فواز طرابلسي.. ما لم تقله خرائط سايكس بيكو/ مصطفى ديب
اتفاقية سايكس – بيكو هي المشجب الذي تُعلّق عليه الأخطاء والسلوكيات ليجري تحميلها للغير، أو بناءها للمجهول. وهي ربّما في وظيفتها الأخطر، عملية تنصّل استثنائية من المسؤولية، تُبرّئ الذات وتُبيّض صفحة الحكّام خصوصًا. فهم تارةً مخدوعون، وتارةً ضحايا مؤامرات ومشاريع.
هكذا يُخبرنا الكاتب والمؤرّخ اللبنانيّ فواز طرابلسي في بداية كتابه “سايكس – بيكو – بلفور: ما وراء الخرائط” (رياض الريس للكتب والنشر، 2019). ومن هنا ينطلق أيضًا، مدفوعًا بتزامن حلول مئوية هذه الاتفاقية مع قيام الخلافة الإسلامية في سوريا والعراق، بما هي كسر لحدودها، أي الاتفاقية. ومن المعروف أنّ هذا الأمر أطلق سيولًا من التحليلات والتأويلات والتفسيرات والتوقّعات، تكاد تجمع على نهاية هذه الاتفاقية، وتُحمّلها تخريب المنطقة، وتتوقّع لها بداية رسم خرائط جديدة.
الخرائط، بحسب فواز طرابلسي، صادرت المسار التاريخي لهذه الاتفاقية. ولذلك، يعمل في كتابه هذا على إعادة ترتيب هذا المسار بالنظر في ما وراء الخرائط. أي دراسة لحظة تاريخية لا تتجاوز العقد من الزمن، تقرّر خلالها مصير المشرق العربيّ في غمرة الصراع على خلفية الحرب العالمية الأولى، وفق تعبيره.
الحديث يبدأ من تاريخ ما بعد سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام على مساحات كبيرة من هذين البلدين، وإعلانه كسر الحدود التاريخية للاتفاقية. يتوقّف الكاتب عند هذا التاريخ تحديدًا، مُحاولًا أن يشكّل للقارئ صورة عن المرحلة التي يتناولها الكتاب في هذا الوقت، فيستعرض عددًا من التصوّرات التي أُطلِقت ما بعد إنهاء الحدود، متعجّبًا من تعاملها مع التنظيم كدولة تكرّست، ومستغربًا كذلك رفضها لهُ رغم كسره لحدود الاتفاقية التي تراها اتفاقية تقسيم للأمّة.
الاتفاقية عند البعض هي اتفاقية تقسيم خالصة لأمّة موحّدة. ووعد أو إعلان بلفور كذلك هو استكمال للتقسيم، بما أنّه فصل فلسطين عن سوريا الكبرى. وبالتالي، الاتفاقية هي المسؤولة عن خراب المنطقة عند هؤلاء. وعند البعض الآخر، الاتفاقية هي تجزئة لهذه الأمّة، وانتهاكًا لوحدتها. وبما أنّ الوحدة مقدّسة، فإنّ انتهاكها هو فتنة خالصة، وكذلك التعدّد. وهؤلاء لجأوا إلى الدين والمقدّس لتفسير الاتفاقية والحديث عمّا يتهدّد وحدة الأمّة. ولأنّ انتهاك هذه الوحدة هو مؤامرة أو مشروع، ذهب البعض لاعتبار أنّ الربيع العربيّ، بمطالبه، مؤامرة، لا سيما الديمقراطية التي تعني التعدّد، والتعدّد ضعف، ونقيض الوحدة كذلك، بمعنى أنّ الربيع العربيّ سايكس – بيكو جديد لإعادة تقسيم المنطقة.
هذه تصوّرات ما بعد إنهاء حدود الاتفاقية. أما نقدها، فيقول الكاتب إنّه يتوزّع اليوم في اتّجاهين؛ الأوّل يلوم بريطانيا وفرنسا لأنّهما فرضتا على المنطقة أفكارًا وأساليب إدارة أوروبية تفتقر إلى التجذّر أو الشرعية المحلّية، أي فرض ترسيمة الأمّة في دولة، أو الدولة الوطنية التي أهملت مسألة الأقليات. الاتّجاه الآخر يقف على النقيض تمامًا، ويلوم الاستعمار لأنّه لم يترك وراءه أممًا في دولة وطنية، بل تكتّلات وقبائل وجماعات دينية. في كلّ الأحوال، لم تكن فرنسا وبريطانيا معنيتين بإنشاء أفضل كيان وأنجح نظام سياسي لخدمة السكّان المحلّيين، وإنّما إنشاء أفضل كيان وأنجح نظام لخدمة مصالحهما فقط.
يذهب صاحب “دم الأخوين” إلى الاتفاقية بعد الانتهاء من استعراض تصوّرات ما بعد إنهاء الحدود التاريخية لها. يقول إنّ الاهتمام البريطاني والفرنسي بالسيطرة على الولايات العربية تركّز على ثلاثة مجالات؛ الموارد الطبيعية والزراعية والأسواق والاستثمارات. السيطرة على مواقع استراتيجية ومرافق حيوية. مشروعية التدخّل والاستعمار والتوطين باسم حماية الأقليات. ويذكر أنّ أوّل المشاريع الاستعمارية للولايات العربية قدّمه نابليون الثالث للبريطانيين، ونصّ على أن تؤول سوريا كاملةً إلى فرنسا، وبلاد الرافدين إلى بريطانيا، دون أن تتحمّس الأخيرة للمشروع.
البريطانيون والفرنسيون آنذاك كانوا على توجّسٍ دائمٍ من فرض نفوذ أحدهما على المنطقة قبل الطرف الآخر. وتمركزت الخلافات بينهما حول الحملة الفرنسية على جبل لبنان لحماية المسيحيين ووقف الاقتتال الطائفي هناك. شقّ قناة السويس، ومشروع الفرنسيين إقامة إمارة عربية مستقلّة. الخلاف بين الطرفين تصاعد بعد تكريس مبدأ حماية فرنسا للمسيحيين في المنطقة، بشراكةٍ عثمانية. وإعلان بريطانية الحماية على مصر سنة 1882، واحتلالها قبرص الذي رأى فيه الفرنسيون تهديدًا لوجودهم على الساحل السوريّ للبحر المتوسّط، وانتقال أكثرية أسهم شركة قناة السويس إلى بريطانيا، ما يعني نفوذ بريطانيّ كامل على مصر، قابلته فرنسا بالتركيز على احتلال سوريا كاملةً لموازاة نفوذ الطرف الأوّل.
ظلّت المشاريع الاستعمارية ضمن أجندات الطرفين لوقتٍ طويل، وبدأت تخرج إلى العلن مع بدء الحرب العالمية الأولى، حيث وجدا في دخول الأتراك الحرب إلى جانب الألمان مبرِّرًا لتقسيم الإمبراطورية التركية الآسيوية. ويقول المؤلّف إنّ قرار الحلفاء الفعلي بفتح الجبهة الشرقية جاء تحت وطأة عاملين؛ الأوّل هو الهجوم الذي شنّه الجيش الرابع التركيّ بدعمٍ ألمانيّ لاحتلال القاهرة. والثاني تزايد مصاعب الحسم في معارك الخنادق في أوروبا الغربية، حيث تكبّدت القوات خسائر كبيرة هناك.
الخلافات بين البريطانيين والفرنسيين حول النفوذ كانت مستمرّة حتّى في وقت الحرب، وظهرت واضحةً في رفض الفرنسيين لخطة احتلال إسطنبول عن طريق إنزال برّي لقوّات الحلفاء في ميناء إسكندرون ضمن خطّة هزيمة ألمانيا من خلال هزيمة حليفتها الأضعف، السلطنة العثمانية، ذلك أنّ الجسم الرئيس للقوّات المهاجمة بريطانيّ، ما يعني استيلاء بريطانيا على مرفقٍ تعتبره فرنسا جزءًا مهمًّا لمملكتها على ساحل المتوسّط. الخطّة استُبدلت بخطّة ثانية قضت بالعمل على خنق السلطنة في مضائق الدردنيل بواسطة قوّة بحرية، والتقدّم بعد ذلك لاحتلال إسطنبول. إلّا أنّ هذه الخطّة كبّدت الحلفاء خسائر كبيرة جدًا، لا سيما البريطانيين.
إعداد الحلفاء لفتح الجبهة الشرقية تزامن مع دعوة السلطان العثماني محمد رشاد الخامس إلى الجهاد الأكبر. بريطانيا عندئذٍ أدركت أنّ أفضل وسيلة لمواجهة الدعوة، هو إعلان خلافة إسلامية برئاسة الشريف حسين، أمير مكّة، مُستغلّةً الخلافات بين الأخير وحكومة إسطنبول. السلطنة آنذاك كانت تُحاول استمالة حسين إلى صفّها، ولكنّ رسالة كبار ضبّاط الجيش العرب في الجيش العثماني المتضمّنة خطّة تفصيلية للثورة على الأتراك، دفعت بشريف مكّة نحو البريطانيين، وبدأ يتحدّث باسم الأمّة العربية جمعاء.
تولّى الموظّف في المكتب العربيّ في القاهرة، هنري ماكماهون، التفاوض مع حسين، من خلال مراسلاتٍ جرت على وقع معارك احتلال جزيرة غاليبولي التي هُزم فيها الحلفاء شرّ هزيمة، وانسحبوا بعد خسائر فادحة. وكان ماكماهون قد وعد شريف مكّة باستقلال المنطقة العربية والموافقة على الخلافة عندما تُعلن دون الانجرار إلى ترسيم الحدود. وعن موقع فلسطين في هذه المراسلات، يدّعي الطرف البريطانيّ أنّ هذا البلد مشمول بالمناطق المستثناة من أراضي الاستقلال والخلافة العربية.
ظروف إنتاج اتفاقية سايكس – بيكو
يقول صاحب كتاب “حرير وحديد” إنّ عدّة عوامل تضافرت لاستدعاء التفاوض حول مصير الولايات العربية في السلطنة العثمانية. فبريطانيا كانت تستعجل إطلاق الثورة العربية من أجل الردّ على دعوة الجهاد التي أطلقها السلطان العثماني، ولتجميد قوّاتٍ تركية في الحجاز، بحيث لا تدخل على خطّ حرب السويس ضدّهم. بينما كانت فرنسا تريد تثبيت حقّها في سورية كاملةً.
بدأت المفاوضات الفعلية التي أفضت إلى الاتفاقية الشهيرة في أواخر عام 1915. كلّفت وزارة الخارجية الفرنسية فرانسوا جورج بيكو التفاوض. وشكّلت الحكومة البريطانية وفدًا للتفاوض برئاسة السير آرثر نيكلسون، ضمّ ممثّلين عن جميع الوزارات المعنية بمصير أراضي السلطنة، ينتمون إلى لجنة دوبنسون برئاسة الدبلوماسي السير موريس دوبنسون. وفي تاريخ 21 تشرين الأول/ أكتوبر، أبلغ نيكلسون بيكو بوعد بريطانيا لشريف مكّة بإقامة دولة عربية، فردّ بيكو بأنّ مثل هذه الدولة لن تتحقّق أبدًا، ولن يستطيع البريطانيون تحويل شرذمة من القبائل إلى كُلٍّ للحياة بحسب تعبيره. مؤكّدًا أنّ بلاده لن توافق على منح العرب الاستقلال.
لن تستمرّ المفاوضات بين بيكو ونيكلسون طويلًا، حيث سيدفع وزير الخارجية إدوارد غراي بمارك سايكس للتفاوض مع فرانسوا جورج بيكو بدلًا من نيكلسون بعد تعثّرها بين الطرفين. يقول فواز طرابلسي إنّ سايكس كان يدعو البريطانيين لضرورة السيطرة على فلسطين من عكا إلى درعا، ومن الحدود المصرية إلى خليج العقبة، وذلك لقطع الطريق على سيطرة فرنسا على سوريا الجنوبية وتأمين قناة السويس بالسيطرة على ضفّتيها الشرقية والغربية. ويُضيف صاحب كتاب “الديمقراطية ثورة” أنّ تقرير سايكس هذا المُرسل إلى لجنة دوبنسون لم يرد على ذكر فلسطين أو الصهيونية، ولكنّ هذه اللجنة في تقريرها عن سياسة بريطانيا تجاه السلطنة العثمانية، والمقدّم في حزيران/ يونيو 1915، قرّرت أن تكون فلسطين تحت النفوذ البريطانيّ.
جاء الحديث الأوّل بين مارك سايكس وفرانسوا جورج بيكو متركّزًا على حدود سوريا بالنسبة للفرنسيين، بما في ذلك فلسطين. بينما كان الطرف البريطانيّ بدوره يتحدّث عن سيادة عربية مستقلّة على جزءٍ كبير من الأراضي السورية، عدا لبنان وفلسطين. وتمحوّرت الخلافات بين الرجلين على عدّة نقاط؛ مُطالبة بريطانيا بالحماية على فلسطين ومرفأ حيفا. وضع سنجق القدس تحت إدارة دولية. المنفذ البحري للدولة العربية. وتمّ الاتفاق في النهاية على تنازل بريطانيا لفرنسا عن الموصل، والقبول بوضع القدس تحت الإدارة الدولية، وكذلك إعلان مرفأ حيفا منفذًا بحريًا للدولة الجديدة، وإعلان ميناء إسكندرون ميناءً حرًّا.
المطالب العربية ضمن هذه الاتفاقية، وفي سياق صياغتها، عُرفت بـ: الاعتراف بالهوية القومية العربية وحماية العرق العربيّ من الطغيان. وكذلك، تهيئة الظروف المواتية لاسترداد مكانته للعمل في مضمار التقدّم الحضاري العالميّ. يقول المؤلّف هنا إنّ الأدهى في تعيين رغبات الشعوب الناطقة بالعربية، هو التشديد في البداية على رغبتها الملحّة بـ “الوحدة”. ثمّ القول بعد ذلك إنّه يتعذر إقامة دولة عربية مركزية لأنّها لا تنسجم مع طبيعة العبقرية القومية العربية. هكذا، تقرّر الاستعاضة عن الدولة المركزية بكونفدرالية تكون بإدارة أمير عربيّ.
توصّل الطرفان المتفاوضان إذًا إلى اتفاقية في نهاية المطاف. وفي تاريخ 21 كانون الثاني/ يناير سنة 1916، سُمح لسايكس وبيكو برسم ما اتفقا عليه على خريطة. في 21 شباط/ فبراير، أُصدرت مذكرة تفاهم مشروطة بمساعدة العرب، وبموافقة روسية. وكان اللافت بحسب طرابلسي هو إعدام الدولة العربية بحجّة طغيان الفردية على سلوك العرب، أو سيادة العصبية القبلية أو الدينية. وفي 8 أيار/ مايو وقّع سايكس وبيكو على الخريطة الملحقة بالاتفاقية، وصدّقت الحكومتان على نصّ الاتفاقية في تبادل للمذكّرات بتاريخ 19 أيار/ مايو، وسُجلّت الاتفاقية في السجلّات الرسمية للدولتين.
تحوّلت الاتفاقية إذًا إلى اتفاقية رسمية بين البلدين، دون أن تحسم النزاع الكبير الدائر حول سنجق القدس تحديدًا، فاتفق المفاوضان على تلوين تلك البقعة باللون البنّي في الخريطة، ووضعها مؤقتًا تحت إدارة دولية بالتداول مع الحلفاء، وممثّلي مكّة. ويؤكّد المؤلّف أنّ الاتفاقية لم ترضِ أيًا من الطرفين المتعاقدين، بحيث تركّزت التحفظّات على فلسطين والموصل. الفرنسيون كانوا متحفظّين من تدويل القدس، وسائر فلسطين الغربية. بينما كانوا البريطانيين رافضين بشكلٍ مطلق للتدويل، مُطالبين بفلسطين كاملةً، ومعها الموصل. وبفعل هذه المعارضات المتبادلة، سعى الطرفان إلى التخفّف السريع من أهمية الاتفاقية بنسبها إلى الدبلوماسيان المتفاوضان فقط، تحاشيًا للاعتراف كاتفاقية بين دولتين.
تعود أوّل فكرة لإنشاء دولة يهودية في فلسطين إلى نابليون بونابرت. تعامل البريطانيون مع فكرة نابليون هذه على أنّها محاولة لتجنيد يهود العالم في خدمة السيطرة الفرنسية على أوروبا، وقطع طريق الهند عليهم، فردّوا بدورهم بمشاريع عديدة ذات عنوان مشترك هو إعادة اليهود إلى فلسطين تحت الحماية البريطانية، بحجج دينية وهمية، ولكنّ الوجه الآخر لهذا المشروع هو وجه كولونيالي دنيوي بحت.
نفهم مما سبق أنّ قادة المنظّمة الصهيونية كانوا دائمًا عاقدي الأمل على البريطانيين تحديدًا في العودة إلى فلسطين. لذلك، حين اطّلعوا على مضمون اتفاقية سايكس – بيكو كاملةً، وصفوها على الفور بالاتفاقية القاتلة، باعتبارها جزّأت فلسطين أوّلًا، وعددٍ من سكّانها ومستوطنيها اليهود ثانيًا. “لقد كذبوا علينا على طول الخط”. يقول حاييم وايزمان قاصدًا البريطانيين.
أكّدت الاتفاقية للمسؤولين الصهاينة مُعاداة الفرنسيين للسامية، أو للمنظّمة الصهيونية تحديدًا. وأثبتت أنّ مشروع الموطن القومي اليهودي لن يزدهر إلّا في ظلّ الحماية البريطانية فقط. لذلك، قرّر وايزمان تكريس جلّ نشاطه منذ نيسان/ أبريل 1916 للانقلاب على الاتفاقية، واستبدالها بحماية بريطانية فوق كامل أرض فلسطين. الجهات المعنية البريطانية كانت قد ألقت اللوم بعد زيارة وايزمان إلى وزارة الخارجية البريطانية محتجًّا؛ على مارك سايكس لتفريطه بفلسطين والموصل، ما دفع الأخير على المزايدة في العداء للاتفاقية، والمُبالغة في دعم مشروع الموطن القومي لليهود.
شهدت سنة 1917 متغيّرات كبيرة على صعيد العلاقة بين البريطانيين والفرنسيين. آنذاك، خرجت تصريحات بريطانية لم تكتف بالتنصّل من الاتفاقية فقط، بل تهاجمها، وتصفها لا بالاتفاقية الفاقدة الصلاحية وحسب، بل وغير القابلة للتطبيق، مؤكّدةً أنّ موضوع فلسطين الفرنسية غير وارد عند البريطانيين إطلاقًا. مارك سايكس بدوره كان قد تنصّل من الاتفاقية، مُعتبرًا إيّاها مجرّد مشروع وضعه فرانسوا جورج بيكو لا يمكن للحكومة قبوله دون تعديلات عميقة. ومع حدوث بعض التعديلات، تأكّدت مخاوف بيكو من أنّ تقديم فلسطين لليهود ليس إلّا استحواذًا بريطانيًا كاملًا على جنوب سوريا.
قبل التعديلات على الاتفاقية، وفي نهاية عام 1914 تحديدًا، قدّم هربرت صموئيل، أوّل يهودي يدخل وزارة الداخلية البريطانية، مذكّرة إلى الحكومة يُطالب فيها بضمّ فلسطين إلى الإمبراطورية، مع إعطاء اليهود أفضلية الهجرة إليها، بحيث ينمو هذا الشعب ليصير مع الوقت أكثرية. وخلص صموئيل إلى أنّ فلسطين البريطانية هي الحلّ الوحيد لمسألة اليهود في أوروبا. وحدّدت هذه المذكرة حدود فلسطين بناءً على الاستلهام التوراتي أوّلًا، والخريطة الأولى لفلسطين ثانيًا (1871-1878)؛ من دن شمالًا إلى بئر السبع جنوبًا. أمّا الحجّة، فكانت تحريم فلسطين على أي قوة منافسة قد تهدّد سيطرة البريطانيين على قناة السويس.
مذكّرة صموئيل هذه لم تلق من يؤيدها داخل الحكومة البريطانية، باستثناء لويد جورج فقط. إدوين مونتاغيو، أحد أبرز دعاة اندماج اليهود في المجتمع البريطانيّ، كان المعارض الأكبر لهذه المذكّرة، حيث استخفّ بأهمية فلسطين في حماية مصر، مؤكّدًا أنّ المنطقة المهمّة لبريطانيا هي بلاد الرافدين. وأنّ اليهود لا يشكّلون شعبًا أو أمّة. محذِّرًا من أنّ قيام دولة يهودية في فلسطين سوف يُهدِّد مصير جميع اليهود خارجها.
تجدّد البحث في موضوع الدولة اليهودية مع مجيء لويد جورج إلى رئاسة الحكومة، وبلفور وزيرًا للخارجية. جورج المؤيد لمذكّرة هربرت صموئيل، اتّخذ قراره باحتلال فلسطين بالتزامن مع بدء القوّات البريطانية تطهير سيناء من الأتراك، بموافقةٍ فرنسيةٍ كاملة، بعد أن رَوّجت العملية كجزءٍ من تنفيذ اتفاقية تدويل فلسطين. قبل بدء العملية، التقى مارك سايكس باللجنة السياسية للمنظّمة الصهيونية واتّفق الطرفين على النقاط التالية؛ إنشاء شركة يهودية مجازة، لها الحقّ في استخدام ما يمنحها إيّاه التاج البريطانيّ. إدخال اليهود كعنصر جديد على فلسطين بحجّة قلّة عدد السكّان المحلّيين. الاعتراف بقومية يهودية منفصلّة. وسُمّيت هذه المحادثات بين سايكس واللجنة، وبين قادة المنظّمة والمسؤولون البريطانيون، بمحادثات التعاون، تفاديًا لأن تكون محادثاتٍ رسمية، تفرض على أحد الطرفين التزاماتٍ محدّدة.
تحوّلت هذه المحادثات مع قادة المنظّمة الصهيونية، والمتمحورة حول فلسطين تحديدًا، إلى محادثاتٍ رسمية سنة 1917. في ذلك الوقت، كان البعض يُهيب باليهود أن يسيطروا على فلسطين لأسبابٍ لا تتعلّق بمسألة الوطن التاريخي، أو التعويض عمّا تعرّضوا له من إساءات، بل لأنّ اليهود جميعًا تحت الحماية البريطانية، بمعنى أنّ الموطن القومي مستعمرة من مستعمرات التاج البريطانيّ، تدعم وجوده في المنطقة، وتضمن أمن قناة السويس.
هذه المستعمرة، أو الموطن القومي، واجهت معارضةً شديدة من غالبية اليهود البريطانيين، ممن عُرفوا بنقد الحركة الصهيونية، ووصف الموطن القومي بالمشروع الرجعي. هؤلاء كانوا في الغالب سياسيين وأعضاءً في اللجنة المشتركة ذات التوجّهات الاندماجية فقط. وقد أثاروا آنذاك جُملةً من الأسئلة تتعلّق بمسألة الولاء الوطني المزدوج لليهود، وإمكانية انتماء الفرد إلى أمّتين في آنٍ واحد. وأكّدوا أنّ الصهيونيين راغبين في إجلاء اليهود من القارّة العجوز، ما يفسّر حماسة المُعادين للسامية للاتّحاد الصهيوني. وهؤلاء أبدوا استعدادهم للموافقة على مقدارٍ من الحكم الذاتي لليهود في فلسطين، شرط أن يتخلّى الصهاينة عن المُطالبة بدولةٍ يهودية تجعل اليهود في سائر دول العالم مُغتربين.
سعت الإمبراطورية البريطانية لإنهاء حالة الجدل والنزاع بين الاندماجيين والصهيونيين، فأرسلت الخارجية البريطانية في الـ 15 من حزيران/ يونيو، مذكّرة إلى حاييم وايزمان، ولورد روتشيلد تُطالبهما بتقديم مقترحٍ بشأن الموطن القومي اليهودي في فلسطين، وبدأ العمل لصياغة أشهر الرسائل في تاريخ الدبلوماسية البريطانية الحديثة، وسط النزاع بين القطبين اليهوديين. وفي 18 تموز/ يوليو 1917، عُرضت أوّل صيغة على الحكومة البريطانية، تُعلن اعتراف بريطانيا بفلسطين بما هي الموطن القومي لليهود. تلا هذه الصيغة صيغةً مُغايرة بعد اعتراض بعض المسؤولين البريطانيين عليها، دون تغيُّراتٍ في المضمون.
ردّ اللورد إدوين مونتاغيو، أشدّ المعارضين لمذكّرة هربرت صموئيل، على هذه الصيغة بمذكّرة حملت عنوان: العداء للسامية في الحكومة الحاضرة. مذكّرة مونتاغيو هذه تطلّبت جلسةً لحكومة الحرب من أجل مناقشة المضمون. وشهدت الجلسة التي تغّيب عنها لويد جورج وآرثر بلفور توجّه جورج نتانيال كورزون، نائب الملك لشؤون الهند، باتّهام زملائه باللاسامية، بسبب تأييدهم إعلانًا من شأنه تأجيج النزعات اللاسامية التي سينتج عنها طرد اليهود من أوروبا. مونتاغيو بدوره أنكر أن تكون فلسطين ذات صلة تاريخية باليهود.
الصيغة النهائية لإعلان تأييد الموطن القومي اليهودي في فلسطين، وضِعت أمام حكومة الحرب البريطانية يوم 31 تشرين الأول/ أكتوبر، تزامنًا مع استيلاء قوّات الحلفاء على بئر السبع واختراق الحدود الجنوبية لفلسطين قبل يومٍ واحدٍ فقط. في جلسة الحكومة، ردّ آرثر بلفور على المعارضين للصيغة بأنّ فلسطين ستكون تحت الحماية البريطانية، وأنّ صفة الموطن القومي ليست تعني إنشاء دولة يهودية مستقلّة. مونتاغيو تغيّب عن الجلسة، وعلّق على الإعلان بالقول: حاولت طوال حياتي الخروج من الغيتو… أنتم تريدون إعادتي إليه الآن. وكما هو معروف، أُرسلت الرسالة إلى لورد روتشيلد يوم 2 تشرين الثاني/ نوفمبر 1917.
فواز طرابلسي، مؤلف “عن أملٍ لا شفاء منه”، يستعرض بعد الانتهاء من ظروف إنتاج الإعلان الشهير، جُملةً من المقولات التي فسّرت هذا الإعلان بُعيد انتشاره. ويقول إنّ هذه التفسيرات يُمكن أن تُختصر بما أعلنه المسؤول الأول عن إعلان بلفور، أي رئيس الوزراء لويد جورج، عشية بدء العمليات الحربية البريطانية في فلسطين، حيث قال إنّ دعم بريطانيا للصهيونية “وسيلة ناجعة لحرف النقد الموجّه إلى الإمبراطورية البريطانية، وتمويه الهدف الحقيقي للإعلان، وهو تحويل فلسطين إلى مُلكٍ بريطانيّ”.
الترا صوت