. فالأبوّة ليست مسألة بسيطة وعابرة، مثلها مثل البنوّة، وقراء درويش لا تغيب عن بالهم بتاتاً قصيدة “إلى أمي” التي أدّاها المغني والموسيقي مارسيل خليفة وزاد من رواجها شعبياً، وهذه قصيدة تتغنّى بالأمومة والبنوّة وجدانياً ووجودياً، وباتت رمز مَن فقد أرضه التي هي الأم أيضاً. ناهيك عن القصائد الأخرى التي كتبها درويش عن أبيه وأسرته وتجلّت فيها أواصر الحنين إلى الماضي والوطن. في إفشاء هذا السرّ، أسهم بركات عن غير قصد في “تشويه” رمزية شاعر في مرتبة محمود درويش وفي اهتزاز صورته المحفورة في وجدان الشعب الفلسطيني والعربي.

البحث عن ابنة محمود درويش المجهولة والسرية وعن أمها سيبدأ منذ الآن، وستشغل هذه القضية قراء الشاعر والصحافيين والناس العاديين فترة لا أحد يعلم كيف ستنتهي ومتى.

——————————-

سليم بركات ومحمود درويش… ما يزعجكم هو نصف الفضيحة/ محمد دريوس

انشغلت مواقع التواصل الاجتماعي والصحافة العربية، وستنشغل أكثر في الأيام القادمة، بمقال للشاعر والروائي سليم بركات، عن الشاعر محمود درويش، والتي يذكر فيها، فيما يذكر، أن محموداً أسرّ له بوجود طفلة له من امرأة متزوجة، وانهالت التعليقات على الشاعر سليم بركات باعتباره قام بجريمة كبرى، بفعل خيانة صديقه الميت، وهو إفشاء سرّ أودعه لديه، رغم أن الشاعر بركات لم يقم بالتصريح عن اسم الفتاة ولا اسم والدتها ولا عمرها، ولا شيء مما يشكل “فضيحة” لأحد أو يصنع سبيلاً لتخمين من تكون، فلو قال إن محمود درويش كان يحب البيرة مثلاً، اللحم المشوي على الطريقة التايلندية أو كان يشخر ليلاً، لكان صيادو الطهرانية قد انبروا، بنفس الطريقة، لمحاسبة بركات على عظمة السرّ الذي أفشاه عن صديقه، ولتباروا في التصويب على دريئة الكردي “الخائن”، كما تروّج الصحافة باستمرار.

هل الأمر فقط نزوع طهراني مبالغ به صوب “الأخلاق”، ونحن نعلم كم تحترم هذه الكلمة في حياتنا العامة وضمنها الصحافة أو الكتابة، أم أن هناك المزيد مما خلف النوازع هذه؟

في عام 1992 قامت الروائية والشاعرة غادة السمان، بنشر رسائل الكاتب غسان كنفاني الغرامية إليها، ولحسن الحظ لم يكن وقتها مواقع تواصل اجتماعي وإلا لنالها ما ينول سليم بركات حالياً، ورغم ذاك، سال الكثير من الحبر في استفظاع “فعلتها” الشنيعة تلك، إذ إن فعلتها تمسّ الصورة المثالية الناصعة عن غسان، المناضل والثوري والكاتب الذي ليس لديه أي رغبات أخرى غير تحرير فلسطين، وكأنه شخص مصنوع من الرصاص والبارود، وهال جمهوره الذكوري أن تخدش امرأة ظله المنحوت على قدر خيالهم الضيق، وأرّقت فحولتهم أن يقول “فحلهم”: “قيل إني سأتعب يوماً من لعق حذائك البعيد”، وانطلقوا في إدانة مستمرة حتى اليوم، للتذكير بفعلتها تلك، وأصبح الأمر بمثابة طرفة يتداولها الجميع عند موت أحد الكتاب الشهيرين، فينتظرون رسائله إلى غادة السمّان.

 ما المشكلة في أن يفشي أحد سرّاً؟

ما المشكلة في أن يفشي أحد سرّاً؟ لماذا يجب أن تكون الحياة العاطفية محاطة بهذا القدر من السرية وكأنها جريمة مكتملة الأركان، الأسرار وجدت لتذاع بعد حين، هذه مهمتها، إن لم تذع فلا وجود لها، والحب أو العلاقات العاطفية ليست جرماً، والكتّاب يضمنون حياتهم الشخصية في كتبهم، فهم لا يخترعون علاقات وأحاسيس من خارج الكوكب، هل سنحاسب الكتّاب على خيالهم أيضاً وخلطهم الواقع بالمتخيل؟

أجزم أن لو باح سليم بركات باسم الأم والابنة والزوج، وأظن أن يعرفهم أو يستطيع تخمين ذلك، لنسي الجميع الحكمة التي يوجهونها اليوم نحو بركات بأسف الملائكة، كأنهم لم ينمّوا من قبل ولم يفشوا أسراراً أبداً، ولانشغلوا بالفضيحة الأخرى: امرأة متزوجة تخون زوجها وتنجب طفلة.. ياللعار، لكن ما أرّقهم هو نصف الفضيحة فقط، إذ لم يعطهم سليم بركات ضحيةً أنثى يوجّهون إليها أصابع النقد والاتهام، أعطاهم على قدر مخيّلاتهم الضيقة، فابتدعوا طهرانية أصبح فيها سليم بركات هو الأنثى الخائنة للفحل محمود درويش، تجنّب الجميع التساؤل حول الموقف الغريب لدرويش من رفضه للأبوة، وانشغلوا بتدبيج الحكم الأخلاقي على بركات الذي خان صديقه بإفشاء سره، بينما شاعر القبيلة، الفحل، التارك لطفلة في جحيم عائلة أخرى ونسب آخر فلا جرم عليه ولا تثريب.

ما يؤرّقكم هو هذه الفضيحة غير المكتملة التي تشهد اتهاماً ولو بسيطاً للشاعر درويش، فبحثتم عن ضحية، وها هي موجودة ومناسبة جداً للتصويب عليها: كردي يتفوّق عليكم وعلى شاعركم الفحل في معقلكم، في لغتكم، وينال اعترافاً قسرياً منه بصعوبة التخلّص من تأثيره عليه، فوجدتم فيه نهراً ملائماً لترموا حصاكم الأخلاقية فيه ووسيلة للتذكير بكل الحكم العربية التي تدعو إلى كتمان السرّ، وأنتم أصلاً تعيشون في فضيحة كبرى منذ 1400 عام.

لا ريب أن “سوائل” محمود درويش ليست من شأننا ولا يجب أن نكون مشغولين بمكان تبديدها أو زراعتها، لكن يحق لنا أن نتساءل عن غرابة موقفه المرتبط بالاعتراف والصدق، فمحمود درويش الرافض لفكرة الأبوة “لأنه لا يشعر بذلك”، كما يسرّ في لحظة صفاء لصديق، والمطالِب بذات الوقت بثأره القديم من التاريخ، والذي يقول بوضوح أنه “اللغة العربية هي وطنه” وينسب نفسه باستمرار للعرب والعروبة، كما نصّب نفسه سابقاً ونصبه الآخرون، كناطق شعري باسم العرب وقضيتهم، ثم ضاق ذرعاً، كما صرح، بهذه القضية التي أرهقته، كأن في رفضه لأبوّة ابنته المجهولة، القادمة من علاقة غير شرعية، رفضاً ضمنياً لاستمرار هذا النسب إلا بحالته “الشرعية”، بصورته النقية الخالية من أي عيب، وكأن اعترافه بها يخرب الصورة التي جهد مراراً في نحتها وتلميعها، فيأتي خطؤه هنا مضاعفاً، لأنه يلوث صورته كناطق أوحد بصفاء الحق العرقي ومثالاً يحتذى للشاعر النجم الطهراني، الذي لا يلحقه العيب، خصوصاً إن كان على هيئة طفل غير شرعي، كما يظن ويظن الآخرون.

* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

رصيف 22

——————————–

أسطورة سليم بركات/ أمجد ناصر

2017-03-05

كتب الزميل عمار أحمد الشقيري، في “ضفة ثالثة”، مقالاً ضافياً، ومتعدّد الأصوات، عن ظاهرة سليم بركات الروائية. ليس لسليم أسطورة شائعة إلا عند لفيف من المثقفين الأكراد، السوريين تحديداً، الذين يرون فيه علماً أدبياً طالعاً من بين ظهرانيهم. هذه، طبعاً، حماسة مفهومة، لكنها تقصقص جناحي هذا الباشق، الصقر، أي جارح ترغبون (ما سيسرّ سليم نفسه شبيه هذه الجوارح النبيلة) المفرودين على سماء أوسع بكثير. لا تنطلق المآثر، الملاحم، الأساطير، من الكل، بل من الجزء. لا تعرف مآلها، ولكنها تعرف بالتأكيد مستهلها. وقد تنشأ من سببٍ أبسط مما كانت تضمر أو تتخيّل. لا بد لكل شيء من نقطة انطلاق. وعند سليم بركات كانت نقطة الانطلاق كردية، لكنها ما لبثت أن حوّلت المكان والسؤال الكرديين إلى مكانٍ وسؤالٍ وجوديين. لسليم أسطورة متحقّقة، ولكنها منزوية. هناك تطابق تام بين الكاتب والكتابة، ليس بمعنى انكباب هذه الكتابة على الذات، أو نهلها من السيرة الشخصية، فليس هناك الكثير من ذلك في أعمال بركات الشعرية والروائية، بل أقصد حمل تلك الكتابة مواصفاتٍ ظاهريةً وباطنيةً تشبه صاحبها مثل: برِّيتها، نفورها من الاصطفاف في سلك واتجاه، توترها الداخلي واصطكاكها بعضها ببعض، تضييق المداخل إليها، وتوسيع الهوة بينها وبين “المتلقي”، تواصلها العنيد في طريقها الشاقّ، من دون أن يبدو عليها الإرهاق أو الاستنفاد إلخ..

نحن الذين نعرف سليم بركات نستطيع أن نرى هذا الشبه الطالع من عزلةٍ فرضها الشاعر والكاتب الكردي السوري على نفسه، ومن استغراقٍ تام في عالم الكتابة الذي تطغى عليه اللغة نحتاً وتصفية وتسنّناً، وتتفرّد موضوعاتها في التقاط البرّي والحوشي والنافر في الذات والطبيعة والواقع الاجتماعي. وليس للأمر علاقة بـ “العوالم الكردية”، ولا بـ “الطبع الكردي” الذي يحلو لبعضهم الكلام عنهما بصدد أعماله، إذ في وسع “الثيمة” الكردية أن تتخذ مقاربة أخرى مختلفة تماماً عما هي عليه عند بركات. الفرادة، والغرابة، هما في صميم كتابة سليم بركات، وليست في “عوالمه الكردية”، مهما بدت خصوصية ونائية عن التدوال العام.

***

تساءلنا، نحن أصحابه، عندما أصدر بركات “سيرة” طفولته في الشمال السوري، عن السبب الذي يدفع شاباً في مطلع الثلاثينات من عمره إلى كتابة “سيرة”، وهو الجنس الأدبي الذي يكون، عادة، نهاية مطاف الكتابة، وليس مستهلها، ولم نكن نعرف أن من هذا الكتاب سيطلع الروائي الكامن فيه، وستتناسل منه سلسلة متشعبة من الروايات.

من “فقهاء الظلام” روايته الأولى إلى “سبايا سنجار” عمله الروائي أخيرا تتضخم مدونة سليم بركات الروائية، حتى لتفوق منجزه الشعري وتلتهمه، وتتمثله في هديرها اللغوي، وصورها الرعوية، وحوارياتها الناطقة بغريزة الماء والطين، تماما مثلما هم عليه شخوص رواياته من شهيةٍ كاسرة للالتهام.

كنا، مع أولى رواياته، نعرف أين نضع خطانا، كانت أسماء العلم المعروفة تدلنا على أرض شخوصه النافرين، ومصائرهم المسنونة على حجر صوان، ولكننا شيئاً فشيئاً رحنا نفقد طرف الخيط، وتنقطع بنا السبل على نحوٍ ملغزٍ ومحير.

لم تعد الحكاية طريقا، ولا (الثيمة الكردية) التي استأنسنا بها، في خطوتنا الأولى معه، صالحة لوصف أعماله المتراكبة طبقا فوق طبق، ولا بقي “الشمال” استعارتها السهلة، بل إن البشر ليسوا دائما أهلا للبطولة أو الحكمة أو اجتراح التواصل الشقي، إذ يمكن لمملكة الحيوان والطبيعة أن تبزا الإنسان في هذا الصنيع، كأنَّ ذلك ضربٌ من “بدائية” تلتزم، على نحو أخلاقي صارم، بالقوانين الأولى المؤسسة: القوة والضعف، الجوع والشبع، الشره والكفاية، الشوق والوصل، الممكن والمستحيل.

الغريب في أمر منجز بركات الروائي أنه قلما أثار اهتمام النقد الأدبي العربي، فهو لم يستطع أن يقاربه، لفرط اختلافه عما هو سائد، ولعل هذا المنجز لم يثر، أيضا، شهية قارئ يبحث عن “حدوتةٍ” سهلة. لا النقد ولا القارئ توقفا ملياً أمام هذا العالم الروائي الفريد.. والأغرب أن هذا “التجاهل” لم يفت في عضد الشاعر والروائي العنيد، فواصل طريقه الشاق بلا تردد.. لكنه قد يكون، بدءاً من روايته “السماء شاغرة فوق أورشليم”، قد بدأ يميل إلى نوعٍ من “التسوية” أو “المصالحة” مع التلقّي.. ولكن من دون مساومةٍ على الشروط الجمالية التي فرضها على نفسه، بصرامةٍ وعنادٍ يشبهانه فقط.

العربي الجديد

—————————————

السرّ الذي كذئب يقرع طبل الليل ليوقظ الشاعر من الموت!/ رامي الأمين

كثيرون يودّون معرفة تفاصيل عن الحياة الخاصة، والحياة الجنسية للكتاب المفضلين لديهم، أكانوا فلاسفة او أدباء أو شعراء أو حتى باحثين ومؤرخين.

يغمض جاك دريدا عينيه نصف اغماضة يتخللها الكثير من “الترميش” ويفكّر لأكثر من خمسة عشر ثانية بعد سماعه سؤال المحاورة، عما يريد ان يرى فيما لو توفر وثائقي يحكي قصة حياة فيلسوف كهايدغر أو كانط أو هيغل، ثم يجيبها بثلاث كلمات بالفرنسية ترجمتها: “حياتهم الجنسية”. ويستطرد: “أن يحكوا عن حياتهم الجنسية”. تسأله المحاورة: “لماذا”، فيجيبها “لأنه شيء لا يحكون عنه في كتاباتهم. لماذا هؤلاء الفلاسفة يظهرون من خلال كتاباتهم كما لو انهم لاجنسيين؟”. ويشرح أنه لا يقصد بالضرورة أن نرى “فيلم بورنو” لهايدغر أو هيغل، لكن “سيكون مغرياً أن أعرف عن حياتهم الخاصة”. دريدا فيلسوف فرنسي مشهور باستخدامه مفهوم التفكيك وتوظيفه في الفلسفة، وفيديو هذه المقابلة متوفر على موقع “يوتيوب”. طبعاً لا نعرف الكثير عن الحياة الجنسية لدريدا، فهو بدوره على غرار البقية لم يكتب في هذا الجانب ولم يكشف تفاصيل كثيرة عن حياته الخاصة. ومع ذلك نجده راغباً في زحزحة أبواب غرف النوم الموصدة، لا لرغبة في التلصلص الجنسي، بل لرغبة في ان يعرف أكثر عن هذه الشخصيات التي قرأ لها وتأثر بها وصنعت شيئاً من فلسفته.

بهذا المعنى كثيرون مثل دريدا يودّون معرفة تفاصيل عن الحياة الخاصة، والحياة الجنسية للكتاب المفضلين لديهم، أكانوا فلاسفة او أدباء أو شعراء أو حتى باحثين ومؤرخين. هذا الإغراء لا بد أنه حاضر دائماً، خصوصاً مع شخصيات إشكالية، تضمر أكثر مما تفصح، ومع ظهورها الشخصي أو النصيّ تجعل الظلّ مستقراً للحياة الخاصة والحياة الجنسية.  فكم من باحث اهتم بمعرفة السرّ وراء إبقاء المرأة في شعر سعيد عقل بعيدة لا تمسّ ولا تلمس، “لا تقربي مني وظلّي فكرة لغدي جميلة”، أو “هم بالنظر لا تقرّب يدا، أبقى الأثر ما لم يزل موصدا”. كم من باحث عن مفتاح لهذا الأثر الموصد في شعر سعيد عقل؟ وكم هي المعطيات المتوفرة لدراسة حضور المرأة- الحبيبة في حياته؟ لقد تزوج سعيد عقل مرة واحدة من السيدة آمال جنبلاط ووصف زواجهما بـ”زواج الحب والوحدة الوطنية”، ثم ما لبثت أن اطلقت النار على نفسها من مسدس بعد خمسين يوماً من زواجها من الشاعر، وكتبت إحدى الصحف حينذاك “لا أحد يصدق أن آمال جنبلاط زوجة سعيد عقل ماتت منتحرة”. وهي كانت بحسب التقارير الرسمية لقوى الأمن الداخلي قد طلبت القهوة من العاملة المنزلية التي “سمعتها تجري محادثة هاتفية تحولت إلى مشادة وسرعان ما سمعت طلقاً نارياً فاتجهت إلى غرفة نومها لتراها ممددة على الأرض والدماء تسيل منها بغزارة”. ألا تشكّل حادثة موثقة(وغير سرية) كهذه مادة للبحث حول علاقة الشاعر سعيد عقل بالمرأة، في النصّ وفي الحياة؟ ألا نود جميعنا أن نعرف سرّ بقاء المرأة في حياة سعيد عقل كائناً لغوياً يعيش في شعره، ولا أثر محسوس له في حياته الفعلية؟

وأود لانسولان وماري لومونييه باحثتان فرنسيتان حاولتا البحث في علاقة الفلاسفة بالحب والعلاقات الجنسية في كتاب صادر بالفرنسية وترجم إلى العربية (دار التنوير) بعنوان “الفلاسفة والحب: الحب من سقراط إلى سيمون دي بوفوار” وتطرحان فيه موضوع الحب في أبعاده المتعالية والجسدية كما عرفه الفلاسفة مثل أفلاطون، ولوكريس، وجان جاك روسو، وآرثر شوبنهاور، وكيركيغارد، ونيتشه، وصولاً إلى جان بول سارتر وسيمون دي بوفوار. وهذا الكتاب وما يشابهه يدلّ إلى الرغبة لدى الباحثين في التفتيش عن الزوايا الخفية من الحيوات الشخصية للفلاسفة والكتّاب، والتفتيش عن كل ما يفتح أبواباً تمكّن القارئ من فهم الشخصيات الإشكالية لكتّابه المفضلين، وهذا النوع من الأبحاث يكاد يشبه عمل مصوّري الباباراتزي، إذ يوغل الباحثون في حفر قبور الكتّاب والفلاسفة والشعراء والمغنين بحثاً عن آثار تدل إلى حياتهم الخاصة. وكثيرون مثل الباحثتين الفرنسيتين حاولوا الغوص في التحليل النفسي لشخصيات عامة بحثاً عن إجابات يمكن معها رسم شخصياتها وتفسير سلوكياتها وكتاباتها، وبعضهم ذهب بعيداً في إخضاع حتى الأنبياء للتحليل النفسي كما فعل سيغموند فرويد في “موسى والتوحيد” والعفيف الأخصر في “من محمد الإيمان إلى محمد التاريخ”. هو شيء من الهيرمينوطيقا التي تؤوّل الحياة الجنسية لتفسير النص، وهذا ربما ما فتح شهية كثيرين بعد ما كشفه سليم بركات عن وجود ابنة “غير شرعية” في حياة صديقه المتوفى محمود درويش، ليضعوا جثة الشاعر الراحل على سرير التحليل النفسي. بيد أن بركات ليس باحثاً محايداً ولا يضع المعلومة هذه (مع عدم الخوض في مدى صحتها وأهميتها) في خدمة تحليل نصوص محمود درويش، بل هو تبرّع بإفشاء سرّ لم يُسأل عنه، وما كان يمكن حتى لباحثين محترفين أن يصلوا إليه فيما لو كان في موضع كذلك الذي يضع فيه المتنبي أسراره، “فلا يناله نديم ولا يفضي إليه شراب”.

إذا عدنا إلى محمود درويش في قصيدته المهداة إلى سليم بركات “ليس للكردي إلا الريح”، نعثر ربما على تفسير محتمل: “يُناجي الذئبَ، يسأله النزالَ/ تعال يا اُبن الكلب نَقْرَعْ طَبْلَ/ هذا الليل حتى نوقظ الموتى”. أتراه بإفشاء هذا السرّ يقرع سليم بركات طبل الليل ليوقظ محمود درويش من موته؟ أم ليوقظ نفسه الميتة من الموت؟

درج

===============================

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى